الاثنين، 24 أغسطس 2015

المبحث الثاني
أدلتهم في إثبات وجود الله تعالى
الدليل الأول: دليل الممكن والواجب
أولاً: مكانة الدليل عند الفلاسفة الإسلاميين:
       يزعم ابن سينا أن طريقته في الاستدلال على وجود الله هي الطريقة الأفضل، وهي طريقة الصديقين، وقد استشهد على صحة زعمه بالقرآن الكريم، وذلك من باب محاولته في التوفيق بين الفلسفة والدين، وهي المحاولة التي يقصد من ورائهـا التضليل باسم التوفيق.يقول ابن سينا في ذلك:"تأمل كيف لم يحـتج بياننـا لثبـوت الأول ووحدانيته، وبراءته عن الصفات، إلى تأمل لغير نفس الوجود ولم يحتج إلى اعتبار من خلقه وفعله وإن كان ذلك دليلاً عليه .لكنّ هذا الباب أو ثق وأشرف، أي إذا اعتبرنا حال الوجـود، يشهد به الوجود من حيث هو وجود، وهو يشهد بعد ذلك على سائر ما بعده في الوجود، وإلى مثل هذا أشير في الكتاب الكريم ):سنريهم آيَاتِنَا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنفسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لهُمْ أَنَّـهُ الحَقُّ) سورة فصلت 53 ، أقول :إن هذا حكم لقوم، ثم يقول:)أَوَلَمْ يَكف بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَـى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) سـورة فصـلت: 53 أقول:إنّ هذا حكم للصديقين الذين يستشهدون به لا عليه".( )
      وأمّا بالنسبة لمصدر الدليل، فإنّ الفلسفة قبل الفارابي وابن سينا لم تعرف هذا الدليل، فالدليل أحدثه هذان الفيلسوفان، وقد أخذا أساس فكرته من الفكر المعتزلي، إذ أنّ المعتزلـة قسمت الوجود إلى محدث وقديم، وبنوا على ذلك إثبات وجود الله تعالى، وركّب الفارابي وابن سينا طريقتهما من كلام الفلاسفة اليونانيين ومن طريقة المتكلمين.) ) يقول ابن تيمية: "ولكـنّ ابن سينا إنما أخذ هذه الطريقة التي سلكها من كتب المعتزلة ونحوهم من متكلمي الإسـلام، وأراد تقريبها إلى مذهب سلفه الفلاسفة الدهرية، ليصير كلامه في الإلهيات مقاربا لجنس كلام متكلمي الإسلام، وهذا كما فعلت إخوانه الباطنية" ).)
ثالثا:عرض دليل الواجب والممكن:
     عرفنا فيما سبق أن الفارابي وابن سينا يستدلان على وجود الله تعالى عـن طريـق الوجود نفسه، وعرفنا ً أيضا أنهما ينظران إلى الوجود ً نظرة واحدة، فالوجود إما ممكن وإمـا واجب، فإن كان واجبا فقد صح وجود الواجب الوجود، وهو الله تعالى الذي أبدع العالم، وهذا ما يرمي الفيلسوفان إلى إثباته، وإن كان ً ممكنا فإن الممكن لابد أن ينتهي وجوده إلى واجـب الوجود، وهو المطلوب ( ).
رابعا: مناقشة الدليل:
تعرّض دليـل الفلاسفة لمجموعة من الاعتراضات والانتقادات، ومن أشـهر الـذين اعترضوا عليه الغزالي، وابن رشد، والمكلاتي) )، وابن تيمية، وعلاء الدين الطوسي ( ) وقـد أبرز هؤلاء العلماء أوجه الضعف في الدليل، وبيّنوا عدم استطاعة الفلاسفة القائلين به إثبـات وجود الله تعالى.
     والدليل نفسه يحمل معول هدمه، لاحتوائه على المقدمات الباطلة، ومن المعلـوم أنّ الدليل إذا اعتمد على مقدمات باطلة فإنّه لا ينتج الغرض المقصود منه، وأبرز هذه المقـدمات الباطلة في هذا الدليل ذلك الممكن الذي انطلق الفلاسفة منه في بيان حاجتـه إلـى العلّـة، إذ جعلوه قديما أزلياً، وسوف يتضح فساد هذه المقدمة من خلال اعتراضات العلماء على الـدليل نفسه. ونظرا لكثرة الاعتراضات فسـنحاول التركيـز علـى أقواها وأشهرها، و أمّا اعتراضات شيخ الإسلام ابن تيمية فسنجعلها وحدها، ذلك أنّ ابن تيمية يمثل موقف السلف من الفلاسفة الإسلاميين، فهو أشهر علماء السلف الذين تصـدوا لباطـل الفلاسفة فطمسوه، وكشفوا فساد عقائدهم، وزيف أفكارهم.

الموقف الإجمالي من الدليل:-
 1- إن هذا الدليل لا يستقيم للفلاسفة لكونه متناقضاً مع مذهبهم القائل بقدم العالم وأزليته، لأنّ القول بالقدم لا يجِّوز لأصحابه أن يثبتوا أن للعالم صانعاً، فإنّ من يجـوز وجـود وجـودات متعاقبة إلى غير النهاية يلزمه تجويز عدم انتهائها إلى الواجب مع كـون كـل منهـا علـة للآخر.( ) 
 2- وتقسيم الفلاسفة الموجود إلى واجب الوجود من قبل غيره، وممكن من ذاته، ثم جعل الممكن قديما أزليا ليس بصحيح .بل كلامهم في هذا الممكن في غاية الاضطراب، ولا يمكن بحال إقامة الدليل على أقوال فاسدة، ومقدمات باطلة، أو إقامة الدليل الذي يشمل قضايا هـي مجرد دعوى بلا برهان.( )
3- وعلى فرض أن الممكن قديم- كما ذهب إليه الفلاسفة - وكان محتاجا إلى ما يترجح به أحد طرفيه فلا شبهة في ذلك، ولكن الكلام في الفاعل المفيد للوجود مـثلاً وفعـل الوجـود وإفادته، فهذا يقتضي وقتا يكون الوجود قبله غير حاصل، وهذا مما لا يمكن تصـوره في القديم، فبطل الفرض على تقدير ما جاء في دليل الفلاسفة، فلا يستقيم إذا هذا الدليل بتلك لمقدمة الفاسدة.( ) 
 4- وأمّا إذا كان المراد من الممكن ما له علة من الأشياء الضرورية، كما ذهب إليـه ابـن سينا، إذ الأفلاك الضرورية-عنده - واجبة الوجود، ويمتنع عدمها أزلاً وأبداً، وهي مع ذلك ممكنة أي معلولة، فهذا الممكن لا يمكن إثبات وجود الله تعالى عن طريقه.وأمّـا إذا كـان المراد من الممكن ما لا علة له، وهو الممكن الحقيقي الحادث، فإن هـذه الممكنات يبطل تسلسل العلل فيها إلا ما لا نهاية.وعلى تقدير هذا الممكن يتم إثبات وجود واجب الوجود ).) لكن مراد ابن سينا من الممكن ليس هذا، فبطل استدلاله بوجود واجب الوجود كما ذهب إليه.
5- وقد طعن أبو حامد الغزالي في طريقة الفلاسفة من وجهين استحسنهما شيخ الإسلام ابـن تيمية وهما:-
أ- أنّ غاية طريقة الفلاسفة إثبات موجود واجب، ولا يمكن نفي كونه جسما من الأجسام، إلا بطريقتهم في التوحيد، ومضمون توحيد الفلاسفة نفي الصفات، ونفي الصفات مبني على نفي التركيب، وهذا بَيِّن فساده.( ) ويلزم الفلاسفة على مذهبهم أن تكون أجسام العالم قديمة، فـلا علة لها.
ب- أن طريقتهم مبنية على إبطال علل ومعلولات لا نهاية لها، ويلزمهم عدم قدرتهم إبطـال ذلك لقولهم بوجود حوادث لا نهاية لها.) )
   يقول الغزالي:"إنّه من يجوز حوادث لا أول لها، وهي صور العناصر الأربعة، فلا يتمكن من إنكار علل لا نهاية لها، ويخرج من هذا أنّه لا سبيل لهم إلى الوصول إلى إثبـات المبدأ الأول لهذا الإشكال".) )
-6  موقف ابن تيمية من دليل الواجب والممكن:
أ- إنّ تعيين القديم الواجب، ومعرفة الصانع تعالى أمر فطري ضروري، والطرق المؤدية إلى إثبات وجوده عز وجل كثيرة، ولكن شياطين الجن والإنس أفسدوا فطر بعـض النـاس، فعرض لهم ما أبعدهم عن هذه الفطرة، وعن التأمل في طرق وجوده تعـالى، ولهـذا قالـت الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لأقوامهم: (قَالَت رُسُلُهُم أَفِي اللَّهِ شَـكٌّ فـاطِرِ السَّـمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) سورة إبراهيم .10 وطريقة ابن سينا وأتباعه ليست من هـذه الطـرق الفطريـة الضرورية أو من الطرق العقلية فهي من الطرق الفاسدة التي لا تفيد علماً، وأصحاب الـدليل لم يستطيعوا من خلالها إثبات واجب الوجود الذي أبدع العالم، وكل ما أثبتوه مجـرد وجـود واجب، وإذا فرض أنّهم يقدّرون إثبات واجب الوجود من خلال طريقتهم فإنّهم عـاجزون لا محالة عن إثبات أنه مغاير للسماوات والأفلاك.
ب- ولمّا كانت طريقة الفلاسفة تثبت أنّ القديم واجب وممكن، فليس في هذا دليل على إثبات الواجب الذي أتعبوا أنفسهم في الوصول إليه، فالممكن القديم الأزلي كما أثبتوه ممتنع في بديهة العقل واتفاق العقلاء، ولا يعلم أنّه مفتقر إلى الفاعل وجمهور العقلاء يقولون: إنه يمتنـع أن يكون لهذا الممكن فاعل، ولو قدر أنّ له فاعلاً، لكان هذا مما يعلم بنظر دقيق خفي. ودليل الفلاسفة هذا يؤدي إلى الشك في وجود الواجب لذاته، أو هو يؤدي إلى جحد الخالق. ) )
    وإذا كان الدليل يثبت أن في الوجود وجود واجب وهذا مما يقرُّه من جحد الخـالق أمثال فرعون، والدهرية المحضة من الفلاسفة، والقرامطة ونحوهم، إذ يقول هؤلاء إنَّ هـذا الوجود واجب بنفسه لا بغيره ).) ومن قال أنّ الوجود واحد أمثـال ابـن عربـي ))، وابـن سبعين،( ( والقونوي ( )، وهو واجب لا ينقسم إلى واجب وممكن، ولا إلى قديم ومحدث فقد وفى بموجب دليل الفلاسفة الذي أثبت وجود واجب لا غير.
د- وقد رد ابن تيمية على الفلاسفة في زعمهم بأنّ الممكن قديم أزلي كما جاء فـي مقدمـة دليلهم. فقال:إنّا نشاهد حدوث كثير من الموجودات، نشاهد حدوثها بعد أن لم تكن، وعـدمها بعد أن كانت، وما كان معدوما أو سيكون معدوما لا يكون واجبا الوجود، ولا يكـون ً قـديما أزليا،) )  فيكون الممكن الذي ابتدعه ابن سينا وأتباعه لا وجود له، ولا يقول بوجوده جمهور العقلاء .ثم إن تقسيم الممكن إلى ممكن حقيقي وهو الحادث، وإلى ممكن قديم معلول، ليس ً بينا بنفسه، ولا دليل عليه، بل الدليل على بطلان هذا التقسيم، وتصح قسمة الوجود إلـى واجـب وممكن، إذا كان معنى الممكن ما يقبل العدم، وهو الممكن الذي لابد له من واجب.( )
ويرى ابن تيمية أنّ الاستدلال بالممكن الذي يقبل العدم هو استدلال بوجود الممكن المعلوم إمكانه على القديم، وهذا استدلال بالمحدثات على القديم، لا استدلالاً بالوجود من حيث هو وجود على وجود الواجب، كما ظنّ ابن سينا وأتباعه بأنّ الوجود من حيث هو وجـود إذا دلّ على وجود الواجب لم يناقض ذلك أن يكون الوجود كله واجباً.( )
          ويمكن لطريقة الفلاسفة أن تؤدي إلى إثبات وجود الله، لو أنّ أصحاب الدليل فسروا المم كن بالممكن الذي اتفق العقلاء على معناه، وهو مـا يكـون موجوداً تارة، وما يكون معدوماً ً تارة أخرى .لكن أن يذهب هؤلاء الفلاسفة إلى أنّ الممكن هو القديم الواجب بغيره والحادث المسبوق بالعدم، فلا يمكن لهم إثبات وجود واجب الوجود عن طريقه( )  كما لا يمكنهم إبطال مذ هب الفلاسفة الطبيعيين الذين يقولـون: إنّ الفلـك واجـب الوجود بنفسه) )  وأعظم خطأ وقع فيه هؤلاء الفلاسفة أنهـم قـالوا: إنّ وجود الممكن في الخارج زائد على ماهيته، و أمّا الواجب فوجوده في الخـارج فهـو عـين ماهيته، وهم بذلك أثبتوا حقائق في الخارج غير الموجودات الثابتة في الخارج، كمـا جعلـوا الوجود الواجب ً وجودا ً مطلقا ليس له حقيقة سوى مطلق الوجود. ))
تعديل ابن تيمية طريقة الممكن والواجب عند الفلاسفة بأنواع أخرى من الطرق العقلية:-
    يرى ابن تيمية أنّ طريقة الفلاسفة في إثبات وجود الله عز وجل يمكن سلوكها، ولكن بأنواع أخرى من الطرق العقلية الصحيحة الموافقة للفطرة، ومن هذه الطرق التي ذكرها:-
1 - إن ثبوت الموجود المفتقر المحدث أمر معلوم للعيان والحس، فإنّ الإنسان يشهد بعـض الموجودات توجد بعد العدم، وتعدم بعد الوجود، من الحيوانات والنباتات والمعادن وغيرها مما هو موجود بين السماء والأرض، ً وأيضا يشاهد الإنسان حدوث الليل بعد النهـار، وحـدوث النهار بعد الليل، وإذا علم وجود المحدث، علم ً ضروريا أن المحدث لابد له من المحدث، وإذا كان المحدث لابد أن يكون ممكناً، فالممكن لابد له من واجب.
2- إنّ الموجود ينقسم إلى مخلوق وإلى غير مخلوق، والمخلوق لابد له من خالق لا يتصـف بصفات المخلوق، فثبت بذلك وجود الخالق.
3- إنّ الموجود ينقسم إلى الغني عما سواه، والفقير المحتاج إلى غيره،وهذا الفقير لا يوجـد بنفسه، إنما يوجد بالغني لافتقاره إليه، فثبت وجود الغني بنفسه وهو الله تبارك وتعالى. ))
الدليل الثاني:دليل الغائية والعناية:-
     يقوم هذا الدليل على ملاحظة عناية الله تعالى بالكون، وما فيه من إحكام وإتقان واستبعاد أن يكون في الكون شيء قد تمّ بمحض الصدفة والاتفـاق، وأنّ فكرة الغائية بارزة بوضوح في هذا العالم.  فآثار حكمة الله الخالق وبديع صنعه وكمـال إتقانه وإحكامه للخلق واضحة في الكون لكل متأمل ومتدبر .وقد سلك هذا الدليل في إثبات وجود الخالق عز وجـل معظم الفلاسفة الإسلاميين، وإن تمايزت طريقتهم في الاستدلال به من حيث توضيح العناصر والأفكار الأساسية التي يقوم عليها، وأيضا من جهة الإشادة به وبيان قيمته بين غيـره مـن الأدلة،فالكندي )) وابن رشد هما من أبرز هؤلاء الفلاسفة في الاحتفاء بهذا الدليل والاهتمـام به. ) ) وأمّا أبو البركات البغدادي فنجده يسمي هذا الدليل بالحكمة العملية. ( )وأمّـا ابـن طفيل فإنّه يبرهن على وجود الله تعالى بعدد من الأدلة دون أن يحدد لها أسماء معينة، ودون أن يفصل بين دليل وآخر.) )
         وقد لاحظ بعض الباحثين المحدثين ( ) اعتماد ابن طفيـل علـى فكرتي الغائية والنظام كدليل على وجود الله عز وجل، ورسالة(حي بن يقظان) لابن طفيـل تحتوي على كثير من النصوص التي تشهد بالاستنتاج الذي ذهب إليه هؤلاء الباحثون .
         وإذا كان الكندي وابـن رشـد مـن أبـرز الفلاسـفة الإسلاميين في الاحتفاء بهذا الدليل كما أشرنا قبل قليل، فإنّا سنركز عليهما في بيان قيمة هذا الدليل وتقريره عند هؤلاء الفلاسفة.فأمّا الكندي فهو يردّد في معظم رسائله القول بعظم قدرة الله تعالى، وسعة حكمتـه، وكمال عنايته وإتقانه، وحسن تدبيره وتنظيمه، وأن الكون بما فيه من المخلوقـات لأوضـح الدلالة على هذا كله، وقد ظهر للعقل والحس أن هناك مدبراً عظيما وخالقا حكيما مـن وراء هذا التدبير والعناية والإتقان.ففي رسالة الإبانة عن العلّة الفاعلة القريبة للكون والفسـاد )) يشير الكندي إلى هذا الموضوع بقوله: إن الظاهرات للحواس - أظهر الله لك الخفيـات- لأوضح الدلالة على تدبير مدبر أول .أعني مدبراً لكل مدبر، وفاعلاً لكل فاعل، ً ومكونا لكـل مكون، وأَوّل لكل أَوَّل، وعلة لكل علة، لمن كانت حواسه الآلية موصـولة بأضـواء عقلـه، وكانت مطالبه وجدان الحق، وخواصه الحق، وغرضه الإسناد للحق واستنباطه والحكم عليـه، والمزكي عنده في كل أمر من شجر بينه وبين نفسه العقل.
     ويقول أيضا:"فإنّ في نظم هذا العالم وترتيبه، وفعل بعضه في بعض، وانقياد بعضه لبعض، وتسخير بعضه لبعض، وإتقان هيئته على الأمر الأصلح في كون كل كائن، وفساد كل فاسد، وثبات كل ثابت، وزوال كل زائل، لأعظم دلالة على أتقن تدبير، ومع كل تدبير مدبر، وعلى أحكم حكمة، ومع كل حكمة حكيم، لأن هذه ً جميعا من المضاف". ( )، وفي رسالة "ماهية النوم والرؤيا"( ) يحدّثنا الكندي عن بديع النظام في حياة الحيوان فيقول:"فإن بارئ الكل جل ثناؤه صيَّر للحيوان ً زمانا للراحة، وعمل الآلات والقـوى التـي للغذاء النامي لجسم الحي".
      وأمّا في رسالة(الإبانة عن سجود الجرم الأقصى) فإنا نجده يلفت الأنظار إلى عظيم قدرة الله تعالى وسعة جوده، وإتقان تدبيره، ويذكر عددا من المخلوقات التـي تتجلـى فيهـا عجائب قدرة الله تعالى الشاملة. ( )
     وأمّا ابن رشد فإنّه يقيم دليل العناية على أصلين اثنين: أحدهما:أن جميع المخلوقات موافقة لوجود الإنسان. وثانيهما: أنّ هذه الموافقة هي ضرورة من قبل فاعـل قاصـد لـذلك مريد، إذ من المستحيل أن تحصل هذه الموافقة جزافا ( ).ثمّ يضرب أمثلة من المخلوقات التي جعلت موافقة لخلق الإنسان ووجوده، كالشمس والقمر، والليل والنهـار والأرض والسـماء، والفصول الأربعة، والأمطار والأنهار والبحار، وكذلك أعضاء بدن الإنسان خلقـت موافقـة لوجوده، وتظهر فيها العناية الإلهية .ويبين ابن رشد كيف خلقت بعض الموجـودات موافقـة لوجود الإنسان، فالشمس مثلاً لو كانت أعظم ً جرما مما هي عليه، أو أقرب مكانا لهلك النبات والحيوان، ولهلك الإنسان نفسه من شدة الحرارة، ولو كانت أصغر جرماً، أو أبعد مما هـي عليه لهلك الحيوان والنبات، والإنسان نفسه من شدة البرودة .والقمر لو خلقه الله تعالى أعظم مما هـو عليـه أو أصغـر، أو كان أبعد أو أقرب، أو لم يكن نوره مستفاداً من الشمس لما كان له هذا الفعل في حياة الإنسان . إنّ عناية الله تعالى تشمل المخلوقات جميعا ( ) ويستشهد ابن رشد على ذلك بعدد من الآيات الكريمة، منها قوله تعالى:(أَلَمْ نجْعَلْ الَأرْضَ مِهَادًا، وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً) سورة النبأ.6: وقوله:)تبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَـرًا مُنِيـراً) سورة الفرقان: 6 ، وقوله:)فَلْيَنْظرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ) سورة عبس ( ) .24
     ونجد ابن رشد في أحد كتبه) ) يجعل دليل العناية مسلكا للناس جميعـا مـن العـوام والعلماء، بينما نجده في كتاب آخر له) ) يجعله مسلكاً خاصا للفلاسفة الحكماء. ولعلّ ابن رشد في كتابه الثاني كان متأثراً بنزعته الأرسطية، إذ أن أرسطو قد ذهب إلى اعتماد هذا المسلك، ولكن بنزعة فلسفية بحتة، وخاصة إذا ما علمنا أن هذا الكتاب هو تلخيص لكتـاب أرسـطو"تفسير ما بعد الطبيعة". وفي نظرنا أن ابن رشد عندما خص هذا المسلك بالفلاسفة إنما كـان يقصد أن يجعل لأستاذه أرسطو مكانةً خاصة في سلوك هذا الدليل .
    ولعلّ الفلاسفة الإسلاميين الذين اعتمدوا هذا الدليل في إثبات وجود الله عز وجل إنما أخذوه من الفلاسفة اليونانيين أمثال أفلاطون وتلميذه أرسطو، إذ اعتمده كليهما فـي إثبـات وجود الصانع. فأفلاطون مثلاً يبين أن النظام في العالم لا يمكن أن يكون نتيجة للمصـادفة، فالعالم من خلق مدبر رتَّب كل شيء عن قصد، وليس عن المصادفة والاتفاق كما أن فلاسفة العصر الوسيط اعتمدوا دليل الغائية والنظام في إثبات وجود الخالق .فأوغسطين( ) مثلاً لديه مثل هذا الدليل.
    وممن سبق الفلاسفة الإسلاميين فـي اعتماد مسلك الغائية والنظام المعتزلة والأشاعرة ( ) وغيرهم من علماء السلف.
     ويرى أحد الباحثين المعاصرين( ) أنّ ابن رشد قد تأثر في مسلكه هذا بالذين سـبقوه ممن تحدثوا عن هذا الدليل في مؤلفاتهم، ويرى هذا الباحث أن ابن رشد قد ربط بين آرائه في ضرورة تلازم الأسباب بالمسببات وبين قوله بالغائية ً ربطا أدق من الذي نجده عند ممن سبقوه من الفلاسفة والمفكرين، وكذلك ربطه القول بالغائية والقول بالاختراع.( )
المناقشة:-
     إنّ دليل الغائية والعناية من الأدلة القوية في إثبات وجود الخالق عز وجل. فالكون كما لاحظه أصحاب الدليل لم يخلقه الله تعالى مصادفة واتفاقاً، إن الله تعالى أودع الكون سننه التي يسير عليها، وجميع المخلوقات تسير وفق نظام متكامل لا مجال فيه للفوضـى أو الاضطراب، ولا مجال فيه للعبث أو الاتفاق فالإتقان الكامل، والعناية الشاملة لكل الموجودات تشهدان أن لهذا الكون خالقا ومدبراً حكيماً، نَظَّم الكون وربط بين أجزائه المختلفة بحيث يكمل بعضها بعضا. وقَدَّر الخالق عز وجل كل شيء في هذا الكون تقديرا.
        وقد حفـل القـرآن الكريم بكثيـر من الآيـات الكريمـة التي تحدثت عن عنايـة الله عز وجل وإتقانه لهذا الكون الواسع، ومن هذه الآيات قوله تعالى:(وَجَعَلْنَا فِي الْـأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لعَلَّهُمْ يَهْتدُونَ، وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًـا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَـرَ كـلٌّ فِـي فَلَـكٍ يَسْبَحُونَ) سـورة الأنبيـاء: 33 -31 ، وقـوله:)والْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَـا رَوَاسِـيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ، وَجَعَلْنَا لكمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لسْتمْ لَهُ بِرَازِقِينَ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خزَائِنُهُ وَمَا نُنزله إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ، وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّـمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكمُوهُ وَمَا أَنْتمْ له بِخازِنِين) سـورة الحجـر (1).22 -19
      وفي نظرنا أنّ دليل العناية والنظام هو الدليل الوحيـد من أدلة الفلاسفة الإسلاميين الذي سلم من الانتقادات والاعتراضات، وذلك أنه مـن الأدلـة الشرعية التي جاءت في القرآن الكريم .وهو الدليل القوي الذي يبطل مزاعم القائلين بالصدفة والاتفاق سواء كانوا من الملاحدة القدامى أم من المحدثين، وقد لاحظ الدكتور محمد عـاطف العراقـي مدى قـوة الدليـل في إبطال هذه المزاعم يقول :"ويجدر بنا القول بأنّ خير ما في هذا الدليل نقده لفكرة الإمكان والاتفاق، ورده كل شيء في الكون إلـى أسـبابه الضـرورية المحددة، فما أبعد الفرق إذاً بين الركائز التي يستند إليها هذا الدليل، وبين منـاداة المتكلمـين بالجواز والإمكان، أو قول ابن سينا بأن وجود العالم ممكن.( )
     ولعلّ مما يؤخذ على الفلاسفة الذين اعتمدوا هذا الدليل أنهم أثبتوا العنايـة والغائيـة بطريقة فلسفية، اللهم إلا ابن رشد الذي استشهد بالقرآن الكريم في إبراز عناية الله تعالى وبديع خلقه وترتيبه وإتقانه .وقد بين ابن رشد مدى أهمية هذا الدليل ومكانته بين أدلـة الفلاسـفة والمتكلمين، فهو عنده من الأدلة المضادة لاستدلال الأشعرية في إثبات وجـود الله، وخاصـة زعمهم بأن دلالة الموجودات على الله تعالى ليس من أجل حكمة فيها تقتضي العناية، ولكـن من قبل ما يظهر في الموجودات أنه جائز في العقل أن يكون بهذه الصفة أو ضدها( ).
        ولقد لفت ابن رشد الأنظار إلى أنّ هذا الدليل من أدلـة القرآن الكريم في إثبات وجود الله عز وجل، حتى إنه غالى فيه إذا جعـل الأدلـة القرآنيـة منحصرة في هذا الدليل بالإضافة إلى دليل الاختراع. ( )
          وقد اعترض شيخ الإسلام ابن تيمية على مغالاة ابـن رشد هذه بقوله:"إنّه لم يقدر القرآن قدره، ولم يستوعب أنواع الطرق التي في القرآن، فـإن القرآن اشتمل على بيان المطالب الإلهية بأنواع من الطرق، وأكمل الطرق". )) وفي اعتقادنا أنّ نقد ابن تيمية لابن رشد يعتبر نقداً قويا صائباً، فإنّ من تأمل القرآن الكريم وتدبر آياته الشريفة يجد فيها من الأدلة الكثيرة المتنوعة التي غابت عن ذهن ابن رشد، وليس من المعقول أن كتاب الله تعالى قد انحصر طرقه في الدلالة على وجود الخالق المـدبر فيما ذكره ابن رشد .
ونوضح هذا الدليل بقولنا:-
1- إنّ دليل العناية من الأدلة الشرعية التي أشار إليها القرآن الكريم، وعنايـة الله وحكمتـه ظاهرة في مخلوقاته، وليس من المعقول أن يخلق الله تعالى الكون وما فيه من المخلوقات دون غايات أو حكم، قد يظهر الله عز وجل بعضها للناس لحكمة أيضا يريـدها الله عـز وجـل. والقائلون بهذا الدليل يعرفون الفرق بين صفات الإنسان المخلوق، وصفات الله الخـالق، وإن كنا لا نجاريهم في إطلاق لفظ الصانع على الله عز وجل، لأنّ الصناعة تختلف عن الخلـق، كما أننا ننزه الله تعالى عن كثير من الصفات التي لا تليق بجلالة وعظمته مما جاءت علـى ألسنة كثير من الفلاسفة الإسلاميين. والنقد يمكن توجيهه لمصـطلحات الفلاسـفة ولأقـوالهم الفلسفية التي جاءت نتيجة تأثرهم بالفكر اليوناني الوثني .والدليل نفسه لا علاقة لـه بأفكـار هؤلاء الفلاسفة التي لا يقرهم الإسلام عليها .والفلاسفة المنتقدون يستخدمون من المصطلحات والكلمات التي ننزه الخالق عز وجل عنها لأنهم أنفسهم بعيدون عن هدى القرآن الكريم الذي جاء بصفات الكمال التي تجب لله عز وجل .
2- إنّ أيّ إنسان إذا تجرد عن أهوائه وأغراضه الشخصية واستخدم عقله في التدبر والتفكر في خلق السماوات والأرض وما بينهما، وتعرف على عجائب هذا الكـون الشاسـع أدرك لا محالة العناية الإلهية لهذا الكون، ولا مجال للقول بأن دليل الغائية دليل شخصـي، فـالقرآن الكريم إنما يخاطب أصحاب العقول وأولي الألباب، ومعظم الناس يقـرون بوجـود الخـالق سبحانه وتعالى، ولكنّ الغبش والركام إنما في تصوراتهم، وما ينبغي له من الصـفات، ومـا يجب له من الإخلاص في الطاعة والعبودية.
الدليل الثالث: دليل الحركة:-
    يقوم هذا الدليل على ضرورة الوصول من الحركة إلى المحـرك الأول، إذ يـرى أصحابه أنّ موجودات الكون متحركة، وأن النظر في الحركة الموجودة في الكون تؤدي إلـى تصور المحرك المبدأ لهذه الحركة، لأنّ الموجودات من المستحيل أن تتحرك من ذاتها. فمثلاً المادة الموضوعة للنجار وهي الخشب، لا يمكن أن تحرك نفسها ما لـم يحركهـا النجـار، والأرض لا يمكن أن تخرج نباتها ما لم يحركها البذر. ( ) وإذا كانت الموجودات مفتقرة إلى شيء آخر يحركها، فإنّه لابد لها ما دامت متحركة إلى محرك يكون غيرها، ولا يمكن أن يتسلسل الأمر إلى غيـر نهايـة، إذ لابـد أن تنتهـي المتحركات إلى المحرك الأول الذي لا يتحرك بأي نوع من أنواع الحركة، وهـذا المحـرك الأول هو مبدأ جميع الحركات. ( )
      وقد أطلـق البعض على هـذا الدليـل اسـم)برهان القهر بالدوران)، إذ أنّ كلّ ما يرى بالعين مقهور بالدوران، وكذلك جميع الكواكب والأفلاك فهي مقهورة، ودائـرة حـول محاورها .قال تعالى:)كلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْـبَحُونَ) سـورة الأنبيـاء 33 ، وكذلــك الميــاه والنباتـات والحيوانـات فهي أيضا مقهورة، وكل مقهور مفتقر إلى القاهر، وإلى ذلك أشـار الله تعالى بقوله:)وهُوَ ا لقاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ )سورة الأنعام) ).18 ) وقد أخذ بـدليل الحركـة بعض الفلاسفة الإسلاميين أمثال ابن رشد، وابن طفيل، وابن مسكوية. ( )
     والحقيقة أنّ طريق الحركة في إثبات وجود الله تعالى ترجع إلى الفيلسوف اليونـاني أرسطو فهو أوّل من سلك هذا الطريق، و أمّا الفلاسفة الإسلاميون القائلون بهذا الـدليل فهـم عيال فيه على هذا الفيلسوف، حيث سلكوا نفس مسلكه، وجاء تقريرهم للدليل صورة مكـررة إلى حد كبير فيما ذهب إليه أرسطو.( (
مناقشة الدليل:
         يعدّ كلّ من ابن سينا وأبي البركات البغدادي من أبرز الفلاسفة الإسـلاميين الـذين وقفوا من دليل الحركة ً موقفا لا يخلو من الاستنكار والتهكم والنقد المرير، كما يعتبـر شـيخ الإسلام ابن تيمية من أبرز علماء السنة والجماعة الذين وجهوا سهام النقد والتجـريح لهـذا الدليل  .وإذا كان نقد الفلاسفة الإسلاميين لإخوانهم من الفلاسفة القائلين بهذا الدليل جاء بطريقة موجزة لا تفي بالغرض من حيث إسقاط الدليل وعدم اعتباره، خاصة وأن ابن سينا من القائلين بقدم العالم، والحركة عنده لا تتناهي، إذ هي قديمة لا بداية ولا أولية لها .فإنا نجد نقد ابن تيمية لدليل الحركة جاء بطريقة شمولية، حيث تتبع الدليل كلمة كلمة وعمل على إسقاطه كلية من خلال بيان ما يعتريه من أوجه الضعف والبطلان، وقد أسهب ابن تيمية في بيان هذا النقد وخاصة في كتابه الشامل (درء تعارض العقل والنقل).
      ومن أبرز وجوه الضعف في الدليل كما لاحظه المنتقدون لهذا الدليل ما جاء فيه من أنّ الآمر بالحركة إنما أمره لها بمعنى كونه متشبها بها محبوبا لها، أي أن الآمـر محبـوب معشوق يتشبه به الفلك. فطبيعة الحركة لا تفسر أكثر من معنى العشق والشوق، وبهذا المعنى لم يستطع أصحاب الدليل إثبات المبدع المحدث للحركة. ( )
       ولقد أجمع المنتقدون لهذا الدليل على أنّ طريق الحركة في إثبات وجود الله تعـالى غير مستقيم، وهو بين الفساد، بالإضافة إلى كونه طريق العاجزين. ( )وقد أشار ابن سينا إلى قبح هذا الطريق الذي سلكه الفلاسفة بقوله:"قبيح أن يصار إلى الحقّ الأول من طريق الحركة، ومن طريق أنه مبدأ الحركة، وتكلف من هذا أن يُجعل مبدأ للذوات، فإنّ القوم لم يوردوا أكثر من إثبات أنه محرك، ليس أنه مبدأ للموجود .واعجزاه ! أن تكون الحركة هي السبيل إلى إثبات الأحد الحق الذي هو مبدأ كل موجود" ( ).
      وفي بيان بطلان الدليل يقول ابن تيمية:" إنّ كون العالم لا يمكـن وجـوده بـدون الحركة، وأنّ الحركة عليه بل هو باطل". ( )ويقول:"إثبات واجب الوجود بطريـق الحركـة، وأن الحركة لابد لها من محرك، والمحرك هو المحبوب الذي يجـب التشبه به لا تحب ذاته، وأن المحرك لا يتحرك .هذا الكلام بين الفساد". ))
الدليل الرابع: دليل الاختراع:
      يعتمد هذا الدليل على توجيه الإنسان للتعرف على خالق الموجـودات مـن خـلال ملاحظة الكون وما فيه من الخلق، فالإنسان عندما يرى المخلوقات التي يزخر بهـا الكـون الواسع لابد أن يصل إلى نتيجة مفادها أن هذه المخلوقات لابد لها من خالق خلقها، والإنسـان يدرك بداهة أنه من المستحيل أن تكون هذه الموجودات قد وجدت من غيـر خـالق خلقهـا وأوجدها على هذا النحو الذي هي عليه .وقد أخذ بدليل الاختراع الفيلسوف ابن رشد، ولم نرَ غيره من الفلاسفة الإسلاميين قد ذهب إلى اعتماده .وهو يرى أنه من الأدلة الشرعية التي نبّه عليها القرآن الكريم . وهذا الدليل. كما ذهب إليه ابن رشد يظهر من اختراع جواهر الأشياء الموجودات، مثل اختراع الحياة في الجمادات، والإدراكات الحسية والعقل في الإنسان، وخلق السماوات والأرض وما بينهما من الإنسان والحيوان والنبات، ودلالة الاختراع تنبني -كما يرى ابـن رشـد - علـى أصـلين موجودين في فطرة الإنسان وهما :-
1 - أن جميع الموجودات مخترعة .
2 - أن كل مخترع لابد من مخترع ) ) وهذان الأصلان يدلان على أن الموجود لابد له مـن فاعل مخترع .
      ويستدلّ ابن رشد بالقرآن الكريم على صحة هذا الدليل وهو هنا يستدلّ بالآيات التي أشارت إلى خلق الله عز وجل للإنسان والحيوان والنبات والسماوات والأرض، وكذلك الآيات التي تحث الإنسان إلى النظر فيما خلق الله تعالى .ومن هذه الآيات قولـه تعـالى:(فَلْيَنظُـرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ)، وقوله:(أَفَلَـا يَنْظُـرُونَ إِلَـى الإِبِلِ كَيْفَ خلِقتْ (سـورة الغاشية: 17 ، وقوله):يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثلٌ فَاسْتمِعُوا لـهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لنْ يَخلُقُوا ذ ُبَابًا وَلَوْ اجْتمَعُوا له) سورة الحج 73: ، وقوله حكايـة عن إبراهيم عليـه السـلام:)إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْـأَرْض) ســورة الأنعـام ( ).79ويرى ابن رشد أنّ الآيات القرآنية التي أشارت إلى أدلـة وجـود الله عـز وجـل منحصرة في دليل الاختراع هذا، ودليل العناية، ويرى أيضا أن هناك من الآيات التي تشـير إلى دليل العناية وحده، وهناك ما يشير إلى دليل الاختراع وحده .وأن هناك من الآيـات مـا يشير إلى هذين الدليلين معا. ))
المناقشة:-
    إنّ هذا الدليل من الأدلة التي أشار إليها القرآن الكريم كما ذكر ابن رشد، ولكنا نرى أن تسميته بدليل الخلق أولى وأجدر من تسميته بدليل الاختراع، خاصة وأن القـرآن الكـريم استعمل لفظة الخلق لا الاختراع، والآيات التي استشهد به ابن رشد كما يتبين للقارئ تشـير إلى لفظة الخلق، والإنسان يصح أن نطلق عليه صفة الاختراع، أما صفة الخلق فمستحيلة في حقه، والبشر جميعا يقرون بذلك .فيقال فلان اخترع الشيء، أي الأمر الذي لم يعرفه النـاس، كآلة، أو أداة، أو دواء ونحوه، ولا يقال خلقه، فالخلق يكون من العدم، وهو للخالق عز وجـل لا للإنسان المخلوق .
      ولقد أقر المشركون بخلق الله تعالى للسماوات والأرض وخلق أنفسهم، أي هم يؤمنون بدليل الخلق من حيث دلالته على ربوبية الله عز وجل، و لكـنّ إنكارهم إنّما كان لتوحيد الألوهية، وقد سجّل القرآن الكريم اعترافهم بوجود الله الخالق .قـال تعالى):وَلَئِنْ سَأَلْت َهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولنَّ اللَّهُ فَأَنَّـا يُؤْفَكُونَ) سورة العنكبوت: 61، وقال تعالى:(وَلَئِنْ سَأَلْتهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولنَّ اللَّهُ قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكثرُهُمْ لا يَعْقِلونَ) سورة العنكبوت: .63وقال تعالى:(وَلَئِنْ سَأَلْتهم مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولنَّ اللَّهُ) سورة لقمان.25
    وقد ردّ ابن تيمية على ما ذهب إليه ابن رشد من أنّ بعض الآيات تشير إلـى دليـل العناية فحسب، وبعضها يشير إلى دليل الاختراع وحده، قال ابن تيمية :"قوله إنَّ في الآيات ما يدل على العناية دون الاختراع فيه نظر، فإنّه كلما دلَّ على العناية دلَّ على الاختراع".( )
    وقد سبق في مناقشة دليل العناية عند ابن رشد ذكرنا رد ابن تيمية على ما زعمه ابن رشد من أن القرآن الكريم تنحصر أدلته في وجود الله عز وجل على دليلي العناية والاختراع.

الدليل الخامس :دليل استحالة كون العالم علة ذاته:
     يقوم هذا الدليل على مبدأ عقلي وهو:عدم إمكـان أن يكون الشيء الحادث علة ذاته، وتقريره، إما أن يكون العالم أحدث ذاته أو حدث من إحـداث غيره وبدون أن يحدث هو بنفسه. ومن المعلوم بطلان أن يكون هو أحدث نفسه، وإلا كان علة لنفسه، وبذا يكون ً متقدما على نفسه، وهو محال، لأن العلّة تسبق المعلول. ( )
     وقد سلك هذا الدليل الفيلسوف أبو يوسف يعقوب الكندي ( )، وقد برهن على صـحة الدليل، وذلك بحصر الفروض والاحتمالات الممكنة في كون الشيء علة ذاته، ثمّ أبطل هـذه الفروض ليخلص له في النهاية صحة الدليل وهـو:اسـتحالة كـون الشـيء علـة نفسـه.والاحتمالات التي حصرها الكندي هي:-
 1- إذا كان الشيء معدوماً، وذاته معدومة أيضاً، فمعنى ذلك لا علة ولا معلـول، لأن العّـلة والمعلول إنما يطلقان على شيء موجود لا معدوم. وحسب هذا الفرض لا يكون الشيء علـة ذاته، لأن الشيء وذاته لا وجود لهما .
 2- إذا كان الشيء معدوما وذاته موجودة .فالشيء حسب هذا الفرض لا يكون علة ولا معلولاً لأنه معدوم غير موجود .فهو إذاً لا يكون علة ذاته، لأنه لو كان علـة ذاته وهو معدوم لكان عين وجود ذاته، وفي نفس الوقت ً مغايرا لذاته، وهو محال .
3- إذا كان الشيء موجوداً، وذاته معدومة، فحسب هذا الفرض لا يكون الشيء علة ذاته، لأن الذات هنا هي غيره لكونها معدومة، ويستحيل أن يكون الشيء علة لذات غير موجودة .
4- إذا كان الشيء موجوداً، وذاته موجودة، هي هو علة ومعلول، والعلّة - كما هو معلوم -غير المعلول، فلا يكون الشيء علة لذاته، وإلا حصل التناقض. ( )وإذا بطلت الاحتمالات الأربعة كلها ثبت إذاً أن الشيء علة لغيره، وأن هذا الغير هـو الذي أوجده وأحدثه .فثبت وجود الله الخالق عز وجل.
      وقد عقَّب الدكتور محمد أبو ريدة على دليل الكندي هذا بقوله:"إن استدلال الكندي يدور حول اعتبارات ذهنية لاحتمالات كلها باطلة، نظرا لفساد الفرض الأساسي الذي تتفرع عنه .والاستدلال يستند ً ضمنا إلى مبدأ العلّة الكافيـة التي لابد منها لتعليل كون الشيء هو ما هو عليه، وهو مبدأ يقضي العقل به، وهو مبني على مبدأين عقليين آخرين، أحدهما:مبدأ الذاتية، وهو:أن يكون وجود الشيء هو ذاته في الاعتبار العقلي .وثانيهما:مبدأ التناقض وهو : أنه لا يمكن أن يكون الشيء هو ذاته، وأن يكـون فـي نفس الوقت غير ذاته، وهو ما سيكون لو أنه كان علة ذاته". ( )
المناقشة:-
       يعتبر هذا الدليل من الأدلة الصحيحة في إثبات وجود الله عز وجل .فإنّ العقل يقـرر أنّ العالم الحادث مستحيل أن يحدث نفسه، لأنه لا يمكن أن يكون ً حادثا ً ومحـدثا فـي نفـس الوقت .فالمخلوق لا يخلق نفسه، ولا يخلق غيره، إذ هو بحاجة إلى من يوجده بعد أن لم يكن.          
       وممّا يلاحظ أن تقرير هذا الدليل كما هو عند الكندي فيه شيء من المشقة والعسـر، لكـون الكندي اعتمد على العقل وحده، مع لجوئه لاستخدام المصطلحات الفلسـفية الغامضـة التـي يصعب فهمها على جمهور المسلمين .ومن هذه المصطلحات: الأيس وهو الوجود، واللـيس وهو العدم أو عدم الوجود .وكان بوسع الكندي أن يرجع إلى كتاب الله عز وجل في بيان هذا الدليل العقلي .فالقرآن الكريم أشار إلى عدم خلق الإنسان لنفسه أو غيره. يقول الله تعـالى:(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ) سورة الطور:36-35 ، إنّ الآية الأولى تضع الإنسان أمام أمور ثلاثة، الأول والثاني باطلان وهذه الأمور هي:-
 -1 إما أنّ الناس قد خلقوا من غير شيء، فلا خالق لهم، أي وجدوا من غير موجـد، وهـذا باطل.
-2 أو أنهم الخالقون لأنفسهم، وهذا الأمر باطل أيضاً، لأنه لا يتصور في العقـل أن يوجـد الإنسان نفسه، أو أن يوجد الشيء ذاته .
-3 إذا بطل كون الإنسان ً خالقا لنفسه، أو كونه وجد من غير خالق، تعين أن هنـاك خالقـا خلقه، وهو الله عز وجل. ( )


























الفصل الثاني
قـدم العالـم عند الفلاسـفة
المبحث الأول
قول الفلاسفة بقدم العالم
      ذهب جمهور الفلاسفة الإسلاميين إلى القول بقدم العالم ووجوده أزلاً مع خالقه عـز وجل، فلا بداية عندهم لوجوده، وإذا كان الله تعالى، ً أزليا ً قديما بحسب الزمان، فإنّ العالم وجد أزلاً مع الله تعالى، ولم يسبق العدم وجوده، وهو ليس بحادث في وقت ما، أي بحسب الزمان، وفكرة قدم العالم أخذها الفلاسفة الإسلاميون عن أساتذتهم من الفلاسفة اليونـانيين، وخاصـة أرسطو الذي يعد من أوائل القائلين بها، وتابعه عليهـا أمثال ثامسطيوس ( )والإسـكندر الإفريدوي ( )وبرقلس). ( ) )
    ولعلّ الذي دفع هؤلاء الفلاسفة إلى القول بقدم العالم هو ظنهم بأن ّهم ينزهون الله تعالى عن التعطيل إذ لم يستطيعوا أن يتصوروا وجود ذات واجبة الوجود معطّلة عن الفعل. و لكـنّ ظنهم باطل وكذلك تصورهم، لأنّه يمكن إثبات ذات فاعلة وهو نقيض تصورهم. ( )  وفي ذلـك تنزيه لله تعالى دون الوقوع في مخالفة خطيرة للنصوص الدينية، أو مناقضة للعقل الصريح . ومن أشهر الفلاسفة الإسلاميين القائلين بالقدم الفارابي وابن سينا وابن رشـد وابـن طفيل والسهروردي المقتول .فالفارابي يبين في كثير من رسائله أن ما يوجد عن الله تعـالى غير متأخر عنه بالزمان، وإنما يتأخر عنه بالذات والرتبة. يقول: "فلذلك صار وجود سائر ما يوجـد عنـه غير متأخر عنه بالزمان أصلاً، إنما يتأخر عنه سائر أنحاء التأخر".  ( ) ويقول :"مثل إرادة الله وكون الشيء بالذات، فإنّهما يكونان ً معا لا يتأخر كون الشيء عـن إرادة الله في الزمان، لكنه يتأخر حقيقة الذات، لأنك تقول أراد الله فكان الشيء، ولا تقول كان الشـيء فأراد الله". ( )  ويبين الفارابي أن الله تعالى خلق العالم لكن لا في زمان، إذ لم يسـبق العـالم زمان لم يكن العالم فيه، وأن وجود العالم كان بعد وجود الله تعالى بالذات. ( )
     وأمّا ابن سينا فهو يوضح فكرة القدم بأسلوب يقارب فيه أسـلوب أسـتاذه الفـارابي يقول:"العالم محدث الذات، قديم بحسب الزمان خلاف الملاحدة الذين زعموا أنه قديم الـذات، وخلاف زعم المتكلمين وغيرهم من أنه محدث بحسب الزمان، فهـؤلاء هـم المعطلــة، إذ جعلوا قبل العالم زماناً ممتدا لم يخلق الله فيه، ثم بعد انقضائه خلق العالم".  ( ) ويقـول:" والله يتقدم على العالم بالذات والشرف والطبع والمعلولية لا بالزمان، فإنّه لم يبدع في زمان سابق، ولا يجوز أن يتأخر وجود العالم عن الله بالزمان". (  ويقول:" ولكل ممكن الوجود بذاتـه علة في وجوده أقدم منه، لأن كل علة أقدم من وجود الذات من المعلول، وإن لم يكـن فـي الزمان..وأيضا فإنّ ما يجب بغيره فوجوده بالذات متأخر عن وجود ذلك الغيـر، ومتوقـف عليه". ( )
      وأمّا ابن رشد فإنّه ينتقد المتكلمين القائلين بالحدوث، ويقف مع خصـومهم الفلاسـفة أصحاب القول بالقدم .وكتابه(تهافت التهافت) ألّفه في الرد على الغزالـي الـذي رد علـى الفلاسفة، وأبطل ً كثيرا من معتقداتهم ومنها عقيدة قدم العالم، وفي هذا الكتاب نجد ابن رشـد ينتصر لمذهب الفلاسفة في القدم، ويحاول ً جاهدا إبطال رأي القائلين بالحدوث.
      وقد لاحظ أحد الباحثين المعاصرين ( )في تراث ابن رشد الفلسفي أنّ ابن رشد كـان صريحا في القول بقدم العالم، ويبرِّر هذا الباحث رأيه بما لاحظه مـن موقـف ابـن رشـد الهجومي من الغزالي الذي فنّد أدلة الفلاسفة القائلين بالقدم، بالإضافة إلى دفاع ابن رشد الشديد عن هؤلاء الفلاسفة. ويمكن أن يضاف إلى ذلك اجتهاده في تقرير أدلة الفلاسـفة في القدم مع بسطها، وحل الإشكاليات عنها. ( ) وقد أدى به اجتهاده إلى القول الصريح بقدم العالم، وذلـك عندما أنكر تقدم الخالق تعالى على العالم ً تقدما زمنياً، لأن المعلول لا يتأخر عن علتـه متـى استوفت شروط العلّة ( ). وأيضا زعمه أن في القرآن الكريم ما يدل علـى أن وجـود العـالم والزمان مستمر من الطرفين غير منقطع، وأن قول المتكلمين بالحدوث لـيس علـى ظـاهر الشرع، بل هم متأولون، وليس في الشرع إن الله تعالى كان ً موجودا مع العدم المحـض، ولا يوجد في هذا الموضوع نص واحد. ( )
      وقد قرّر شيخ الإسلام ابن تيمية أن ابن رشد من الفلاسفة القائلين بالقدم وابن تيميـة معروف باطلاعه الواسع على التراث الذي تركه ابن رشد وغيره من الفلاسفة. ) )
      وأمّا السهروردي المقتول فإنَّا نجده يعلل رأيه في قدم العالم بقوله:إذا كان المـرجح دائما لوجوب وجوده فيدوم الترجيح، فتكون الممكنات موجودة ً قديما بقدمه ويضـرب مثـالاً بالشمس فإن شعاعها دائم بدوامها. ( )
       وأمّا ابن طفيل فإنّه يتابع الفارابي وابن سينا في قولهما بالقدم، وهو يذكر أن العـالم كله بما فيه من السماوات والأرض والأفلاك هو من خلق الله تعالى وفعله لكنه متأخر عنه لا بحسب الزمان.ويؤيد مذهبه بقوله:إذا أخذت في قبضتك جسما من الأجسام ثم حرّكت يدك، فإنّ ذلك الجسم لا محالة يتحرك ً تابعا لحركة يدك، متأخرة عن حركة يدك ً تأخرا بالـذات، لا بحسب الزمان فابتداؤهما معا. والعالم كذلك، فهو معلول للفاعل بغير الزمان. ))
    وإذا كان الفلاسفة يستخدمون لفظة الحدوث ليطلقوها على العالم، فيقولـون:العـالم محدث، فإنّا نجد هؤلاء الفلاسفة أنفسهم يبينون المراد من الحدوث عندهم، فالفارابي يوضح لنا أنّ المراد بأن العالم حادث أي كونه ً مخلوقا ً وأثرا عن خالقه الله تعالى، ولكن بلا زمـان، أي أنّه قديم لم يسبق بعدم، وقد أوجده الله تعالى، ووجود العالم مقارن لوجـوده تعـالى، فلـيس الحدوث عنده بمعنى أنه حدث أي كان بعد أن لم يكن. ( )
       ويوضح لنا هؤلاء الفلاسفة معنى الإبداع والإيجاد، وهو معنى لا يخرج عن فكـرة القدم التي آمنوا بها .فالإبداع والإيجاد ليس معناه الإيجاد من العدم بل معناه: حفظ إدامة وجود الشيء إدامةً لا تتصل بشيء من العلل، غير ذات المبدع تبارك وتعالى. ))
       وإذا كان الفلاسفة يقولون بتقدم الله تعالى على العالم، وتأخر العالم عن الله تعالى فإنّ التقدم والتأخر له معنى خاص عندهم، وهو:التقدم والتأخر بالرتبة والشرف والذات والعليـة، وليس المراد من ذلك التقدم والتأخر الزماني المرتبط بفكرة حدوث العالم .فالأب مثلاً يتقـدم على الابن بالشرف والرتبة، والابن يتأخر عن الأب في ذلك، إذ هو تال له، وكـذلك الأمـر بالنسبة لله تعالى والعالم. ( )








المبحث الثاني
أدلة الفلاسفة على قدم العالم
لعلّ أشهر الأدلة التي اعتمدها الفلاسفة في قولهم بقدم العالم هي:-
 1- دليل العلّة التامة.
 2- دليل قدم الزمان .
3- دليل قدم الإمكان والهيولي .
4- دليل الجود الإلهي .
      وقد وردت هذه الأدلة مفصلة وموضحة في مؤلفات ابن سينا، بينما ذكرت عند غيره من الفلاسفة بإيجاز وإجمال وقد اهتم بعرضها وبيانها كثير من العلماء الذين انتقدوا فكرة القدم وأبطلوا حجج الفلاسفة في الاستدلال لها، ونحن بدورنا نعرض هذه الأدلة من مؤلفـات ابـن سينا خاصة، ونستعين في توضيحها بعرض المتكلمين وابن تيمية لها، لأن أسلوب ابن سـينا يكتنفه الغموض والتعقيد والتطويل وكثرة الاستطرادات.
الدليل الأول:العلّة التامة:
      هذا الدليل من أقوى أدلة الفلاسفة وأعظمها حجة في قدم العالم ( ) وقد اهتم به ابـن سينا إذ ردده في معظم مؤلفاته وبصيغ مختلفة . ويعرض الفارابي دليل العلّة التامة بإيجاز هكذا:"الماهية المعلولة لها عن ذاتها أنهـا ليست، ولها عن غيرها أنها توجد، والأمر الذي عن الذات، قبل الأمر الذي ليس عن الـذات وللماهية المعلولة أ لّا توجد، بالقياس إليها قبل ألا توجد فهي محدثة، لا بزمان متقدم". ( ) وهـو في مؤلف آخر نجده يبين أن المعلول لا يتأخر بحال عن علته، ما دامـت العّـلة اسـتجمعت شروط كونها علة تامة .فالعالم الذي هو معلول مستحيل أن يتأخر بالزمـان عـن الله العّلـة التامة. ( )
      في حين أن ابن سينا يعرض الدليل بصورة أوضح من الفارابي ففي كتابه (النجاة) يوضح أن شروط إيجاد المعلول عن العلّة موجودة أزلاً، فالله تعالى مريد للإيجاد أزلاً، وعـالم بإيجـاده أزلاً، وقادر على الإيجاد أزلاً، يقول:"إن واجب الوجود بذاته واجب الوجود بجميع جهاته...إن الواجب الوجود لا يتأخر عن وجوده وجود منتظـر، بل كـلّ ما هو ممكن له فهو واجب له، فلا له إرادة منتظرة، ولا طبيعة منتظرة، ولا علم منتظر، ولا صفة من الصـفات التـي تكون لذاته منتظرة". ( )"إن واجب الوجود بذاتـه واجب الوجـود من جميـع جهاته، وأنـه لا يجوز أن تستأنف له حالة لم تكن...إن العلّة لذاتها تكون موجبة للمعلول، فإن دامت أوجبت المعلول دائما". ( )
    ولقد أقام ابن سينا دليل العلّة على مقدمتين اثنتين، وهما:-
 1- أنّ ترجيح الممكن لابد له من مرجح تام، لأن الترجيح بلا مرجح، والحدوث بـلا سـبب باطل.
2 - أنّ الترجيح لو حدث لزم عنه التسلسل في الحوادث .
    وقد قرّر هاتين المقدمتين من خلال عرضه للدليل على النحو التالي: إنّ العلّة متـى استجمعت شروط كونها علة تامة أزلا وجد عنها معلولها أزلا، لأن العلّة التامة لا يتأخر عنها معلولها .وإذا تأخر المعلول عن علته بحسب الزمان، لزم أن يكون حادثاً، ومعنى كونه ً حادثا أي تجدد له سبب، وإلا لزم الترجيح بلا مرجح، أو حدث الحادث بلا سبب وهذا باطـل، وإذا قيل بوجود السبب أو ا لمرجّح وجب أن يكون حادثاً، وهذا الحادث يقتضي حادثـاً، وعنـدها يحدث التسلسل في الحوادث لأن القـول في هـذا الحادث كالقول في الحادث الأول، وبـذلك يكون العالم قديما لا حادثا. ( )
      ولكي يوضح ابن سينا فكرة قدم العالم وكونه ً موجودا أزلاً مع الله تعالى جاء بمثـال ظن أنه يقرب للذهن ما أراده في تقرير هذه الفكرة، يقول: "فما اسـتحق هـذا الوجـود إلا والآخر حصل له الوجود، ووصل إليه الحصول..وهذا مثل ما تقول: حركت يدي فتحـرك المفتاح، أو ثم تحرك المفتاح، ولا تقول تحرك المفتاح فتحركت يدي، أو ثم تحركت يدي، وإن كان معا في الزمان فهذه بعدية بالذات". ( )
المناقشة:
     ونبدأ الآن بعرض مناقشات ابن تيمية لدليل العلّة التامة، وأول ما يناقشه في الـدليل ذلك المبدأ الذي يقوم عليه، وهو زعم الفلاسفة:أنّ العلّة التامة يقارنها معلولها بالزمان. يرى ابن تيمية أنّ العقل الصريح ينكر أن يكون في الخارج مفعول معين يقارن فاعله في الزمان، فالذهن يقدِّر هذا كما يقدِّر الممتنعات.وينكر العقل أيضا وجود معلول صدر عن علة وكان زمانهما واحداً، بينما العقل يقر بصدور المفعول عن الفاعل، والمعلول عن العلّة مع الاختلاف في الزمان.ثم يذكر ابن تيمية الأقوال الثلاثة في علاقة العلّة التامة بـالمعلول، أو المؤثر التام بالأثر من حيث الزمان، وينتصر للرأي الصواب منها .فالفلاسـفة يقولـون: إنّ الباري كان في الأزل ً مؤثرا تاماً، ويجب أن يقارنه أثره في الزمان، فالعلّة التامة يكون معها معلولها ويقارنها في الزمان ( ) وهذا باطل لأنه يؤدي إلى أن كل حادث يجب أن يحدث مـع حدوثه حوادث مقترنة في الزمان لا يسبق بعضها ً بعضا ولا نهاية لها وهذا يعني وجود علل لا نهاية لها، وقد اتفق العقلاء على بطلان ذلك ولا فرق بين امتناع ذلك فـي ذات العّلـة أو شرط من شروطها فكما يمتنع أن يحدث عند كل حادث ذات علل لا تتناهى فـي آن واحـد، فكذلك يمتنع شـروط العلّة وتمامها فإنّهـا إحدى جزئي العّلة، فلا يجوز وجود ما لا يتناهى في آن واحد لا في ذات العلّة ولا في شروطها.وأيضا فإن هذا يخالف الفاعل عند جميع العقلاء، وعند الفلاسفة أنفسهم، فالفاعل هو الذي يفعل ً شيئا فيحدثه، فمفعوله لا يقارنه بل يجب تأخر كلّ مفعولاته عنـه.( ( والمتكلمـون يرون:أن الله عز وجل كان في الأزل مؤثراً تاماً، وبجب أن يتراخى عنه أثره، وهذا باطـل أيضا لأنه يؤدي إلى تعطيل الخالق تعالى، وأنه كان فاعلاً بعد أن لم يكن، وأنه لم يكـن فـي الأزل فاعلاً .
     وأمّا السلف فقد ذهبوا إلى أن التأثير التام من المؤثر يستلزم الأثر فيكون الأثر عقبه، لا معه مقارنا له كما تزعم الفلاسفة، ولا ً متراخيا عنه كما يزعم المتكلمون. يقـال كسـرت الإناء فانكسر، وقطعت الحبل فانقطع، وطلقت المرأة فطلقت، وأعتقت العبد فعتق، إن وقـوع الطلاق والعتق، وكسر الإناء وقطع الحبل لـيس ً مقارنــا لـنفس الإعتــاق والتطليــق والانكسار والانقطاع بحيث يكون معه، ولا هو ً متراخيا عنه، بل يكون عقبه متصلاً به، وقـد دلت نصوص الكتاب والسنة وأقوال السلف والأئمة والعقول الصريحة على أنّ المؤثر التـام يقتضي وقوع أثره عقب تأثيره التام .ومما يدلّ على ذلك من القرآن الكريم قوله تعالى:)إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لهُ كنْ فيَكُون ( سـورة النحل: 40 ، وقوله تعالى(إِنَّمَـا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لهُ كنْ فَيَكُونُ) سورة يس : 82 فواضح من القرآن الكـريم أن كون الشيء يكون عقب تكوين الله تعالى له، فلا يكون مع تكوينه ً مقارنا له، ولا ً متراخيا عنه، وإن قيل :إن الشيء يكون مع تكوينه، فالمراد : أنه يتعقبه لا يتراخى عنه . وهذا يدل علـى أن كل ما سوى الله تعالى حادث مسبوق بالعدم. ( )
وفي بيان فساد المبدأ الذي تمسكت به الفلاسفة:العلّة التامة أزلا تقتضي معها معلولها أزلا..يقول ابن تيمية عدة أمور منها:-
1 - إذا كانت العلّة التامة تستلزم معلولها فإنّه لا يجوز أن يتأخر شيء من معلولها. ولكنا نجد كثيرا من الحوادث في العالم، ووجود الحوادث المتعاقبة دليل على امتناع وجودها عن علـة تامة أزلية موجبة لمعلولها، لأن العلّة يمتنع أن يتأخر عنها شيء من معلولها، وقدم شيء من العالم يقتضي كونه علة تامة في الأزل وكونه علة تامة في الأزل يقتضي أن لا تحدث عنـه أيّ شيء بواسطة أو بغير واسطة، لأنّ الحادث يلزم أن لا يحدث عن العلّة التامة الأزلية، إذ العلّة التامة لا يتخلف عنها معلولها .فحدوث الحوادث في العالم دليل على أنّ محـدثها لـيس بعلة تامة أزلية، وإذا انتفت العلّة أزلاً بطل القول بقدم شيء من العالم. ( )
2 - إنّ العقل الصريح يعلم أن الحوادث لابد لها من محدث، فلو لم تكـن إلا العلة القديمـة الأزلية المستلزمة لمعلولها لم يكن في العالم شيء من الحوادث، ولكن هذا خلاف المشـاهد. ولم يكن شيء من الحوادث قد حدث عن سبب اقتضى حدوثه، فتكون الحوادث كلها حدثت بلا محدث. ( )
3- إنّ الدليل الفلسفي يقوم على كونه تعالى فاعلاً أزلا، وأنه يمتنع أن يكون فاعلاً بعد أن لم يكن، وهو ما يعرف بقدم الفاعلية ولنقض البناء الفلسفي للدليل فإن ابن تيمية يوضح أنّه يلزم القائلين به الاعتقاد بأنّ لا يحدث في العالم شيء من الحوادث، وهـذا مخـالف للسـمع والعقل والحس واتفاق جميع الناس .لأن الفاعل كما يقتضي العقل هو الذي يفعل شيئا فيحدثه، وبهذا المعنى يمتنع أن يقارنه المفعول بحسب الزمان بل يقتضي وجوب تأخره عنه، وبالتالي فليس شيء من مفعولات الفاعل  قديما بقدمه، ولو كان معنى الفاعل الـذي زعمـه الفلاسـفة يقتضي مقارنته لمفعوله بالزمان لزم أن لا يحدث في العالم شيء من الحوادث، لأنّ المعلـول وهو الحوادث يقارن علته الفاعلية بالزمان. ( )
4- إنّ قول الفلاسفة بمؤثر تام لا يتأخر عنه أثره ويقارنه أزلا، يعتبر باطلاً لمناقضته صريح المعقول من وجهين :-
أحدهما:أنّ المؤثر إذا أمكن تأخر أثره أمكن حدوث العالم وتأخر الفعل عن الفاعل وإن لم يجز تأخر أثره عنه لزم عدم الحوادث، أو قدمها، أو حدوثها بدون محدث، والكل باطل. ( )
وثانيهما:أنّ ذلك يصح في الصفة اللازمة للموصوف، فإن الذات مسـتلزمة للصـفة، والصفة تتبع الذات ولا تنفك عنها، ولا يقال:إن الذات مبدعه للصفة لأن المبدع وهو الفاعل يمتنع أن يقارن المفعول بالزمان.
     وإذا كان ذات المؤثر موجودة قبل حدوث الحادث فلابد من كمال وجود التأثير عنـد وجود الأثر، وإلا لزم الترجيح بلا مرجح، وبالتالي تخلف المعلول عن علته التامـة، ووجـد الممكن بدون المرجح التام، وهذا باطل فامتنع أن يكون ً مؤثرا لشيء من الحوادث في الأزل، وامتنع أن يكون مؤثراً في الأزل فيما يستلزم الحوادث، لأن وجود الملزوم وهو الأثر بـدون اللازم وهو المؤثر محال: فامتنع أن يكون المفعول المستلزم للحوادث قديما. ( )
5 - من خلال ما سبق من نقض للدليل الفلسفي يلاحظ أن مذهب الفلاسفة القائل: إن الله تعالى مؤثر تام في الأزل تترتب عليه عدة لوازم يجزم العقل الصريح ببطلانها، وبطـلان اللـوازم يقتضي فساد قولهم.ومن هذه اللوازم:-
1- أن لا يحدث شيء في العالم، بل يكون كل ممكن ً قديما ً أزليا.
ب- أنّ كل حادث حدث بدون مؤثر أو سبب يقتضي حدوثه، أو فاعل يوجب وجوده.
ج- التفريق بين أثر وأثر، وليس للفلاسفة أن يقولوا: إن بعض الآثار يقارن المـؤثر التـام، وبعضها يتراخى عنه.
د -أن لا يحدث شيء حتى تحدث حوادث لا تتناه ى في آن واحد، لأنهم يقولون: لا يحـدث حادث حتى تحدث تمام علته، وهذا متفق على استحالته عند جميع العقلاء وهو تسلسل العلـل والمعلولات، أو تمام علة ومعلولات حادثة لا نهاية لها. ( )
     وأخيرا فإنّ ابن تيمية يناقش الفلاسفة في مثالهم الذي ذكروه لبيان مقارنة المعلول مع علته التامة أزلاً وهو:مقارنة حركة المفتاح أو الكم أو الخاتم لحركة اليد، ومقارنـة الشـعاع للشمس أو النّار.فيبين ابن تيمية لهم أن هذا المثال لا يدل على قولهم، لأن حركة اليد ليسـت العلّة التامة ولا الفاعل لحركة المفتاح أو الخاتم، إنما هي شرط له، والشرط والمشـروط قـد يتلازمان.أمّا التلازم والمقارنة بحسب الزمان بين الفاعل والمفعول أو بين العلّة والمعلـول فغير متصور بأي حال. ( ) وأيضا فإنّ القول بأن حركة اليد هي العلّة لحركة الخاتم حجة على الفلاسفة لا لهـم، وذلك لأنّ الخاتم مع الإصبع كالإصبع مع الكف، فالخاتم متصل بالإصبع والإصبع متصـلة بالكف، لكن الخاتم يمكن نزعها بلا ألم بخلاف الإصبع، وقد يعرض بين الإصبع والخاتم خلو يسير بخلاف أبعاض الكف .ولكنّ حركة الإصبع شرط في حركة الخاتم، كما أنّ حركة الكف شرط فـي حركـة الإصبع، أعني في الحركة المعينة التي مبدؤها من اليد، بخلاف الحركة التي تكون للخاتم أو للإصبع ابتداء، فإنّ هذه متصلة منها إلى القلب كمن يجر إصبع غيره فيجر معه كفه". ( )
الدليل الثاني: قدم الزمان:
      إنّ من الأدلة التي يستـند إليها الفلاسفة في إثبات مذهبهم القائل بقدم العالـم ما يعرف بدليـل (قدم الزمان)، فالقول بحدوث الزمان و أنّ له بداية وأول مسـتحيل في نظرهم، وإذا وجب قدم الزمان، فقد وجب قدم الحركة، لأن الزمان عبـارة عـن مقـدار الحركة.والزمان حدث حدوث إبداع، لا حدوث بعد عـدم لأنـّ ه ما من عـدم إلا والزمـان موجود فيه، والباري تعالى محدث الزمان لا يتقدم عليه، لأن الزمان لو وجد بعد أن لم يكن، لكان هناك زمان متقدم عليه، فلا يتصور وجود زمان إلا وقد سبقه زمان، وإذا كان الزمان قديماً، فإن العالم ً أيضا قديم، لأنه لا يتصور قدم الزمان دون قدم العالم الذي يعتبر الزمان منه. ( )
      يلاحظ أنّ الدليل الفلسفي كما قرره ابن سينا يكتنفه الغموض و الصعوبة، و إنّا لنعجب كيف يقضي نفر من المسلمين جزءاً من أعمارهم في دراسة الضلال الفلسـفي وتدريسـه. ( )      
      إنّ غموض الفلسفة على جمهور المسلمين من الأدلة على عدم فائدتها، وانعدام الحاجة إليها في تقرير العقيدة أو الدفاع عنها .ونظرا لصعوبة فهم الدليل على غير المتخصصين في دراسة الفلسفة فإنا نلجأ لأحـد تلاميذ ابن سينا ممن شرحوا أقواله بتوضيحها وتبسيطها، ألا وهو فخر الدين الـرازي الـذي يعرض دليل قدم الزمان على النحو التالي" قالوا كل محدث فإنّه لابد وأن يكون عدمه قبـل وجوده، ولا يجوز أن تكون القبلية نفس ذلك العدم، لأنّ العـدم الحاصـل قبــل والعــدم الحاصل بعـد يتشاركان في كونهما عدماً، ولا يتشاركان في معنى القبليـة والبعديـة، فـإذاً المفهوم من القبلية أمر زائد على ذات العدم، وذلك الزائد لابد وأن يكون أمراً موجودا ثم ذلك الزائد محدث، فيكون ً مسبوقا بقبل آخر، ً فإذا لكل قبل قبل لا إلى نهاية، وما ذلك إلا الزمـان، فإذا الزمان قديم، وثبت في أصول الحكمة أنّ الزمان من لواحق الحركة، والحركة من لواحق الجسم، فيلزم من قدم الزمان قدم الحركة، ومن قدم الحركة قدم الجسم. ( )
المناقشة:
        لقد تعرض هذا الدليل إلى النقد من قبل شيخ الإسلام ابن تيمية، حي ث ذهب إلى أنه لا يدل على مقصودهم في إثبات قدم شيء من الأجسام أو الأفلاك، ولا قدم شيء بعينه من الحركات وزمانها ( ) ومن أقواله في ذلك:"وأما الحجة التي احتجوا بها على أنه لم تزل الحركة موجـودة والزمان موجوداً، وأنه يمتنع حدوث هذا الجنس.....فيقال لهم: هذه لا تدل على قدم شيء بعينه من الحركات وزمانها، ولا من المتحركات، فلا تدل على مطلوبهم:وهو قدم الفلك وحركتـه وزمانه، بل تدل على نقيض قولهم وذلك أن الحركة لابد لها من محرك، فجميـع الحركـات تنتهي إلى محرك أول .وهم يسلمون هذا، فذلك المحرك الأول الذي صدر عنه حركة سواء:إمّا أن يكون متحركاً، وإ مّا أن لا يكون، فإن لم يكن متحركا لزم صدور الحركة عـن غيـر متحرك، وهذا مخالف للحس والعقل، فإن المعلول إنما يكون مناسبا لعلته، فإذا كان المعلـول يحدث ً شيئا بعد شيء امتنع أن تكون علته باقية على حال واحدة". ( )
      وقد غلط أسـاطين الفلاسفة وعلى رأسهم أرسطو وأتباعه عندما ظنوا أنه لا زمـان إلا قدر حركة الفلك، وأنه لا حركة فوق الفلك ولا قبله، ثم استدلوا على ذلـك بـأن حركتـه أزلية .وكذلك تعرض دليل الفلاسفة إلى انتقاد شديد من قبل الباحثين المعاصرين فالدكتـور يوسـف كـرم يـرى أن استدلال ابن سينا جدير بأن يسمى مصادرات لا ً حججا ولا أدلة ( ).
بينما ذهب الدكتور حمودة غرابة إلى اعتبار الاستدلال بقدم الزمان على قدم الحركة استدلال متهافتاً، لأنّه يجوز أن يكون هناك عدم محض ثم وجدت الحركة ومقدارها وهو الزمان بعـد ذلك، فيكونان محدثين لا غير، كما أنّ اعتبار ابن سين ا القبلية أمرا ً وجوديا مقيساً إلى الزمان باعتبار مقدار الحركة ليس ً مسلما له، لأن القبلية هي أمر اعتباري مقيسا إلى الزمان على أنه أمر وهمي .وهذا لا يستلزم سبق الزمان بمعنى أنه مقدار الحركة. ( )
الدليل الثالث:قدم الإمكان:
     المراد بالإمكان:إمكان وجود الممكن، والمراد بكونه قديماً:أنّ إمكان الممكن لا أول له .والإمكان أمر معنوي مقرّر في الذهن لا وجود له في الخارج، إذ قبل وجود الممكن يكون ممكنا أن يوجد، وإمكانه في الذهن لا في الواقع الخارجي، والفلاسفة يستدلون بقدم الإمكـان، أي قدم إمكان الممكن على ضرورة افتقاره إلى مادة يقوم بها لأنّه لا يتصور قيـام الإمكـان بنفسه، إذاً لابد له من موضوع يقوم به ويضاف إليه، وهذا الموضوع هو المـادة، وينتهـي الفلاسفة من قدم الإمكان إلى قدم المادة التي هي المحل الذي يفتقر إليه، ومن ثـم يقـررون القول بقدم العالم.
نص الدليل:
      يقول ابن سينا:إن ّهم يريدون أن يبينوا أن كل حادث مسبوق بموضوع أي مادة. وهم يقررون الدليل هكذا:أن كل حادث فهو قبل وجوده: إمّا ممتنع الوجود، وإمّا ممكن الوجـود .وكونه ممتنع الوجود محال، فإذا كان الحادث ممكن الوجود فإن له إمكـان وجـود، قبـل أن يوجد، وليس إمكان وجوده هو قدرة القادر عليه، لأن المحال غير مقدور عليه لكونـه غيـر ممكن في نفسه . وهذا الإمكان ليس ً شيئا معقولاً بنفسه، لأنّه لا سبيل لقيامه بنفسه، بل هو أمر إضافي، أي لابد له من مادة يقوم بها ويضاف إليها، وكونه ً محتاجا لمادة لأنه عـرض، والعـرض لا يتصور وجوده إلا في مادة يقوم بها .فإذاً المادة قديمة لقدم إمكان الممكن، ( )وإذا كانت المادة قديمة ً إذا العالم قديم .
    وفي كتابه(النجاة) يعرض ابن سينا دليل قـدم الإمكان بصورة أوضح وأكثر تفصيلاً ( ).  ومما جاء في سياق تقريره لهذا الدليل:"إن كل حادث فإنّه قبل حدوثه إمـا أن يكون في نفسه ممكنا أن يوجد، أو محالاً أن يوجد. والمحال أن يوجد لا يوجد.  والممكـن أن يوجد قد سبق إمكان وجوده، فلا يخلو إمكان وجوده من أن يكون معنى ً معـدوما أو معنـى موجوداً، ومحال أن يكون معنى معدوماً، وإلا فلم يسبقه إمكان وجوده، فهو إذاً معنى موجود، وكل معنى موجود فإما قائم لا في موضوع، أو قائم في موضوع  .وكل ما هو قـائم لا فـي موضوع، فله وجود خاص لا يجب أن يكون به مضافاً .وإمكان الوجود إنما هـو مـا هـو بالإضافة إلى ما هو إمكان وجود لـه، فليس إمكان الوجود ً جوهرا لا في موضوع، فهـو إذاً معني في موضوع، وعارض لموضوع، ونحن نسمي إمكان الوجود قوة الوجـود، ونسـمي حامل قوة الوجود الذي فيه قوة وجود الشيء موضوعا وهيولي ومادة، وغير ذلك،  فإذا كـل حادث فقد تقدمته المادة". ( )
المناقشة:-
      عرض المتكلمون هذا الدليل في مؤلفاتهم بكل أمانة وموضوعية وكـأنّهم أصـحاب الدليل لا خصومه، ثم قاموا بمناقشته وانتقاده بقولهم:-
1 - إنّ الإمكان ليس أمراً وجودياً أو حقيقة ذاتية يمكن أن تتحقق في الواقع الخارجي، إنّما هو وصف يقدره الذهن فحسب، وكونه أمراً ذهنيا لا يستدعي مادة يضاف إليها أو يقوم بها كمـا ذهبت إليه الفلاسفة. ( )فالبياض مثلاً في نفسه ليس ممكناً، وليس له نعت الإمكان .و إن ّما الممكن هو الجسم،والإمكان مضاف إليه، وعندما نسأل :ما حكم نفس السواد في ذاته أهو ممكن، أو واجـب، أو ممتنع ؟ فالجواب:أنه ممكن. فدلّ ذلك على أنّ الإمكان وصف عقلي لا يحتاج إلى مادة يقوم بها أو لا يفتقر إلى وضع ذات موجودة يضاف إليها الإمكان. ( )
2- إنّ الإمكان لو كان صفة موجودة، لكانت قائمة بالشيء الممكن الوجود قبـل حدوثـه، أو قائمة بغيره، ومن المحال أن تكون قائمة به لأنّه قبل حدوثه معدوم، ً وأيضا مـن المحـال أن يقوم بغيره، لأنه صفة الشيء لا تقوم إلا به، فالإمكان إذا صفة ليست موجودة. ( )
-3 إنّ اتصاف الماهية بإمكان الوجود سابق على اتصافها بالوجود، فلو كان الإمكان صـفة موجودة، لزم أن يكون اتصاف الماهية بوجود شيء آخر سابقا على اتصافها بوجود نفسـها، وهذا غير متصور. ( )
 -4 لو كان الإمكان صفة موجودة لكان ثابتا حال العدم، لأنّ الذوات المعدومة يمتنـع عليهـا التغير والخروج عن الذاتية، ولما لم تكن كذلك فلا يمكن أن يكون الإمكان صفة لها ( ).
     ويلاحظ ممّا سبق سواء من عرضنا لدليل الفلاسـفة أم من مناقشة المتكلمين له أنّ النزاع بين الفريقين منحصر في الإمكان، هل هو صفة وجوديـة لابد لتحققها في الواقع من محل تقوم به، أو هو وصف عقلي مفتقر إلى الذهن البشري فحسب الذي يقدره ويحكم به .وفي اعتقادنا أن الفريقين قد أخطأوا في تحديد معنى الإمكـان وبيـان أنواعه، وفي بيان ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:"والتحقيق أنه نوعان ( ) . فالإمكان الذهني وهو تجويز الشيء أو عدم العلم بامتناعه محله الذهن، والإمكان الخارجي المتعلق بالفاعل أو المحل، مثل:أن تقول يمكن القادر أن يفعل، والمحل: مثل أن تقول هـذه الأرض يمكـن أن تزرع، وهذه المرأة يمكن أن تحبل، وهذا لابـد له من محل خارجي .فإذا قيل عـن ا لـربّ يمكن أن يخلق، فمعناه:أنه يقدر على ذلك ويتمكن منه، وهذه صفة قائمة به، وإذا قيل يمكـن أن يحدث حادث، فإن قيل يمكن حدوثه بدون سبب حادث فهو ممتنع، وإذا كان الحدوث لابـد له من سبب حادث، فذاك السبب إن كان ً قائما بذات الرب فذاته قديمة أزلية..فلا يحدث حادث مباين إلا مسبوقا بحادث مباين له فالحدوث مسبوق بإمكانه ولابد لإمكانه من محل، ولهذا لـم يذكر الله قط أنه أحدث ً شيئا إلا من شيء. ( )
الدليل الرابع:الجود الإلهي:
      يرى الفلاسفة أنّ الجود صفة كمال، وهي تجب لله تعالى أزلاً، والقول بـأنّ العـالم حادث، أي خلق بعد أن لم يكن، يعني أنّ الله لم يكن جواداً، لأنّه وجدت مـدة زمنيـة غيـر متناهية لم يكن فيها تعالى خالقاً، وأما القول بأزلية العالم وقدمه، أي بوجوده مع خالقـه أزلاً، فيتضمن أن الخالق عز وجل جواد أزلاً.
     ويمكن عرض الدليل الفلسفي بصورة أخرى وهي: أنّ الجواد هو الذي يخلق، ولـو كان العالم ً حادثا لم يكن الله جواداً، لتركه الجود مدة غير متناهية، وهي المدة التي لـم يكـن العالم فيها موجوداً .فالقول بأن ّه تعالى جواد أزلاً يقتضي إثبات قدم العالم وأزليته.
        يلاحظ أنّ الفلاسفة قد ربطوا بين الجود والخلق. فالله تعالى عندهم جواد لأنّه مـنح الموجودات وجوداً دون أن يستفيد من إيجاده لها كمالاً .وإذا كانت صفاته أزلية، ومنها صفة الجود، فهذا يعني أنه منح الموجودات ً وجودا منذ الأزل، فالعالم إذا قديم. ( )
المناقشة:
       يبدأ المتكلمون مناقشتهم هذا الدليل ببيان معنى الجود. فالجود كما يرون ليس صـفة ذاتية زائدة على الذات، بل هو صفة فعلية، وهو كونه تعالى موجداً وفـاعلاً لا لغـرض أو منفعة تعود إليه. ( ) والجود صفة إضافية على مذهب الفلاسفة في الصفات، كصـفة المبـدئ والعلّة الأولى، ولا فرق بين معنى الجود ومعنى المبدئ، فمعناها عند الفلاسفة الفاعل الصانع،فكأن ّهم قالوا: صانع لذاته، وهذا محل الخلاف، وهو مصادرة على المطلـوب لأن خصـومهم المتكلمين لا يسلمون كونه فاعلاً لذاته، وفعله ليس قديما. ( )
      ثمّ يقال للفلاسفة: إنّكم جعلتم معنى كونه جواداً متوقفا على كونه خلـق العـالم أزلاً، وبذلك جعلتم الله تعالى قد استفاد صفة الجود من غيره، أي أن كماله ليس بـذاتي، وهـذا لا يوافقكم عليه أحد من العقلاء، وإذا كان الله كماله بذاته لا من غيره بطل قولكم بـأن معنـى الجود يقتضي قدم العالم. ( )
     وإذا كان الفلاسفة يرون أنّ الإيجاد إحسان وجود، وهذا يقتضي أن يكـون العـالم موجوداً في الأزل، وإلا لكان ً تاركا للجود والإحسان، فإنّ الرازي يردّ عليهم هذا الزعم بقوله:إن هذا منتقص بإيجاد الصور والأعراض الحادثة، وإيجاد هذه جود، ولا يقتضي القول بقـدم العالم ( ).  ويمكن أن نضيف أن هذا منتقص أيضا بقولهم أن النفوس البشرية حادثة .وممّا يردّ به على الفلاسفة أن يقال: إنّ الله تعالى موصوف ب أنّه خالق قبل أن يوجـد مخلوق، ( )وإذا كان متصفا بذلك أزلاً، فلم لا يكون الله عز وجل جواداً أزلاً، ولا يترتّب على ذلك القول بقدم العالم.
















المبحث الثالث
أدلة السلف على حدوث العالم
        قد استدل أئمة السلف وعلماؤهم على صحة مذهب الحدوث بأدلة شـرعية وعقليـة كثيرة .ومن هذه الأدلة:-
 -1 لقد أجمع الرسل عليهم السلام على أنَّ كلَّ ما سوى الله محدث مخلوق كائن بعـد أن لـم يكن، وأنَّه عز وجل خلق جميع الموجودات وأحدثها بعد أن لم تكن، وأخبرت الكتب السماوية جميعها بذلك. ( ) ومما نص عليه القرآن الكريم في هذا الأمر ما يلي:-
- قوله تعالى):إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُول لهُ كُن فَيَكُون) سـورة النحل:40 فهذه الآية تشير إلى أنّ الله يكون ما يشاء تكوينه، فإذا كونه، فإنّه يكون عقب تكوينه متصـلاً به لا يكون مع تكوينه في الزمان، ولا يكون ً متراخيا عن تكوينه بينهما فصل في الزمان، بل يكون متصلاً بتكوينه كاتصال أجزاء الحركة والزمان بعضها ببعض، وهذا دليل على أنّ كل ما سوى الله حادث بعد أن لم يكن. ( )وقوله تعالى:(وَقدْ خَلَقتكَ مِنْ قبْلُ وَلمْ تك شَيْئًا) سورة مريم: 9تدل هذه الآية على أنه تعالى خلق الإنسان وأوجده بعد أن لم يكن، وإذا كان ً مخلوقا ً محدثا فـلا يقـارن خالقـه بالزمان. ( )
      وقوله:(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء) سورة هود7، هذه الآية صريحة في إثبات حدوث السماوات والأرض، لأنّ القديم الأزلـي لا يكون خلقه في أيام، وقد أشارت الكتب السماوية إلى ما أشار إليه القرآن الكريم مـن خلـق السماوات والأرض في ستة أيام ( ).
 2- لقد استقرَّ في فطر الناس أنَّ السماوات مخلوقة مفعولة، وقد أحدثها خالقها بعد أن لم تكن. ولم يخطر بالفطرة السليمة أنَّها معلولة لفاعل قديمة معه، والفطـرة تقـرُّ أيضـا أنَّ الشـيء المفعول المخلوق معناه: أنَّه كائن بعد أن لم يكن، وهي تنكر أنَّ السماوات والأرض قد خلقتـا مع الله أزلاً. ))
3- لقد أجمع أهل الملل والأديان على أنّ كل ما سوى الله تعالى مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن .ولم يثبت أنّ أهل ملة أو دين زعم قدم شيء من العالم لا الملائكة، ولا الأفـلاك، ولا السماوات، ولا الأرض، ولا شيء مما خلقه الله تعـالى، فالمسـلمون واليهـود والنصـارى والمجوس، والهندوس، والصابئة الحنفاء ( )، يقرّون ً جميعا بأنّ العـالم مخلـوق محـدث.( )
4 - لقد أجمع العقلاء من جميع الطوائف بما فيهم أساطين الفلاسفة قبل أرسطو علـى أنّ العالم حادث .وأما القول بقدم العالم فلم يعرف قبل أرسطو، وهو أ وّل الفلاسـفة الـذين ابتدعوا هذا المذهب، واشتهر في العالم الإسلامي من قبل شرذمة من الفلاسفة أمثال ابن سينا والفارابي وابن رشد. ( )
5- إنّ العقل الصريح يستدل به على حدوث العالم، ومن الأدلة العقلية في ذلك ما ذكـره شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: "من الطرق التي يعلم بها حدوث كل ما سوى الله هـي أن يقال:لو كان سوى الله شيء قديم لكان صادرا عن علة تامة، موجبة بـذاتها مسـتلزمة لمعلولها، سواء ثبت له مشيئة أو اختيار، أو لم يثبت، فإن القديم الأزلي الممكن الـذي لا يوجد بنفسه لا يتصور وجوده إن لم يكن له في الأزل مقتضـى تـام يسـتلزم ثبوتـه". ويضيف:"إنه لو كان شيء مما سوى الله أزليا للزم أن يكون له مؤثر تام مستلزم له في الأزل سواء سمي علة تامة، أو موجبا بالذات..وإذا كان كذلك فنقول: ثبوت علة تامـة أزلية ممتنع". ( )  ثمّ يبين ابن تيمية أنه إذا امتنع ثبوت العلّة التامة الأزلية، ثبت أنه لـم يكن شيء قديماً، وأن هذا يستلزم حدوث كل ما سوى الله تعالى. ( )
      ومن الأدلة العقلية على حدوث العالم أن يقال: إنّما ثبت قدمه امتنع عدمه، فما جاز عدمه امتنع قدمه، فإنّـه لـو كـان قـديماً لامتنـع عدمه، والتقدير أنه جائز العدم فيمتنع قدمه وما جاز حدوثه لم يمتنع عدمه، بل جاز عدمه وقد تقدم أن ما جاز عدمه امتنع قدمه، لأنه لو كان ً قديما لم يجز عدمه بل امتنع عدمـه). ) وإذا بطل القول بقدم العالم لأنّ قدمه يمنع عدمه، وقد ثبت أنّه سيعدم، فإنّ القـول بحدوث العالم هو الحق الذي يقول به العقل الصريح .
    ويردّ على الفلاسـفة الذين يستدلون بالعقل علـى مذهبهم في قدم العالم فيقول:بأن العقل الصريح لا يخالف ً شيئا من نصوص الأنبياء التي أثبتت حدوث العالم، وكلّ ما ذكرتموه من أدلة لا يدلّ على قدم شيء بعينه من العالم، لا قدم فعل معين ولا قدم مفعول معين، وغاية ما يدل عليه قدم نوع الفعل، وهذا لا يستلزم قدم العالم، وما استدل به العقلاء على أن كل مفعول محدث كائن بعد أن لم يكن، وكل ما سوى الله حادث لا يناقض ذلك. ))






الفصل الثالث
منهج الفلاسفة في إثبات وحدانية الله تعالى
المبحث الأول
معنى التوحيد عند الفلاسفة
         قبل بيان معرفة التوحيد عند الفلاسفة، نذكر معنى التوحيد لغة.
معنى التوحيد لغة:
التوحيد مصدر وحّد يوحّد، ومعناه: العلم بأن الشيء واحد، ويقال: وحّـد د يحـدّ وحادةً ووحوداً، ووحودةً، ووحداً، ووحدةً. وحدةٌ:بقي مفرداً، ووحّـده توحيـداً:جعلـه واحداً، والواحد هو المنفرد، يقول الراغب الأصفهاني:"الوحدة الانفراد، والواحـد فـي الحقيقة هو الشيء الذي لا جزء له البتة .ثم يطلق على كل موجود، حتى إ نّه ما من عدد إلا ويصح أن يوصف به .فيقال:عشرة واحدة، ومائة واحدة، وألف واحد. وإذا وصف الله تعالى بالواحد، فمعناه:هو الذي لا يصح عليـه التجـزي، ولا التكثر، )) ولصعوبة هذه الوَحْدَة قال تعالى:(وَإِذَا ذ ُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِال ْآخِرَةِ) سورة الزمر).45
       والوَحَدُ :المفرد، ويوصف به غير الله . كقول الشاعر: على مُسْتَأْنِسٍ وَحَد .وأَحَدٌ مطلقاً لا يوصف به غير الله تعالى. ( )وجاء في تهذيب اللغة ولسان العرب تحت مادة :وحد ما يلي : قال ابـن سـيده :والله الأحد والمتوحد وذو الوحدانية، ومن صفاته الأحد .وقيل الواحـد المنفرد بالذات في عدم النظير والمثل .والأحد المنفرد بالمعنى. وقيل:الواحد هو الذي لا يتجزأ ولا يثنـي ولا يقبل الانقسام ولا نظير له ولا مثل، ولا يجمع هذين الوصفين إلا الله تعالى.
     والواحد في صفة الله تعالى معناه أنه لا ثاني له، ولا يجوز أن ينعت الشيء بأنه واحد، فأما أحد فلا يوصف به غير الله لخصوص هذا الاسم الشريف لـه عـز وجـل . ويقال:أحَّدْتُ الله وَوَحَّدْته، وهو الأحد الواحد. )) قال ابن الأثير: في أسماء الله تعالى الواحد، قال : وهو الفرد الذي لم يزل وحده ولم يكن معه آخر. ( )
     من خلال ما نقلناه سابقاً عن م صادر اللغة يمكن أن نستنتج أن مادة (وَحَدَ( تدور حـول انفراد الشيء بذاته وعدم وجود النظير والمثل له فيما هو واحد فيـه، وأنـه إذا عـدي بالتضعيف، فقيل:وَحَّدَ الشيء توحيداً أي جعله واحداً، أو اعتقده واحداً .قال تعالى مخبراً عن المشركين) أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) سورة ص ( ) .5
معنى التوحيد اصطلاحا:-
ذهب الفلاسفة إلى أن وحدة واجب الوجود لها معنيان:-
الأول: وحدة واجب الوجود في واقع الأمر:-
    وتتحقق هذه الوحدة بأن يمنع العقل أن يكون لواجب الوجود نـد أو ضـد، أي واحد في ذاته، لا شريك له في النوع  .يقول الفارابي: "وأنّ أحد معاني الوحدة هو الوجود الخاص الذي به ينحاز كـل موجود عما سواه، وهي التي بها يقال لكل موجود واحد من جهة ما هو موجود الوجـود الذي يخصه، وهذا المعنى من معاني الواحد يساوق الموجود الأول، فالأول أيضاً بهـذا الوجـه واحـد، وأحـق من كـل واحد سواه باسم الواحـد ومعناه". ))
الثاني :وحدة واجب الوجود في التصور الذهني:
     والوحدة هنا معناها بساطته في التصور الذهني، وعدم تركبه من أجـزاء، فـلا كثرة في ذاته، لأنه واحد بسيط من جميع الوجوه، فالكثير الذي يقبل التركب والانقسام لا يعتبر واحداً، ولا يقال: له وحدة في ذاته إلا بنفي جميع أنواع الكثرة عنه، فواجب الوجود تتحقق له الوحدة في ذاته بنفي أوجه الكثرة عنه.
     ولقد أسهب الفلاسفة في بيان وتوضيح هذا المعنى لوحدة واجب الوجود، ذلك أن توحيدهم يكاد يكون كله حول بيان هذا الأمر  .يوضّح الفارابي هذه الوحدة معللاً إياها فيقول:"واجب الوجود لا ينقسم بـأجزاء القوام )) مقدارياً كان أو معنوياً، وإلا لكان كل جزء من أجزائه إما واجب الوجود فكثـر واجب الوجود، وإما غير واجب الوجود، وهي أقدم بالذات من الجملة، فتكون الجملة أبعد من الوجود". ( )
     يتضح من هذا القول للفارابي أنّ ذات واجب الوجود لا تنقسم إلى أجزاء، إذ هي بسيطة غير مركبة، إذ لو كان مركباً من أجزاء تقومه، لكان وجوده لا يتم إلا بأجزائـه، ولكان كل جزء منها واجب الوجود، وبالتالي تعدد واجب الوجود بذاته، ولارتفع عنـه كونه واجب الوجود بذاته. وفي (النجـاة) ) ) يفصّـل ابن سينا ما أجمله في الإشارات "فيقول:"إنّ واجب الوجود، لا يجوز أن يكون لذاته مبادئ تجتمع فيقـوم منهـا واجـب الوجود لا أجـزاء الكمية، ولا أجزاء الحـد والقـول، سـواء كانت كالمادة والصورة أو كانت على وجه آخر، بأن تكون أجزاء القول الشارح لمعنى اسمه، فيدل كـل واحـد منها على شيء هو الوجود غير الآخر بذاته، وذلك لأن كل ما هذا صفته فذات كل جزء منه ليس هو ذات الآخر، ولا ذات المجتمع .".ويضيف:" فقد اتضح من هذا أن واجب الوجود ليس بجسم، ولا مادة جسم، ولا صورة جسم، ولا مادة معقولة لصورة معقولة، ولا صورة معقولة في مادة معقولـة، ولا له قسمة لا في الكم، ولا في المبادئ، ولا في القول الشارح، فهو واحد من هذه الجهـات الثلاث". )) ويمكننا أن نجمل معاني وحدة واجب الوجود في كلمات قليلة فنقول :إنّه واحـد من جميع الجهات، واحد في الواقع الخارجي، وفي التصور الذهني، وأية ناحية يلحظهـا العقل فيه يحكم بوحدته .فمن جهة الواقع الخارجي : لا ند له ولا ضد لـه، ولا شـريك له .ومن جهة التصور الذهني:لا تركيب في ذاته، ولا اشتراك لغيـره معه فيها ولا جنس له ولا نوع، ولا فصل، وهو متفرد في ماهيته وفي وجوده. ( )
المناقشة:-
    لقد شرح الفلاسفة الإسلاميون وحدة واجب الوجود على نحو ما شرح فلاسفـة الإغريق هذه الوحدة، ولم يلتفتوا –أثناء شرحهم - إلى مخالفتهم للتصور الإسلامي، لأنّ الصفات التي وصف الله سبحانه وتعالى بها ذاته بعيدة عن مفهوم واجب الوجـود كمـا شرحه هؤلاء الفلاسفة، فإثبات هذه الصفات يؤدي إلى كثرة في ذاتـه، والكثـرة تنـافي بساطة الواجب. ( ) إنّهم في تصورهم للوحدة جعلوا واجب الوجود مجرداً من صفة تجعل له وجوداً خارج الذهـن وخارج التصور العقلي ( ) ، وبالتالي فلا وجود لهذا الواجـب، بـل هـو والعدم سواء، لأن الواجب الموجود يجب أن يتصف بصفات الكمال والعظمة التي تجب للخالق المالك الأحد المتفرد بربويته وألوهيته .ثمّ إنّ الفلاسفة ل مّا شرحوا وحدة الواجب بذاته بمعنى نفي الند والضد والشـريك عنه، لم يذهبوا في تصورهم لوحدانية الله تعالى إلى تفسير الوحدة بمعنى نفي الشريك له في العبادة والطاعة، ( ) بل ذهبوا في تفسيرها بمعنى أ نّه المبدأ الأول والعلّة الأولى، وأنّ ما عداه فمعلول لا يساوي المبدأ الواجب الوجود بذاته .
2 - معنى الواحد:-
     كما أسهب الفلاسفة في بيان معنى الوحدة أسهبوا أيضاً في بيان معنى الواحـد، والدارس للنصوص الفلسفية في هذا الموضوع يجـد أن المعنيـين سـواء، فالفلاسـفة يشرحون معنى الواحد بما لا يخرج البتة عن شرحهم لمعنى الوحـدة. وننقـل بعـض النصوص الفلسفية من مؤلفات الكندي والفارابي وابن سينا لنبين ذلك الأمر .فالكندي في رسالته إلى المعتصم )) يذكر المعاني التي يمكن أن تطلق على لفظ الواحد، ثم يبين المعنى الحق الذي يجب لله الواحد الحق. يقول في ذلك: إذا كان الواحـد يطلق ويراد به العدد، فالواحد الحق ليس عدداً، لأنّ العدد في حقيقته أنه من المضـاف، وأنه لا يمكن أن يكون بالمثل واحداً هيولانياً، لأنّ الهيولي مر كّبة، والمركب يمكن حله، والواحد الحق لا يمكن حله، ولا يقصد بالواحد الحق ماله كمية ما أو كيفية ما، أو مالـه جنس أو نوع، ولا هو صورة مؤتلفة من جنس ونوع، ولا هو حركـة، ولا نفـس، ولا عقل، ولا أسماء مترادفة، ولا واحد باشتباه الاسم .والله تعالى -عند الكندي - واحد أزلي، فريد في وجوده، ليس كمثلـه شـيء، لا تدركه الأبصار، ولا ند ولا ضد له، ولا يقبل التكثر في ذاتـه، ولا ينقسـم بنـوع مـن الأنواع، لا من جهة ذاته، ولا من جهة غيره، ولا هـو شـيء مـن المعقـولات، ولا موصوف بشيء من باقي المعقولات، ولا هو ذو خاصة، ولا ذو عرض عام، ولا هـو زمان ولا مكان. ( )
      وأما الفارابي فهو يقول:" وهو واحد بمعنى أن الحقيقة التي له ليسـت لشـيء غيره، وواحد بمعنى أنه لا يقبل التجزي كما تكون الأشياء التي لها عظم وكميـة، وإذن ليس يقال عليه كم، ولا متى ولا أين، وليس بجسم، وهو واحد بمعنى أن ذاته ليست مـن أشياء غيره كان منها وجوده، ولا حصلت ذاته من معان مثل الصورة والمادة والجـنس والفصل، ولا ضد له". ))
     وأمّا ابن سينا فهو يوضح معنى الواحد الذي يطلق ويراد به واجب الوجود بذاته في كثير من مؤلفاته. ( ) ويكفي أن ننقل ما جاء في كتابه  النجاة فتحت فصل بعنـوان (فصل في أنه واحد من وجوه شتى) ( ) يقول:" وأيضاً فهو تام الوجود، لأنّ نوعـه لـه فقط، فليس من نوعه شيء خارج عنه، وأحد وجوه الواحد أن يكون تاماً، فـإنّ الكثيـر والزائد لا يكونان واحدين .فهو واحد من جهة تمامية وجوده، وواحد من جهة أن حدّه له، وواحد من جهة أنه لا ينقسم، لا بالكم، ولا بالمبادئ المقومة له، ولا بأجزاء الحد، وواحد من جهة أن لكل شيء وحدة تخصه وبها كمال حقيقته الذاتية، وأيضاً هو واحد من جهـة أخرى وتلك الجهة هي أن مرتبته من الوجود وهو وجوب الوجود ليس إلا له".
      وفي موضع آخر يقول:"إن واجب الوجود غير داخل في جنس، أو واقع تحـت حد أو برهان، بريء عن الكم والكيف، والماهية والأين والمتى، والحركة، لا نـد لـه، وشريك وضد، وأنه واحد من جميع الوجوه" .
ويمكن أن يقال هنا أنّ الفلاسفة الإسلاميين قد أخذوا من الفكر اليوناني أفكارهم حول معاني الواحد، كما أشرنا من قبل إلى أخذهم أفكارهم حول معاني الوحدة من الفكر اليوناني نفسه، فالفكر اليوناني يرى أن الإله هو:الواحد المحض من جميع الجهات، وهو مجرد عن صفات المعاني متصف بالصفات السلبية، ( )وبذلك يكون هو الواحد الذي لا وجود له في الخارج، بل وجوده في الذهن فقط، لأن الإله الموجود في الخارج متعـين، وتعينه بسبب الصفات الثبوتية التي يتصف بها ( ).
خلاصة القول في التوحيد عند الفلاسفة:-
     من خلال أقوال ابن سينا هذه، وما سبق عرضه لمعاني الوحدة والواحد عند ابن سينا وغيره من الفلاسفة يمكن لنا أن نستنتج معنى التوحيد عند الفلاسفة كالآتي:
التوحيد:هو الإقرار والاعتقاد بأن الله واحد لا ضد له ولا ند، ولا شريك له في النـوع، وأنه واحد بسـيط مجرد عن علائق الزمان والمكان، والوضع والتغيـر، لا يتكثـر ولا يتعدد، لا ينقسم ولا يتجزأ، ولا يتبعض، وأنه وحده واجب الوجود بذاته، لا يشاركه في مرتبة وجوده وجود .
يقول ابن سينا: التوحيد هو: امتناع مشاركة موجود لواجب الوجود في مرتبـة وجوده، فهو وحده واجب بذاته ووجوب غيره واجب به". ( ) وهو يرى أنّ صحة توحيد المرء تتوقف على الإقرار بالصانع موحداً منزهاً عن الكم والكيف، والزمان، والوضع والتغير، حتى يصير الاعتقاد بأنه ذات واحدة، لا شريك له في النوع، ليس داخل العالم ولا خارجـه، ولا فـوق السـماوات ولا مسـتو علـى العرش. ( )
المناقشة:
      وفي اعتقادنا أن التوحيد بهذا المعنى الفلسفي بعيد عن معنى التوحيد الذي بعـث الله تعالى به رسله، وأنزله في كتبه، وبينه أئمة المسلمين من السلف الصـالح فالتوحيـد الذي جاء به الإسلام هو:الإقرار والاعتقاد بأن الله واحد لا شريك له في الخلق والملـك والتدبير والرزق، وأنه المستحق وحده الطاعة والعبـادة، المتصـف بصـفات العظمـة والجلال والكمال التي وصف بها نفسه، ووصفه بها رسـوله محمـد صـلى الله عليـه وسلم. )) والكتاب الكريم والسنة الشريفة تشهد بصحة هذا المعنى للتوحيد.
     أما التوحيد الفلسفي فغايته إنكار الصفات الثبوتية الواجبة لله تعالى، إذ هـو ذات مجردة عن صفات المعاني، كما أن هذا التوحيد لا يقرر الإيمان بـأن الله هـو الخـالق الرازق الذي تدين المخلوقات بربويته، ويؤمن العباد بألوهيته وحاكميته، فنفي الضد والند لا يعني عند الفلاسفة نفي الشريك له في الطاعة والعبادة، بل مقصودهم منه نفي المثـل والكفء والمساوي له في وجوب الوجود، لأن وجـوب وجـوده من ذاتـه، ووجـوب وجود غيـره منـه، وهذا لا يفيد المرء ولا ينجيه إذا أقر به، ولا يبعده عن الشـرك إذا لم يصاحبه إخلاص لله في العبادة والطاعة، وإيمان بصفات الكمال الواجبة له .يقول ابن تيمية رحمه الله:إنّ غاية التوحيد عند الفلاسفة نفي جميـع الصـفات الثبوتية، وأنهـم زادوا في ذلـك على المعتزلة حتى إنهم يقولون لـيس لـه إلا صـفة سلبية، ( )أو إضافية، ( )أو مركبة منهما.( ).. ( )
المبحث الثاني
أنواع التوحيد عند الفلاسـفة
من خلال عرضنا السابق لبيان معاني الواحد والوحدة والتوحيد عنـد الفلاسـفة يتبين لنا أن التوحيد عندهم ينحصر في نوعين اثنين همـا:توحيـد الوجـوب وتوحيـد الذات. ( )
 -1توحيد الوجوب:
ويتحقـق هـذا النوع من التوحيـد عنـد الفلاسـفة بإثبـات أن الله واحـد لا شريك له من نوعه، وأنه لا ضد له ولا ند، وخصوصية هذا التوحيد هي وجوب الوجود بالذات، وأنه لا واجب وجود غيره، وأن وجوده غير مستفاد عن وجود غيره، حيـث لا واجب الوجود لذاته سواه. يقول الفارابي:"إنه واحد بمعنى أنه لا يمكن أن يكون لشيء آخر وجـود مثـل وجوده فيكونان واجبي الوجود". ( )
       ويقول ابن سينا:"إنه ذات واحدة لا يمكن أن يكون لها شريك في النوع". ويقول:" وإنّـه واحد من حيث هو غير مشارك ألبتة في وجوده الذي له". ( )
المناقشة:-
     إنّ القرآن الكريم قد ورد فيه نفي الند وال شريك لله تعالى، والآيات الشريفة فـي هذا الأمر كثيرة، منها قوله تعالى:)فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتمْ تَعْلَمُون) سورة البقرة:22، وقوله:)لا شرِيكَ لهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) سورة الأنعام: 163، وقوله:) وَقلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ ْ يَتَّخِذ وَلَدًا وَلمْ يَكنْ لهُ شَـرِيكٌ فِـي ِ الْمُلْـك)الإسـراء.111 وقوله:)وَلمْ يَكنْ له ُ كُفُوًا أَحدٌ). سورة الإخلاص:4، والقـرآن الكـريم حينما ينفي الند والشريك لله تعالى فإنّه في الوقت نفسه يقرر توحيد الألوهية لله تعـالى، وذلك بوجوب عبادته وطاعته والإخلاص له، وعدم صرف شيء من العبادة للشركاء أو الأنداد، ويبين القرآن الكريم أن التوحيد الحق هو عبادة الله وحده، فمن عبد الله وحده ولم يشرك به شيئاً فقد وحده تعالى، ومن عبد من دونه شيئاً فهـو مشرك به، وليس بموحـد مخلص دينه لله، ولن ينفعه أن يقول بلسانه: لا شريك لله ولا ضد ولا ند، وأنـه واجـب الوجوب بذاتـه، دون أن يتوجـه بالعبـادة كلها لله، خالصة له عـز وجـل لا شـريك له.( )  
      والتوحيد الذي بينه القرآن الكريم لم يتعرض له الفلاسفة ألبته، وسـبب ذلـك أن الفلاسفة لم يعرفوا حقيقة التوحيد التي جاءت به رسل الله تعالى، وأنزله الله فـي كتبـه، واتفق عليه سلف الأمة، وهو التوحيد الذي تضمنته شهادة أن لا إله إلا الله، وهو عبـادة الله وحده لا شريك له.قال تعالى:(وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلـهَ إِلَّـا هُـوَ الرَّحْمنُ ُ الـرَّحِيم) سـورة البقرة:163  وقال:(وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنيْنِ إِنَّمَـا هُـوَ إِلَـهٌ وَاحِـدٌ فإياي َفَارْهَبُونِي) سورة النحل:51 ، وقال تعالى:(تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِـيمِ، إِنَّـا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقّ ِفَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا له الدِّين، أَلَا لِلَّهِ الـدِّينُ الْخَـالِصُ وَالَّـذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْن َهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ ٌ كَفَّار). سورة الزمر:3 -1 كما أن الشرك الذي حاربه القرآن الكريم وتوعد صاحبه بالهلاك والخسـران هـو عبـادة غير الله من المخلوقـات، كعبـادة الملائكة أو الكواكب، أو الشمس أو القمر، أو غيـر ذلـك مـن المعبودات البشرية والحجرية. ( )
وثمّة سبب آخر في عدم تعرض الفلاسفة للتوحيد الحق ألا وهو إعراضهم عـن المنهج الرباني في دراسة العقيدة وتقريرها، وإقبالهم على المنـاهج الفلسـفية اليونانيـة الوثنية، التي أعمت أبصارهم وبصائرهم. إنّ توحيد الفلاسفة لا يغني من الحق شيئاً، فلقد كان مشـركو العـرب مقـرين بتوحيد الربوبية، الذي هو خير من توحيد هؤلاء الفلاسفة، كانوا يؤمنون بـأنّ الخـالق والمالك، والمدبر هو الله عز وجل، ولم يعتقدوا بوجود شريك له في الخلق والتدبير والرزق ولقد أخبر الله تعالى عن اعتقادهم هذا بقوله:(قلْ لِمَنْ الْـأَرْضُ وَمَـنْ فِيهَـا إِنْ تَعْلَمُونَ، سَيَقولونَ لِلَّهِ قلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، قلْ مَنْ رَبُّ السَّـمَاوَاتِ السَّـبْعِ وَرَبُّ الْعَـرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقولونَ لِلَّهِ قلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ، قلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوت كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَليْهِ إِنْ كُنتمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولونَ لِلَّهِ قلْ فَأَنَّا تسْـحَرُونَ) سـورة المؤمنـون: 89-.84 وبقوله:(وَلَئِنْ سَأَلْت َهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ لَيَقُولنَّ اللَّه) سورة العنكبوت: 61، ومع أن هؤلاء كانوا معتقدين بربوبية الله للسماوات والأرض ومن فيهن فإن اعتقادهم هذا لم ينفعهم، فما زالوا مشركين قال تعالى:)وَمَا يُـؤْمِنُ أَكْثَـرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشرِكُونَ) سورة يوسف:.106 أمّا الفلاسفة فيقولون بوجوب نفي الند والشريك لله، وفي الوقت نفسه يجعلـون كثيرا من المخلوقات خلقاً لغير الله تعالى، مثل قولهم :إن الحوادث تحدث بسبب حركات الأفلاك، وأن العقل الفعال يصل العالم العلوي بالعالم السفلي، وأنه يدبر ما تحـت فلـك القمر، وقولهم :إن الملائكة معلولة متولدة عن الله تعـالى، لـم يخلقهـا هـو بمشـيئته وقدرته. ))
         إنـه لم يعرف أن أحداً من الطوائف قال بوجود الهين اثنين متماثلين من كل وجه، ( )أو قال بوجودين واجبين بذاتيهما، وبذلك يكون توحيد الفلاسفة شراً مـن توحيـد المشركين والنصارى الذين اتفقـوا أن الخالق لهذا العالم وما فيه واحد لا شريك له. وأخيراً فإنّ غاية توحيد الوجوب عند الفلاسفة هو إثبات وجود واجب ليس لـه حقيقة سوى مطلق الوجود، والمطلق لا يوجد إلا في الذهن، ولا وجود له فـي الواقـع الخارجي، لأنّ الذي في الخارج هو الموجود المتعين بصفاته الواجبة له ( ).
-2  توحيد الذات:
ومعناه عندهم نفي الكثرة عن ذات واجب الوجود، ونفي التركيب فـي ذاتــه خارجـاً وعقـلاً، فذاته لا تتكثـر ولا تنقسـم بأي نوع من أنواع التكثر أو الانقسـام، ولا تتجزأ، ولا تتعدد، ولا يلحقها أي شيء من علائق المادة من الكيف والكم والزمـان والمكان والوضع والتغير. ( ) ويدخل في مسمى هذا النوع من التوحيد نفـي الصـفات، وهو قريب من توحيد المعتزلة، فالمعتزلة يرون أن الله ذات غير مركبـة، وأن القـول بوجود صفات لله يؤدي إلى التعدد والتكثر في ذاته، وهذا يتنافى مع وحدانية الله تعـالى وكل من المعتزلة والفلاسفة يسمون نفيهم للصفات توحيداً ويطلقون على أنفسـهم أهـل التوحيد فالله تعالى عند الفلاسفة وجود محض وهو واجب الوجود لذاته، ويسمون مثـل هذا توحيداً ).)
ويذكر الشهرستاني عن الفلاسـفة أنّهم زعموا أنّ ذات الله تعالى واحدة لا كثرة فيها بوجه من الوجوه، وأن الصفات ليست معاني قائمة بذاته تعالى بل هي ذاته. ( )أي أنّ مفهوم الفلاسفة للوحدانية جعلهم ينكرون الصفات الثابتة لله تعالى التي جاءت في الكتاب والسنة، لأن الصفات في نظرهم تؤدي إلى كثرة اعتبارية في ذات واجب الوجود، وقد فرض أنه واحد من جميع الجهات .ومن خلال دراستنا للفكر الفلسفي نجد أصحابه يشرحون ذات الله تعالى - وهـي ذات واجب الوجود- بما لا يخرج عن كونها عقلاً وعلماً .ويشرحون كل الصفـات الواجبة له بمعنى يرجع إلى العلـم والإدراك، فالصفـات في نظرهم لا يتطلبها واجب الوجـود بذاته الذي فرض أنه واحد بسيط مجرد عن المادة. ( )
ويدخل في مسمى هذا النوع من التوحيد-عند الفلاسفة- اعتقادهم أنّ الواحد لا يصدر عنه إلا واحد. قالوا:لو سلمنا أنّ الواحد تصدر عنه كثرة لأدى ذلك إلى كثـرة وتعدد في الذات الإلهية والله واحد بسيط من جميع الجهات ولا تكثر في ذاته، ومـا دام واحداً بسيطاً–لا تكثر في ذاته- فلا يصدر عنه إلا واحد، والواحد الذي يصـدر عـن واجب الوجود هـو العقـل الأول، ووحدانية هذا العقل لا ترقى إلى وحدانية الله المبـدأ الأول. ( )
وفي الصفحات التالية نعرض بالتفصيل لتوحيد الذات القائم على نفي الصـفات الإلهية، والاعتقاد بأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد.




المبحث الثالث
موقف الفلاسفة من الصفات الإلهية
لقد اعتقد الفلاسفة بساطة المبدأ الأول وتجرده، ونفوا عنه كل الصفات الوجودية الثابتة له، ولم يثبتوا له إلاّ السلوب والإضافات، وأثبتوا له صفات ابتدعوها من أنفسـهم، فقالوا:هو عقل وعاقل ومعقول. وعشق وعاشق ومعشوق، وغير ذلك من الصفات التي يجب تنزيه الله تعالى عن الاتصاف بها، وهي صفات لا برهان عليها من الكتاب والسنة.
ونتناول تحت عنوان:"نفي الفلاسفة للصفات" المطالب التالية:-
1 - القول بنفي الصفات.
2- موقفهم من الصفات التي وردت في الكتاب والسنة.
3- إثباتهم صفات لم يرد بها الشرع، ولم يدل عليها العقل
4- دراسة لموقف الفلاسفة من صفتي العلم والكلام.
5- القول بأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد.
أولاً:القول بنفي الصفات:
ذهـب الفلاسـفة إلـى القول بأنّ ذات الله تعالـى واحـدة لا كثرة فيهـا ولا تتعدد، ولا تركب بوجه من الوجوه، وأن الصفات ليست معاني قائمة بذاته بل هي ذاتـه وإثبات هذه الصفات يؤدي إلى إثبات ذوات قديمة متعددة في ذاته تعالى، وهـذا يوجـب التكثر في ذاته، كما يوجب أن تكون ذاته مركبة، والتكثر والتركيب في حقـه مسـتحيل وقـد دل الدليل على كونه عالماً قادراً حياً، ولم يدل على العلم والقدرة والحيـاة. وقـد شـرح هـؤلاء الفلاسـفة ذات الله تعالى بما لا يخرج عن كونه عقلاً وعلماً، وقـد أدى بهم بحثهم في موضوع الذات الإلهية وعلاقة الصفات بها إلى أن يقـرروا أن الله تعـالى هـو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، حيث جردوه من كل صفة ثبوتية، وكل فعل اختيـاري، وسموا نفي الصفات توحيداً مثلما سمت المعتزلة نفيها للصفات توحيداً. ))
ونذكر هنا بعض أقوال الفلاسفة التي توضح إنكارهم لصفات الكمال الواجبة لله. يقول الفارابي: "فهو ينال الكل من ذاته، فعلمه بالكل بعد ذاته، وعلمـه نفـس ذاته، فيكثر علمه بالكل كثرة بعد ذاته، ويتحد الكل بالنسبة إلى ذاته، فهو الكل وحده، فهو الحق". ( ) ويقول:" ليس علمه بذاته مفارقاً لذاته بل هو ذاته وعلمه بالكل صفة لذاتـه ليست هي ذاته بل لازمة لذاته وفيها الكثرة الغير متناهية بحسب كثرة المعلومات الغيـر متناهية". ( )
ويقول ابن سينا: "فإذا حققت تكون الصفة الأولـى لواجـب الوجـود إنـه إنْ وموجود، ثم الصفات الأخرى يكون بعضها المتعين فيه هذا الوجود مع إضافة، وبعضها هذا الوجود مع السلب، وليس ولا واحد منها موجباً في ذاته كثرة ألبته ولا مغايرة. وإذا قيل:عقل وعاقل ومعقول لم يعن بالحقيقة إلا أن هذا الوجود مسلوباً عنه جواز مخالطـة المادة وعلائقها مع اعتبار إضافة ما .ويقول:"ثم من المعلوم الواضح: أن التحقيق الذي ينبغي أن يرجع إليه في صحة التوحيد من الإقرار بالصانع موحداً مقدسـاً عـن: الكـم والكيف، والأين، والمتى، والوضع، والتغير، حتى يصير الاعتقاد به أنه ذات واحـدة لا يمكن أن يكـون لها شريك في النوع، أو أن يكون لها جزء وجودي:كمي أو معنـوي، ولا يمكن أن يكون خارج عن العالم ولا داخله، ولا بحيث تصح الإشارة إليه أنها هنـاك". )) ولقد عقّب شيخ الإسلام ابن تيمية على قول ابن سينا هذا فقال:"فكلامه هــذا يتوهم الجاهل أنه تعظيم لله تعالى، ومراده أنه ليس لله علـم ولا قـدرة، ولا إرادة، ولا كلام، ولا محبة، وأنه لا يرى، ولا يباين المخلوقات". ))
ويقـول ابن مسكويه: إنّ الله تعالى ليس له وصف ذاتي ولا غيـر ذاتـي، ولا يمكن أن يبرهن عليه بطريق الإيجاب بالبرهان المستقيم، ولكن ببرهان السلب الذي هـو أليق الأشياء بالأمور الإلهية، وأشبهها بأن تستعمل فيها .وإذا قلنـا: هـو عـالم ولـيس كالعالمين، وقادر وليس كالقادرين، ونحن مضطرون إلى حرف السلب لمباينتـه تعـالى مباينة تامة لجميع الخلق عن أي نوع من أنواع الاشتراك. ( )
ويقول إخوان الصفا: إنّ الله لا يتصف بالصفات الثبوتية لأن العقـل البشـري قاصر عن الإحاطة بأمرها، فالإنسان لا يقدر إلاّ على ذكر صفات الكائنات المؤلفة مـن المادة والصورة، والخالق يتنزه عن الأمور الجسمية.وإذا نسبت إليه بعض الصفات فما ذلك إلا عن طريق التقريب والمجاز ليتقرر وجوده في عقول الجسمانيين .والله منزه عن الكم والكيف والمكان والزمان واللم.(معناه السؤال بلم) ( ).
       تلك هي بعض أقوال الفلاسفة التي يصرحون فيها بإنكار الصفات بـزعم أنهـا تؤدي إلى التكثر والتركيب في ذات الله، وهو منزه عن التكثر والتركيب.
المناقشة:-
1- إنّ في نفي الفلاسفة للصفات جحوداً ونكرانا لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم وفيه رد لما جاءت به الرسل عليهم السلام من الله عز وجل، ولما علَّموه لأممهم.
2- وأيضاً هو إلحاد في أسماء الله وآياته، وتمثيل له تعالى بالمعدوم والموات الـذي لا صفة له.
3- إنّ التوحيد الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يتضمن شيئاً من هذا النفي، بل هو يتضمن إثبات ألوهية الله وحده، وإثبات صفات الكمال لله عز وجل، فصفات العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام ونحوها صفات كمال، والله عز وجـل يجـب أن يتصف بكل كمال، وهو أحقّ به.
4- كما أنّ شهادة أن لا إله إلا الله تتضمن إثبـات مـا أثبتـه لنفسـه مـن الأسـماء والصفات. ( ) وإذا كانت الفلاسفة نفت عن واجب الوجود كل صفات الكمال التي جـاء بها السمع والعقل، وزعمت أنه الوجود المطلق بشرط الإطلاق .فإنّه يقال لهم إن الموجود المطلق يستحيل وجوده في الخارج، بل هو أمر يقـدَّره الذهـن فحسب، لأن الموجـود في الخارج يجب أن يكون متعينا. )) ولا يتم تعينه إلا بصفاته الواجبة له .
5 - ويبين ابن تيمية أنّ نفي صفات الكمال عن الله هو انتقاص لحقه تعالى، ودليل علـى جهلهم بالله عز وجل وما يستحقه من الكمال، كما أنّه يؤدي إلى وصفه بالنقـائص التـي يأبى العقلاء أن تطلق على من هو أقل منه رتبة ومنزلة، فكيف بـالله تعـالى صـاحب العظمة والجلال .يقول رحمه الله:" فمن لم يتصف بصفات الكمال من الحيـاة والعلـم والسمع والبصر والقدرة والكلام وغيـر ذلك، فإما أن يكون قابلاً للاتصاف بـذلك ولـم يتصف به، أو غير قابل للاتصاف به، فإن قبله ولم يتصف به كان موصـوفاً بصـفات النقص كالموت والجهل والعمى والصمم والعجز والبكم باتفاق العقلاء...وإن قيل : إنه لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات كان أنقص من القابل الذي لم يتصف بها .فـالحيوان الـذي يكون تارة ً سميعا وتارة أصم، وتارة بصيراً وتارة أعمى وتارة متكلمـاً وتارة أخـرس، أكمل من الجماد الذي لا يقبل أن يكون لا هذا ولا هذا .فمن لم يصفه بصـفات الكمـال لزمه إما أن يصفه بهذه النقائص أو يكون أنقص ممن وصف بهذه النقائص". ))
     إنّ نفي صفات الكمال الواجبة لله تعالى هو في الحقيقة تعطيل للرب، وتفضـيل للمخلوق على الخالق، والفلاسفة بذلك يبرهنون على أنهم أضل من اليهـود والنصـارى ومشركي العرب. ( ) فمشركو العرب مثلاً كانوا يؤمنون بوجود الله الخالق الحي الـرازق القادر، وهؤلاء الفلاسفة يثبتون واجب الوجود ويقولون هو الوجود المطلق، ولـيس لـه صفة ولا نعت، ولا فعل يقوم به. ( ) وإله الفلاسفة هذا الذي أطلقـوا عليـه اصـطلاح الواحد، وسمّوا نفي صفاته توحيـداً- يستحيل وجوده، لأنّه لا وجود لإله لا سمع لـه ، ولا كلام ولا مشيئة له ولا اختيار، ولا حياة له ، ولا قدرة . يقول ابن القيم:"وهذا الواحـد الذي جعلوه حقيقة رب العالمين يستحيل وجوده، فلما اصطلحوا على هذا المعنـى فـي التوحيـد وسمعوا قوله:(وَإِلَهُكمْ إِلَهٌ وَاحِد) سورة البقرة: 163 ، وقوله)وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ) سورة المائدة: 73 ، نزلوا لفظ القـرآن على هـذا المعنـى الاصـطلاحي، وقالوا :لو كان له صفة أو كلام، أو مشـيئة، أو علـم، أو حياة، أو قدرة، أو سـمع، أو بصر، لم يكن واحداً .وكان مركباً مؤلفاً .فسموا أعظم التعطيل بأحسن الأسـماء، وهـو التوحيد، وسموا أصلح الأشياء وأحقها بالثبوت، وصف صفات الرب بأقبح الأسماء، وهو التركيب والتأليف، فتولد من هذه التسمية الصحيحة للمعنى الباطل جحد حقـائق أسـماء الرب وصفاته، بل وجحد ماهيته وذاته، وتكذيب رسله، ونشأ من نشأ على اصـطلاحه، مع إعراضه عن استفادة الهدى والحق من الوحي، فلم يعـرف سـوى الباطـل الـذي اصطلحوا عليه فجعلوه أصلاً لدينه. فلما رأى أن ما جاءت به الرسل يعارضه قـال: إذا تعارض العقل والنقل قدم العقل". ))
6 - لقد شرح الفلاسفة الإسلاميون وحدانية الله تعالى بما شرح به أفلوطين، وغيره مـن فلاسفة الإغريق وحدة واجب الوجود، ونقل هؤلاء الفلاسفة في شرحهم خصائص واجب الوجود الإغريقية، وطبقوها على مفهوم الوحدانية لله، وقد اضطرتهم المحافظـة علـى مفهوم الوحدة بخصائص واجب الوجود الإغريقية إلى نفي صفات الـرب عـز وجـل. فالفيلسـوف أفلوطيـن يرى أنه لا يجوز إطلاق صفة من الصفات على واجب الوجود، لأن في ذلك ً تشبيها له بالأفراد. ( )
يقول الدكتور راجح الكردي:"أما فلاسفة المسلمين فقد سلَّموا للفلسفة الإغريقية بنفس الحماس الذي سلموا به للدين- إن لم يكن أكثر- وهـم حـاولوا أن يوفقـوا بـين خصائص واجب الوجود الإغريقية وبين مفهوم الوحدانية في الإسلام مع صحة إجـراء الصفات على الله تعالى، مما جعلهم يثيرون هذه القضية العقلية ( ) التي لا علاقـة لهـا بطبيعة الدين، ولا يترتب عليها إيمان بهذا الدين أو عمل" .
 -7 وأخيراً إنّ توحيد هؤلاء الفلاسفة يقوم على الاعتقاد ببساطة الذات الإلهية وتجردهـا من الصفات، والشرك عندهم هو إثبات صفات الكمال للـذات، وهـذا يقتضـي-كمـا يزعمون- وجود ثلاثة أشياء متغايرة هي : الذات، والصفات، والوجود .وذلك يؤدي إلـى الكثرة ويصطدم مع مفهوم البساطة من كل وجه، ولذا نفت الفلاسفة الذات والصفات، ولم يبقوا إلا الوجود من غير إضافة شيء إليه حتى لا يصير وجوداً  ممكنا .وقد أدى بهم هذا إلى القول بالوجود المطلق بشرط الإطلاق، وغاية هذا القول عدم وجود إله فـي الواقـع الخارجي لأنّ المطلق- كما سبق بيانه-أمر كلي لا يوجد إلا في الذهن فقط .لأن الإلـه الذي في الخارج متعين متصف بصفات الكمال، وهذا لا يؤمنون بوجوده. ( )
ثانيا:موقفهم من الصفات الواردة في الكتاب والسنة:
عرفنا فيما سبق أن الفلاسفة ينكرون صفات الكمال اللازمة لله عز وجل بدعوى أن إثباتها يؤدي إلى التكثر والتركيب في ذاته تعالى، والتكثر والتركيب محال في ذاتـه تعالى، وقد ناقشنا حجتهم وبينّا بطلانها وفسادها.
وإذا كان الفلاسفة ينفون الصفات، فالسؤال الذي يطرح نفسه:ما مـوقفهم مـن الصفات الواردة في الكتاب والسنة ؟ .وللإجابة عن هذا السؤال نقول: إنّ الفلاسفة لهـم موقف من هذه الصفات بحسب معناها .فالصفات الذاتية- وهي الملازمة للذات الإلهيـة ولا تنفك عنه- إنْ كانت سمعية عقلية كالقدرة والإرادة والحياة والسمع والعلـم، فـإن الفلاسفة يردونها تارة إلى صفتي الإرادة والعلم، وتارة إلى صفة العلم، ثم يقولون علمـه هو ذاته، وتارة يقولون:الصفة هي عين الصفة الأخرى، وليست صفته سوى جـوهره، وهو جوهر واحد وذات واحدة .
وأمّا إذا كانت صفاته سمعية فقط كاليدين والوجه والعين والساق، فإنّهم يزعمون أن هذه الصفات جاءت في القرآن الكريم على سبيل المجاز والاستعارة وأن ظاهرها غير مراد، لأن ظاهرها التشبيه، والله منزه عن التشبيه والجسمية.
وأمّا الصفات الفعلية وهي: المتعلقة بإرادته تعالى ومشيئته، التي يفعلهـا متـى شاء، وإذا شاء، وكيف شاء، فإن كانت سمعية عقلية كالرزق والإعطاء والمنع والكـلام، فإنّهم يؤولونها تأويلاً ً غريبا هو أقرب إلى النفي من الإثبات، وأما إذا كانت سمعية فقـط كالنزول والاستواء والمجيء، فإنّهم يزعمون أنها جاءت في القرآن الكريم على سـبيل الحقيقة لا المجاز، ولكن لا يؤمنون بها، لأن إثباتهـا يؤدي إلى التكثر والتركيب في ذاته تعالى، والله واحد من جميع الجهات فلا يتكثر لأجل تكثر صفاته، فإثباتها ينافي وحدتـه المحضة.
ذلك إجمال موقف الفلاسفة من الصفات التي جاءت في الكتاب والسـنة، وفـي الصفحات التالية نعرض ذلك بشيء من التفصيل كما جاء في مؤلفاتهم ومؤلفات غيـرهم من المطلعين على مؤلفات الفلاسفة والعارفين بحقيقة مذهبهم. ثم نتناول موقف الفلاسـفة بالمناقشة والنقد.
أ-زعم الفلاسفة أنّ الصفة عين الأخرى:
يقول ابن سينا:" الأول لا يتكثر لأجل تكثر صفاته، لأن كل واحد من صفاته إذا حقق تكون الصفة الأخرى بالقياس إليه، فتكون قدرته حياته، وحياته قدرته، وتكونان واحـدة، فهو حي من حيث هو قادر، وقادر من حيث هو حي، وكذلك سائر صفاته". ( )
ب- زعم الفلاسفة أن الصفة هي نفس الذات:
ذهب الفلاسفة إلى أنّ الصفة هي الموصوف، فكونه تعالى حياً أي الحياة نفسـها ذاته، قالوا:وإذا قلنا هو قادر، فمرادنا أن القدرة هي ذاته، فالصفة هي عين الـذات. ( ) وليست الصفات-عندهم- معاني زائدة على الذات أو مستقلة، وقد اتبع الفارابي وغيـره من الفلاسفة الإسلاميين الفيلسوف اليوناني أرسطو الذي قال: إنّ الله عقل محض، وأنـه يفكر في ذاته. ( )
يقول ابن سينا:" بل هو ) أي واجب الوجود ( ذات، وهو الوجود المحض والحق المحض، والخير المحض، والعلم المحض، والقدرة المحضة، والحياة المحضة من غيـر أن يدل بكل واحد من هذه الألفاظ على معنى مفرد على حدة، بل المفهـوم منهـا عنـد الحكماء معنى وذات واحدة". ( )
       وقد نقل ابن تيمية عن الفلاسفة أنهم يزعمون أن العلم نفس عين العالم، والقدرة نفس عين القادر، فالعلم والعالم شيء واحد، والإرادة والمريد شيء واحد فالصفات هـي الموصوف. ( )
المناقشة:
وقد ناقش ابن تيمية هذا الزعم، وبين مخالفته لصـريح العقـل، وأن أصـحابه الفلاسفة من أعظم الناس جهلاً وكذباً وسفسطة، وأنهم قد ضاهوا النصارى في جهلهـم. فإذا كان النصارى متناقضين في التوحيد، فالفلاسفة أعظم منهم تناقضـاً، وقـولهم فـي التوحيد شر من أقوال النصارى .فالنصارى يقولون الله أحد بالذات، ثلاثة بـالأقنوم، ( )وجعلوا الأقنوم هو الذات الموصوفة بالصفات الثلاثة ).)
ويقول ابن تيمية:إن التفريق بين الصفة والموصوف مستقر في فطـر العقـول ولغات الأمم، وأن من جعل أحدهما هو الآخر فقد أتى من السفسطة بما لا يخفى على كل عاقل .ولهذا كان منتهى أقوال الفلاسفة السفسـطة فـي العقليـات والقرمطـة ( ) فـي السمعيات. ( )
وذهب ابن رشد إلى أن القول بأن العلم هو العالم، وجعل أحدهما هو الآخر .هو من البدع التي تضلل جمهور المسلمين، وأن الفلاسفة ليس معهم برهان أو دليـل يثبـت صحة ما ذهبوا إليه .وقال:إنهم زلَّوا كالنصارى الذين أرجعوا الصفات إلى صفتي العلم والحياة، وقالوا إن الإله ثلاثة من جهة أنه موجود وحي وعالم، وهو واحد من جهـة أن مجموعها شيء واحد. ( )
ج -رد الفلاسفة الصفات الذاتية إلى صفة العلم:
أرجع الفلاسفة الصفات الذاتية السمعية العقلية كالإرادة والقدرة والحياة والحكمة إلى صفة العلم. ( )وقد شرحوا هذه الصفات بمعنى يؤول إلى صـفة العلـم، لأن هـذه الصفات- في نظرهم- لا يتطلبها واجب الوجود الذي يؤمن به هؤلاء الفلاسفة نقلاً عن الفكر اليوناني. ( )
فعن صفة الحياة، يقول الفارابي:" وكذلك في أنه حي وأنه حياة، فلـيس يـدل بهذين على ذاتين بل على ذات واحدة، فإن معنى الحي أنه يعقل أفضل معقول بأفضـل عقل، أو يعلم أفضل معلوم بأفضل علم، كما أنه إنما يقال لنا أحياء إذا كنا نـدرك أحسن المدركات بأحسن إدراك". ( )
ونودّ أن نضيف هنا أن ابن سينا ابتدع للباري عز وجل صفات من تلقاء نفسـه وحسب ما أملاه عليه هواه، وإتباعا منه لفلاسفة اليونان، ومن هـذه الصـفات:عاقـل ومعقول وعقل، ثم قام بإرجاع هذه الصفات إلى صفة العلم، كشأنه في إرجـاع جميـع الصفات الذاتية إلى العلم. ( )


المناقشة:
وللردّ على زعم الفلاسفة نقول: إن العقل يجزم بوقـوع التغـاير فـي معـاني الصفات، وكل أحد يعلم أن صفة القدرة ليست هي صفة العلم، وأن صفة الحياة ليست هي صفة العلم، فقد يوصف الشيء بالحياة ولا يوصف بالعلم، وقد يوصف بالعلم ولا يوصف بالقدرة، وأقوال الفلاسفة- في ردهم الصفات الذاتية للعلـم- يردهـا القـرآن الكـريم والفطرة والبديهة، وينقضها سائر أصحاب العقول، فـأقوالهم ليسـت سـوى مغالطـات وسفسطة. فالقرآن الكريم-على سبيل المثال- أثبت في أكثر من آية أن الله يفعل ما يشاء ويختار، ومن هذه الآيات قوله تعالى:)وَرَبُّكَ يَخلُقُ مَا يَشاءُ ُوَيَخْتَار) سـورة القصص:68، وقوله:)إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لهُ كنْ فيَكُـونُ) النحـل: 40، وقوله:(وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا) سورة الإنسان: 28، وقوله:)وَلوْ شاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنت ْتَكرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) سورة يونس: 99 ، ومن المعلوم أنّ الإرادة غير العلم .
وقد اعترف ابن رشد أحد حذاق الفلاسفة بأن ردِّ الصفات المتعددة إلـى معنـى واحد هو من الأمور التي يصعب فهمها جداً.( (
د -زعم الفلاسفة أنّ الصفات الخبرية وردت على سبيل المجاز لا الحقيقة: وأن ظاهرها يقتضي التشبيه والتجسيم، وهو غير مراد، وأن القرآن الكريم ذكرها على سبيل التفهـيم للجمهور ليتقرر وجوده في عقولهم، ولم يذكرها من أجل الاعتقاد بظاهرها. ( )
مناقشة دعوى المجاز في صفات الله التي جاءت في القرآن والسنة:
   لقد ناقش كل من ابن تيمية وتلميذه ابن القيم دعوى المجاز في القرآن الكريم فيما يتعلق بصفات الله وأسمائه، ( )وبَيَّنا أنّه لا مجاز في القرآن الكريم. وأنّ تقسيم اللفظ إلى حقيقة ومجاز اصطلاح مبتدع لم يعرفه أهل القرون الثلاثة المفضلة.
ونذكـر هنـا بعض ردود ومناقشات شيخ الإسلام وتلميذه على هذه الدعوى:
1- إنّ تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز اصطلاح محدث مبتدع، لم يرد فـي كـلام أهـل القرون الثلاثة الأولى من الصحابة والتابعين، ولم يتكلم به أئمـة السـلف، ولا الأئمـة الأربعة المشهورون، ( )وهذا التقسيم مصدره نفاة الصفات من المعتزلة والجهمية ومـن سلك طريقهم. ( )
2- إنّ تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز اصطلاح خاص بمن ابتدعه وأحدثه في اللغـة، إذ
لم يكن اصطلاحاً لغوياً، فهو لم يرد عن أحد من أئمة اللغة والنحو المشهورين.
3- إنّ أصحاب هذا الاصطلاح ومناصري دعوى المجاز لم يستطع أحد منهم أن يبـين الفروق الدقيقة بين كلّ من الحقيقة والمجاز، حيث أنّ كل معنى خصَّوا به اسم الحقيقـة وجد فيما سموه المجاز. فعلى هذا يكون التقسيم مجانباً للصواب وغير صحيح.
4- إنّ دعوى المجاز في القرآن الكريم توهم المعاني الفاسدة للألفاظ التي زعم فيها إرادة المجاز، كما تؤدي إلى نفي ما أثبته الله عز وجل من المعاني الثابتة، والقول بالمجاز فيه تعطيل لصفات الله عز وجل، والحاد في آياته وأسمائه. ( )
5- إنّ صرف الصفات الواردة في الكتاب والسنة عن ظاهرها وحقيقتها المفهومة منهـا
إلى المجاز المراد لابد له من أربعة أشياء:-
أحدها:أنّ ذلك اللفظ مستعمل بالمعنى، لأنّ الكتاب والسنة وكلام السلف جاء باللســان العربـي .ولا يجـوز أن يراد بشيء منه خلاف لسـان العـرب أو خـلاف الألسـنة كلها، فلابد أن يكون ذلك المعنى المجازي ما يراد به اللفظ، وإلا فيمكن لكـل مبطـل أن يفسر أيّ لفظ بأي معنى سنح له، وإن لم يكن له أصل في اللغة.
الثاني:أن يكون معه دليل يوجب صرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه، وإلا فـإذا كـان يستعمل في معنى بطريق الحقيقة، وفي معنى بطريق المجاز، لم يجز حمله على المعنى المجازي بغير دليل يوجب الصرف بإجماع العقلاء ثم إن ادعى وجـوب صـرفه عـن الحقيقـة فلابـد لـه من دليل قاطع عقلي أو سمعي يوجب الصرف .وإن ادعى ظهور صرفه عن الحقيقة فلابد من دليل مرجح للحمل على المجاز.
الثالث:إنّه لابد من أن يسلم ذلك الدليل- الصارف- عن معارض، وإلا فإذا قام دليـل قرآني أو إيماني يبين أن الحقيقة مرادة امتنع تركها، ثم إن كان هذا الدليل نصاً قاطعاً لم يلتفت إلى نقيضه. وإن كان ظاهراً فلابد من الترجيح .
الرابع:إنّ الرسول صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلام وأراد به خلاف ظـاهره وضـد حقيقته فلابد أن يبين للأمة أنه لم يرد حقيقته، وأنه أراد مجازه، سواء عينه أو لم يعينـه لاسيما في الخطاب العلمي الذي أريد منهم فيه الاعتقاد والعلم، دون عمل الجوارح، فإنّه سبحانه وتعالى جعل القرآن نوراً وهدىً ً وبيانا للناس وشفاءً لما في الصـدور، وأرسـل الرسل ليبين للناس ما نزل إليهم، وليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ولئلا يكون للنـاس على الله حجة بعد الرسل.
    ويحسن هنا أن ننقل بعضاً من كلام ابن سينا الذي يتعلق بموضوع الصفات ثـم نأتي بمناقشة وردود ابن تيمية عليه:-
   يقول ابن سينا:إنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين ما هو الحق في نفسه من معرفة الله وتوحيده. وإنما ذكر ذلك على سبيل التخييل والإيهام كي ينتفع به جمهور الناس لأنه مناسب لمستواهم العقلي. ( )
رد ابن تيمية عليه:-
إنّ قول ابن سينا زعم باطل، فالقرآن الكريم مملوء بالآيات التي تبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد هدى الخلق وبين لهم الحق فيما يجب علـيهم مـن العلـم بـالله وتوحيده وعبادته. وأنه عليه الصلاة والسلام أخرجهم من الظلمات إلـى النـور، ومـن الجاهلية إلى الإسلام، ومن هذه الآيات قوله تعالى:)هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُـولهُ بِالْهُـدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كّلِهِ) سورة التوبة: 33 ، وقوله):كِتَـابٌ أَنزَلْنَـاهُ إِلَيْـكَ ِلتخرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذنِ رَبِّهِمْ) سورة إبراهيم:1، وقوله:(قدْ جَـاءَكمْ مِنْ اللَّهِ نورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانُه سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخرِجُهُمْ مِـنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) سورة المائدة: 16 15- ، وقولـه :(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَـاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نشاءُ مِنْ عِبَادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) سورة الشورى: 53 -52 ، وقوله: )آلم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَـا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) سورة البقرة: 2 -1، وقوله)وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًـا لِكلِّ شيء) سورة النحل 89: وقوله تعالى:)وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كـلِّ شـيْءٍ) سورة يوسف:111. وقوله:)قدْ جَاءَكمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَـيْكمْ نُـورًا مُبِينًـا) سـورة النساء:174، وقوله:)فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّـذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ المُفْلِحُونَ) سورة الأعراف:157 ، وقوله:(وَمَا كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لهُمْ مَا يَتَّقُون) سورة التوبة) ) .115)
وأيضاً: إنّ من المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتكلم مع أحـد بمـا يناقض ما أظهره للناس، ولا كان خواص أصحابه يعتقدون فيه نقيض ما أظهره للنـاس، بل كل من كان به أخص وبحاله أعرف، كان أعظم موافقة له وتصديقاً له على ما أظهره وبينه، فلو كان الحق في الباطن خلاف ما أظهره، للزم:إمّا أن يكون جاهلاً به، أو كاتماً له عن الخاصة والعامة، ومظهر خلافه للخاصة والعامة. وكلّ من كان عارفاً بسنته وسيرته علم أن ما يروى خلاف هذا فهو مختلق كذب مثل ما يذكره بعض الرافضة ( ) عن علي رضي الله عنه أنه كان عنده علم خاص باطن يخـالف هـذا الظاهر. ( )
2- يقول ابن سينا:"إنّ في القرآن الكريم من الألفاظ مالا يحتمل إلا معنـى واحـداً ولا يمكن فيها استعمال المجاز والاستعارة، مثل قوله تعالى:)هَلْ يَنظرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ) سورة البقرة 210: ، وقوله:)هل يَنظرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلَائِكة أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ) سورة الأنعام: 158" ) .)
رد ابن تيمية:-
إنّ ابن سينا يعترف هنا أنّ المجاز والاستعارة غير واردة هنـا، بـل المعنـى المطلوب هو حقيقته الظاهرة من اللفظ الوارد في الآية، وهذا الاعتـراض حجـة عليـه وعلى أمثاله من نفاة الصفات، وموافقة النفاة له لا تنفعهم ولا تنفعه، فإن ذلك حجة جدلية وليست علمية، وإذا ثبت أن العقل الصريح يوافق النقل الصحيح دل هذا على فساد قولـه وقولهم. ))
3- زعم ابن سينا أن القرآن الكريم لم ترد فيه إشارة إلى التوحيد. ( )
رد ابن تيمية:-
إنّ هذا كلام صحيح فالقرآن الكريم ليس فيه إشارة إلى توحيد ابن سينا وإخوانه من نفاة الصفات، وهذا دليل على بطلان توحيدهم وفساده، وأن من وافقهم عليـه فهـو جاهل ضال. ( )
4 - يقول ابن سينا:"ثمّ هب أنّ هذه كلها) أي النصوص) مأخوذة على الاستعارة، فـأين النصوص المشيرة إلى التصريح بالتوحيد المحض، الذي يدعـو إليه حقيقة هـذا الـدين القيم المعترف بجلالته على لسان حكماء العالم قاطبة". ( )
رد ابن تيمية-
يقول: "كلام صحيح، لو كان ما قالته النفاة حقاً، فإنّه حينئذ على قولهم لا يكون التوحيد الحق قد بيّن أصلاً، وهذا ممتنع، وهو أضل منهم حيث زعم أن الرسل أيضاً لم تبين التوحيد، بل ذكروا ما يناقض التوحيد، لينقاد لهم الجمهور في صلاح دنياهم". ( ) ويضيف:"إن توحيد ابن سينا وأمثاله من أفسد الأقوال التي يعلـم بصريح العقـل فسـاده" ( ).
      ويمكن أن نردّ على ابن سينا بقولنا: إن التوحيد المحض الذي يقوم على تجريـد الذات الإلهية من صفات الكمال الواجبة لها، هو توحيد الفلاسفة الوثنيين من أهل اليونان وغيرهم وهو توحيد الفلاسفة أمثالك. وهذا التوحيد لم تتعرض الكتـب السـماوية إلـى الإشارة إليه، لأنه لا صلة بين الوثنية التي جاءت بالتوحيد المحض، والكتـب السـماوية التي جاءت بالتوحيد الحق الذي من أنواعه توحيد الأسماء والصفات. وهـذا التوحيـد لا يتحقق إلا بإثبات الصفات التي جاءت في الكتاب والسنة دون تشبيه أو تمثيل أو تكييف أو تحريف.
5 - يقول ابن سينا:" وأين الإشارة إلى الدقيق من المعاني المستندة إلى علم التوحيد، مثل: إنه عالم بالذات، أو عالم بعلم، قادر بالذات، أو قادر بقدرة، واحد على كثرة الأوصـاف، أو قابل لكثرة، تعالى الله عن ذلك بوجه من الوجوه، متحيِّـز بالـذات، أو منـزَّه عـن الجهات". ( )
رد ابن تيمية:
      تضمن رد ابن تيمية على قول ابن سينا النقاط التالية:-
أ- إنّ خطاب ابن سينا الذي بدأ به قوله السابق هو لمن وافقه على إلحاده وضلاله مـن نفاة الصفات، حيث ظن أن تعطيل الصفات هو التوحيد، وأن الله عز وجل لا علم له ولا قدرة، ولا إرادة، ولا أي صفة من الصفات الثبوتية. وأمّا أهل الإثبات فإنّهم يعلمون أنّ القرآن الكريم بين دقائق التوحيد الذي بعـث الله به رسله عليهم السلام وأنزله في كتبه المقدسة.ففي القرآن كثير من الآيـات التـي أخبرت عن صفات الكمال اللازمة لله، فصفة العلم مثلاً ذكرها الله في أكثر من آية. فقال تعالى:)وَلَا يُحِيط ُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) سورة البقرة: 255 ، وقال:(أَنزَلَـهُ بِعِلْمِهِ) سورة النساء: 166 ، وقال:)وَمَا تخرُجُ مِنْ ثمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تحْمِلُ مِـنْ أُنثَى وَلَا تضَعُ إِلَّا بِعِلْمهِِ) سورة فصلت:47 . وأخبر الله تعالى عن قوته بقوله:)هُوَ ُ الرَّزَّاق ذُو القوة الْمَتِينُ) سورة الذاريات: 58 ، وقال تعالى: )وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) سورة الذاريات: 47، والأيـد هي القوة وقـال تعالى:)أَوَلَمْ يَـرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قوَّةً) سورة فصلت 15: ، وقد صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال :"اللهمّ إنّي استخيرك بعلمك واستقدرك بقدرتك".. ( )  ( )
ب- إذا كان يظن ابن سينا أن قوله: عالم بالذات أو عالم بعلم، معناه أن الذات التـي لا تكون إلا عالمة قادرة، يمكن وجودها مجردة عن صفتي العلم والقدرة كما يزعم النفـاة، فإن قوله هذا قول ضال متناقض، لأن إثبات عالم بلا علم، وقادر بلا قدرة، وحـي بـلا حياة، وسميع بلا سمع، أي إثبات موصوف بلا صفـة، مما يعلـم فسـاده بالضـرورة سمعا وعقلاً. ( )وإذا كان العقل والسمع لا يدلان على فساده وبطلانه فإنّه لا طريق إلى معرفة الحق من الباطن .وأما إذا كان يظن ابن سينا أن قوله السابق معنـاه وجـود ذات مجردة عن العلم، وأن صفة العلم زائدة عليها، فهـذا ظن فاسـد، لأن الذات المجـردة عن الصفات لا وجود لها إلا في الذهن لا حقيقة لها في الأعيان، لأن الذي في الخـارج ذات لها صفات. ))
ج - وأمّا قول ابن سينا: "واحد على كثرة الأوصاف، أو قابل لكثرة، تعالى الله عن ذلـك بوجه من الوجوه ". فإنّه يرد عليه بأن القرآن الكريم مملوء بالآيات التي تثبت الصفات لله تعالى، ولم ينازع اثنان من العقلاء أن النصوص القرآنية ليست دالة على نفي الصـفات، بـل النصوص دالة على إثباتها، وغاية ما يزعمه الفلاسفة نفاة الصفات أن ظـاهر هـذه النصوص غيـر مراد، وأنـه يمكن تأويله للدليل المعارض لهذا الظاهر. ( )
إنّ العلم بإثبات الصفات لله تعالى علم ضروري دلت عليه النصوص القرآنيـة والأحاديث النبوية، وهذا العلم أبلغ وأوضح من العلم بكثير من الأحكام المعلومـة عنـد الخاصة دون العامة، مثل ميراث الجدة، وتحريم المرأة على عمتها وخالتهـا، وسـجود السهو، والعلم بإثبات صفاته تعالى هو من العلم العام الذي يشترك فيه الخاصة والعامـة، وأن نفاة الصفات لا يعتمدون في التدليل على مذهبهم على الكتـاب والسـنة، وأقـوال الصحابة والتابعين، وأقوال أئمة المسلمين، وإنما ينقلون أقوالهم في النفي عن أصـحاب البدع وأهل التقليد أو المعروفين بإلحادهم وفساد معتقداتهم. ( )
د- وأمّا قول ابن سينا:" أو قابل لكثرة تعالى الله عن ذلك بوجه من الوجوه" فيرد عليـه ابن تيمية بقوله:إنّ كان يقصد كثرة صفاته تعالى التي دلت عليها آيات القرآن وأسـماء الله تعالى، فإنّ تنزيه ابن سينا وإخوانه الفلاسفة الله عنها مثل تنزيـه المشـركين لله أن يدعى ويعبد بدون واسطة، أو تنزيههم له أن يرسل رسولاً من البشر، أو تنزيههم له عن أن يكون إلهاً واحدا.ً )) وأيضًا:إن الذات المجردة عن الصفات لا وجود لهـا إلا فـي الذهن، ولفظ ذات تأنيث ذو، ولا تستعمل إلا مضافة، وذات معناها:صاحبة، قـال تعالى:)إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) سورة آل عمران: 119 ، وقـال:(فَـاتَّقُوا اللَّـهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكمْ) سورة الأنفال:1، ثمّ استعمله أهل الكلام بالتعريف فقالوا:(الـذات) أي الصاحبة، والمعنى صاحبة الصفات .وعلى هذا فيكون تقدير الذات المستلزم لإضافة الصفات دون إضافتها ممتنع، وهذا ما أثبته ابن سينا وأمثاله من ملاحدة الفلاسفة، الـذين جعلوه وجوداً مطلقاً إما بشرط النفي، وإما بشرط الإطلاق، ومن المعلـوم إن المطلـق بشرط الإطلاق موجود في الأذهان فقط ولا وجود له فـي الخـارج، فكيـف بـالمطلق المشروط بالنفي ؟ إنه أبعد في الوجود من المطلق بشرط الإطلاق( ).
هـ –وأما قوله: "متحيز بالذات أو منزه عن الجهات" فيرد عليه ابن تيمية بقوله: هـذا من الحجج على نفاة الصفات، فالكتب الإلهية وصفته بالعلو والفوقية، ولم تنف أن يكـون الله فوق العالم كما يزعم نفاة الصفات. فالقرآن الكريم مملوء بالآيات التي تبين علـو الله على خلقه واستواءه على عرشه، ومن هذه الآيات قوله تعالى:(وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ العَلِيُّ الْكَبِيرُ) سورة الحج:62 ، وقوله):لهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ) سورة الشورى: 4 ، وقوله ):إِلَيْهِ يَصْـعَدُ الْكَلِـمُ الطَّيِّـبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفعُهُ) سـورة فاطـر:10 ، وقولـه:(تعْرُجُ الْمَلَائِكة وَالرُّوحُ إِلَيْـهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقداره خمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ) سورة المعارج 4 :، وقوله:(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَـزَّلَ الْكِتابَ بِالحَق) وقوله:(إِنَّا نحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكرَ وَإِنَّـا لـهُ َ لَحَـافِظُون) سورة الحجر:9 ، وقوله:)وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزلَ) سورة الإسراء: 105 ، وقولـه :(وَيَوْمَ ُ تَشَقَّق السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنزِّلَ الْمَلَائِكة تَنزِيلًا) سورة الفرقان:. 25 وقوله:(طه مَـا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشقَى، إِلَّا تَذكِرَةً لِمَنْ يَخشَى، تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّـمَاوَاتِ العُلَا، الرَّحْمَانُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى) سورة طه:1- 5، هذه الآيات وغيرها في القـرآن كثير تثبت أن الله تعالى هو العلي الأعلى، وأنه يصعد إليه الكلم الطيب والعمل الصـالح يرفعه، وأنّ الملائكة والروح تعرج إليه، وأن القرآن الكريم منه منزل، والملائكة تنـزل من عنده، وأنّه مستو على عرشه بائن من خلقه .فالقرآن الكريم بيّن علوه تعالى ومباينته لخلقه أتم بيان وأوضحه ( ).
ثالثا:إثباتهم صفات لم يرد بها الشرع ولم يدل عليها العقل:
لقد أطلق الفلاسفة على الله عز وجل صفات من تلقاء أنفسهم، لـم يصـف الله تعالى بها نفسه في كتابه العزيز، ولا وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يـرد على لسان أحد من الصحابة والتابعين، ولم يقل بها أحد من الأئمة والعلماء. وتبدو هذه الصفات -وبصورة واضحة - أنهـا مشـعرة بالضـعف والـنقص، والعقلاء من الناس ينزهون أنفسهم عن الاتصاف بكثير من هذه الصفات.
ومن هذه الصفات:
أ -البساطة : ويريدون بها عدم تركبه من أي معنى من معاني التركيب، فلا يتركب مـن الأجـزاء، ولا من جنس أو فصـل، ولا من مادة أو صورة، وليس هو جسم ولا مـادة جسم، ولا صورة جسم، ولا مادة معقولة لصورة معقولة، ولا صورة معقولة فـي مـادة معقولة، وهو مقدّس عن الكم والكيف والمكان والزمان، والتغيير والوضع. ( )
ب -تام وليس له حالة منتظرة:
ومراد الفلاسفة من ذلك أنه كمال كله، وهو تام كامل، وفعله ليس ناقصـاً.ولا مقوِّم له، ولا موضوع، ولا عوارض له، وهو الكل وحده ( ) .وفي كتاب النجاة وتحت عنوان) فصل في إنّ الواجب تام وليس له حالة منتظرة (. ( ) يقول ابـن سـينا:"إن واجب الوجود لا يتأخر عن وجوده وجود منتظر، بل ك لّ ما هو ممكن له فهو واجب له، فلا له إرادة منتظرة، ولا طبيعة منتظرة، ولا علم منتظر، ولا صفة من الصـفات التـي تكون لذاته منتظرة." أي أن ابن سينا يرى أن صفات الله تعالى ثابتة له أزلاً، وكل مالـه دفعه واحدة، فإرادته فعلت كل ما يريد أزلا، وكذلك علمـه تم لـه في الأزل، فلا إرادة له متجددة، ولا علم له متجدد، ولا صفة من صفاته متجددة أو حادثة. ))
ج -عقل وعاقل ومعقول:
ذهب الفلاسفة إلى أنّ هذه الصفات ثابتة له لأنه واجب الوجود، ولأنه خلو مـن الإمكان، أي خلو من المادة وعلائقها وهـو غيـر محتاج إليها ألبتة.يقول ابـن سـينا: "مادام واجب الوجود خلواً من المادة فهو عقل صرف، وإذا كان عقلاً بالفعل فهو عاقـل ومعقول، هو عاقل لأن من طبيعة العقل أن يكون عاقلاً، وهو معقول لأنه يعقـل ذاتـه. وهذه المعاني كلها فيه بمعنى واحد، وذات واحدة وجوهر واحد ( ).
د -عشق وعاشق ومعشوق:
قالت الفلاسفة الله عشق، والعشق هو صريح الذات والوجود، وليس هو صـفة زائدة على الذات وليس صفة متكثرة ولا متغايرة، والله عاشق من حيـث كونـه عـاقلاً لذاته. ( )ولابن سينا رسالة بعنوان):رسالة في العشق) ( )يشرح فيها معنـى العشـق، ويبين الفرق بين العشـق الغريـزي الموجود في الإنسان والعشق الذي هـو صـفة لله تعالى. ( )
هـ -ملتذ ولذيذ ولاذ: ومن صفاته عند الفلاسفة أنه لذيذ بذاته، واللّذة- عنـدهم- هـي إدراك الخير الملائم، ولذته ليست انفعالية بل لذة فعلية كمالية. ( )
تلك هي الصفات التي ابتدعها الفلاسفة لواجب الوجود، وهذه الصفات وغيرهـا هي ووجوده تعالى شيء واحد، بل هي نفس وجوده مع إضافة أو سلب، أو إضافة وسلب معاً، فليست صفات ثبوتية زائدة على الذات، أو شيئاً غير الذات وصفاتهم السلبية مثـل قولهم:ليس بجسم ولا متحيز، وليس بمحدث ولا متحرك، ولا بمتكثر. وغير ذلـك مـن الصفات المسبوقة بحرف السلب. ( ) والملاحظ كثرة صفات السلب عند الفلاسفة، وقـد زعموا أن حرف السلب أليق الأشياء بالأمور الإلهية، وأشبهها بأن تسـتعمل فيهـا، ( )وهم في ذلك كالمعتزلة الذين نفوا الصفات وزعموا أن هذا هو التوحيد الحق.
وأمّا صفاته على سبيل الإضافة مثل قولهم: إنّه مبدأ الكائنات وعلة الموجودات، وأما صفاته المركبة من السلب والإضافة مثل قولهم:عقل وعاقل ومعقول. ومنتهى قول الفلاسفة في الصفات:أن وجود الله تعالى مشروط بسلب كل أمر ثبوتي، أي هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق.
المناقشة:
أ- إنّ الصفات التي ابتدعها الفلاسفة الإسلاميون لله عز وجل. إنما جاءوا بها من الفكـر الفلسفي اليوناني الذي يدينون له بالتبعية والولاء. وهذا يدل على أن التصور الإسـلامي لدى هؤلاء الفلاسفة-مع كونهم منتسبين للإسلام- ليس خاطئاً فحسب بل هـو تصـور مليء بالأوهام والأكدار.
وفي اعتقادنا أنّ الفلاسفة الإسلاميين لم يخوضوا في أسماء الله وصـفاته عـن جهل بما يستحقه الله عز وجل من التقديس والكمالات، إنما جاء خوضهم نتيجة انتمـائهم لمذاهب فاسدة بعيدة عن هدى الإسلام، فابن سينا مثلاً ينتمي للمذهب الإسماعيلي الباطني الذي ما فتئ يكيد للإسلام عن طريق تشويه العقائد الإسلامية وإثارة الشبهات الإلحاديـة فيها.
ب- إنّ المسلم يؤمن بأنّ أسماء الله تعالى وصفاته توقيفية، وليسـت خاضـعة للأهـواء والتخيل، ولا مجال فيها للاختراع والابتداع، ولا يمكن بحال من الأحوال أن نطبق ما في الفكر الوثني سواء كان يونانياً أم عربياً على عقائدنا الإسلامية .يقول الله عـز وجـل:(وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَـانُوا يَعْمَلون) سورة الأعراف: 180 ، وقد وردت أسماء الله وصفاته في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، والتزيد على هذين المصدرين في تحديد الأسماء والصفات أمر لا يقره الدين الإسلامي .
ج- إنّ إطلاق الفلاسفة صفات السلوب على الله عز وجل التي تتضمن نفـي الصـفات المماثلة للمخلوقين مع كثرة هذه الصفات يخالف طريقة الكتاب والسـنة .فـإن الكتـاب والسنة جاء فيهما النفي بصورة إجمالية، وإنما جاء التفصيل في إثبات الصفات لله عـز وجل .وقد سلك سلف الأمة هذا المنهج، فأثبتوا الصفات ً إثباتا مفصلاً، ونفوا نفياً مجمـلاً مما لا يليق بالله عز وجل من الصفات. ))
إنّ الصفات السلبية التي أطلقها الفلاسفة على الله مثل قولهم: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا يشار إليه، ولا هو جسم، ولا هو في جهة وغيرها هي من صفات الممتنـع التي تستلزم عدم وجود الموصوف بهذه الصفات وأمثالها، والفطـرة السـليمة والعقـل الصريح يعلم أن هذه الصفات لا يوصف بها الموجود بل هي صفات المعـدوم الممتنـع وجوده ( ).
إنّ وصف الله عز وجل بالصفات السلبية والإضافية وحدها فيه تكذيب ببعض ما جاء به الرسل عليهم السلام، وفيه أيضاً موافقة لصنيع فرعون زعيم الكفار الذي أنكـر وجود الله عزّ وجل، لأنّ نفي الصفات الثبوتية اللازمة لله تعالى مع وصـفه بالسـلوب والإضافات معناه في النهاية إنكار وجوده تعالى. فالفلاسفة موافقون لفرعون الذي كذب موسى عليه السلام في أنّ الله عز وجـل فوق السماوات .قال تعالى:)وَقَالَ فِرْعَوْنُ يا هامان ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْـبَابَ، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرعون سُـوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنْ السَّبِيلِ وَمَا كيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تبَابٍ) سـورة غافر:-37-36، إنّ وصف الله تعالى بالبساطة وأنه تام، وليس له حالة منتظرة، أخذه الفلاسفة من أرسطو وأفلوطين وأتباعهما من الفلاسفة اليونانيين فالله عند أرسطو فعل محض، ولا تخالطه قـوة، لأن القـوة دليل النقص، والله كله كمال وكـله فـعل.( ( ووصف الله بالسلوب والإضافات مع نفـي الصفات الثبوتية عنه انتهى بالفلاسفة إلى أن جعلوه وجوداً مطلقاً لا تعين له في الخارج، فقالوا هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، وهذا الموجود المطلق لا يمكن وجـوده فـي الخارج، لأنَّ الذي في الخارج لا يكون إلا ً متعينا بالصفات، أي لا وجود له إلا في الذهن فقط. ( )
د- إنّ ابتداع الفلاسفة صفات من تلقاء أنفسهم وإثباتها لله تعالى يوقعهم في التركيب الذي فروا منه بنفيهم للصفات الثبوتية، فهم نفوا العلم والإرادة والقدرة وغيرها، لأنها تسـتلزم التعدد والتكثر في ذات الله، ولكونها تقتضي التركيب، ثم أثبتوا صفات أخرى مثل العقل والعاقل والمعقول، والعشق والعاشق والمعشوق، واللذيذ والملتذ، فيقال لـهم: إثباتكم لهـذه الصفات يستلزم التركيب الذي فررتم منـه، لكونها صفـات متعددة متغايرة. ( )
وإنّ لفظ العشق والعقل واللّذة الذي أطلقه الفلاسفة على الله فيـه مـن التّشـبيه بالمخلوق، واحتمال النقص والضعف مالا يخفى على عاقل، وإن هذه الصفات لم تـأت بها الكتب السماوية التي أنزلها الله على رسله عليهم السلام. ( ) ومعاني هذه الألفاظ في اللغة العربية قد نفاه الشرع والعقل، لأن معانيها تدل على باطل في حق الله عز وجـل، وتنزيه الله عز وجل وتعظيمه أمر مطلوب شرعاً وعقلاً، فلفظ العقل مثلاً معناه في اللغة يدل على عرض، إمّا مسمي مصدر عقل يعقل عقلاً، وإمّا قوة يكون لها العقـل، وهـي الغريزة والفلاسفة يريدون به غير ذلك، فالعقل عندهم جوهر مجرد قائم بذاتـه .والقـائم بذاته ليس هو القائم بغيره، وليس هو العرض. ( )
وما ذهب إليه الفلاسفة من أنّ العقل والعاقل والمعقول بمعنى واحد وهو عـين ذاته، هو من الأمور الباطلة لغة وعقلا .فلفظ العقل مصدر، ولفظ العاقل اسم فاعل، ولفظ المعقول اسم مفعول، وكذلك بالنسبة للعشق والعاشق والمعشوق، والتمييز بين معاني هذه الألفاظ أمر معروف في لغات الأمم جميعاً ويدركه أصحاب الفطر السليمة .فالعقل مسمى مصدر، والعاقل مسمى الفاعل، والمعقول مسمى المفعول  ( ).والفلاسفة أنفسهم يـرون أن استعمال هذه الألفاظ فيه من البشاعة ما يجب تنزيه الله عنه. ( )وإذا كانوا يقرون بذلك فكيف يلجئون لاستعمالها في حق الله عز وجل، ثم يزعمون أنَّ هذا هو التوحيد على الحقيقة.
رابعاً -دراسة لموقف الفلاسفة من صفتي العلم والكلام:
لقد اخترنا الحديث عن موقف الفلاسفة من صفتي العلم والكـلام لأن الفلاسـفة ردّوا جميع الصفات إلى صفة العلم، وتفرع عنها قولهم: إن الله لا يعلم الجزئيات وأمـا صفة الكلام فلعلاقتها بالقرآن الكريم المصدر التشريعي الأول.
أ -صفة العلم عند الفلاسفة:
عرفنا فيما سبق أن الفلاسفة ينفون الصفات الثبوتية الواجبة لله عز وجل، ومـن هذه الصفات صفة العلم، وإذا وردت في مؤلفاتهم صفة العلم فليس مرادهم به أنه صـفة قائمة بذاته تعالى، وليس صفة زائدة عليه، بل علمه تعالى هو عين ذاته .فالصـفة هـي الموصوف فالعلم هو العالم، ويتحقق علمه تعالى عن طريق تعقله لذاته وللأشياء ولنظام الخير الصادر عنه.
ويفرّق الفارابي بين علم الله بذاته، وعلمه بالكل، فعلمه بذاته ليس مفارقاً لذاته بل هو ذاته، وأما علمه بالكل فهو صفة لذاته، وليست هي ذاته، بل لازمة لذاته، وهذه الصفة فيها الكثرة غير المتناهية بحسب كثرة المعلومات غير المتناهية. ( )وقد قصد إلى هـذا التفريق فجعل علمه تعالى بالكل ليس هو ذاته، لوجود الكثرة فيه، فلو كان علمه بالكل هو ذاتـه كعلمـه بذاتـه لحدثت في ذاتـه كثرة، والكثرة في ذاته محال.
وذهب كلُّ من الفارابي وابن سينا إلى أن الله تعالى لا يعلم الجزئيات، لأنّ علمه بالكون علم كلي لا يدخل تحت الزمان، ولا يختلف بالماضي والمستقبل، وهـو يعلــم الجزئيات بنوع كلـي ( ) فالله عز وجل لا يعلم دعاءنا ولا دعاءه، ولا يسمع نـداءنا ولا نداءه، ولا يعرف زيداً منا، إذ نحن من الجزئيات، ولكن يعرف الإنسان بشكل كلي، أما أشخاصه فلان وفلان فلا، لأن فلان جزئي، وفلان جزئي. ( )
ويقول ابن سينا:"فالواجب الوجود يجب أن لا يكون علمه بالجزئيـات علمـاً زمانياً، حتى يدخل فيه: الآن، والماضي، والمستقبل. فيعرض لصفة ذاته أن تتغير، بـل يجب أن يكون علمه بالجزئيات على الوجه المقدس العالي عن الزمان والدهر". ( )
     ويرى ابن سينا أنّ الجزئي الذي يعلمه الله تعالى هو كل جزئي بنوع كلي، أمّـا الجزئي المعين المخصص بالإشارة إليه فلا يعلمه. فمثلاً لو قيل هل يعلم الله تعالى جلوس زيد هذا في هذا الوقت المعين، فإنّه عند ابن سينا لا يعلم ذلك لأنّه جزئي مشار إليه، أو مستند إلى مشار إليه. ( )
حجة الفلاسفة في إنكارهم علم الله بالجزئيات:
      تعتبر حجة التغير عمدة الفلاسفة في القول بعدم علم الله بالجزئيات وملخص هذه الحجة:إن العلم بالجزئيات يتغير بتغيرها، لأن العلم بالمتغيرات يستلزم أن يكون علمـه بأن الشيء سيكون غير علمه بأنه قد كان، والتغير في واجب الوجود محال، لأنه علمـه هو ذاته( ).
ويذكر ابن سينا عدة أمثلة توضح مذهبه، ومن أشهر هذه الأمثلة: مثال الكسوف الذي يتكرر في معظم مؤلفاته.   ( )
إنَّ ابن سينا في مثاله هذا يريد أن يقول :إن علم الله تعالى بالكون علـم كلـي فالكسوف يعلم وقوعه، بسبب توافر أسبابه الجزئية، وعلمه بالوقوع علـم كلـي يتنـاول ظاهرة الكسوف بشكل عام، أما الكسوف المعين المشار إليه في زمان معين مشار إليـه فلا يحيط الله علماً بوقوعه .فعلم الله عند ابن سينا شامل لظاهرة الكسوف بمعناها وأسبابها، أي علمه تعالى الكلي قاصر على معرفة القوانين العامة والأسباب التي تخضع لها والأحداث الكونية، أمّا حصول الأمور الجزئية في أوقاتها وما يطرأ عليها من تغيرات وأحوال مرتبطة بالزمان فلا يعلمه الله عز وجل. ( )
ويوضّح ابن سينا مذهبه بمثال آخر : إن الله لا يعلم أن زيداً من الناس بشخصـه يكون في هذا الوقت غير موجود، وغداً يكون نفسه موجوداً .لأنّ علمه به في هذا الوقت غير موجود، وعلمه به غداً موجود، قد تغير لتغير المعلوم، وهو وجـود زيـد. أي أن جزئيات المخلوقات لا يعلمها، أما المخلوقات بوجه كلي فهو يعلمها. ( ) ولقد أشار الفخر الرازي إلى نحو هذا المثال فقال :" واحتجوا بأنه لو علم كون زيد جالساً في هذا المكـان فبعد خروج زيد عن هذا المكان، إن بقي ذلك العلم فهـو الجهـل، وإن لـم يبـق فهـو التغير". ( )
فإذاً على مذهب الفلاسفة لا يعلم الله الأشياء الموجودة في العالم بأعيانهـا، فـلا يعلم ما يطرأ على هذه الأعيان من الأحوال والتغيرات، فلا يعلم أعداد الأفلاك والنجوم، ولا منازل الشمس والقمر، ولا يعلم أشخاص الناس، ولا أحوالهم على التفصـيل الـذي يتناول جزئيات حياتهم وأمور معاشهم، ولا يعلم الأوراق المتساقطة من الأشـجار، لأن هذه الأمور وأمثالها من الجزئيات المتغيرة، التي لـو علمهـا الله تعـالى لكـان علمـه متغيراً. ( )


المناقشة:
1 - إنّ لفظ التغير الوارد في حجة الفلاسفة لفظ مجمل، واستخدام الفلاسـفة لـه يـوهم السامع لهم أن الله يتغير ويستحيل من حال إلى حال، كالإنسان الذي تطرأ علـى حالتـه تغيرات بفعل مرض وغيره، أو كالشمس إذا أصفر لونها والحقيقة أن الفلاسفة يستعملون لفظ التغير في غير محله، فهم يزعمون أن سخط الله على العصاة تغيّر، وسماع دعـاء عباده يسمى تغيراً، وهكذا بالنسبة لأمثال هذه الأمور. ( )
2- وقول الفلاسفة إن الله لا يعلم الجزئيات إلا على وجه كلي، دليل على جهلهـم بـالله تعالى خالق كل شيء وموجده، فالعقل يوجب أن خالق الأشياء كلها وواضع سننها هـو العالم بها ( ). ثمّ إنّ الموجودات في الخارج موجودة على وجه معين جزئي، فـالأفلاك والعقول والنفوس التي يثبتونها، والعناصر والمولدات التي يؤمنون بوجودها كلها توجـد في الواقع الخارجي بشكل معين جزئي، وإذا كان الله تعالى لا يعلـم هـذه الموجـودات وأمثالها إلاّ على وجه كلي- كما يقول الفلاسفة- فإنّه بالتالي لا يعلم نفسه، لأنه تعـالى موجود واجب معين بصفاته الثبوتية، ولا يعلم شيئاً من الموجودات الصادرة عنه .وهـذا دليل على تناقض هذا القول مع مذهبهم الذي يقرر علـم الله بذاتـه وبغيـره الصـادر عنه.( )
3- وأيضاً فإن هذا القول دليل على عدم التعظيم لله عز وجل، وسلب الكمال عنه فجهله بالجزئيات والمتغيرات، واقتصار علمه على الأمور الكلية في الكون صفة ضعف ونقص لا صفة كمال. ( )
 4- إن القول بعدم علمه بالأمور الجزئية يتناقض ً تماما مع موضوع الثـواب والعقـاب. فالإنسان سيثاب أو يعاقب يوم القيامة بناء على أفعاله في الحياة الدنيا فكيف يحاسـب الله تعالى الإنسان ما لم يكن عالماً بسلوكه وأعماله، وهي تصرفات جزئية، ومنها أمور دقيقة جداً لا يعلمها إلا من يعلم السر وأخفى. ( )
وذهب ابن رشد إلى أن قول الفلاسفة بعدم علـم الله بالجزئيـات مـن البـدع المستحدثة التي نحن في غنى عنها، وأن الفلاسفة وقعوا في هذا الخطـأ الشـنيع لأنهـم قارنوا بين العلم الإلهي والعلم الإنساني، وأرادوا تطبيق علم الإنسان المحدود بمـدركات محدودة على علم الله الشامل الغير محدود. ( ) وإذا كان الفلاسفة قد أنكـروا علـم الله بالجزئيات المتغيرة، لأن تغير المعلوم يوجب تغير العلم، فإنّه يلزمهم إما أن يقولـوا: أن تكثر المعلوم يوجب تكثر العلم حتى يلزم أن تتكثر الذات بتكثر المعلومات، أو يقولوا إنّ معلومه واحد.
5 - إنّ علمه تعالى ليس بزماني، فهو الأول الذي ليس قبله شيء وهو الآخر الذي لـيس بعده شيء، والزمان بالنسبة لعلمه سواء، فهو يعلم ما كان، وما هو كائن، وما سـيكون، دون أن يقيد هذا العلم بالزمان كما توهم الفلاسفة، وما دام علمه تعالى غير زماني فـلا يتغير بتغيّر الزمان .وإذا كان هناك سؤال عن علمه تعالى:أهو كلي أم جزئي ؟ فإنّ الجواب:أن يقال: إنّ علم الله عز وجل فوق القسمين وأعلى من الوجهين، وأنّ الكليات والجزئيات والأزمنة المتغيرة والأمكنة المختلفة نسبتها ً جميعا إلى علمه نسبة واحدة .وعلمه عز وجل يختلـف عن علم الإنسان، فهو محيط شامل لكل جزئية في هذا الكون، والعقل لا يجوز بحال من الأحوال أن لا يعلم الله الأشياء الذي هو خلقها وأصل وجودها، قال تعالى:)أَلَا يَعْلمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيف الْخَبِيرُ) سورة الملك: 14 ، ومن الأولى للمسلم أن يعدل عن التقسيمات والتفريعات، وعن الجدل والشبهات، وعن التأويل والتخييل، وغير ذلك مما يثيره الفلاسفة ومن شاكلهم من أهل الكلام، لأن علم الله الخالق أجل من أن يحيط به المخلـوق الـذي علمه يختلف ً تماما عن علم خالقه، ويكفي أن يؤمن المرء بأن الله تعالى يحيط بكل شيء علما، وأنه يعلم الجهر والسر وأخفى، ولا يعـزب عن علمـه شيء في السماوات أو في الأرض، وهو اللطيف الخبير. ( )
ويردّ على زعم الفلاسفة السابق بأن القرآن الكريم أخبر في كثير من الآيات بأن الله عز وجل يعلم ما كان وما هو كائن، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيـف يكـون كقوله تعالى:)وَلوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنهُ) سورة الأنعام: 28 ، والقرآن الكـريم لـم يذكر الجزئيات إلا مقترنة بالزمان سواء في الحاضر أو الماضي أو المسـتقبل، فـالأمم السابقة كقوم نوح وعاد وثمود ولوط كانوا ثم أهلكوا، والرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين يخاطبهم الله تعالى بما ينبئ عن علمه بحضورهم وقت خطابهم .ومـن أخبار المستقبل التي حكاها القرآن الكريم: )سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّـونَ الـدُّبُر) سورة القمر:.45  وقوله:(فِي أَدْنَى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُون) سورة الـروم: ( ) 3- 2 ولقد قدّر الله عزّ وجل مقادير الخلائق كلها، وكتب ذلك قبل أن يخلقها، وعلم ما سيخلقه علماً يتناول جزئيات ما كتب وما خلق .
     ومن الآيات الدالـة على علمه بالأمور الجزئية الواقعة في الكون قوله تعـالى:(وَعِندَهُ مَفاتِحُ الْغيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِـينٍ) سورة الأنعام:59 . وقوله:(اللَّهَ يَعْلمُ مَات َحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا ت َغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقدَارٍ عَالِمُ الْغيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِي) سـورة الرعـد: 9-8 ، وقوله:)لاَ جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُون) سورة النحل 23 ، وقولـه :)يَعْلَـمُ َ خَائِنَـة الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) سـورة غافر: 19، وغير ذلك من الآيات التي تتحدث عـن إحاطة علمه بكل صغيرة وكبيرة( ).
ب -صفة الكلام:
ذهب الفلاسفة إلى أنّ كلام الله تعالى ليس صفة قائمة بذاته تعالى، ولـيس لـه وجود خارج نفوس العباد، فليس لله كلام أنزله بواسطة جبريل عليه السلام على أنبيائـه الذين اصطفاهم برسالاته.
وزعم الفلاسفة أنّ الكلام هو ما يفيض على نفس النبي من العقل الفعَّال، أو من غيره، وأنّ الله تعالى لم يكلم موسى عليه السلام تكليماً، إنما كلمه من سماء عقلـه بمـا- أحدثه في نفسه من كلام، لم يسمعه موسى عليه السلام من خـارج نفسـه .فـالمتكلم عندهم -حقيقة هو النبي، أما الله تعالى فهو متكلم مجازاً بما خلقه في نفس النبـي مـن ألفاظ .فالله لم يتكلم بصوت يسمعه النبي من خارج نفسه، أي لا حقيقـة لكـلام الله فـي الخارج. ( )
ولتوضيح معنى كلام الله عند الفلاسفة ننقل بعض أقوالهم التـي جـاءت فـي مؤلفاتهم ومؤلفات العلماء المطلعين على المذهب الفلسفي.
يقول ابن سـينا:" فوصفـه بكونه متكلما لا يرجع إلى ترديد العبارات، ولا إلى أحاديث النفس والفكر المتخيلة المختلفة التي العبارات دلائل عليها، بل فيضان العلوم منه على لوح قلب النبي بواسطة القلم النقَّاش الذي يعبّر عنه بالعقل الفعال والملك المقرب هو كلامه .فالنبي يتلقى علم الغيب من الحق بواسطة الملك، وقوة التخيل تتلقى تلك وتتصورها بصورة الحروف والأشكال المختلفة، وتجد لوح النفس فارغاً فتـنقش تلـك العبـارات والصور فيه فيسمع منها كلاماً منظوماً، ويرى شخصاً بشرياً فذلك هو الوحي، لأنه إلقاء الشيء إلى النبي بِلا زَمان، فيتصور في نفسه الصافية المُلَقِّي المُلْقَى، كما يتصـور فـي المرآة المجلوة صورة المقابل، فتارة يعبر عن ذلك المنتقش بعبارة العبرية، وتارة بعبارة العرب، فالمصدر واحد والمظهر متعدد، فذلك هو سماع كلام الملائكة ورؤيتها. ( )
يتضح لقارئ أقوال ابن سينا أنه ينكر صفة الكلام لله تعالى كمـا جـاءت فـي الكتاب والسنة، وهو أنه تعالى قد تكلم بصوت وحرف مسموع، وأنّ ابن سـينا يرجـع الوحي والنبوة إلى قوة التخيل لدى النبي، وأن الرسول يسمع أصواتاً من داخل نفسـه لا يتكلـم الله عز وجل لـه مشـافهة كتكليمه لموسى عليه السـلام، ولا بواسـطة الملـك جبريل الذي ينزل بكلامه تعالى على المختار لرسالته، كما حصل للنبي محمد صلى الله عليه وسلم. ( )
وجاء في رسالة)النبوات)لابن سينا:" أن إفاضة العقل الكلي على نفـس النبـي الذي ينتهي إليه التفاضل في الصور المادية، وفيضات العلوم منه على لوح قلب النبـي بواسطة العقل الفعال والملك المقرب، هو كلامه". ( )
ويصوّر ابن قيم الجوزية مذهب الفلاسفة في كلام الله تعـالى فيقـول: مـذهب الفلاسفة المتأخرين أتباع أرسطو- وهم الذين يحكي ابن سينا والفارابي والطوسي قولهم:إنّ كلام الله فيض فاض من العقل الفعَّال علـى النفـوس الفاضـلة الزكيـة بحسـب استعدادها، فأوجب لها ذلك الفيض من تصورات وتصديقات بحسب ما قبلته منه، ولهـذه النفوس عندهم ثلاث قوى، قوة التصور، وقوة التخيل، وقوة التعبير .فتدرك بقوة تصورها من المعاني ما يعجز عنه غيرها، وتدرك بقوة تخيلهـا شـكل المعقـول فـي صـورة المحسوس، فتتصور المعقول صوراً نورانية تخاطبها وتكلمها بكلام تسمعه الأذن، وهـو عندهم كلام الله ولا حقيقة له في الخارج، وإنما ذلك كله من القوة الخيالية الوهمية. قالوا:وربما قويت هذه القوة على إسماع ذلك الخطاب لغيرها، وتشكيل تلك الصور العقلية لعين الرائي، فيرى الملائكة ويسمع خطابهم، وكل ذلك من الوهم والخيال لا في الخارج".( )

حجة الفلاسفة في نفي صفة الكلام:
استدلّ الفلاسفة على نفي صفة الكلام بحجة داحضة وهي:أنّ إثبات صفة الكلام لله تعالى يوجب إما أن يكون كلامه من جنس كلام البشر، أو لا يكون من جنس كلامهم، فإذا كان من جنس كلام البشر كان مشاركاً له من جهة الإمكان والعرضـية، أي كونـه ممكنا ومحلاً للأعراض، وهذا متعذر في حقه تعالى، ويلزم أن يكون الله تعالى جرماً لأن الكلام غير متصور دون حروف وأصوات، والحروف عبارة عن تقطيـع الأصـوات، وهذا لا يكون إلا للجرم، والصوت لا يكون إلا عن احتكاكات الأجرام .وإذا كان كلامـه ليس من جنس كلام البشر فهو غير معقول، وغير المعقول محال. ( )
وإذا قيل للفلاسفة إنّ نفي صفة الكلام يقتضي إنكار أمره ونهيه عز وجل، وهذا يؤدي إلى عدم تحقيق معنى الطاعة له تعالى، وعدم صحة الرسـالة.قـالوا:إن معنـى الطاعة لا يتحقق عن طريق الأمر والنهي، بل تستند إلى التسخير على وجه الطواعيـة والإذعان على وفق الإرادة والاختيار، وأن تسخيره تعالى للمخلوقات وإبداعه للكائنـات دون آلات وأدوات، وتقليبه الخلائق بين المرغبات والمنفرات على وجه الطواعية حالـة تنزل منزل القول بالأمر والنهي وإلى ذلك أشار الله تعالى بقوله:(ثمَّ اسْـتَوَى إِلَـى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَـائِعِين) سـورة: فصلت11، فخطابه للسماء والأرض متعذر وكذلك قولهما، وليس ذلك منهما إلا علـى سبيل الانقياد والتسخير. ( )


المناقشة:-
تتضمن المناقشة النقاط التالية:
أولاً:إثبات صفة الكلام لله عز وجل:
الكلام من صفات الكمال، فمن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم، كمن يعلم ويسمع فهـو أكمل ممن ليس كذلك، ومن يتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن يكون الكلام لازمـاً لذاتـه، ليس له عليه قدرة ولا له فيه مشيئة واختيار .والكلام يكون صفة كمال للمتكلم إذا كان الكلام قائماً به، صادراً عنه بمشـيئته وقدرته، لا كونه أمراً مباينا له منفصلاً عنه. ( )
ولقد جاءت نصوص الكتاب والسنة تقرر صفة الكلام لله، وتثبت أنه متكلم حقيقة بكلام حقيقي هو صفة له، وهذه النصوص لا يملك المسلم أمامها إلا الإيمان بما أثبتتـه دون تأويل أو تكييف أو تمثيل، ولا يستطيع أن يعطلها أو يحرفها، وإلا دخل إيمانه مـا يشوبه ويكدره، والقرآن الكريم زاخر بالآيات التي تثبت أنه تعالى تكلَّم ويـتكَّلم، وكلَّـم ويُكَلِّم وقال ويقول، ونادى وينادي، وأخبر وأنبأ، وغير ذلك من الألفاظ التي تدل صراحةً على أنه تعالى متكلم بكلام حقيقي. ( ) ومن هذه الآيات قوله تعالى:)وَكلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تكْلِيمًا) سورة النسـاء: 164، وقوله:)وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَـالَ رَبِّ أَرِنِـي أَنظُـرْ إِلَيْـك) سـورة الأعراف:143 وقوله:)قَالَ يا موسى إِنِّي اصْطَفَيْتكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلامِي) الأعراف:144، وقوله:)وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّـى يَسْـمَعَ كَلَامَ اللَّهِ) سورة التوبة:6، وقوله:)وَإِذ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَليفةً) سورة البقرة:30، وقـولـه): وَإِذ قَالَ اللهُ يا عيسى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) سورة المائدة: 116 ، وقول :(وَإِذ قُلْنَا لِلْمَلَائِكةِ اسْجُدُوا لِـآدَمَ فَسَجَدُوا) سورة البقرة 34 ، وقوله):ْ وَإِذ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ َ فقُلْنَا اضْـرِبْ بِعَصَـاكَ الحَجَر) سورة البقرة: 60 ، وقوله:(وَإِذ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنْ ائْتِ الْقوْمَ َ الظَّالِمِين) سورة الشعراء: 10 ، وقولـه:)وَنَادَيْنَـاهُ أَنْ يَـا إِبْـرَاهِيمُ قَـدْ صَـدَّقتَ الرُّؤْيَـا) سـورة الصافات:105 -104، وقوله:(قلْ لا تعْتَذِرُوا لنْ نؤْمِنَ لكمْ قدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِـنْ أَخْبَـارِكم) سـورة التوبـة943 ، وقوله):إِلَى رَبِّكمْ مَرْجِعُكمْ فيُنبِّئُكُمْ بِمَا كنْتمْ تَعْمَلـونَ) سورة: الزمر.7
ومن الأحاديث الشريفة:ما رواه عدي بن حاتم رضي الله عنه عن رسـول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"وما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله يوم القيامة ليس بين الله وبينه ترجمان. ( ) ومن ها: ما رواه عبد الله بن أنيس رضي الله عنـه قـال سـمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعـد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان"
.

هناك تعليق واحد: