الاثنين، 24 أغسطس 2015


 عقيدة البعث عند الفلاسفة
الإيمان بالبعث:
      إنّ من أصول العقيدة الإسلامية الإيمان بالبعث وبالحساب والجزاء‏,‏ وبالخلود في حياة قادمة إمّا في الجنة أبداً‏,‏ أو في النّار أبداً‏,‏ وإنّ إنكار البعث كان حجة كفار قريش‏,‏ كما كان حجة الكفار والمتشككين عبر التاريخ في نبذهم للدين‏,‏ كفراً برب العالمين‏,‏ وجهلاً بطلاقة قدرته التي لا تحدها حدود‏,‏ أو قياسا للقدرة الإلهية بقدرات البشر المحدودة ظلما وعدوانا. وجهلا بمدلول الألوهية الحقة‏,‏ ومن ثمّ عجز الكافرون عن تصور إمكانية البعث‏,‏ وما يتبعه من الحساب والجزاء‏,‏ وفي التشكيك في ذلك، وهذا من صلب الدين الذي جاء به الأنبياء‏,‏ والمرسلون‏,‏ وتكامل الحديث عنه فيما جاء به النبي الخاتم والرسول الخاتم‏ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين‏.‏
       ومن أجل التأكيد علي حقيقة البعث بعد الموت وما يتبعه من حساب وجزاء ابتدأت آيات القرآن الكريم باستنكار تساؤل الكافرين عنه تساؤل المنكر له أو المتشكك في إمكانية وقوعه‏,‏ وألمحت بالتهديد القاطع لكل منكر أو متشكك في تلك الحقيقة الربانية الحاسمة‏,‏ ثم أوردت عدداً من البراهين والآيات الدالة علي كمال القدرة الإلهية في إبداع الخلق، لكي تكون شاهدة علي أنّ الخالق المبدع قادر علي إفناء خلقه وعلي إعادة بعثه‏..!!!,‏ ولذلك أكدّت سورة القرآن الكريم علي حقيقة يوم البعث وأهواله‏,‏ وسمته بأسماء متعددة.!‏ ثمّ ذكر لنا القرآن الكريم بعض صور العذاب الذي أعده الله تبارك وتعالي‏ للطاغين من الكفار والمشركين من المنكرين لدين الله‏,‏ والمكذبين بآياته‏,‏ والغافلين عن حسابه‏,‏ وذلك بإدخالهم إلي جهنم وبئس المصير، التي تترصد بهم‏,‏ وتستعد لاستقبالهم وفيها من صور العذاب المهين.
          قال بعض العلماء:إن الله تعالى أكثر في ذكر البعث، وأدلته، ومن القرائن التي تدل عليه والمعجزات والآيات والبراهين، وكذلك ما بعده من الجزاء على الأعمال ومن الحشر، والنشر وما إلى ذلك.
        ولعلّ الحكمة من المبالغة في ذلك إقناع المشركين، وذلك لأنّ المشركين من العرب كانوا ينكرون أشد الإنكار بعث الأجساد، فضلاً عن حساب عليها أو عذاب، فهم يقولون- مثل ما حكى الله عنهم هم والأولون أيضاً بقوله تعالى:(وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين).الأنعام:29، وكذلك حكى الله عنهم قوله تعالى:(إنّهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون)الصافات:69-70، فلما وجدوا آباءهم على هذا الأمر الذي هو إنكار البعث، تبعوهم في ذلك، وحكى الله تعالى عنهم قولهم: (أئذا متنا وكنّا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون قل نعم وأنتم داخرون).الصافات:16-18، أي تبعثون وأنتم ذليلون مهينون. ورد الله على ذلك الكافر الذي جاء ومعه عظم ميت يفتته وقد صار رميماً فقال: أتزعم يا محمد؛ أن هذا يبعث بعد أن صار رميماً تراباً؟ قال:(نعم يميتك الله، ثم يحييك ثم يحشرك إلى النّار) فأنزل الله تعالى قوله:(أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين).يس:77، ذكره بخلقه من نطفة، ومع ذلك أصبح خصيماً مبيناً، ثم قال تعالى:(وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه) يس:78، نسي بدء خلقه الذي كان معدوماً، ثم خلق، ثم أوجد، إلى آخر الآيات التي فيها تذكيره بالبعث وبالآيات الدالة عليه بعد البعث.
اختلاف الناس قديما في المعاد:-
فالدهريّة أنكروا البعث، وقالوا: الإنسان ينعدم بموته ولا يكون له عود إلى الوجود. وهؤلاء الذين أشار إليهم القرآن الكريم بقوله:(وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) الجاثـية:24. وذهب جمهور الفلاسفة وأتباع المشاءين إلى أنّه روحاني فقط، لأنّ البدن ينعدم بصورته وأعراضه، فلا يعاد، والنفس جوهر باق لا سبيل إليه للفناء، فيعود إلى عالم المجردات لقطع التعلّقات بالموت الطبيعي. ويذهب أكثر الفلاسفة إلى إنكار المعاد بتأويلات بعيدة، فهم يزعمون أنّ المعاد هو أن تلتحق روح الإنسان بعد موته بالملكوت فتكون سعيدة، فتلك هي الجنة، أو تلتحق بالشيطان، فتكون شقية، فتلك هي النّار، أما أن تعاد الأجسام من جديد فذاك في اعتقادهم من المستحيلات، فهم بذلك ينكرون أن الذي يحييها هو الذي أنشأها أول مرة، وهم يتساءلون(وَقَالُوا أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) الإسراء:49.
ويعد أرسطو واحداً من هؤلاء الفلاسفة المشاءين القائلين أن المعاد روحاني وليس جسماني، يتقل الشهرستاني عن أرسطو قوله:"إنّ النفوس الإنسانية إذا استكملت قوتي العلم والعمل تشبهت بالإله سبحانه وتعالى ووصلت إلى كمالها، وإنّما هذا التشبه بقدر الطاقة، يكون إما بحسب الاستعداد، وإما بحسب الاجتهاد فإذا فارق البدن اتصل بالروحانيين، وانخرط في سلك الملائكة المقربين، ويتم له الالتذاذ والابتهاج، وليس كل اللّذة فهي جسمانية، فإنّ تلك اللذات لذات نفسانية عقلية، وهذه اللّذة الجسمانية تنتهي إلى حد، ويعرض للملتذ سآمة وكلال وضعف وقصور، إن تعدى عن الحد المحدود، بخلاف اللذات العقلية فإنّها حيثما ازدادت ازداد الشوق والحرص والعشق إليها، وكذلك القول في الآلام النفسانية فإنّها تقع بالضّد مما ذكرنا، ولم يحقق المعاد إلا للأنفس، ولم يثبت حشراً ولا نشراً، ولا انحلالاً لهذا الرباط المحسوس من العالم، ولا إبطالاً لنظامه كما ذكره القدماء".( )
وكان بعض العرب في الجاهلية يؤمنون بوجود الروح بعد موت الجسد، ولكنهم ينكرون بعث الأجساد وحشرها، ويزعمون إنّ روح المقتول تبقى تنوح على قبره حتى يُؤخَذ بِثَأره، كما هو معروف في أشعارهم، ولعل إلى هؤلاء الإشارة في قوله تعالى:)وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) سـبأ:7-8.( )
وأمّا الفلاسفة الإسلاميون فقد ذهبوا إلى إنكار المعاد الحسّي الأخروي، وقالوا إنّ ما أخبرت به الرسل من أمر المعاد أمثال مضروبة، لتفهيم المعاد العقلي واللّذة والألم العقليين.( ) وأخذوا في تأويل نصوص وأخبار وأحوال المعاد من الجنة مثل قصور وأنهار وطيور وثمار في الجنة وزعموا أنها أمور معقولة قد عبر عنها الأنبياء بصورة خيالية جسمانية، من باب ترغيب للعوام بما تميل إليه طباعهم، وأمّا ما في النّار من سلاسل وأغلال وخزي ونكال فترهيبات للعوام بما تنزجر عنه طباعهم، وإلا ففي العالم العلوي لا يتصور أشكال جسمانية وصور جرمانية.( )
وصار هؤلاء الفلاسفة ينكرون حشر الأجساد، وينكرون العقوبات واللذائذ الحسية في الجنّة والنّار بظنون وأوهام واستبعادات، من غير أن يكون معهم برهان قاطع، وزعموا أنّ من يعتقدون حشر الأجساد فلقصور عقولهم عن فهم المعاد العقلي الروحاني.( )
طوائف المنكرين للبعث:
إنّ إنكار المعاد وعدم الإيمان بالبعث أمر قديم في تاريخ البشرية، ولعلّ الذي جعل هؤلاء الناس ينكرون البعث أنّ عقولهم لم تتصور إعادة الحياة للأجساد بعد تفرقها وتحللها. والناس في إنكارهم للبعث طوائف.
1- الفلاسفة الدهرية والطبائعية: أنكروا المبدأ والمعاد، وزعموا أنّ الأكوان تتصرف بطبيعتها، توجد وتعدم بنفسها، فليس لها رب يتصرف فيها كما يشاء، بل مجرد أرحام تدفع وأرض تبلع.ومن هؤلاء الشيوعيون وغيرهم من الملاحدة، الذين يعتقدون أن لا حياة إلّا الدنيا.
2- طائفة من الدهرية(الدورية): ينكرون الخالق عز وجل، ويزعمون أنّ في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه، وزعموا أنّ هذا قد تكرر مرات لا تتناهى.
3- مشركو العرب: هؤلاء أقروا بالرب الخالق المبدىء، ولكنّهم استبعدوا البعث والمعاد، وأن تحشر أجسادهم، وكانوا يقولون:(إِنْ هِيَ إِلاّ مَوْتَتُنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) الدخان:35.
4- طائفة الفلاسفة المنتسبة للإسلام: الفارابي وابن سينا وابن رشد ونحوهم. وهؤلاء- كما سيأتي بيانه- يثبتون البعث الروحاني فقط، وينكرون أن يبعث الإنسان بجسده وروحه معاً، وقد حكموا عقولهم القاصرة عن إدراك الغيب والتسليم به، وتركوا الشرع، وأخذوا يتأولون نصوصه، فضلّوا سواء السبيل، وأضلّوا.
5- النصيرية والدروز:وهما من الفرق الباطنية الكافرة، وهؤلاء ينسبون أنفسهم زوراً وبهتاناً للإسلام، وقد أنكرتا البعث والقيامة، وآمنتا بالتناسخ والتقمص، وهو انتقال الروح من جسد إلى جسد آخر، (إنسان أو حيوان)، واعتبرتا ذلك هو المعاد من النعيم أو الحساب والعذاب.( )
المطلب الثاني:إنكار الفلاسفة الإسلاميين للبعث الجسماني:
    أنكر الفلاسفة الإسلاميون أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد البعث الجسماني وأثبتوا البعث الروحاني(العقلاني)، واعتبروا أن الأدلة المثبتة للبعث الجسماني ما هي إلا أمثلة ضربت لتفهيم العوام، وهذا كما لو أريد إفهام الصبي أو العنين لذة الجماع، لم يسهل ذلك إلا بأن يمثل للطفل باللعب وللعنين بلذة الأكل الطيب مع شدة الجوع.( )
    واعتبروا أنّ:"ما ورد في الشرع، من الصور الحسية فالقصد به ضرب الأمثال لقصور الإفهام عن درك اللذات فمثل لهم ما يفهمون".( ) استدلّ الفلاسفة بالأدلة السابقة من القرآن والسنة ليثبتوا البعث الروحاني وبالتالي اعتمدوا عليها في إنكار البعث الجسماني، ولذلك ردّ عليهم الإمام الغزالي مبيناً أنّ هذه الأدلة لا تعني عدم وجود البعث الجسماني.
* فاستدلالهم بالآية القرآنية:(فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ( سورة السجدة:17. ردّ عليه الإمام الغزالي بقوله "أي لا يعلم جميع ذلك".( ) لأنّ ما أخبرنـا الله به من النعيـم قليل بالنسبة لما أخفاه سواء كان نعيماً روحانياً أو جسمانياً.
* وأمّا استدلالهم بالحديث "أعددت لعبـادي الصالحيـن، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" ردّ عليه بقوله:"فكذلك وجود هذه الأمور الشريفة، لا يدل على نفي غيرها، بل الجمع بين الأمرين أكمل، والموعود به أكمل الأمور، وهو ممكن، فيجب التصديق به على وفق الشرع".( )
ولمّا كان ابن سينا وابن رشد من أكثر الفلاسفة الإسلاميين توضيحاً لنظرية المعاد، التي تتضمن إنكارهم المعاد الجسماني، وقولهم بالمعاد الروحاني العقلي رأينا تخصيصهم بشيء من التفصيل.
1- ابن سينا وعقيدة البعث:
ويعد ابن سينا من الفلاسفة الذين اتبعوا آراء أرسطو في البعث الروحاني وإنكار البعث الجسماني، بل دافع عنها بكل الحجج ليثبت صحتها، وأضاف إليها ما ظنه محاولة للتوفيق بين الدين والفلسفة، لكنه لم ينجح في هذا التوفيق، إذ وقع في منزلق خطير وهو إنكار البعث الجسماني مما حدا بالعلماء للحكم بكفره وبكفر من أنكر هذا الاعتقاد.
ويعتبر الفلاسفة اللّذة العقلية أقوى كيفية من اللّذة الحسية، وأكثر كمية وأدوم وذلك لأن العقل يصل إلى كنه المعقول ويعقل حقيقته، بينما الحس لا يدرك إلا الأعراض، ولأن الموجودات وهي المعقولة غير متناهية.( )
ويضرب ابن سينا مثلاً بأفضلية اللّذة العقلية على اللّذة الجسمانية فيقول:"أليس ألذ ما تصفون من هذا القبيل – اللذات الحسية– هو المنكوحات والمطعومات، وأمور تجري مجراها؟ وأنتم تعلمون أن المتمكن من غلبة ما، ولو في أمر خسيس كالشطرنج والنرد، قد يعرض له مطعوم أو منكوح فيرفضه لما يَعْتَاضَهُ من لذة الغلبة الوهمية".( )
ويذكـر ابن سـينا أنّ الشـجاع يستحقـر هول الموت، ومفاجآت العطب (الخلل) عند مناجزة المبارزين لما يتوقعه من لذة الانتصار ولو بعد الموت، لذلك تقدم اللذات العقلية على الحسية.( ) ولهذا يزعم ابن سينا أنّ واضعي الشرائع–الأنبياء– اضطروا اضطراراً إلى الترغيب بالثواب والترغيب بالعقاب من خلال ضرب الأمثلة بالثواب الحسي والعقاب الحسي، لأنّ الجمهور لا يفهمون إلا المحسوسات.( )
ومن خلال دراستنا لمؤلفات ابن سينا فإنّا نراه يحاول خلال كتاباته التفرقة بين العامة والخاصة، فيلمح للعامة بالقول بالبعث الجسماني، ويصرح للخاصة بإثبات البعث الروحاني فقط، وقصده من ذلك الوصول إلى نفي البعث الجسماني، وإثبات الروحاني بهدف جر بعض العامة لما يعتقد. ويتضح هذا التفريق وضوحاً جلياً في كتابه "الإشارات والتنبيهات" حيث يعتبر الخاصة عارفين منزهين، وأما العامة فهم عنده بله.
فمّما قال مبالغة منه في الاحتفاء بالخاصة قوله:"والعارفون المنزهون إذا وضع عنهم دور مقارنة البدن، وانفكوا عن الشواغل، خلصوا إلى عالم القدس والسعادة، وانتقشوا بالكمال الأعلى وحصلت لهم اللّذة العليا".( )
وممّا يوضح قلّة احتفائه بالعامّة قوله: "وأمّا البله فإنّهم إذا تنزهوا خلصوا إلى سعادة تليق بهم، ولعلّهم لا يستغنون فيها عن معاونة جسم يكون موضوعاً لتخيلات لهم".( )
الكتب التي يصرح فيها ابن سينا بإنكار البعث الجسماني:
يقول ابن سينا في كتاب النجاة: "فقد قرّرنا أنّ حال المعاد الحقيقي وأثبتنا أنّ السعادة في الآخرة بتنزيه النفس، وتنزيه النفس بتبعيدها عن الهيئات البدنية المضادة لأسباب السعادة، وهذا التنزيه يحصل بأخلاق وملكات، وهي تكتسب بأفعال من شأنها أن تصرف النفس عن البدن والحس، وتُديم تذكيرها بالمعدن الذي لها.( )
    وفي كتاب الشفاء: يرى ابن سينا أنّ المعاد على ضربين:-
الأول:- المعاد المنقول من الشرع وهو المعاد الجسماني، أي حشر الأجساد، وهذا المعاد البدني لا سبيل إلى  إثباته إلا عن طريق الشرع، وأمّا العقل فلا يستطيع أن يقيم الدليل عليه.
الثاني:- المعاد المدرك بالعقل وهو المعاد الروحاني، وهذا المعاد لا تنفيه الشريعة ولا تكذبه بل تصدقه، وهي السعادة والشقاوة الثابتتان بالمقاييس العقلية.( ) ويرجح ابن سينا المعاد العقلي-الروحاني- لأنّه يعتبر أن المعاد الجسماني ما هو إلا ضرب أمثلة لتفهيم العوام، وإذا كان ابن سينا وأضرابه ليسوا منهم، بل هم من الخواص الذين لا يحتاجون إلى ضرب أمثلة.( )
ولقد زعم ابن سينا أنّ ما جاءت به الأنبياء نوعان:- الأول: الأمور العلمية، ومنها معرفة الله بأسمائه وصفاته والمعاد. وهذه الأمور لم يذكر الأنبياء حقائقها، إنّما أخبروا جمهور الناس بما يتخيلونه في ذلك لينتفعوا به في إقامة مصلحة دنياهم، لا ليعرفوا الحق، وهذا من جنس الكذب الجائز لمصلحة الناس، وهم يعلمون هذه المرتبـة، فضربـوا للنـاس الأمثال واستعملوا الرموز والإشارات.( ) يقول ابن سينا تحت عنوان:" في إثبـات النبـوة وكيفيـة دعـوة النّبي إلى الله والميعاد"،( ) "بل يجب أن يعرفهم جلالة الله تعالى وعظمته برموز وأمثلة، من الأشياء التي هي عندهم عظيمة وجليلة  ويلقي إليهم منه هذا القدر، أعني أنّه لا نظير له ولا شبه ولا شريك.." ويضيف:" وكذلك يجب أن يقرّر عندهم أمر المعاد على أوجه يتصورون كيفيته وتسكن إليه نفوسهم، ويضرب للسعادة والشقاوة أمثالاً ممّا يفهمونه ويتصورونه، وأمّا الحقّ في ذلك فلا يلوح لهم منه إلا أمراً مجملاً…ولا بأس أن يشتمل خطابه على رموز وإشارات".
وعن وظيفة النبي يقول:"يجب أن يقرر عندهم- العامة- أمر المعاد على وجه يتصورون كيفيته وتسكن إليه نفوسهم ويضرب بالسعادة والشقاوة أمثالاً مما يفهمونـه ويتصورونـه، وأمّا الحقّ في ذلك فلا يلوح منه إلا أمر مجمل، ولا بأس أن يَشتمل خطابه على رموز وإشارات" ويضيف قائلاً: "إن الفلاسفة الإلهيين -الفلاسفة– يرغبون في إصابة السعادة النفسية، بل إنهم لا يلتفتون إلى السعادة الجسمية وإن أعطوها.( )
      وممّا كتبه للخاصة قوله:"إنّ كمال النفس هو تخلصها من البدن جاء في رسالة أضحوية في أمر المعاد ما يبين إنكاره للبعث الجسماني حيث يعتبر الآيات القرآنية الدالة على البعث الجسماني ما هي إلا أمثلة لتفهيم الجمهور. يقول "ظاهـر متن هـذا كله أن الشرائع واردة لخطاب الجمهور بما يفهمونه، مُقرباً ما لا يفهمونـه إلى أفهامهـم بالتشبيه والتمثيل، ولو كان غير ذلك لما أغنت الشرائع ألبته".( ) ويقول أيضاً: "إذا لم يُمثل لهم الثواب والعقاب الحقيقي البعيد عن الأفهام بما يظهر لم يرغبوا ولم يرهبوا، وما لم يبعث أبدانهم لم يترشحوا للأمرين فوجب في حكم السياسة الشرعية تقرير أمر المعاد والحساب والثواب والعقاب على هذه الوجوه..".( )
وممّا يؤكد قول ابن سينا بالمعاد للنفس أو الروح فقط: أنّه بعد عرض آرائه استحالة البعث الجسماني، قال:"فليكن هذا كافياً في مناقضة الجاهلين المعاد للبدن وحده، أو للنفس والبدن معاً ".( )
ويضيف:" فإذا بطل أن يكون المعاد للبدن وحده، وبطل أن يكون للبدن والنفس جميعاً، وبطل أن يكون للنفس على سبيل التناسخ، فالمعاد إذن للنفس وحدها..".( ) وفي رسالته "في سر القدر" يعرِّف ابن سينا المعاد قائلاً: "هو عود النفوس البشرية إلى عالمها". ويضيف:"لا يجوز أن يكون الثواب والعقاب على ما يظنّه المتكلمون للزاني مثلاً بوضعه في الأنكال وإحراقه بالنّار مرة بعد أخرى، وإرسال الحيّات والعقارب عليه، فإنّ ذلك فعل من يريد التشفي من عدوه بضرر أو ألم يلحقه بتعديه عليه، وذلك محال في صفة الله تعالى".( )
وفي الدعاء يقول ابن سينا:"اسبغن عليها -أي النفس- بالتوبة العايدة بها إلى عالمها السماوي، وعجِّـل لها بالأوبة إلى مقامها القدس، وأطلع على ظلماتها شمساً من العقل الفعال".( )
2- ابن رشد وعقيدة البعث:-
اتبع ابن رشد ضرب ابن سينا في إنكار البعث الجسماني، وزعم أنّ ما جاء في القرآن والسنة من حديث عن أحوال البعث وما فيه من عذاب ونعيم هي مجرد أمثلة ضربت لتفهيم العوام، ولتقريب الأمور العقلية بذكر الأمور الحسية لأنّ أفهامهم لا تقوى إلا على فهم ذلك، وليس ما ورد منها في الشرع حقائق، وزعم:"أن الشريعة قسمان: ظاهر ومؤول، وإنّ الظاهر منها فرض الجمهور، وإنّ المؤول هو فرض العلماء، وأمّا الجمهور ففرضهم حمله على ظاهره وترك تأويله، وإنه لا يحل للعلماء أن يفصحوا بتأويله للجمهور.( )
وفي كتابه "تهافت التهافت" رغم أنّه كتبه للجمهور يكشف عن معتقده في البعث فيقول: "وكذلك الأمر فيما قيل في المعاد منها هو أحثّ على الأعمال الفاضلة مما قيل في غيرها، ولذلك كان تمثيل المعاد لهم– أي الجمهور- بالأمور الجسمانية أفضل من تمثيله بالأمور الروحانية".( )
ويزعم أنّ أصحاب الشرائع رأوا أنّ التمثيل للجمهور بالأشياء الحسيّة أشد تفهيماً لهم، وأشد تحريكاً من حيث الترغيب والترهيب.( ) ولذلك يعتبر ابن رشد أنّ حشر الأجساد وأوصاف الجنّة والنّار ليس سوى صور جـاء بها الأنبياء للحثّ على العمل الصالح، والتخويف من العمل الطالح فيقول: "فأخبروا(أي الأنبياء)أنّ الله يعيد النفوس السعيدة إلى أجساد تنعم فيها الدهر كله بأشدّ المحسوسات نعيماً وهو مثلاً الجنة وأنه تعالى يعيد النفوس الشقية إلى أجساد تتأذى فيها الدهر كله، بأشد المحسوسات أذىً وهو مثلاً النّار".( )
    ثمّ إنّ ابن رشد يذهب إلى أنّ العوام هم الأكثرية المقصود الأول من الشرائع، وقد تمّ تمثيل المعاد لهم بالأمور الجسمانية لكونهم يفهمون إلاّ ذلك، ولأنّه أكثر تحريكاً لنفوسهم، أما المعاد الروحاني فلا يفهمونه ولا يلاقي عندهم قبولاً، وهو أقلّ تحريكاً لنفوسهم، ولكنّه أكثر قبولاً عند الفلاسفة والمتكلمين من الناس، وهم الأقل.( )
      ويقول:"والحقّ في هذه المسألة أن فرض كل إنسان هو ما أدى إليه نظره فيها، بعد ألا يكون نظراً يفضي إلى إبطال الأصل جملة وهو إنكار الوجود جملة ".( )
وفي بعض كتبه يزعم ابن رشد أنّ مسألة البعث هل هو جسماني وروحاني معا كما أجمع المسلمون، أو هو روحاني فقط كما قالت الفلاسفة هو من المسائل المختلفة، يقول:"ما جاء في صفات المعاد وأحواله " فنقول: أن هذه المسألة الأمر فيها أنها المختلف فيه. وذلك أنا نرى قوماً ينسبون أنفسهم إلى البرهان يقولون: أنّ الواجب حملها على ظاهرها..وقوم آخرون أيضا ممن يتعاطى البرهان يتأولونها. وهؤلاء يختلفون في تأويلها اختلافاً كثيراً...ويشبه أن يكون المخطىء في هذه المسألة من العلماء معذوراً والمصيب مشكوراً أو مأجوراً، وذلك إذا اعترف بالوجود وتأول فيها نحواً من أنحاء التأويل، أعنى في صفة المعاد لا في وجوده، إذا كان التأويل لا يؤدي إلى نفي الوجود".( )
وينتهي ابن رشد إلى إثبات البعث الروحاني، وإنكار الجسماني. وأنّ الاعتقادات التي وردت بها الشرائع في أمور الآخرة، وإن لم يتناولها البرهان العقلي، والفلاسفة لم يتعرضوا لها، فإنّها أحثّ على الأعمال الفاضلة مما قيل في غيرها، ولذلك كان تمثيل المعاد لهم (أي للنّاس) بالأمور الجسمانية أفضل من تمثيله بالأمور الروحانية.
معتمد الفلاسفة في إثباتهم للبعث الروحاني دون الجسماني:-
إنّ إنكار الفلاسفة لبعث الأجساد وسائر أمور المعاد، وقولهم إنّ كلّ ذلك أمثلة ضربت لعوام الخلق لتفهيم الثواب والعقاب الروحانيين، وهما أعلى رتبة من الجسمانية.
وأنّهم قالوا: أن النفس تبقى بعد الموت بقاء سرمدياً: إمّا في لذة لا يحيط الوصف بها لعظمها، وأمّا في ألم لا يحيط الوصف به لعظمة. ثم قد يكون ذلك الألم مخلداً، وقد ينمي على طول الزمان. ثمّ تتفاوت طبقات الناس في درجات الألم واللّذة تفاوتاً غير محصور، كما يتفاوتون في المراتب الدنيوية ولذاتها تفاوتاً غير محصور. واللّذة السرمدية للنفوس الكاملة الذكية، والألم السرمدي للنفوس الناقصة الملطخة. والألم المنقضي للنفوس الكاملة الملطخة، فلا تنال السعادة المطلقة إلاّ بالكمال والتزكية والطهارة، والكمال بالعلم، والذكاء بالعمل.
إذاً إنّ  إنكار الفلاسفة البعث الجسماني مبني أمرين:-
1- نظرة فلسفية لماهية الإنسان:-
     تقرّر هذه النظرة أنّ الإنسان جسم وروح، وأن الجسم مادة كثيفة مظلمة، أمّا الروح فهي نور، وهمها العلم والمعرفة، والروح في البداية بحاجة إلى الجسم لتساعدها حواسه المتصلة بالكون اتصالاً مباشراً، حيث تنقلها من حالة الاستعداد للمعرفة إلى المعرفة بالفعل، ولكنّ الروح بعد ذلك تصبح في استغناء عن هذا الجسم، وذلك بعد تحصيلها المعرفة والعلم، أي أنّ الروح تصاحب الجسم إلى حد محدود، ثمّ تتخلـص منـه، وهـي ترقى لكونها جوهر لا يتفكك ولا يتحلّل، فهي لا تفنى.( )
2- اللّذة العقلية أفضل من اللّذة الجسمانية:-
إنّ الفلاسفة يرفعون من شأن اللّذة العقلية، ويبرهنون على أنها أفضل من اللّذة الجسمانية في الآخرة، ويزعمون أن اللّذة العقلية ليست واضحة في الدنيا لتعلقنا بالبدن وشهواته، بحيث تكون النفس أسيرة البدن، أما إذا انفصلت نفس الإنسان عن البدن فإن النفس تتنبه لكمالها في السعادة بعد أن كانت غير منتبهة لها بسبب انشغالها بالبدن.( )
ويزعم هؤلاء الفلاسفة أنّ كمال الروح الخاص بها هو أن تصير عالماً عقلياً مرتسماً فيه صورة الكل والنظام المعقول في الكل، والخير الفائض في الكل، سالكة الجواهر الشريفة الروحانية المطلقة، ثمّ الروحانية المتعلقة نوعاً ما بالأبدان، ثمّ الأجسام العلوية بهيئاتها وقواها حتى تستوفي في نفسها هيئة الوجود كله فتنقلب عالماً معقولاً.( ) ويزعم ابن سينا أنّ واضعي الشرائع في الترغيب والترهيب اضطروا أن يقولوا أنّ السعادة الأخروية تكون باللّذة الحسية، والشقاوة الأخروية بالألم الحسي وذلك لتقريب الفهم للناس.( )
     ويبرّر هؤلاء الفلاسفة موقفهم هذا باعتبار أنّ اللّذات العقلية أشرف من اللذات الجسمانية لسببين:-
أولهما: أنّ حال الملائكة أشرف من حال السباع والخنازير ومن البهائم، وليست لهـا لذات جسمانية كالجماع والأكل والشرب، وإنما لها لذة الشعور بكمالها وجمالها.
ثانيهما: إن الإنسان قد يؤثر اللذات العقلية على الجسمية، حيث أنّ من يتمكن من غلبه عدوه والشماتة به يهجر في تحصيلها ملاذ الأنكحة والأطعمة وبهذا تكون اللذات العقلية الأخروية أفضل من اللذعات الجسمية والدنيوية.( ) واستدلوا على ذلك بقـول الله عـز وجل: ]فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ[ سورة السجدة:17. وبقول الرسول صلى الله عليه وسلم " قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر".( )
أدلة المنكرين البعث الجسماني:-
بذل ابن سينا من خلال مؤلفاته جهداً كبيراً كي يثبت أنّ الآلام واللذات التي تحصل للإنسان هي للنفس فقط وأمّا الحسّ فلا علاقة له بها. ويدلل ابن سينا على إنكاره للبعث الجسماني، وخطأ القائلين بالمعاد الجسماني والروحي بعدة أوجه، منها:-
1- أنّ المادة الموجودة للكائنات لا تكفي أشخاص الكائنات الماضية إذا بعثت."وهو ردّ النفس إلى بدن إنساني من أيّة مادة كانت وأي تراب اتفق محال من وجهين: أحدهما أن المواد القابلة للكون والفساد محصورة في مقعّر فلك القمر لا يمكن عليها مزيد، وهي متناهية، والأنفس المفارقة للأبدان غير متناهية، فلا تفي بها، والثاني أن التراب لا يقبل تدبير النفس ما بقي تراباً، بل لا بد أن تمتزج العناصر امتزاجاً يضاهي امتزاج النطفة".( )
2- أنّ السعادة الحقيقية للإنسان لا تتوفر له عند وجود نفسه في بدنه، كما أنّ اللذات البدنية غير اللذات الحقيقية النفسية العقلية، بحيث إنّ جهل النفس في البدن يعد عقوبة لها، وأنّ الأمور الواردة في الشرائع إذا أخذت على ظاهرها لزمها أمور  محالة شنيعة.ومن ذلك عودة المجذوع والمقطوعة يده في الجهاد في سبيل الله تعالى على صورته هذه، وهذا قبيح جداً.
3- أنّه لا يجوز القول بالبعث الجسماني، لأنّ الأبدان بعد موتها تصير ترابا، وهذا التراب حرث وزرع، والزرع أخرج مختلف الأطعمة التي أكلت جثث أخرى، واختلطت صور هذا الإنسان بصورة إنسان آخر، وبالتالي يستحيل بحث مادة كانت حاملة لصورتي إنسانين في وقتين مختلفين ،دون أن يكون ذلك البعث لهما معا في وقت واحد وبلا قسمة، ومثل هذا التناسخ الذي يجب إنكاره وعدم القول به.( ) "وتقدير العود إلى الأبدان لا يعدو ثلاثة أقسام: إمّا أن يقال: الإنسان عبارة عن البدن والحياة التي هي عرض قائم به، ومعنى الموت انقطاع الحياة، فتنعدم والبدن ينعدم أيضاً. وإمّا أن يقال إنّ النّفس موجود، ويبقى بعد الموت، ولكن يرد البدن الأول بجمع تلك الأجزاء بعينها. وإمّا أن يقال: يرد النفس إلى بدن، سواء كان من تلك الأجزاء أو من غيرها، ويكون العائد هو ذلك الإنسان من حيث إنّ النّفس هي تلك النفس، فأما المادة فلا التفات لها.وهذه الأقسام الثلاثة باطلة: لأنّ الأول إيجاد لمثل ما كان، لا إعادة لعين ما كان. والثاني، وهو تقرير بقاء النفس ورده إلى ذلك البدن بعينه، باطل لأنه لو عاد لكان ذلك عوداً إلى تدبير البدن بعد مفارقته، وهذا محال، لأن بدن الميت ينحل تراباً أو تأكله الديدان والطيور ويستحيل دماً وبخاراً وهواء، ويمتزج بهواء العالم وبخاره ومائه امتزاجاً يبعد انتزاعه واستخلاصه".( )
نقض مزاعم المنكرين للبعث الجسماني:
يمكن مناقشة المنكرين للبعث الجسماني من خلال الوجوه التالية:-
أولاً: بيـان فساد المنهج الذي اعتمدوه في إنكار البعث الجسماني، ويتمثل ذلك بما يلي:-
1- اعتمادهم على المنهج العقلي المجرد عن الوحي، وهو منهج المناطقة والفلاسفة في أمور الغيب، ومعلوم أنّ أمور الغيب يجب الاعتماد فيها على الوحي وحده، لأنّه غيب عن الحس والمشاهدة. فحكموا عقولهم القاصرة عن إدراك الغيب والتسليم به، وتركوا الشرع، وأخذوا يتأولون نصوصه، فضلّوا سواء السبيل، وأضلّوا.
2- تجاوزوا المحسوسات وهي مدار حكم العقل إلى الغيبيات، إذ استخدموا العقل في الحكم على الغيبيات، والتي ليست من دائرة اختصاصه، بل وظيفة العقل التدبر والتسليم للوحي.
3- لقد رفعوا العقل فوق مكانة حيث جعلوه يبحث في كل شيء، حتى في الأمور التي يعجز العقل عن البحث فيها، وهي الأمور الغيبية التي لا تقع تحت الحواس، وإنّما يؤكّد إثباتها الوحي الإلهي.
4- جعلوا العقل المنقطع عن الوحي أساساً لفهم القرآن الكريم في أمور لا علاقة له بها، والصواب أن العقل ملزم بأنّ يتبع ما جاء في القرآن والسنة.
5- تأويل نصوص القرآن والسنة بعيداً عن اللسان العربي المبين، وبعيداً عن أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وفهم السلف الصالح، بل هؤلاء الفلاسفة على الهوى المجرد والخيال الفلسفي الذي حاكوا فيه تفكير وخيال الفلاسفة أساتذتهم من فلاسفة اليونان.
5- إنّ قول الفلاسفة بأنّ الظاهر من نصوص المعاد هو خطاب الجمهور والعامة حتى يصل أحدهم إلى معرفة الحقيقة. مناقض لما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، ويؤدي إلى أن يسقط المرء عنه طاعة أمره، ويسوغ له تكذيب خبره، ومن المعلوم لعامة المسلمين أنّ قول هؤلاء الفلاسفة الباطنية الذي يتضمن مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عليه السلام في المعاد- مثل قولهم قام الدليل العقلي على نفي المعاد مطلقاً، أو نفي الأكل والشرب والنكاح ونحو ذلك في الجنة ،أو على نفي معاد البدن- معلوم الفساد بالضرورة من دين الإسلام. ولو لم يكن المعاد حقا لزم إما جحد كون الرسول أخبر به وإما جحد صدقه فيما أخبر وكلاهما ممتنع وإلا فمن علم أن الرسول أخبر به وعلم أنه لا يخبر إلا بحق علم بالضرورة أن المعاد حق.( )
 إنّ اتهام الأنبياء بالكذب على الجمهور هو من المعلوم من الدين بالاضطرار بطلانه، بل هو من الكفر الصريح، فالفلاسفة لم يقدروا الله تعالى حق قدره، ولم يقدِّروا رسوله عليه السلام حق قدره، وفتحوا الباب على مصراعيه لكل الزنادقة والملحدة لإنكار كل ما جاءت به الأنبياء والمرسلون من العقائد والشرائع بحجة أنّ ظواهرها غير مرادة، وإنّما وردت على سبيل التمثيل والتخييل.
6- قال الله تعالى:"أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع على الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول ويأتينا فردا إلى قوله تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إذا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً "سورة مريم 66 95، ذكر سبحانه في هذا الكلام الرد على من أنكر المعاد.( )
ثانياً: وأما إنكارهم للبعث الجسماني فإنّ فيه تكذيب لصريح القرآن الكريم والسنة النبوية حيث جاء فيهما كثير من النصوص الكريمة التي تدلّ وبكل صراحة على البعث الجسماني، وأن العذاب في الآخرة والنعيم فيها إنّما هو للروح والجسم معاً.
ثالثاً: اتهامهم الأنبياء والمرسلين بأنّهم يلجئون إلى الكذب من أجل تفهيم جمهور المسلمين بما أعدّه الله تعالى لهم من النعيم، وما أعدّه للكفار والمجرمين من الجحيم.يقول ابن تيمية":لا ريب أن هذا الذي ذكره هو من أصول الفلاسفة القرامطة الباطنية في ردهم ما أخبر به الرسول من   المعاد وغيره إلى أمثال مضروبة، لكن أهل الملل يعلمون بالاضطرار أن هذا باطل وأن هذا نسبة للأنبياء إلى الكذب الصريح".( )
       يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:"ومعلوم أنّ هذا نسبة للرسول إلى التلبيس وعدم البيان، بل إلى كتمان الحق وإضلال الخلق، بل إلى التكّلم بكلام لا يعرف حقه من باطله، ولهذا كان حقيقة أمرهم الإعراض عن الكتاب والرسول فلا يستفيدون من كتاب الله وسنة رسوله شيئا..وصار ذلك الكلام سبباً للشر بينهم والفتن والعداوة والبغضاء، مع ما فيه عندهم من فساد العقل والدين، فحقيقة أمرهم أنّه أفسد دينهم ودنياهم، وهذا مناقض لقولهم إنّه أعقل الخلق وأكملهم أو من أعقلهم وأكملهم، وأنّه قصد العدل ومصلحة دنياهم، فهم مع قولهم المتضمن للكفر والإلحاد يقولون قولاً مختلفاً يؤفك عنه من أفك، متناقض غاية التناقض فاسد غاية الفساد".( )
رابعاً: إنّ في إنكار البعث الجسماني إبطال لعقيدة الثواب والعقاب في الإسلام.
خامساً: إنّ في إنكار البعث الجسماني تكذيب لجملة من أحوال يوم القيامة: كالبعث، والنشر والحشر، والحساب، والصراط، والميزان، والحوض، وكلّ ما أخبر الله تعالى عنه ممّا يكون في يوم القيامة.
سادساً: إنّ أقوال الفلاسفة:إنّ الجنّة والنّار وما فيهما من ألوان النعيم والعذاب هي أمثال ضربت لتقريب الفكرة إلى أذهان العوام ولتفهيمهم لا يحتمل إلاّ الكفر، لكونه تكذيب صريح لعشرات من النصوص الدينية التي وصفت الجنة والنّار-وما فيهما من أنواع النعيم الحسي، وجملةً من أنواع العذاب الحسي- بما لا يحتمل التأويل، وكلّ ما أخبر الله تعالى به فهو داخل في قدرته تعالى، وقد أخبر به عزّ وجل، وإذا أمكن تأويل هذه النصوص مع كثرتها وصريح ألفاظها وعباراتها، وما تدلّ عليه من المعاني فإنّه يمكن تأويل غيرها من الحقائق.
سابعاً: إنّ الأدلة التي ذكرها ابن سـينا لإنكـار المعـاد الجسـماني واهية متهافتة لا تصلح للاحتجاج فيما ذهب إليه، ومن أدلته:-
أ-قوله: "أنّ المادة الموجودة للكائنات لا تفي بأشخاص الكائنات الخالية إذا بعثت".( )
الجواب: إنّ استدلاله مبني على قوله بقدم العالم وإنكاره وجود حوادث متعاقبة -وقد سبق أن أبطلنا وبينا فساده– ومعلوم عند المسلمين أن العالم حادث، والحوادث فيه متعاقبة. ثمّ يقال لابن سينا: من الذي أحاطك علماً بأن المـادة الموجودة للكائنات لا تفي بالأشخاص ؟ ولماذا الحجر على قدرة وإرادة الخالق وحكمته، وهل يعجزه عز وجل أن يخلق ويوجد لكل مادة نفساً، أو لكل نفس مادة، إن النفوس ليست بأكثر من المواد الموجودة.
ب- قوله: "إنّ الفعل الإلهي واحد لا يتبدل عن مجراه المضروب له".( )
الجواب: إنّ هذا الدليل كسابقه مبني على اعتقاد قدم العالم. ثم إنّ الفعل الإلهي راجع إلى إرادة الله وقدرته، وفعله عز وجل ومفعوله ليس واحداً لا يتبدل، فلقد أخبرنا عز وجل عن تبدل السماوات والأرض، وأخبرنا رسوله صلى الله عليه وسلم أنّ الناس يبعثون شباباً وعلى صورة أبيهم آدم، وأنّ المؤمنين منهم يتنعمون في الجنة بأجسام غير أجسامهم في الدنيا، من حيث أشكالهم وأطوالهم، وأنّ طرق النعيم وكيفياته غير التي في الدنيا.
ج- "إنّ السعادة الحقيقية للإنسان يضادها وجود نفسه في بدنه، وأن اللذات البدنية غير اللذات الحقيقية، وأن النفس في البدن عقوبة له".( )
الجواب: هذا القول يتضمن تكذيب الشرع الذي أخبر عن جملة من اللذات الحسية في الجنة، ويتضمن الرجم بالغيب، إذ كيف عرف أنّ النفس إذا فارقت البدن كانت لذتها أكمل، إنّ الشرع لم يخبر بذلك، بل أخبر بخلافـه، ولم يجرّب ابن سينا ولا غيره من الفلاسفة السعادتين الدنيوية والأخروية ليحكما بخلاف ذلك، ثمّ إنّ اللّذة النفسية باجتماعها مع اللّذة الجسمية هي الأفضل والأكمل.
إنّ تقديس العقل في أمور الغيب ومسائله أمر مستنكر، والمؤمن الصادق يؤمن إيماناً جازماً بعالم الغيب كما أخبر عنه الشرع الحكيم، وعلى عقله أن يسلّم بذلك، وأن لا يخوض فيه، فحدود العقل لا تتجاوز الواقع المشاهد، إلى عالم الغيب إلا بمقدار ما أذن به الشرع، ولقد أخبرنا الشرع بجملة من أحكام الغيب وعوالمه، وعلينا أن لا نخوض فيها، وأن لا نتعمق في بحثها، وإلا فقد تجاوزنا حد التسليم والإيمان.
د- إنّ ما أخبر به الشرع من البعث إذا اخذ على حقيقته وظاهره، لزم منه محال وأمور شنيعة،( ) وذلك بعث المجذوع والمسلوخ والمقطوع يده في سبيل الله على صورته تلك، وهذا قبيح.( )
الجواب: إنّ المحال والشنيع من الأمور إنكار ما أخبر بالشرع من خلال التلاعب بالنصوص تأويلاً وتعطيلاً، ثم إن الله تعالى يعيد الإنسان على أحسن صورة، فلو بترت يد إنسان في سبيل الله فإنّ الله قادر على إعادتها له يوم القيامة، وقد تجلت حكمته على بعث المقطوعة يده في سبيل الله يوم القيامة على هذه الصورة لتكون له وسام شرف وعز، يراه أمام الخلائق جميعاً، وأمّا المتكبرون فيبعثه الله تعالى على صورة الذر، ويطأهم الناس بأقدامهم لإذلالهم والنّكال بهم أمام الخلائق جزاءً وفاقاً لما كانوا عليه في الدنيا.
هـ- وأما زعمه بأنّ الإنسان ستنتقل أجزاؤه عبر تغذي الحيوان والنبات فضل الإنسان وبدنه، وأنه لو أكل إنسان إنساناً فمن الذي سيبعث، وأنّ الأرض ملئت بجثث الموتى، وتغذى منها الأشجار، وعلى الأشجار تغذى الحيوان، وعلى الحيوان تغذى إنسان آخر، فكيف يكون بعث للأبدان؟( )
 الجواب: إنّ قدرة الله عز وجل لا تقف أمامها العقبات التي ذكرها ابن سينا، ثمّ إنّ الإنسان فيه أجزاء أصلية باقية في أوّل العمر إلى آخره، والمعاد يكون للأجزاء الأصلية الباقية، وهي في الأكل فضل، والإنسان باق مدة عمره، وأجزاء الغذاء تتوارد عليه وتزول عنه.( ) وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:"‏كل ابن آدم تأكله الأرض إلا عجب الذنب منه ينبت، ويرسل الله ماء الحياة فينبتون فيه نبات الخضر، حتى إذا أخرجت الأجساد أرسل الله الأرواح، وكان كل روح أسرع إلى صاحبه من الطرف، ثم ينفخ في الصور فإذا هم قيام ينظرون"‏.( ‏)
حكم الإسلام في منكر البعث الجسماني:
         إنّ القرآن الكريم حكم على منكري البعث بالكفر، وحبط العمل والخلود في النّار، قال تعالى:(أولئك الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) سورة الكهف:105، وقال تعالى:(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النّار هم فِيهَا خَالِدُونَ) سورة الرعد:5. (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) التغابن:7.
        يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:"يجب تكفير من يغير الظاهر بغير برهان قاطع كالذي ينكر حشر الأجساد، وينكر العقوبات الحسية في الآخرة، بظنون وأوهام واستبعادات من غير برهان قاطع. فيجب تكفيره قطعاً، إذ لا برهان على استحالة ردّ الأرواح إلى الأجساد،ورد ذلك عظيم الضرر في الدين، فيجب تكفير كل من تعلق به،وهو مذهب أكثر الفلاسفة".( ) ويضيف:"وأما إثبات المعاد بنوع عقلي مع نفي الآلام واللذات الحسية وإثبات الصانع مع نفي علمه بتفاصيل الأمور، فهي زندقة مقيدة بنوع اعتراف بصدق الأنبياء، وظاهر ظني والعلم عند الله أن هؤلاء هم المرادون بقوله صلى الله عليه وسلم:"ستفترق أمتي نيفا وسبعين فرقة كلهم في الجنة إلا الزنادقة".( )      
      إذاً منكرو البعث الجسماني يحكم بكفرهم وزندقتهم، لأنّهم بإنكارهم جسمانية البعث ينكرون الكثير من الآيات القرآنية التي تقرّر وتثبت عقيدة البعث الجسماني، وما بعده من النعيم الحسي في الجنة أو العذاب الحسي في النّار. ومنه الإيمان بالبعث والحشر والحساب ووزن الأعمال. والإيمان بالجنّة بأنّها دار النعيم للمؤمنين خالدين فيها أبداً بأرواحهم وأجسادهم. والإيمان بالنّار بأنها للكافرين خالدين فيها أبداً بأرواحهم وأجسادهم، وهذه من الأمور المعلومة بالدين بالضرورة، التي يعد إنكارها كفراً يخرج
صاحبه من الملة. نسأل الله تعالى العفو والعافي
ة.

هناك تعليق واحد: