السبت، 15 أغسطس 2015

الرد عل الءشعرية الصوفية=

سعيد فودة من مدرسة السقاف وعلى خطاه
من يطالع كتب سعيد فودة يجد التشابه الكبير بين كتاباته وكتابات السقاف من حيث الهجوم على عقيدة السلف, ووسمها بالتجسيم والتشبيه, والطعن في علماء السنة وخصوصاً الحنابلة منهم, وبالأخص شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله, ووسمه بالمجسِّم ومحاولة إيراد المتشابه من كلامه, والاقتطاع منه, ومحاولة ليّ كلامه وقلبه ليتسنى له الطعن فيه وتنقيصه.
وقد كان فودة إذا ذكر السقاف في كتبه لا يذكره إلا بلقب السيد!, والسقاف هو الذي أشار على فودة بتعقب شيخ الإسلام في كتابه "بيان تلبيس الجهمية", وهو الذي أعاره الكتاب, وهذا دليل على العلاقة الوطيدة التي كانت بينهما.
قال نذير العطاونة  في كتابه "إحكام التقييد على أغاليط سعيد " (ص75): وأما كتاب سعيد "الكاشف الصغير عن عقائد ابن تيمية"  الذي طوله وعرضه وأعطاه فكرة صناعته سيدي السقاف! حتى أعاره كتاب ابن تيمية "التأسيس".. إلى أن صرح السقاف بما كان يخفيه في نفسه, وهاجم أبا الحسن الأشعري ورماه بالتجسيم, وهاجم الأشاعرة في مسائل عدة, فانقلب فودة على سيده!  وأصبح يشن الهجوم عليه.
قال فودة في كتابه "بيان الزائف" (ص19):
حسن السقاف ألف في عام 1995 ما سماه شرحاً للعقيدة الطحاوية؛ فقمت بكتابة رد عليه آنذاك وأعطيته إياه لتنبيهه إلى ما في كلامه من مغالطات, وكنت أحسن الظن به في ذلك الزمان, وحسبت أن كلامنا معه سوف يدفعه إلى إعادة النظر كما يفعل أصحاب المقاصد السليمة, وقد أبى ذلك وأصر على ما هو فيه, وقمت بكتابة شرح موسع للعقيدة الطحاوية آنذاك, وقلت للإخوة الذين حضروا الدرس إن حسن السقاف سوف يزداد في مخالفته لأهل السنة, وسوف ينكر الكلام النفسي, وينكر الكسب, ويقول بخلق أفعال العباد, وغير ذلك, ويصرح بمخالفته للأشاعرة.
وهم جميعاً من مدرسة جهمي العصر الكوثري صاحب الخيانات العلمية والطعون الجلية في علماء الأمة؛ فلا غرو أن يهدي سعيد فودة كتابه "الكاشف الصغير عن عقائد ابن تيمبة" لروح سلفه الكوثري.
وهنا لا بد من لفت النظر إلى التشابه بين هذه الفئة التي تنتسب إلى أبي الحسن الأشعري رحمه الله أمثال الكوثري والحبشي والسقاف وسعيد فودة وغيرهم([1]) في تعمد التحريف والتزييف, وفي الجراءة على الطعن والتكفير في حق علماء السنة , وبالذات منهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة.
سعيد فودة يفتخر بمساعدة السقاف في حلقات قناة المستقلة
قال فودة في كتابه "موقف أهل السنة من الخلاف بين الغماري والسقاف" (ص11)، متفاخراً ومحاولاً إخفاء إعجابه بنفسه في مساعدة حسن السقاف في المناظرة التي حصلت على قناة المستقلة حول شيخ الإسلام: وقد فوجئت قبل سنتين أو ثلاث يناقش الوهابية على قناة فضائية في موضوع ابن تيمية، وحرصاً على إبداء سلامة النية طلبت من بعض الإخوة قبيل المناقشة أن يعرض على السقاف المساعدة إن احتاجها خاصة أنني قد قمت بكتابة كتاب موسع عن مذهب ابن تيمية, وأعرف مذهبه تماماً؛ فلم أكن أحب أن يتم الرد على ابن تيمية بصورة ضعيفة بل بشكل علمي رصين معتمد على فهم تام لمذهبه لا كما فعل السقاف, ولم يكن الجواب بالقبول وتعلل بضيق الوقت, ولما سافر وبدأ في الحلقة الأولى وأظهر من التهافت ما لا مزيد عليه، ظهر عليه الوهابية فلم يكن قادراً على مدافعتهم وجدالهم فتضايق كثيراً العديد من الناس .. وخوفاً من هذا المحظور وحرصاً على عدم وقوع التهافت أكثر مما بدا اتصل بي العديد من المشايخ وطلبوا مني بإلحاح أن اتصل به وأقوم بإعطائه من المعلومات والأساليب الجدلية ما به يستد حاله ويتقوم ركابه .. وفعلاً صرت أتصل به يومياً ودام ذلك عدة أيام وأعطيته من الملاحظات والمعلومات ما ظهر به على خصومه وأحرجهم في مواضع.
الكذبات والمغالطات التي ذكرها السقاف
في مناظرة المستقلة حول شيخ الإسلام
نقول: هنيئا لسعيد فودة هذا الفخر بإمداد السقاف بما ذكره من خيانات علمية. وسوف يجد القاريء المنصف أوجه للتشابه بين ما ذكره السقاف من كذب وتدليس على شيخ الإسلام وبين ما ذكره سعيد فودة في كتبه.
1-   أقر السقاف بتكفير شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله, وذكر معنى التكفير عنده أنه لا يستحق دخول الجنة, و أشار سعيد فودة لتكفير شيخ الإسلام في كتبه كما سيأتي بيانه.
2-   زعم كذباً وتدليساً أن شيخ الإسلام يكفر الأشاعرة مع أن شيخ الإسلام عدهم من أهل السنة, ونص في أكثر من موضع على عدم كفرهم.
3-       ذكر أن شيخ الإسلام لم يتزوج لأنه ربما قد يكون تزوج من الجن.
4-   كذب على شيخ الإسلام وزعم أنه لم يحج إلى بيت الله الحرام مع أن المترجمين لشيخ الإسلام ذكروا أنه حج كما ذكر ذلك ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" (13/352)، وكذلك ذكر ذلك ابن عبد الهادي المقدسي في كتابه "العقود الدرية"؛ بل ذكر شيخ الإسلام في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم" (1/429) أنه حج, وقد ألف في رحلته تلك كتابه المناسك.
5-       زعم السقاف أنه أعلم من ابن تيمية بعشرين ألف مرة.
6-   نقل السقاف كلام ابن القيم رحمه الله في كتابه اجتماع الجيوش الإسلامية (1/55): في أن لله في كل سماء كرسي. وزعم السقاف أنه نقله عن شيخه ابن تيمية في ذلك الموضع، وعند الرجوع إلى الكتاب في ذلك الموضع وجدنا لا ذكر لشيخ الإسلام لا من قريب ولا من بعيد,  وأوهم السقاف المشاهدين أن ابن القيم أقر ذلك مع أنه ذكره بصيغة التضعيف - وروي عن سعيد مرسلا وموصولاً وهي من صيغ التضعيف عند العلماء بل وحكم عليه بالإرسال, والمرسل من أقسام الضعيف عند العلماء.
7-   نسب السقاف إلى ابن تيمية أنه يقول: أن الله يقعد محمداً على العرش، مع أن شيخ الإسلام قد حكم بالوضع على تلك الأحاديث. قال في "درء التعارض" (3|19): وقد صنف القاضي أبو يعلى كتابه في إبطال التأويل رداً لكتاب ابن فورك، وهو وإن كان أسند الأحاديث التي ذكرها, وذكر من رواها ففيها عدة أحاديث موضوعة كحديث الرؤية عياناً ليلة المعراج ونحوه, وفيها أشياء عن بعض السلف رواها بعض الناس مرفوعة كحديث قعود الرسول r على العرش، رواه بعض الناس من طرق كثيرة مرفوعة وهي كلها موضوعة, وإنما الثابت أنه عن مجاهد وغيره من السلف وكان السلف والأئمة يروونه ولا ينكرونه ويتلقونه بالقبول. وقال في "منهاج السنة" (2/228): وأما قوله إنه يفضل عنه العرش من كل جانب أربع أصابع فهذا لا أعرف قائلا له ولا ناقلا. وهذه الشبهة ذكرها فودة في كتابه "الكاشف".
8-   نسب إلى البخاري رحمه الله كذباً وتدليساً أنه يقول بخلق القرآن مع أن البخاري رد ذلك في أكثر من موضع في كتابه خلق أفعال العباد.
9-   نقل السقاف  كلام ابن حجر الذي نقله عن مسلمة في أن البخاري يقول بخلق القرآن، وأوهم المستمعين أن ابن حجر أقر بذلك وبتر النص؛ فقد قال ابن حجر بعد ذلك: إنما أوردت كلام مسلمة هذا لأبين فساده, ثم دافع عن الإمام البخاري في هذه المسألة([2]).
10- نسب إلى شيخ الإسلام أنه يعتقد أن الله في صورة شاب أمرد جعد الشعر، مع أن شيخ الإسلام أورد ما أورده بعض العلماء لما ذكروا هذا الحديث واستدلوا به أن يؤخذ منه صفة لله، فرد عليهم شيخ الإسلام هذا القول وبين أنهم مخطئون لأنها رؤية منامية .. وقد أقر ذلك البوطي في مداخلته.
11- نقل السقاف عن شيخ الإسلام أنه وصف الأشاعرة بالارتداد فقال السقاف ما نصه نقلاً عن شيخ الإسلام: فمن قال أنا شافعي الشرع أشعري الاعتقاد قلنا له: هذا من الأضداد لا بل من الارتداد. وعند الرجوع إلى  "مجموع الفتاوى" (4/177)، وجدنا أنه ليس من كلام ابن تيمية بل هو كلام  شيخ الحرمين أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي في كتابه الذي سماه "الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول إلزاما لذوي البدع والفضول".
12- نسب السقاف إلى شيخ الإسلام أنه يقول: الله جسم لا كالأجسام, وعند الرجوع إلى النص في "بيان تلبيس الجهمية" (1/100)، وجدنا أنه ليس من كلام شيخ الإسلام ولكنه من كلام بعض المتكلمين. قال رحمه الله: ثم المتكلمون من أهل الإثبات لما ناظروا المعتزلة تنازعوا في الألفاظ الاصطلاحية فقال قوم العلم والقدرة ونحوهما لا تكون إلا عرضاً وصفة حيث كان، فعلم الله وقدرته عرض. وقالوا أيضاً: إن اليد والوجه لا تكون إلا جسماً، فيد الله ووجهه كذلك، والموصوف بهذه الصفات لا يكون إلا جسماً فالله تعالى جسم لا كالأجسام، قالوا وهذا مما لا يمكن النزاع فيه. وهذه شبهة أشار إليها فودة في كتابه "الكاشف".
13-  حرف السقاف حديث النبي r الذي رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود t قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله r فقال: يا محمد! إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع والأرضين على إصبع والشجر على إصبع والماء والثرى على إصبع وسائر الخلائق على إصبع فيقول أنا الملك فضحك النبي r حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر ثم قرأ رسول الله r: ]وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ[ [الزمر:67]. فزعم السقاف أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحك إنكارا للحبر, مع أن الحديث واضح ثابت تصديقاً للحبر. بل قال النووي: وظاهر السياق أنه ضحك تصديقا له بدليل قراءته الآية التي تدل على صدق ما قال الحبر والأولى في هذه الأشياء الكف عن التأويل مع اعتقاد التنزيه([3]).
14- نسب السقاف إلى شيخ الإسلام تهمة التجسيم والتشبيه كذباً وتدليساً, وقد برأه الشيخ الدكتور البوطي في مداخلته, وبين وفقه الله بعد تتبع أنه لم يقف له على نص شبه فيه أو جسم. وهذه أكبر مسألة دندن عليها فودة في كتابه "الكاشف".
15-   زعم كذباً وتدليساً أن شيخ الإسلام طعن في آل البيت وفي عمر وعثمان وعلي وفاطمة رضي الله عنهم.
16- زعم كذباً وتدليساً أن شيخ الإسلام يثبت الجنب لله، مع أن شيخ الإسلام أنكر ذلك في أكثر من موضع في كتبه([4])، وهذه شبهة أشار إليها فودة في كتابه "الكاشف".
17- نقل السقاف كلام شيخ الإسلام الذي ذكره في "بيان تلبيس الجهمية" (1/109): وإذا كان كذلك فاسم المشبهة ليس له ذكر بذم في الكتاب والسنة ولا كلام أحد من الصحابة والتابعين. ثم شغب على هذا الكلام وادعى أن شيخ الإسلام مشبه وأنه لا ينكر تشبيه الله بخلقه, وقد بتر كلام شيخ الإسلام بعد ذلك وهو قوله: ولكن تكلم طائفة من السلف مثل عبد الرحمن ابن مهدي ويزيد بن هارون وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ونعيم بن حماد وغيرهم بذم المشبهة، وبينوا المشبهة الذين ذموهم أنهم الذين يمثلون صفات الله بصفات خلقه، فكان ذمهم لما في قولهم من مخالفة الكتاب والسنة إذ دخلوا في التمثيل، إذ لفظ التشبيه فيه إجمال واشتراك وإيهام بخلاف لفظ التمثيل الذي دل عليه القرآن ونفى موجبه عن الله عز وجل. وهذه مسألة دندن عليها فودة في كتبه.
18- زعم أن شيخ الإسلام قال: ولو قد شاء لاستقر على ظهر بعوضة, وعند الرجوع إلى النص كما بيان تلبس الجهمية (2/157) وجدنا أنه ليس من كلام شيخ الإسلام ولكن من قول الدارمي في نقضه على البشر المريسي, وكلام الدارمي ليس موضع تقرير بل هو افتراض، فهو يقول أن الله مستغن عن العرش, وهو سبحانه يفعل ما يشاء ثم ذكر هذا الافتراض. وغير ذلك من المسائل, فهل هذا ما أمد به سعيد فودة السقاف

هل يوثق بعلم وأمانة سعيد فودة؟

قال فودة في كتابه "الموقف" (ص15): ومنهجنا العام .. أولا: الالتزام عند مناقشة أحد المخالفين بذكر كلامه كما أراد هو، ولن نكتفي باقتطاع جزء من  عباراته حتى لا يخيل إلى القاريء أننا شوهنا كلامه .. ويعرف أننا لم نظلمه ولم ننسب إليه ما لم يقله ..

قلت: فهل التزم سعيد فودة بما ادعاه؟ إليك البيان:


أولاً: حرف فودة كلام الإمام أبي حنبفة في كتابه "الوصية" في قوله: ونقر بأن الله تعالى على العرش استوى من غير أن يكون له حاجة واستقر عليه .. فحرف كلامه إلى: واستقرار عليه!  

قال فودة في "الفرق العظيم" (ص21): .. ولكن محقق كتاب "الوصية" الأستاذ محمد عوينة، بنشر دار ابن حزم أورد النص كما يلي: نقر بأن الله استوى على العرش من غير أن يكون له حاجة واستقر عليه، مع العلم أنه نفسه قد أورد صورة المخطوطة في مقدمة الكتاب والعبارة واضحة بما لا يقبل الشك كما أثبتناه أعلاه! فهكذا يثبت أتباع السلفية المعاصرة وهم ورثة المجسمة نصوص العلماء, وأنا أتعجب كيف أجاز هذا المحقق لنفسه أن يورد النص هكذا مع وضوح المخطوطة على خلافه! ترى هل يفعلون ذلك ليحرفوا النص ليجعلوه خادماً لعقيدة المجسمة .. والعجيب أنني رأيت نفس التحريف في الطبعة المصرية بنشر المكتبة الأزهرية للتراث, وقد كتبوا على غلافها بتحقيق الكوثري, وأنا أستبعد أن يكون العلامة الكوثري قد ترك هذه العبارة من دون تعليق ونقد قوي ..

قلت: اعترف بتحريفه للنص مع عدم اطلاعه على المخطوطة إلا من الصورة المعروضة في أول كتاب المحقق وطعن في أمانته, وكابر حتى اتهم المكتبة الأزهرية بتعمد التحريف, فهل هذا هو المنهج العلمي لإثبات لفظة أو نفيها؛ وإصدار الأحكام والطعن في النيات من غير تثبت أو تحقيق أو الوقوف على المخطوط؟ فما الفرق بين فودة والسقاف والحبشي في ذلك، فقد استحيى الكوثري أن يحرفها وتجرأ فودة على تحريفها.

ثانياً: زعم المعترض في "كاشفه" (ص39) أن شيخ الإسلام أبطل كل الأدلة العقلية التي اعتمد عليها العلماء من سائر الفرق في إثبات وجود الله ؛ فلا يوجد دليل عقلي عند ابن تيمية على وجود الله، كذا قال.

قلت: وهنا أدع الحكم للقاريء.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ومن العجب أن أهل الكلام يزعمون أن أهل الحديث والسنة أهل تقليد ليسوا أهل نظر واستدلال, وأنهم ينكرون حجة العقل, وربما حكي إنكار النظر عن بعض أئمة السنة, وهذا مما ينكرونه عليهم.

فيقال لهم: ليس هذا بحق؛ فإن أهل السنة والحديث لا ينكرون ما جاء به القرآن هذا أصل متفق عليه بينهم, والله قد أمر بالنظر والاعتبار والتفكر والتدبر في غير آية, ولا يعرف عن أحد من سلف الأمة, ولا أئمة السنة وعلمائها أنه أنكر ذلك، بل كلهم متفقون على الأمر بما جاءت به الشريعة من النظر والتفكر والاعتبار والتدبر وغير ذلك, ولكن وقع اشتراك في لفظ "النظر والاستدلال" ولفظ "الكلام"؛ فإنهم أنكروا ما ابتدعه المتكلمون من باطل نظرهم وكلامهم واستدلالهم؛ فاعتقدوا أن إنكار هذا مستلزم لإنكار جنس النظر والاستدلال,  وهذا كما أن طائفة من أهل الكلام يسمى ما وضعه أصول الدين, وهذا اسم عظيم والمسمى به فيه من فساد الدين ما الله به عليم. فإذا أنكر أهل الحق والسنة ذلك.

قال المبطل: قد أنكروا أصول الدين, وهم لم ينكروا ما يستحق أن يسمى أصول الدين, وإنما أنكروا ما سماه هذا أصول الدين, وهي أسماء سموها هم وآباؤهم بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان.

فالدين ما شرعه الله ورسوله, وقد بين أصوله وفروعه, ومن المحال أن يكون الرسول قد بين فروع الدين دون أصوله كما قد بينا هذا في غير هذا الموضع، فهكذا لفظ النظر والاعتبار والاستدلال .. إلى أن قال رحمه الله: والعجب أن من هؤلاء من يصرح بأن عقله إذا عارض الحديث لا سيما في أخبار الصفات حمل الحديث على عقله, وصرح بتقديمه على الحديث, وجعل عقله ميزاناً للحديث. فليت شعري هل عقله هذا كان مصرحاً بتقديمه في الشريعة المحمدية فيكون من السبيل المأمور باتباعه أم هو عقل مبتدع جاهل ضال حائر خارج عن السبيل؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله([5]).

وقال  كذلك رحمه الله: أما إثبات الصانع فطرقه لا تحصى بل الذي عليه جمهور العلماء أن الإقرار بالصانع فطري ضروري مغروز في الجبلة .. ثم بعد أن قرر ذلك، قال: وأما بالعقل فيعلم أن العالم لو كان قديماً لكان إما واجباً بنفسه, وهذا باطل كما تقدم التنبيه عليه من أن كل جزء من أجزاء العالم مفتقر إلى غيره, والمفتقر إلى غيره لا يكون واجباً بنفسه, وإنما واجباً بغيره فيكون المقتضى له موجباً بذاته([6]).

ثالثاً: قال المعترض في "كاشفه" عن شيخ الإسلام أنه يقول: إن الله محدود من جميع الجهات (ص207), وقال أيضاً: (ص227): الله محدود حداً مطلقاً من سائر الجهات لا من جهة التحت فقط.

        قلت: ما نسبه إلى شيخ الإسلام هو من إلزاماته الباطلة؛ وهي افتراء وتدليس، فشيخ الإسلام  قد قرر عقيدة أهل السنة والجماعة أن الله محيط بكل شيء وفوقه.

قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: والمقصود أنه إذا كان الله أعظم وأكبر وأجل من أن يقدر العباد قدره أو تدركه أبصارهم أو يحيطون به علماً, وأمكن أن تكون السماوات والأرض في قبضته لم يجب - والحال هذه - أن يكون تحت العالم أو تحت شيء منه؛ فإن الواحد من الآدميين إذا قبض قبضة أو بندقة أو حمصة أو حبة خردل ,  وأحاط بها بغير ذلك لم يجز أن يقال: إن أحد جانبيها فوقه لكون يده لما أحاطت بها كان منها الجانب الأسفل يلي يده من جهة سفلها, ولو قدر من جعلها فوق بعضه بهذا الاعتبار لم يكن هذا صفة نقص بل صفة كمال.

وكذلك أمثال ذلك من إحاطة المخلوق ببعض المخلوقات كإحاطة الإنسان بما في جوفه, وإحاطة البيت بما فيه, وإحاطة السماء بما فيها من الشمس والقمر والكواكب؛ فإذا كانت هذه المحيطات لا يجوز أن يقال: إنها تحت المحاط, وأن ذلك نقص مع كون المحيط يحيط به غيره؛ فالعلي الأعلى المحيط بكل شيء الذي تكون الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه كيف يجب أن يكون تحت شيء مما هو عال عليه أو محيط به ويكون ذلك نقصاً ممتنعاً. وقد ذكر أن بعض المشايخ سئل عن تقريب ذلك إلى العقل فقال للسائل: إذا كان باشق كبير- نوع من الطيور -, وقد أمسك برجله حمصة أليس يكون ممسكاً لها في حال طيرانه, وهو فوقها ومحيط بها؛  فإذا كان مثل هذا ممكناً في المخلوق فكيف يتعذر في الخالق([7]).

رابعاً: مسألة ما ادعاه المعترض على شيخ الإسلام أنه يقول بجواز مماسة الله للنجاسات والشياطين([8]).       

هذا المعترض لا يتورع عن الكذب والتدليس، فهو يقتطع من كلام ابن تيمية ويفسره بما يحلو له, وهذه المسألة من هذا القبيل؛ فأنا أسوق كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كاملاً, وأدع للقاريء الكريم الحكم, وهل يفهم ما ادعاه؟!.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فإن قيل ما ذكره الإمام أحمد,  وقدرتموه من امتناع كونه في العالم غير مباين ولا مماس معارض بما يذكره المؤلف عن أهل الإثبات من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم القائلون بأنه فوق العرش؛ فإنهم يقولون هو فوق العرش غير مباين, ولا مماس فما الفرق بين الموضعين؟

قيل: هؤلاء الذين يقولون هذا إنما يقولونه لأنهم يقولون أنه فوق العرش,  وليس بجسم وهذا قول الكلابية وأئمة الأشعرية وطوائف ممن اتبعهم من أهل الفقه وغيرهم, وطوائف كثيرة من أهل الكلام والفقه يقولون: بل هو مماس للعرش. ومنهم من يقول: هو مباين له.

ولأصحاب أحمد ونحوهم من أهل الحديث والفقه والتصوف في هذه المسألة ثلاثة أقوال:  منهم من يثبت المماسة كما جاءت بها الآثار. ثم من هؤلاء من يقول: إنما أثبت إدراك اللمس من غير مماسة للمخلوق بل أثبت الإدراكات الخمسة له, وهذا قول أكثر الأشعرية والقاضي أبي يعلى وغيره. فلهم في هذه المسألة قولان كما تقدم بيانه , وعلى هذا فلا يرد السؤال.

ومنهم من أصحاب أحمد وغيره: من ينفي المماسة.

ومنهم من يقول لا أثبتها ولا أنفيها؛ فلا أقول هو مماس مباين ولا غير مماس ولا مباين، وهذه المباينة التي تقابل المماسة أحق من المباينة التي تقابل المحايثة. فإن هذه العامة متفق عليها عند أهل الإثبات, وهي تكون للجسم مع الجسم, وللجسم مع العرض, وأما التي تقابل المماسة؛ فإنها لا تكون له مع العرض والعرض يحايث الجسم فلا يباينه المباينة العامة.

وأما الخاصة فلا يقال فيها مباينة ومماسة فامتناع خلوه عن المباينة العامة والمحايثة أولى. فإن المباينة الخاصة والمماسة نوعان للمباينة العامة ؛ فإذا امتنع رفع النوع فامتناع رفع الجنس أولى.

وليس هذا موضع الكلام في هذه الأقوال, ولكن نذكر جواباً عاماً فنقول: كونه فوق العرش ثبت بالشرع المتواتر, وإجماع سلف الأمة مع دلالة العقل ضرورة ونظراً أنه خارج العالم؛ فلا يخلو مع ذلك إما أن يلزم أن يكون مماساً أو مبايناً أو لا يلزم؛  فإن لزم أحدها كان ذلك لازماً للحق، ولازم الحق حق، وليس في مماسته للعرش ونحوه محذور كما في مماسته لكل مخلوق من النجاسات والشياطين وغير ذلك؛ فإن تنزيهه عن ذلك إنما أثبتناه لوجوب بعد هذه الأشياء عنه, وكونها ملعونة مطرودة لم  نثبته لاستحالة المماسة عليه، وتلك الأدلة منتفية في مماسته للعرش ونحوه كما روي في مس آدم وغيره, وهذا جواب جمهور أهل الحديث وكثير من أهل الكلام. وإن لم يلزم من كونه فوق العرش أن يكون مماساً أو مبايناً؛ فقد اندفع السؤال.

فهذا الجواب هنا قاطع من غير حاجة إلى تغيير القول الصحيح في هذا المقام, وبين من قال: إنه فوق العرش ليس بمباين كما يقوله من الكلابية والأشعرية من يقول, ومن اتبعهم من أهل الفقه والحديث والتصوف والحنبلية وغيرهم إن كان قولهم حقاً فلا كلام, وإن كان باطلاً فليس ظهور بطلانه موجود قائم بنفسه أنه فيه ليس بمماس, ولا مباين له، وأنه ليس هو فيه ولا هو خارجا عنه([9]).

قلت: فيتبين  لك من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما يلي:

1-       يبحث اختلاف العلماء في مسألة علو الله على عرشه بمماسة أو غير مماسة.

2-   يقرر رحمه الله أن علو الله على عرشه لا يخلو إما أن يكون بمماسة أو غير مماسة أو لا يلزم. فإن قلنا أنه سبحانه على عرشه بمماسة؛ فلا محذور في ذلك لأن العرش أكبر مخلوقات الله وأعظمها ولا محذور في مماسته له. فالعرش ليس شيئا مستهجنا كالمخلوقات المستهجنة المطرودة كالشياطين والنجاسات؛ فالعرش شيء عظيم بل هو أعظم المخلوقات. وهذا التنزيه لوجوب بعد هذه الأشياء المستهجنة عنه سبحانه وتعالى. وإذا قلنا:  أنه لا يلزم أنه مماس أو غير مماس؛ فلا حاجة للجواب لأنه اندفع السؤال.

3-   قد قرر رحمه الله تنزيه الله عما ذكره هذا المعترض في كتابه "بيان تلبيس الجهمية", ولا شك أن المعترض اطلع على كلامه فجل رده "الكاشف" على كتاب شيخ الإسلام المذكور, ولكن سوء القصد والتعلق بأي كلمة.

قال شيخ الإسلام – رحمه الله - : فسلك الإمام أحمد وغيره مع الاستدلال بالنصوص وبالإجماع مسلك الاستدلال بالفطرة والأقيسة العقلية الصحيحة المتضمنة للأولى, وذلك أن النجاسات مما أمر الشارع باجتنابها والتنزه عنها, وتوعد على ذلك بالعقاب كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:  ((تنزهوا عن البول فإن عامة عذاب القبر منه)).

وهذا مما علم بالاضطرار من دين الإسلام, وهي مما فطرت القلوب على كراهتها والنفور عنها, واستحسان مجانبتها لكونها خبيثة؛ فإذا كان العبد المخلوق الموصوف بما شاء الله من النقص والعيب الذي يجب تنزيه الرب عنه لا يجوز أن يكون حيث تكون النجاسات, ولا أن يباشرها ويلاصقها لغير حاجة, وإذا كان لحاجة يجب تطهيرها ثم إنه في حال صلاته لربه يجب عليه التطهير؛  فإذا أوجب الرب على عبده في حال مناجاته أن يتطهر له وينزه عن النجاسة كان تنزيه الرب وتقديسه عن النجاسة أعظم وأكثر للعلم بأن الرب أحق بالتنزيه عنه كما ينزه عن غيره([10]).

وقارن بين كلام شيخ الإسلام وكلام الرازي - أسوة المعترض - الذي يقول:  إنه ليس في العقل ما يوجب تنزيه الرب سبحانه وتعالى عن النقائص,  ولم يقم على ذلك دليل عقلي أصلا!

قال  ابن القيم - رحمه الله - : كما صرح به الرازي وتلقاه عن الجويني وأمثاله قالوا وإنما نفينا النقائص عنه بالإجماع, وقد قدح الرازي وغيره من النفاة في دلالة الإجماع, وبينوا أنها ظنية لا قطعية؛ فالقوم ليسوا قاطعين بتنزيه الله عن النقائص بل غاية ما عندهم في ذلك الظن! فيا للعقلاء ويا لأولي الألباب كيف تقوم الأدلة القطعية على نفي صفات كماله ونعوت جلاله وعلوه على خلقه, واستوائه على عرشه, وتكلمه بالقرآن حقيقة وتكليمه لموسى حقيقة بكلامه القائم به, ورؤية المؤمنين له بأبصارهم عياناً من فوقهم في الجنة حتى تدعي أن الأدلة السمعية الدالة على ذلك قد عارضها صريح العقل, وأما تنزيهه عن العيوب والنقائص فلم يقم عليه دليل عقلي([11]).

خامساً: في صفحة (24) من "كاشفه"  نسب إلى شيخ الإسلام أنه يثبت لله الجنب فقال: هذا هو حاصل قول ابن تيمية بالضبط, وإن لم يصرح به بهذا الوضوح.

قلت: هكذا هي الأمانة العلمية عند فودة! و قد أنكر شيخ الإسلام من أثبت الجنب لله من قوله تعالى: ]أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ[ [الزمر:56] ([12]).

سادساً: حاول أن يربط بين مذهب هشام بن الحكم المبتدع المشبه([13]), وبين أقوال شيخ الإسلام كذباً وتدليساً بقوله (ص20) من "كاشفه": سترى أن معظم ما نقله الأشعري عن هذا المجسم المشهور فابن تيمية يقول بكثير منه صراحة, وينسبه إلى السلف الصالح إلا إنني لم أجد له نصاً يقول فيه بأن طوله مثل عرضه مثل عمقه, ولا أنه كالسبيكة الصافية فقد عرفنا الآن سلفه.

سابعاً: دلس على القراء أن شيخ الإسلام يقول: أن الله له طول وعرض وارتفاع، هكذا زعم([14]).

قلت: ونحن نطالبه بهذا النص من غير وضع لإلزاماته الباطلة, وسوف يأتي توضيح مسألة التجسيم التي نسبها لشيخ الإسلام.

ثامناً: قال (ص50) من "كاشفه": فإنك تعلم أن ابن تيمية لا يريد بالرؤية إلا الانفعال الحاصل في شبكية العين نتيجة ارتطام شعاع منعكس عن المرئي بها, وكذلك بالنسبة إلى الله، كذا قال.

قلت: وهذا كذب على شيخ الإسلام ومن إلزاماته الباطلة.

تاسعاً: قال في "نقض التدمرية" (ص9): وابن تيمية لا ينفي التشبيه! وإذا ورد في بعض كلامه نفي التشبيه فإنما يريد يه التشبيه التام المساوي للتمثيل ولا يعرف كثير من أتباعه هذا الفرق عند ابن تيمية بين التشبيه والتمثيل.

قلت: فهو يحاول أن يلصق التشبيه بشيخ الإسلام، أي مشابهة الله لخلقه كما مر معنا حين حاول أن يربط بين كلام شيخ الإسلام وبين مذهب هشام بن الحكم المبتدع المشبه, وهي نفس الشبهة التي دندن حولها السقاف في قناة المستقلة.

قال في "تهذيب شرح السنوسية" (ص38) عن شيخ الإسلام: وادعى أنه لم تجتمع الأمة على أن الله تعالى لا يشابه المخلوقات من جميع الوجوه، بل ادعى أنه لم يرد نفي التشبيه في الشريعة وأنه لم يذم أحد التشبيه.

 ولتوضيح هذه المسألة نقول:

قرر شيخ الإسلام  أنه ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك يشتركان فيه, وقدر مختص يتميز به كل واحد عن الآخر فيشتبهان من وجه ويفترقان من وجه. فالحياة مثلا وصف مشترك بين الخالق والمخلوق، لكن حياة تختص به فهي حياة كاملة من جميع الوجوه لم تسبق بعدم ولا يلحقها فناء؛ بخلاف حياة المخلوق فإنها حياة ناقصة مسبوقة بعدم متلوة بفناء([15]). ويقال أيضاً: الاشتراك في الأسماء والصفات لا يستلزم تماثل المسميات والموصوفات كما تقرر سابقاً، ثم إنه منقوض بما أثبتوه من صفات الله، فإنهم يثبتون لله تعالى الحياة والعلم والقدرة والإرادة والكلام والسمع والبصر، مع أن المخلوق متصف بذلك؛ فإثباتهم هذه الصفات لله تعالى مع اتصاف المخلوق بها مستلزم للتشبيه على قاعدتهم([16]).

عاشراً: قال في (ص11) من "نقض التدمرية": لقد عرفنا أن مذهب ابن تيمية هو التجسيم لله تعالى، فهو يقول إن الله في جهة ومستقر على العرش بمماسة ويتحرك نزولاً وصعوداً وتحل الحوادث في ذاته.

قلت: وهذا من تلبيسه وقلبه للحقائق، أما التجسيم فأراد به نفي صفات الله الخبرية, والجهة أراد بها نفي العلو, والمماسة يأتي تقرير شيخ الإسلام لمباينة الله لخلقه, وحلول الحوادث أراد به نفي أفعال الله الاختيارية.

حادي عشر : اتهم شيخ الإسلام بوحدة الوجود، قال في "نقض التدمرية" (ص36): وأما ابن تيمية فلم يتميز عن أصحاب المذهب الثاني من القائلين بوحدة الوجود, ويمكن تسميتها بوحدة الوجود الطبيعية إلا بالقول بكثرة الوجود.

قلت: كبار المنتسبين إلى مذهب الأشاعرة هم الذين نُسبوا إلى مذهب وحدة الوجود أما شيخ الإسلام فقد برأه الله فكتبه تمتلئ بالرد على هؤلاء.

ثاني عشر: كذب على شيخ الإسلام أنه يقول: الله يمكن أن يحس به بسائر الحواس الخمسة وهي: السمع والبصر واللمس والشم والذوق، هذا هو الأصل ولكن إذا كان ابن تيمية يفهم حقيقة الشم والذوق كذا قال في كاشفه (ص52).

قلت: مع أن شيخ الإسلام ليس كلامه موضع تقرير لمذهب أهل السنة,  وإنما هو ناقل لأقوال الطوائف والفرق كما سيأتي بيانه وتجاهل أن هذا قول لبعض الأشاعرة.

قال البيجوري (ص122) ناقلاً الخلاف بين علماء الأشاعرة هل يدرك الله؟ "وقد اختلف أيضا في كونه مُدركا أولا تبعاً للاختلاف في الإدراك"!

ثالث عشر: نسب إلى شيخ الإسلام قوله بحوادث لا أول لها موجبة بالذات كما في (ص97) من "كاشفه".

قلت: وسيأتي بيان تدليسه.

رابع عشر: قال في كتابه "الفرق العظيم" (ص13): متهماً أهل السنة، أنهم يقولون عن الله: "مثل الإنسان لكنه أكبر"!

قلت: هل يتصور له شكلاً معيناً مثل الإنسان لكنه أكبر مما نراه كما يقوله المشبهة..؟! والمشبهة في نظره هم أهل السنة الذين بثبتون صفات الله وعلى رأسهم شيخ الإسلام، وهو يسميهم بالحشوية والمجسمة أيضا.

خامس عشر: قال في "شرح السنوسية" (ص63): والذين ينتسبون إلى السلف بالاستواء فهم يقولون إن الله مستو على العرش بمعنى استقر عليه بمماسة وهو نفس معنى الجلوس ..! ثم قال: ولعلك تستغرب جداً عندما تعلم أن ابن تيمية يثبت لله الأمرين؛ أعني أنه يثبت لربه أنه جالس مستو على العرش ومستقر عليه بمماسة..!

قلت: ونحن نطالبه بالنص في إثبات ذلك على ما ذكر.

سادس عشر: نقل قول السبكي مقراً له في قوله أن الصحابة والتابعين كانوا على عقيدة الأشعري. قال في "بحوث في علم الكلام" (ص39): قال السبكي: إن الصحابة ومن تبعهم بإحسان من علماء الأمة فقهائها ومحدثيها على عقيدة الأشعري بل الأشعري على عقيدتهم قام وناضل عنها وحمى حوزتها من أن تنالها أيدي المبطلين.

ونحن نقول: {ستكتب شهادتهم ويسألون} .

وإليك ما نقله ابن حجر في "الفتح" (13/417) عن بعض السلف: قال: وقد نقل أبو إسماعيل الهروي في كتاب "الفاروق" بسنده إلى داود بن علي بن خلف قال: كنا عند أبي عبد الله بن الأعرابي يعني محمد بن زياد اللغوي، فقال له رجل {الرحمنُ عَلى العَرشِ استوى} فقال: هو على العرش كما أخبر قال: يا أبا عبد الله إنما معناه استولى، فقال: اسكت لا يقال استولى على الشيء إلا أن يكون له مضاد .

ومن طريق محمد بن أحمد بن النضر الأزدي سمعت ابن الأعرابي يقول: أرادني أحمد بن أبي داود أن أجد له في لغة العرب {الرحمنُ عَلى العَرشِ استوى} بمعنى استولى فقلت: والله ما أصبت هذا.

وأخرج أبو القاسم اللالكائي في كتاب "السنة" من طريق الحسن البصري عن أمه عن أم سلمة أنها قالت: الاستواء غير مجهول, والكيف غير معقول,  والإقرار به إيمان, والجحود به كفر.

 ومن طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه سئل كيف استوى على العرش؟  فقال: الاستواء غير مجهول, والكيف غير معقول, وعلى الله الرسالة، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم.

وأخرج البيهقي بسند جيد عن الأوزاعي قال: كنا والتابعون متوافرون نقول إن الله على عرشه, ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته.

 وأخرج الثعلبي من وجه آخر عن الأوزاعي أنه سئل عن قوله تعالى: {الرحمنُ عَلى العَرشِ استوى} فقال: هو كما وصف نفسه.

وأخرج البيهقي بسند جيد عن عبد الله بن وهب قال: كنا عند مالك فدخل رجل فقال يا أبا عبد الله: {الرحمنُ عَلى العَرشِ استوى}. كيف استوى؟ فأطرق مالك فأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال: الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه, ولا يقال كيف، وكيف عنه مرفوع، وما أراك إلا صاحب بدعة أخرجوه. ومن طريق يحيى بن يحيى عن مالك نحو المنقول عن أم سلمة لكن قال فيه: والإقرار به واجب والسؤال عنه بدعة.

 وأخرج البيهقي من طريق أبي داود الطيالسي قال: كان سفيان الثوري وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحددون ولا يشبهون, ويروون هذه الأحاديث ولا يقولون كيف. قال أبو داود: وهو قولنا. قال البيهقي: وعلى هذا مضى أكابرنا.

وأسند اللالكائي عن محمد بن الحسن الشيباني قال: اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن؛ وبالأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله r في صفة الرب من غير تشبيه ولا تفسير؛  فمن فسر شيئاً منها, وقال بقول جهم فقد خرج عما كان عليه النبي r وأصحابه, وفارق الجماعة لأنه وصف الرب بصفة لا شيء.

ومن طريق الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعي ومالكاً والثوري والليث بن سعد عن الأحاديث التي فيها الصفة فقالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف.

 وأخرج ابن أبي حاتم في "مناقب الشافعي" عن يونس بن عبد الأعلى سمعت الشافعي يقول: لله أسماء وصفات لا يسع أحدا ردها, ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فقد كفر, وأما قبل قيام الحجة؛ فإنه يعذر بالجهل لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل, ولا الرؤية والفكر، فنثبت هذه الصفات, وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه فقال:{لَيسَ كَمِثلهِ شَيءٌ}.

وأسند البيهقي بسند صحيح عن أحمد بن أبي الحواري عن سفيان بن عيينة قال: كل ما وصف الله به نفسه في كتابه؛ فتفسيره تلاوته والسكوت عنه.

ومن طريق أبي بكر الضبعي قال: مذهب أهل السنة في قوله: {لَيسَ كَمِثلهِ شَيءٌ} قال: بلا كيف, والآثار فيه عن السلف كثيرة, وهذه طريقة الشافعي وأحمد بن حنبل. فهؤلاء هم السلف مذهبهم الإثبات وليس التأويل!

من تناقضات المعترض

أولاً: قال في "الموقف" (ص11): فالتحاور كان ضرورياً وسيظل ضروريا بين هذه المذاهب، وذلك لعدة أسباب: أولها أنهم جميعاً بنتمون إلى دين واحد، وثانياً: أن الأصل فيهم جميعاً حسن القصد والتوجه إلى إعلاء هذا الدين. ثم تجده يطعن في النيات والسرائر وخصوصاً شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما سيأتي بيانه .

ثانياً: قال في "الفرق العظيم" (ص15): فمثلاً إذا ورد في النقل أن الله سميع وكان ما يفهمه عامة الناس من ظاهر السمع هو اتصال الأمواج الصوتية بطبلة الأذن ثم انتقال الموجات من خلال السائل السمعي إلى الدماغ وتفسيرها هناك، فلا يجوز أن نقول بنفي أصل هذه الكلمة بحجة أنه يلزم منها النقص بل نحن نثبت أصلها أي مطلق السمع أن الله سميع، وننفي أن يكون له أذن مثلاً وننفي أن يكون له عضو يحصل بواسطته السمع، بل وننفي أن يكون أصل سمع الله تعالى مثل سمعنا.

وقال في "تهذيب شرح السنوسية" (ص52): فله أيضاً صفة هي السمع؛ وسمعه بلا عضو ولا جارحة كما هو في المخلوق وكذا يقال في بصره.

قلت: وأهل السنة لما أثبتوا لله صفات الكمال من الصفات الخبرية، مثل اليد والوجه والإصبع وغيرها التي وردت في الكتاب والسنة؛ فلا يجوز لأحد أن ينفيها بالتأويل والتحريف بحجة أنه يلزم منها النقص، بل نثبت أصلها وننفي ما يتخيله الإنسان من هذه الصفات من اللوازم الباطلة؛ فما تجيب به المعتزلة الذين ألزموكم بالجارحة والعضو من إثباتكم السمع والبصر, وأنه لا يفهم منها إلا العضو والجارحة نجيبكم به.

قال ابن القيم في"الصواعق": "فالناس كانوا طائفتين سلفية وجهمية فحدثت الطائفة السبعية - الأشاعرة - واشتقت قولاً بين القولين فلا للسلف أثبتوا ولا مع الجهمية بقوا.

وقالت طائفة أخرى: ما لم يكن ظاهره جوارح وأبعاض كالعلم والحياة والقدرة والإرادة والكلام لا يتأول, وما كان ظاهره جوارح وأبعاض كالوجه واليدين والقدم والساق والإصبع؛ فإنه يتعين تأويله لاستلزام إثباته التركيب والتجسيم. قال المثبتون: جوابنا لكم بعين الجواب الذي تجيبون به خصومكم من الجهمية والمعتزلة نفاة الصفات؛ فإنهم قالوا لكم لو قام به سبحانه صفة وجودية كالسمع والبصر والعلم والقدرة والحياة لكان محلاًً للأعراض، ولزم التركيب والتجسيم والانقسام كما قلتم لو كان له وجه ويد وأصبع لزم التركيب والانقسام. فما جوابكم لهؤلاء نجيبكم به! فإن قلتم: نحن نثبت هذه الصفات على وجه لا تكون أعراضاً ولا نسميها أعراضاً فلا يستلزم تركيباً ولا تجسيماً.

قيل لكم: ونحن  نثبت الصفات التي أثبتها الله لنفسه إذ نفيتموها أنتم على  وجه لا يستلزم الأبعاض والجوارح, ولا يسمى المتصف بها  مركباً ولا جسماً ولا منقسماً. فتأمل([17]).

وكذلك ما قرره في "تهذيب السنوسية" (ص34): وجود الله ليس كوجود الحوادث لأن وجود الله ذاتي له أي ليس بتأثير مؤثر وفعل فاعل ووجود الحوادث يتأثير الله وفعله.

ونحن نقول لك كذلك القول في الذات كالقول في الصفات، فكما أنك فارقت بين أصل وجود الله ووجود الحوادث وإن اشتركا في أصل الوجود، فكذلك يلزمك إثبات صفات الله تعالى على ما يليق بجلاله من الصفات الخبرية وغيرها وإن اشتركت في اللفظ.

قلت: وهذا من التناقضات في مذهب الأشعري.

ثالثاً: قرر المعترض في أكثر من موضع في كتبه أن الله لا تقوم به الأفعال الاختيارية والتي بعبر عنها أهل الكلام بقيام الحوادث ثم تجده يعتذر لبعض علماء الأشاعرة في إثباتهم قيام الحوادث بالله.

قال في "بيان الزائف" (ص134): والحاصل من هذا كله أن القول بتعلق حادث بالعلم لا موجب له، ويرد عليه إشكالات عديدة ونسبة ذلك للمتأخرين من أهل السنة لا أراه صحيحاً! وعلى كل الأحوال فمن نسب إلى بعض علماء أهل السنة التعلق التنجيزي الحادث للعلم فهو نسب إليهم أيضاً تعلقاً قديماً بكل ما كان وبكل ما يكون، حتى بنفس ما يتعلق به الحادث فهو لم ينف التعلق القديم الشامل.

رابعاً: قال في "بحوث في علم الكلام" (ص59): وإذا علم أن الوصول إلى حقيقة ذات الله مستحيل والدليل على أن حقيقة ذاته لا يمكن أن تكون معلومة لنا.

 ثم ناقض نفسه بقوله: وأما ما ذكر عن القاضي أبي بكر ومن تبعه أنه قال أن الذات يمكن بلوغ حقيقتها فالخلاف لفظي!

خامساً: أنكر في "كاشفه" (ص71) على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما نقل شيخ الإسلام عن بعض أهل الإثبات أنهم يثبتون لله الإدراكات من الذوق والشم واللمس مع أنه ناقل وليس مقرر لذلك؛ شنع فودة عليه وحاول أن يلصق هذا القول بشيخ الإسلام مع أنه قول الأشاعرة.

قال البيجوري في "شرح الجوهرة" (121): "والإدراك في حق الحادث هو تصور حقيقة الشيء المدرك, وأما في حقه تعالى على القول به فهو صفة قديمة قائمة بذاته تعالى تسمى الإدراك. قيل: إنه يدرك بها كل موجود. وقيل: يدرك بها الملموسات كالنعومة,  والمشمومات كالروائح, والمذوقات كالحلاوة من غير اتصال بمحالها التي هي الأجسام, ولا تكيف بكيفيتها لأن الاتصال والتكيف إنما هو عادي في حصول الإدراك وقد ينفك.

وقد صرح بعض المتأخرين بأنها صفة واحدة لكن الواقع في كتب علم الكلام أنها ثلاث صفات: إدراك الملموسات, وإدراك المشمومات, وإدراك المذوقات, ودليل المثبتين لها كالباقلاني وإمام الحرمين بأنها كمال, وكل كمال واجب لله.

 لأنه لو لم يتصف بها لا تصف بضدها, وهو نقص, والنقص عليه تعالى محال؛ فوجب أن يتصف بها على ما يليق به من غير اتصال بالأجسام ومن غير وصول اللذات, والآلام له تعالى.

 فما رأي هذا المعترض بهذا الكلام عن أرباب علماء الأشاعرة؟!

ثم ناقض نفسه فنقل الخلاف عند الأشاعرة في أنه هل للمولى تعالى صفة زائدة على السبع المعاني تسمى الإدراك يدرك بها الملموسات والمذوقات  والمشمومات لأنها كمال, وكل كمال يجب أن يثبت له! ([18]) 

سادساً: قال في "الفرق العظيم" (ص45): عن الرازي .. وذلك أنه أملى عقيدته وهو على فراش الموت على طلابه وهي لا تختلف عما كان عليه خلال حياته.

مع أنه قرر في الصفحة التي قبلها بقوله: فكذلك كلام الإمام الرازي لا يجوز لك أن تحمله على أنه يشك في ما كان عليه طوال حياته!

قلت: وهو يعلم قطعاً أن كل من ترجم للرازي ذكر تراجعه عن علم الكلام وعما خاض فيه، ومن المشهور من قوله:

نهايـة   إقـدام  العقول  عقال

وأكثر سعي  العالمين  ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا

وحاصل  دنيانـا أذى  ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا

سوى أن جمعنا فيه قيل  وقال

وكان يقول: لقد اختبرت الطرق الكلامية, والمناهج الفلسفية فلم أجدها تروي غليلاً, ولا تشفي عليلاً, ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات {الرحمنُ عَلى العرشِ استوى}، {إليه يَصعدُ الكَلمُ الطيِّبُ}، وفي النفي {لَيس كَمثله شَيء}، {هَل تَعلمُ له سيماً}([19]).





   












طعون سعيد فودة في علماء السنة

طعونه في شيخ الإسلام ابن تيمية

1-   إلماحه إلى تكفير شيخ الإسلام: قال في "نقض التدمرية" (ص10): قال نعيم بن حماد شيخ البخاري رحمهم الله: من شبه الله بخلقه كفر .. فنقل الشارح عن نعيم بن حماد تكفير المشبهة، ولم يعلم أن ابن تيمية يجيز التشبيه من بعض الوجوه! ودندن كذلك حول تكفير شيخ الإسلام كما في (ص189) من "كاشفه". وقال في "نقض التدمرية" (ص83): فهذه هي أصول الكفر على حسب ما وضحه الإمام السنوسي  وكلامه فيها في غاية الإتقان، وما يهمنا الكلام عليه ههنا هو الأصل الأخير وهو التمسك في أصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب والسنة ..إلخ.  فالإمام السنوسي يقول إن الاعتماد على النظرة الأولى التي يلقيها القاريء – خاصة إذا كان من المجسمة – إلى النصوص والآيات لا تصح أن تتخذ أصلاً يعتمد عليه بعد ذلك في تقرير أصول العقائد وعلم التوحيد، ومثاله ما فعله ابن تيمية عندما قال إن قوله تعالى: {ثم استوى على العرش} يفيد أن الله جالس ومستقر على العرش بمماسة له!

2-       اتهامه بالتجسيم.

3-       اتهامه بالتشبيه

4-    قال في "نقض التدمرية" (ص19): والحقيقة أنني عندما أتأمل كلامه ألاحظ فيه بعض الاضطراب وعدم الدقة وعدم التحقيق.

5-       اتهامه بوحدة الوجود.  "نقض التدمرية" (ص36).

6-       قال في "نقض التدمرية" (ص100): إذا علم أن ابن تيمية يدعي بكل صلافة.

7-       وقال في "نقض التدمرية" (ص125): إن السبب الوحيد الذي أراه بدوري هو أن ابن تيمية يتبع هواه.

8-   تكذيبه لشيخ الإسلام في عدة مواضع. انظر "نقض التدمرية" (ص155)، وصفحة (326) من "كاشفه"،  وصفحة (13) من تعليقه على "شرح صغرى الصغرى".

9-       استعماله لسوء الأدب، كما في (ص29و30و52) من "كاشفه"، وغير ذلك كثير جداً.

وقفة مع تكذيبه لشيخ الإسلام:

نقل المعترض في "كاشفه" (ص327) عن شيخ الإسلام في "منهاج السنة" لما ذكر اختلاف الناس في مسألة الكلام :

 أحدها: قول من يقول إن كلام الله ما يفيض على النفوس من المعاني التي تفيض إما من العقل الفعال عند بعضهم,  وإما من غيره، وهذا قول الصابئة والمتفلسفة الموافقين لهم كابن سينا وأمثاله ومن دخل مع هؤلاء من متصوفة الفلاسفة ومتكلميهم كأصحاب وحدة الوجود, وفي كلام صاحب "الكتب المضنون بها على غير أهلها" بل "المضنون الكبير", و"المضنون الصغير",  و"رسالة مشكاة الأنوار", وأمثاله ما قد يشار به إلى هذا, وهو في غير ذلك من كتبه يقول ضد هذا لكن كلامه يوافق هؤلاء تارة,  وتارة يخالفه, وآخر أمره استقر على مخالفتهم ومطالعة الأحاديث النبوية([20]).

قال المعترض: هذا القول الأول  الذي ذكره ابن تيمية في مسألة الكلام,  ونسبه إلى الإمام الغزالي في بعض كتبه, وهو في هذه النسبة قريب من الكذب على الإمام الحجة رحمه الله تعالى؛ فما كان ينبغي له أن ينسب إلى الغزالي ما هو خلاف الدين؛ فالغزالي رحمه الله في هذه الكتب إنما يشرح, ويبين قول الفلاسفة, ولم يقل أن هذا القول الذي يقول به, ولكن ابن تيمية يهمه جداً أن يظهر الإمام الغزالي, وغيره من السادة الأشاعرة على أنهم من المترددين المتشككين .. والحق أن كل ما نسبه ابن تيمية من تردد علماء الأشاعرة في بعض المسائل, وفي تراجع بعضهم عن بعض الأقوال لا يعدو أن يكون تحريفاً لحقيقة الحال, وهو قد تعمد هذا الوصف الكاذب.

قلت: وفي كلامه من الزيغ ما يلي:

أولاً: تكذيبه لشيخ الإسلام, وسوء أدبه مع هذا الإمام رحمه الله، مع أن كلام شيخ الإسلام واضح جلي, وحقيقة قوله الدفاع عن الغزالي؛ فهو يبين أن للغزالي قولين، وآخر أقواله مخالفته للفلاسفة في هذا القول, وكتاب الغزالي "المضنون" بعضهم ينكر أن يكون للغزالي لما فيه من الأقوال الشنيعة, ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وفي الكتب المضنون بها على غير أهلها وغيرها من كتب مصنفيها قطعة من هذا؛ وبسبب ذلك وقع ابن عربي وأمثاله من ملاحدة المتصوفة مع هؤلاء, ولهذا كثر كلام علماء المسلمين في مصنفيها, ومن الناس من ينكر أن تكون من كلام أبي حامد لما رأى ما فيها من المصائب العظيمة, وآخرون يقولون بل رجع عن ذلك وختم له بالاشتغال بالبخاري ومسلم كما قد ذكر ذلك في سيرته([21]).

وقال شيخ الإسلام عن كتاب الغزالي "المضنون": والمقصود هنا أن  كثيراً من كلام الله ورسوله يتكلم به من يسلك مسلكهم, ويريد مرادهم لا مراد الله ورسوله كما يوجد في كلام صاحب الكتب المضنون بها وغيره مثل ما ذكره في اللوح المحفوظ حيث جعله النفس الفلكية, ولفظ القلم حيث جعله العقل الأول, ولفظ الملكوت و الجبروت والملك حيث جعل ذلك عبارة عن النفس والعقل, ولفظ الشفاعة حيث جعل ذلك فيضاً يفيض من الشفيع على المستشفع, وإن كان الشفيع قد لا يدرى وسلك في هذه الأمور ونحوها مسالك ابن سينا كما قد بسط في موضع آخر([22]).

ثانياً: إن الغزالي له من الأقوال الشنيعة الكثيرة في الإحياء وغيرها.

ثالثاً: إن الأشاعرة من أكثر الناس حيرة وشكاً وتوقفاً, ومثالاً على ذلك الرازي الذي ألف هذا المعترض كتابه "الكاشف" للدفاع عنه؛ فهو مثلاً يقول في مسألة حدوث العالم, وأنه ليس من شرطه أن يكون مسبوقاً بالعدم، قال بعد ذكر الأدلة: وعلى هذه الطريقة إشكال ثم ذكره.

  وقال: فقد بطلت هذه الحجة فهذا شك لابد وأن يتفكر في حله.

 ويقول في مسألة أخرى: ولكن لابد من فرق بين البابين وهو مشكل جداً . وفي الأربعين قال: حول حدوث العالم: هذا مما نستخير الله فيه، وقال هذا سؤال صعب.

وأما تناقضه؛ فمثلاً في "أساس التقديس" قال بتماثل الأجسام محتجاً به على نفي العلو والصفات الخبرية , ولكنه في "المباحث المشرقية" و"شرح الإشارات" رد ذلك وقال بعدم تماثلها.

 وفي صفة المحبة قال بتأويلها بالإرادة كما فعل الأشاعرة, ولكنه في أحد مواضع من التفسير قال: ثبت أن جزم المتكلمين بأنه لا معنى لمحبة الله إلا إرادة إيصال الثواب ليس لهم على هذا الحصر دليل قاطع بل أقصى ما في الباب أن يقال لا دليل على إثبات صفة أخرى سوى الإرادة؛ فوجب نفيها لكنا بينا في كتاب "نهاية العقول" أن هذه الطريقة ضعيفة ساقطة .

ثم ذكر في موضع آخر في مسألة أدلة الأشاعرة على وجوب حصر الصفات بالسبع أن هذه القاعدة من أدلتهم فقال: أقوى ما قيل فيه أن الله تعالى كلفنا بمعرفته فلا بد من طريق إلى ذلك, وإلا وقع التكليف بالمحال, والطريق لنا إلى ذلك ليس إلا أفعال الله تعالى,  وأفعال الله تعالى لا تدل إلا على هذا العدد من الصفات بدليل أنا لو قدرنا ذاتاً موصوفة بهذا القدر من الصفات؛ فإنه يصح منه الإلهية فثبت أن ما وراء هذه الصفات لم يوجد عليه دلالة أصلا فوجب نفيها. ثم قال معقباً: وقد عرفت ما يمكن أن يقال على هذه الطريقة, وما فيها.

ومن أبرز الأمثلة على تناقض الرازي أنه في جميع كتبه قرر أن الأدلة النقلية لا تفيد القطع واليقين فلا يحتج بها في العقائد, ومن هذه الكتب: "نهاية العقول" حيث فصل الكلام وأطال فيه فلما وصل في هذا الكتاب إلى مسألة صفة السمع والبصر ضعف دليل الأشاعرة العقلي في إثباتها ثم رجح أن الأولى الاستدلال لهما بنصوص السمع([23]).

طعنه في علماء الحديث

قال في "تدعيم المنطق" (ص175): إن الواقع تاريخياً يدلل على أن بعض علماء الحديث كانوا من المجسمة أو من المتأثرين بمنهجهم بشكل عام بل يمكننا الادعاء بسهولة أن كثيرا من الذين تمسكوا بهذا المصطلح كانوا من المنتمين إلى عقائد المجسمة أو من المتأثرين بهم خاصة في القرن الثالث الهجري والرابع وخاصة من الذين انتسبوا إلى مذهب الإمام أحمد.

واتهم الدارمي بالتجسيم كما في "موقف أهل السنة" (ص106).

واتهم ابن أبي العز الحنفي "شارح الطحاوية" بالتجسيم كما في "تهذيب شرح السنوسية" (ص37).

واتهم الشوكاني بالتجسيم كما في "الفرق العظيم" (ص57-58). واتهمه أنه لا يعرف مذهب المتكلمين على حقيقته ولا هو يعرف حقيقة مذهب السلف.

قلت: ومن جهله قوله في "الفرق العظيم" (ص60): ومعلوم تأثر الشوكاني بالمقبلي وابن الوزير والمعلمي!

قلت: والمعلمي معاصر مات من قريب وبينه بين الشوكاني عقود! فهذا يدل من فودة على تبحر في العلوم التي جهلها الشوكاني رحمه الله؟

طعنه في الحنابلة

قال في "بحوث في علم الكلام" (ص35): هذا وصف دقيق للحنابلة في معظم الأزمان, وخاصة في زمان الإمام الأشعري وزماننا هذا فأكثرهم انحرافاً نحو التشبيه والتجسيم، وخدعوا العوام لادعائهم بالقول بظاهر الكتاب والسنة، ومع ذلك فإن انحراف العوام إليهم لا يجوز أن يكون مبرراً للعلماء الراسخين بالتقاعس عن نصرة العقيدة الشريفة.

طعنه في السلفية

قال في "بحوث في علم الكلام" (ص46): وقد ظهر أتباع ابن تيمية أول ما ظهروا تحت اسم الوهابية، ثم بعد زمان غيروا اسمهم في بعض البلاد إلى اسم السلفية، وذلك لأسباب تكتيكية ليتمكنوا من جذب عامة الناس إليهم خاصة بعدما شاع عنهم كثير من الفظائع التي افتعلوها في المسلمين تحت شعار هـذا المذهب. وزعمه أنهم أتباع الدجال في آخر الزمان! كما في "تهذيب السنوسية" (ص79).

طعنه في أبي يعلى وابن الزاغوني

وابن قدامة وابن القيم واتهامهم بالتجسيم

قال في "تهذيب شرح السنوسية" (ص12): لا تظن أيها القاريء أن الحنابلة كلهم مجسمون بل فيهم مجسمة كالقاضي أبي يعلى وابن الزاغوني وابن قدامة وهؤلاء تجسيمهم أقل من ابن تيمية وابن القيم وغيرهم.

طعنه في علماء السلف أهل القرون الأولى الذين أثنى الله عليهم

 قال المعترض  في "كاشفه" (ص191): .. نعم يوجد بعض المجسمة من أهل القرون الأولى أثبتوا لله تعالى الأعضاء والأركان!


غرور وعجب يطغى على صاحبه

جاء في حديث ابن عمر قال:  قال رسول الله r((ثلاث مهلكات وثلاث منجيات وثلاث كفارات وثلاث درجات؛ فأما المهلكات فشح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه .. الحديث)) ([24]).

وسعيد فودة  في نفسه مرض العجب والغرور؛ فهو يتبجح أن كلام شيخ الإسلام لم يفهمه أحد كما فهمه هو.

قال في "الكاشف" (ص188):  ونحن هنا سوف نوضح مسألة في مذهب ابن تيمية لم أر أحداً وضحها بتفصيل من أصحابه.

وقال أيضاً (ص189): هذا هو حاصل مذهب ابن تيمية في هذه المسألة الفريدة التي لا تجد من وضحها كما ذكرناه هنا.

وقال في "نقض التدمرية" (ص101): وبهذا يتضح لك أيها القاريء الكريم مدى الفرق بين فهمنا لآيات الاستواء, وفهم ابن تيمية لها, ويتبين لك أيضاً مدى قوة ما نقول به وانسجامه مع القواعد اللغوية, وعدم انحرافه عن قطعيات الشريعة!

وكم له من كلمات فيها معاني العجب والغرور، انظر على سبيل المثال في تعليقه على شرح "صغرى الصغرى" (ص8)  لما رد على ابن بدران لما ذكر ابن بدران موافقة السنوسي للسلف في مسألة الكلام، لترى أسلوب الغرور والتبجح والإزراء بغيره.

سعيد فودة وعلم الكلام

علم الكلام والمنطق علم دخيل على هذه الأمة, وذم السلف لهذا العلم لا يخفى على  طالب العلم, وهو الذي لعب دوراً عظيماً في إفساد كثير من عقائد المسلمين, وأكثر من يدافع عنه هو من تأثر بمناهج المتكلمين من الفرق كالمعتزلة والأشاعرة, ومن يتابع كتابات سعيد فودة يجدها عرية عن الآثار, ويجد الحشو الكثير من مصطلحات علم الكلام؛ فتتصفح المئات من الصفحات لا تجد آية أو حديثاً, ولذلك تجده  يستميت في الدفاع عن علم الكلام, وفي مدحه, وتلقيبه بعلم التوحيد وبأهم العلوم الإسلامية.

قال في "الكاشف" (ص16): علم الكلام هو علم التوحيد.

وقال أيضاً في "الموقف" (ص10): وقد صار التنقيص من علم الكلام الذي هو أهم العلوم الإسلامية.

وقال أيضاً في "الموقف" (ص37): وفي نفس الوقت صار ينظر إلى العلوم العريقة في الدين نظرة استثقال مثل علم الكلام.

ويرى فودة أن سبب احتفاظ هذه الأمة بدينها طول هذه المدة بسبب تمسكها بعلم الكلام!

قال في كتابه "الموقف" (54): ثم لينظر العاقل الذي يستطيع أن يتدبر الأمور لماذا استطاعت الأمة الإسلامية أن تحتفظ بدينها طوال هذه المدة .. فما كان سبب هذا الاحتفاظ إلا استناد علماء الناس إلى علم الكلام, واستناد الخلق إلى هؤلاء العلماء وإرشاداتهم.

ومن تناقضه أنه  زعم أن هذا العلم مستنده الكتاب والسنة.

قال في "تهذيب شرح السنوسية" (ص25): النصوص التي ينقلها البعض في التشنيع على من اشتغل بهذا العلم, وينسبونها إلى بعض السلف لا يخلو الحال فيها من أمور: إما أن يكون هؤلاء السلف قد نهوا عن الكلام في العقائد مطلقاً الصحيح منها والباطل؛ فهذا النهي مردود عليهم؛ فإنه قد ثبت بالأدلة الشرعية وجوب الاشتغال بهذا العلم ..!

مع اعترافه أن هذا العلم أصله من اليونان، قال في "الميسر" (ص13): واليونان كان هو الشعب الذي اهتم بعض فلاسفته بتدوين هذا العلم وبيان أركانه وأسسه الكلية, وهذا لا يعني مطلقاً أن غير اليونان من الناس لم يعرفوا المنطق، بل ثبت عند الباحثين أن غير اليونان من الشعوب عرفت المنطق, وكتبت فيه ثم انتشر العلم إلى الناس عن طريق اليونان, ووصل علم المنطق إلى المسلمين؛ فاشتغل به الناس أولاً عن طريق الترجمات التي وصلت إليهم, وكان المترجمون ينقلون المنطق مع أمثلته التي كان يستعملها فلاسفة اليونان.

قلت: رحم الله الحافظ الذهبي إذ يقول : وإذا كان علم الآثار مدخولا ًفما ظنك بعلم المنطق والجدل وحكمة الأوائل التي تسلب الإيمان وتورث الشكوك والحيرة التي لم تكن والله من علم الصحابة ولا التابعين ولا من علم الأوزاعي والثوري ومالك وأبي حنيفة وابن أبي ذئب وشعبة, ولا والله عرفها ابن المبارك ولا أبو يوسف القائل من طلب الدين بالكلام تزندق، ولا وكيع ولا ابن مهدي ولا ابن وهب ولا الشافعي ولا عفان ولا أبو عبيد ولا ابن المديني وأحمد وأبو ثور والمزني والبخاري والأثرم ومسلم والنسائي وابن خزيمة وابن سريج وابن المنذر وأمثالهم، بل كانت علومهم القرآن والحديث والفقه والنحـو, وشبه ذلك([25]).

مع أنه  يقرر أن الذي عليه أن يطلب هذا العلم هو من يغلب عليه الشك!

قال في "الفرق العظيم" (ص62): وأيضاً فلم يقل أحد إن علم الكلام مطلـوب تعلمه من كل إنسان بل ممن يغلب عليه الشك ليذهب شكه بما يقرؤه من حجج.

أقول: وأكثر الناس شكاً كما قال بعض السلف هم علماء الكلام بسبب خوضهم في مباحثه النظر والعرض والجوهر وغيرها من حشو الكلام.

ثم اعترافه بضرورة تكرار قراءة كتب المنطق: فقد ذكر عن العلماء أنهم كانوا يقرءون الكتاب مرات عديدة قبل أن ينتقلوا إلى غيره من الكتب, وقد ذكر عن السيد الشريف الجرجاني أنه قرأ "شرح المطالع" في علم المنطق أكثر من أربعة عشر مرة قبل أن يذهب إلى مصنفه وهو العلامة القطب الرازي لقراءته عليه([26]).

قلت: وذلك لصعوبتها وقلة بركتها؛ فقد ذكر الذهبي في ترجمة ابن سينا: أنه قال: قرأت كتاب "ما بعد الطبيعة"، فأشكل علي حتى أعدت قراءته أربعين مرة، فحفظته ولا أفهمه!

وهذه كلمة نقلها  ابن القيم رحمه الله تعالى عن الإمام  السمعاني توضح الفرق بين طريقة السلف وهي الاعتماد على الحديث والأثر, وبين طرق المبتدعة في الاعتماد على علم المنطق والكلام، حيث قال:

"فزعم كل فريق منهم - أي المبتدعة - أنه هو المتمسك بشريعة الإسلام، وأن الحق الذي قام به رسول الله r هو الذي يعتقده وينتحله؛ غير أن الله تعالى أبى أن يكون الحق والعقيدة الصحيحة إلا مع أهل الحديث والآثار؛ لأنهم أخذوا دينهم وعقائدهم خلفاً عن سلف وقرناً عن قرن إلى أن انتهوا إلى التابعين، وأخذه التابعون عن أصحاب النبي r, وأخذه الصحابة عن رسول الله r, ولا طريق إلى معرفة ما دعا إليه رسول الله r الناس من الدين المستقيم والصراط القويم إلا هذا الطريق الذي سلكه أصحاب الحديث.

ومما يدل على أن أهل الحديث على الحق أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولها إلى آخرها قديمها وحديثها، وجدتها مع اختلاف بلدانهم وزمانهم وتباعد ما بينهم في الديار وسكون كل واحد منهم قطراً من الأقطار في باب الاعتقاد على وتيرة واحدة ونمط واحد يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها ولا يميلون عنها، قلوبهم في ذلك على قلب واحد، ونقلهم لا ترى فيه اختلافاً ولا تفرقاً في شيء ما وإن قلّ، بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم؛ وجدته كأنه جاء عن قلب واحد وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا؟

قال تعالى: ]أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا[ [النساء:82]، وقال تعالى: ]وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا[ [آل عمران: 103].

وكان السبب في اتفاق أهل الحديث أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة وطريق النقل فأورثهم الاتفاق والائتلاف، وأهل البدع أخذوا الدين من عقولهم فأورثوا التفرق والاختلاف؛ فإن النقل والرواية من الثقات والمتقنين قلّما تختلف، وإن اختلفت في لفظة أو كلمة؛ فذلك الاختلاف لا يضر الدين ولا يقدح فيه، وأما المعقولات والخواطر والآراء فقلّما تتفق.   

ورأينا أصحاب الحديث قديماً وحديثاً هم الذين رحلوا في هذه الآثار وطلبوها، فأخذوا عن معادنها وحفظوها، واغتبطوا بها ودعوا إلى اتباعها، وعابوا من خالفهم، وكثرت عندهم وفي أيديهم، حتى اشتهروا بها كما يشتهر أصحاب الحرف والصناعات بصناعاتهم وحرفهم، ثم رأينا قوماً انسلخوا من حفظها ومعرفتها، وتنكبوا عن اتباع صحيحها وشهيرها، وغنوا عن صحبة أهلها، وطعنوا فيها وفيهم، وزهدوا الناس في حقها، وضربوا لها ولأهلها أسوء الأمثال، ولقبوهم أقبح الألقاب، فسموهم نواصب أو مشبهة وحشوية أو مجسمة، فعلمنا بهذه الدلائل الظاهرة والشواهد القائمة أن أولئك أحق بها من سائر الفرق([27]).

وقفة:

قال فودة في "الموقف" (ص41): إن أكثر الخلافات الواقعة في علم الكلام لا يبلغ مبلغ إكفار المخالف.

قلت: وهذا من تناقضه؛ فإليك بعض الأمثلة من كتبه فيها التصريح بإكفار المخالف.

قال في "السنوسية"  (ص60) : فالإجماع واقع على كفر من نفى المعنوية - أي من الصفات - أما المعاني فلا.

وقال في "السنوسية" أيضاً (ص62): قال البيجوري: فليس الله عن يمين العرش ولا عن شماله ولا أمامه ولا خلفه ولا فوقه ولا تحته؛ فليحذر كل الحذر مما يعتقده العامة من أن الله تعالى فوق العامة، لكن الصحيح أن معتقد الجهة لا يكفر كما قاله ابن عبد السلام, وقيده النووي بأن يكون من العامة. ثم نقل كلاماً للعز. ثم قال سعيد: وظاهره أن التقييد في حق العامة من العز وليس من النووي وإنما النووي تبعه.

وقال كذلك في "السنوسية" (ص122): إن من اعتقد أن تلك الأسباب تؤثر في ما قارنها بطبع أو علة فلا خلاف في كفره.

وكم في كتبه من نبز علماء السنة والحنابلة خاصة, وأخصهم شيخ الإسلام بالتجسيم والتشبيه؛ والتي تساوي الكفر عنده.

تقديس العقل وتقديمه على النقل


قال سعيد في "النقد والتقويم" (ص32): وقد مدح الله قوماً لأنهم يعقلون, وهذا إشارة إلى مدح مطلق العقل, وأنه لا يوجد شيء اسمه عقل مذموم إلا على سبيل المجاز .. فالعقل ممدوح مطلقاً لأن الله تعالى مدحه مطلقاً, ومدح المتصف بالعقل, ولم يرد في نص ذم للعقل ولا يجوز شرعاً ذمه.

ويقول أيضاً في "الموقف" (ص50): واعلم أن ترتيب طرق المعرفة من حيث الأفضلية هي كما يلي: أفضلها وأقواها المنطق والعقل.

وللرد عليه:

أولاً: كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : إن طريق النجاة من العذاب الأليم والسعادة في دار النعيم الطريق إلي ذلك هو الرواية والنقل إذ لا يكفي من ذلك مجرد العقل بل كما أن نور العين لا يرى إلا مع ظهور نور قدامه؛ فكذلك نور العقل لا يهتدي إلا إذا طلعت عليه شمس الرسالة.

وقال ابن خلدون في "مقدمته" (ص364) : العقل ميزان صحيح، فأحكامه يقينية لا كذب فيها، غير أنك لا تطمع أن تزِن به أمور التوحيد، والآخرة، وحقيقة النبوة، وحقائِق الصفات الإِلهية، وكل ما وراء طوره، فإن ذلك طمع في محال، ومثال ذلك مثال رجل رأى الميزان الذي يوزن به الذهب، فطمع أن يزن به الجبال، وهذا لا يدل على أن الميزان في أحكامه غير صادق، لكن العقل قد يقف عنده، ولا يتعدى طوره حتى يكون له أن يحيط بالله وبصفاته، فإِنه ذرة من ذرات الوجود الحاصل منه .

ويقول شيخ الإسلام  ابن تيمية – رحمه الله –:  "المخالفون للكتاب والسنة وسلف الأمة من المتأولين في هذا الباب في أمر مريج، فإن من ينكر الرؤية يزعم أن العقل يحيلها, وأنه مضطر فيها إلى التأويل, ومن يحيل أن لله علماً وقدرة وأن يكون كلامه غير مخلوق ونحو ذلك يقول إن العقل أحال ذلك فاضطر إلى التأويل، بل من ينكر حشر الأجساد والأكل والشرب الحقيقيين في الجنة يزعم أن العقل أحال ذلك وانه مضطر إلى التأويل، ومن يزعم أن الله ليس فوق العرش يزعم أن العقل أحال ذلك وانه مضطر إلى التأويل.

ويكفيك دليلا على فساد قول هؤلاء أنه ليس لواحد منهم قاعدة مستمرة فيما يحيله العقل، بل منهم من يزعم أن العقل جوز وأوجب ما يدعى الآخر أن العقل أحاله.

فيا ليت شعرى، بأى عقل يوزن الكتاب والسنة! فرضى الله عن الإمام مالك بن أنس حيث قال: أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد r لجدل هؤلاء([28]).

ثانياً: لا بد أن يعلم القاريء الكريم أن مصدر التلقي عند الأشاعرة هو العقل, وقد صرح الجويني والرازي والبغدادي والغزالي والآمدي والإيجي وابن فورك والسنوسي , وشراح "الجوهرة", وسائر أئمتهم بتقديم العقل على النقل عند التعارض، بل إن من المعاصرين منهم ومن هؤلاء السابقين من صرح أن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة أصل من أصول الكفر, وبعضهم خففها فقال: هو أصل الضلالة([29])!

قال السنوسي في "شرح الكبرى": وأما من زعم أن الطريق إلى معرفة الحق هو الكتاب والسنة, ويحرم ما سواهما؛ فالرد عليه أن حجتهما لا تعرف إلا بالنظر العقلي, وأيضاً فقد وقعت فيهما ظواهر من اعتقدها على ظاهرها كفر عند جماعة وابتدع.

ويقول أيضا: أصول الكفر ستة فذكر خمسة. ثم قال: سادساً: التمسك في أصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب والسنة من غير عرضها على البراهين العقلية والقواطع الشرعية!

ثالثاً: صرح متكلموهم – الرازي - أن نصوص الكتاب والسنة ظنية الدلالة, ولا تفيد اليقين إلا إذا سلمت من عشر عوارض منها الإضمار والتخصيص والنقل والاشتراك والمجاز ..إلخ.

وسلمت بعد هذا من المعارض العقلي، بل قالوا: من احتمال المعارض العقلي([30])!

ولذلك قال الرازي مقولته المشهورة: إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية أو السمع والعقل أو النقل والعقل أو الظواهر النقلية والقواطع العقلية أو نحو ذلك من العبارات؛ فإما أن يجمع بينهما وهو محال لأنه جمع بين النقيضين, وإما أن يردا جميعاً, وإما أن يقدم السمع وهو محال، لأن العقل أصل النقل؛ فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحاً في العقل الذي هو أصل النقل, والقدح في أصل الشيء قدح فيه؛ فكان تقديم النقل قدحاً في النقل والعقل جميعاً فوجب تقديم العقل ثم النقل إما أن يتأول وإما أن يفوض.

قلت: الاستناد إلى طاغوت العقل وجعله حاكماً على الشرع قول على الله بغير علم ورد لأحاديث رسول الله r بحجة أنها ليست من القطعيات, وأنها آحاد, وقد دخل شر عظيم على الأمة من جعل العقل مقياساً وحاكماً لما ورد في النقل.

 قال صاحب "الجوهرة":

وكل  نص أوهم  التشبيها

أوِّله أو فوّض ورم تنزيها

وهذا معنى ما ذكره الرازي في مقولته المتقدمة.


يقول سعيد فودة في كتابه "النقد" (ص30): ولكن العقائد اشترط فيها كونها قطعية لما لها من محل كبير في الدين, ولكونها أصولاً يقوم الدين عليها وزيادة شرط القطع في العقائد لا يستلزم عدم الأخذ من الله تعالى، لأن القطع يتحقق أيضاً في المنقول من الشرائع, ولكن اشترط كون المأخوذ منه هو الله أو الرسول لكي يعتبر تديناً هو إبطال لاعتبار مجرد العقل في التدين كما هو معلوم في أصول الدين.

وقال في "تهذيب شرح السنوسية" (ص44): عدد المعاني سبعة لا أكثر لأن الدليل القطعي إنما دل على هذه السبعة ... ثم قال بعد كلام: ولم يرد في الكتاب والسنة ما يدل على ماعدا هذه الصفات دلالة قطعية, والأصل أن نتمسك بالدليل القطعي خصوصاً فيما يتعلق بذات الله تعالى وصفاته, وأما ما ورد من نسبة الوجه واليد والعين إلى الله تعالى فراجع إلى ما ذكرناه من الصفات السبعة ولا يزيد عليها.

قلت: وهو قصد بالدليل القطعي العقل, وإن حاول أن يجعل مستندهم في إثبات الصفات التي يثبتونها السبع الكتاب والسنة؛ ففي الحقيقة أن مستندهم العقل فقط, ويحاولون أن يتستروا بالنقل. ولو كان مستندهم في ذلك النقل لأثبتوا بقية الصفات التي وردت بالنقل, ولم يفوضوها أو يؤولوها.

وهو قائل بمقولة الرازي السابقة

قال في "نقض التدمرية" (144): وأما إذا تعارض قاطع سواء كان عقلياً أو نقلياً مع غير قاطع؛ فإن القاطع هو المقدم والمأخوذ به والمعتمد عليه, وفي تعارض الظنيات فيرجح ما هو راجح.

قلت: وإقحامه كلمة نقلياً إنما هي للتلبيس فالعقل من القواطع في نظره، أما النقل فمنه القاطع ومنه الظني فتأمل.

بل كفروا من اعتمد على الظن في العقائد، قال المعترض في "شرح تهذيب السنوسية" (ص30): فالشك والظن والوهم لا تكفي في العقائد بل هي كفر.

قلت: وأحاديث النبي r لا تفيد القطع بل هي من باب الظن, ومعلوم أن كثيراً من صفات الباري ثبتت بأحاديث الآحاد, وهي ظنية؛ فلا تقدم دلالتها على قواطع فهم عقولهم.

وقال في كتابه "بحوث في علم الكلام" (ص14): ولما كان خبر الآحاد بالنظر لذاته ومن دون اعتبار القرائن المحيطة لا يفيد القطع واليقين لأنه لا يوجد إنسان معصوم مطلقاً؛ فلا يوجد خبر آحاد مقبول مطلقا! ... فخبر الآحاد وحده مجرداً عن القرائن والأحوال لا يفيد إلا الظن, وهذا على اعتبار ثقة الراوي وإلا؛ فإذا لم يكن ثقة؛ فإنه لا يفيد حتى الظن بل يكون مردوداً أو مشكوكاً فيه أو مكذوباً، لذلك لا يجوز بناء العقيدة  على خبر الواحد, ولا تؤخذ العقائد من أخبار الآحاد بل تؤخذ من الأدلة القطعية ومنها خبر المتواتر.

قلت: وإقحامه المتواتر هنا ما يراد به إلا التدليس لأنه يعرف أن صفات الرب التي ثبتت بالتواتر قليلة جداً والمعول على الأحاديث التي يسمونها بالآحاد.

 قلت: والصحيح أن حديث الآحاد يفيد اليقين أي العلم والعمل.

قال ابن حزم في "الإحكام" (1/112): فصل هل يوجب خبر الواحد العدل العلم مع العمل أو العمل دون العلم؟

قال أبو محمد: قال أبو سليمان والحسين عن أبي علي الكرابيسي والحارث بن أسد المحاسبي وغيرهم؛ أن خبر الواحد العدل عن مثله إلى رسول الله r يوجب العلم والعمل معاً، وبهذا نقول. وقد ذكر هذا القول أحمد بن إسحاق المعروف بابن خويز منداد عن مالك بن أنس.

وقال ابن عبد البر في "التمهيد" (1/8) ناقلاً الخلاف في هذه المسألة: وقال قوم كثير من أهل الأثر وبعض أهل النظر أنه يوجب العلم الظاهر والعمل جميعاً منهم؛ الحسين الكرابيسي وغيره، وذكر ابن خوازبنداد أن هذا القول يخرج على مذهب مالك.

قال أبو عمر: الذي نقول به أنه يوجب العمل دون العلم كشهادة الشاهدين والأربعة سواء, وعلى ذلك أكثر أهل الفقه والأثر, وكلهم يدين بخبر الواحد العدل في الاعتقادات ويعادى ويوالى علها ويجعلها شرعاً وديناً في معتقده على ذلك جماعة أهل السنة, ولهم في الأحكام ما ذكرنا وبالله توفيقنا.

البحث في مسائل متعددة


1- هل تراجع الأشعري عن مذهبه إلى عقيدة السلف؟


أبو الحسن الأشعري الذي ينتسب إليه هذا المعترض قد مر بثلاث مراحل في العقيدة، فالمرحلة الأولى مرحلة الاعتزال، فقد اعتنق مذهب المعتزلة أربعين عاماً يقرره ويناظر فيه ثم رجع عنه وصرح بتضليل المعتزلة وبالغ في الرد عليهم.

وسبب ذلك المناظرة المشهورة مع الجبائي شيخ الاعتزال في عصره في قول المعتزلة: يجب على الله فعل الأصلح.

فقال له الأشعري: بل يفعل ما يشاء, فما تقول في ثلاثة أخوة مات أحدهم وكبر اثنان فآمن أحدهم وكفر الآخر فما العلة في اخترام الطفل؟

قال: لأنه تعالى علم أنه لو بلغ لكفر فكان اخترامه أصلح له.

قال الأشعري :  فقد أحيا أحدهما فكفر.

قال: إنما أحياه ليعرضه أعلى المراتب.

قال الأشعري: فلم لا أحيا الطفل ليعرضه لأعلى المراتب؟

قال الجبائي: وسوست.

قال: لا والله , ولكن وقف حمار الشيخ([31]). ثم تاب الأشعري من الاعتزال, وصعد على المنبر وقال: إني كنت أقول بخلق القرآن, وأن الله لا يرى بالأبصار, وأن الشر فعلي ليس بقدر, وإني تائب معتقد  الرد على المعتزلة([32]).

ثم المرحلة الثانية وهي مرحلة بين الاعتزال المحض والسنة المحضة, وهي طريقة أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله([33]): والأشعري, وأمثاله برزخ بين السلف والجهمية أخذ من هؤلاء كلاماً صحيحاً, ومن هؤلاء أصولاً عقلية ظنوها صحيحة, وهي فاسدة.

ثم المرحلة الثالثة: وهي مرحلة اعتناق مذهب أهل السنة والحديث مقتدياً بالإمام أحمد بن حنبل رحمه الله كما قرره في كتابه "الإبانة عن أصول الدبانة " وهو آخر كتبه([34]).

وإن كان كثيراً من الأشاعرة ينكرون هذه المرحلة الثالثة, وينكرون كتاب  "الإبانة", ويزعمون أنه منتحل عليه, وبعضهم اعتذر له في تصنيفه لهذه الكتب بعذر أقرب إلى الطعن والتنقص له كما فعل سعيد فودة.

وقد  أثبت كتاب الإبانة للأشعري جملة من كبار العلماء حتى من أنصاره وأتباع مذهبه.

فقد نقل عنه ابن عساكر الدمشقي رحمه الله في كتابه "تبيين كذب المفتري"  (ص157) بتحقيق الكوثري جملة من قوله في كتاب "الإبانة"([35]).

قال: فاسمع ما ذكره في أول كتابه الذي سماه "الإبانة"، فإنه قال: ودفعوا أن يكون لله وجه - أي المعتزلة - مع قوله: ]وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ[ [الرحمن:27].

وأنكروا أن يكون لله يدان مع قوله: ]لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ[ [ص:75]. وأنكروا أن يكون له عين مع قوله: ]تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا[ [القمر:14]، ولقوله: ]وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي[ [طه:39].

ونفوا ما روى عن رسول الله r من قوله: ((إن الله ينزل إلى سماء الدنيا)).

وأنا ذاكر ذلك إن شاء الله باباً باباً, وبه المعونة والتأييد ومنه التوفيق والتسديد.

فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون, وديانتكم التي تدينون بها.

قيل له: قولنا الذي به نقول وديانتنا التي ندين  بها  التمسك بكتاب الله وسنة نبيه r, وما روى عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث؛ ونحن بذلك معتصمون, وبما كان عليه أحمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون, ولمن خالف قوله مجانبون؛ لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال, وأوضح به المنهاج, وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم وكبير مفهم, وعلى جميع أئمة المسلمين.

وجملة قولنا: أن نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله, وما رواه الثقات عن رسول الله r لا نرد من ذلك شيئاً, وأن الله إله واحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولداً, وأن محمداً عبده ورسوله,  وأن الجنة والنار حق, وأن الساعة آتية لا ريب فيها, وأن الله يبعث من في القبور, وأن الله استوى على عرشه, وأن له وجهاً كما قال: ]وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ[, وأن له يداً  كما قال: ]بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ[، وقال: ]لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ[, وأن له عيناً بلا كيف كما قال: ]تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا[.

قلت: لكن رجوعه إلى مذهب أهل السنة والجماعة ليس رجوعاً إلى مذهب السنة المحض؛ فإن رجوعه ليس رجوعاً صافياً؛ فقد بقيت بعض شوائب الاعتزال في مذهبه.

قال شيح الإسلام ابن تيمية:

والأشعري وأمثاله برزخ بن السلف والجهمية، أخذوا من هؤلاء كلاماً صحيحا , ومن هؤلاء أصولاً عقلية ظنوها صحيحة, وهي فاسدة؛ فمن الناس من مال إليه من الجهة السلفية, ومن الناس من مال إليه من الجهة البدعية الجهمية([36]).

2- فودة يتهم الأشعري بالتقية والمداهنة: 


لما رأى الأشاعرة أنهم لا يستطيعون نفي كتب الأشعري التي ألفها في آخر عمره, والتي فيها إثبات الصفات الخبرية, وفيها النقض لأصوله التي كان عليها, وفيها الرجوع إلى ما كان عليه السلف الصالح, وإلى ما قرره إمام أهل السنة الإمام أحمد رحمه الله؛ كـ "كتاب الإبانة"، و"اللمع" و"الموجز" و"رسالته إلى أهل الثغر" وغيرها؛ جاءوا بعذر أقبح من ذنب كما يقال؛ فقد اتهموه بالمداهنة والتقية في تأليفه لتلك الكتب.

قال سعيد فودة  في كتابه "بحوث في علم الكلام" (ص41):

وبعد الدراسة لهذه المرحلة دراسة مدققة توصلت إلى أنه عندما تراجع عن فكر الاعتزال التقى بالحنابلة الذين كانوا قد غالوا حتى وصلوا إلى أطراف التجسيم بل كثير منهم كان قد غاص فيه, والتقى بأحد مشايخهم وهو الحافظ زكريا الساجي المتوفى سنة 307هـ, ومنه عرف الأشعري مقالة الحنابلة وعقائدهم, وعلى إثر هذا ألف كتابه "الإبانة عن أصول الديانة"؛ هذا الكتاب الذي قال فيه الكوثري: إن الإمام الأشعري حاول بهذا الكتاب أن يتدرج بالمجسمة من أحضان التجسيم ليرفعهم إلى أعتاب التنزيه, ولا شك أن هذا الكتاب كان بعد أن رأى الأشعري مدى اختلاط الحنابلة بعقائد المجسمة؛ فأراد أن يرفعهم عن هذه الدرجة فألف كتاب "الإبانة", وألف كثيراً من الكتب نحو "اللمع" و"رسالة إلى أهل الثغر" وغيرها!

قلت: ومعرفة الأشعري لمذهب السلف لما التقى بالساجي أشار إليها شيخ الإسلام في "الفتاوى المصرية" (5/251).

3- مسألة أن الله لا داخل العالم ولا خارجه:


ألف سعيد فودة رسالة في تقرير أن الله ليس داخل العالم ولا خارجه, وتعقب في ذلك شيخنا الألباني رحمه الله, وهو بذلك يكرر ما قرره سلفه من الأشاعرة ليتوصلوا بها إلى نفي علو الله على خلقه.

وللجواب على ذلك نقول:

1-       إن قولنا أن الله لا داخل العالم ولا خارجه من الألفاظ التي لم ينطق بها كتاب ولا سنة.

2-       أراد المتكلمون بذلك نفي صفة العلو باصطلاحاتهم, وأن الذي يقال له فوق أو يشار إليه أنه جسم.

3-   إن العدم هو الذي يقال فيه لا فوق ولا تحت ولا عن يمين ولا شمال, وفي ذلك المناظرة المشهورة بين ابن الهيصم الكرَّامي وأحد علماء الأشاعرة وهو ابن فورك في هذه المسألة بحضرة السلطان محمود بن سبكتكين.

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأظهر السلطان محمود بن سبكتكين لعنة أهل البدع على المنابر وأظهر السنة وتناظر عنده ابن الهيصم وابن فورك في مسألة العلو فرأى قوة كلام ابن الهيصم فرجح ذلك, ويقال إنه قال لابن فورك: فلو أردت أن تصف المعدوم كيف كنت تصفه بأكثر من هذا؟ أو قال: فرق لي بين هذا الرب الذي تصفه وبين المعدوم؟ وأن ابن فورك كتب إلى أبي إسحق الإسفراييني يطلب الجواب عن ذلك؛ فلم يكن الجواب إلا أنه لو كان فوق العرش للزم أن يكون جسماً! ([37]).       

4-   أن يقال لهم: كان الله قبل أن يخلق السماوات والأرض ثم خلقهما فهل خلقهما في نفسه أو خارجاً عنه؛ فالأول باطل, والثاني حق وهو أن الله عال على خلقه.  وقال شيخ الإسلام: وقد علم أن ما من موجود إلا الخالق والمخلوق, والخالق مباين للمخلوق سبحانه وتعالى ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته. فيقال لمن نفى الجهة: أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق، فالله ليس داخلاً في المخلوقات. أم تريد بالجهة ما وراء العالم؛ فلا ريب أن الله فوق العالم مباين  للمخلوقات. وكذلك يقال لمن قال الله في جهة أتريد بذلك أن الله فوق العالم أو تريد به أن الله داخل في شيء من المخلوقات. فإن أردت الأول فهو حق  وإن أردت الثاني فهو باطل([38]).

4- مسألة النظر العقلي وأول واجب على المكلف:

أ-  هذه المسألة من مخلفات مذهب المعتزلة التي انتقلت إلى الأشاعرة.


قال ابن حجر في "الفتح" (3/361) شارحاً قول النبي r لما بعث معاذاً إلى اليمن: ((فليكن أو ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله فإذا عرفوا ذلك..)): وقد تمسك به من قال أول واجب المعرفة كإمام الحرمين, واستدل بأنه لا يتأتى الإتيان بشيء من المأمورات على قصد الامتثال, ولا الانكفاف عن شيء من المنهيات على قصد الانزجار إلا بعد معرفة الآمر والناهي, واعترض عليه بأن المعرفة لا تتأتى إلا بالنظر والاستدلال وهو مقدمة الواجب فيجب فيكون أول واجب النظر, وذهب إلى هذا طائفة كابن فورك؛ وتعقب بأن النظر ذو أجزاء يترتب بعضها على بعض فيكون أول واجب جزءاً من النظر, وهو محكي عن القاضي أبي بكر بن الطيب,  وعن الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني أول واجب القصد إلى النظر([39]). وقد ذكرت في كتاب الإيمان من أعرض عن هذا من أصله, وتمسك بقوله تعالى: ]فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا[ [الروم:30]. وحديث: ((كل مولود يولد على الفطرة)). فإن ظاهر الآية والحديث أن المعرفة حاصلة بأصل الفطرة , وأن الخروج عن ذلك يطرأ على الشخص لقوله عليه الصلاة والسلام: ((فأبواه يهودانه أو ينصرانه)).

وقد وافق أبو جعفر السمناني وهو من رؤوس الأشاعرة على هذا, وقال: إن المسألة بقيت في مقالة الأشعري من مسائل المعتزلة, وتفرع عليها أن الواجب على كل أحد معرفة الله بالأدلة الدالة عليه, وأنه لا يكفي التقليد في ذلك.

ونقل كذلك عن القرطبي صاحب "المفهم" كما في "الفتح" (13/363): ولو لم يكن في الكلام إلا مسألتان هما من مبادئه لكان حقيقاً بالذم:

أحدهما: قول بعضهم إن أول واجب الشك إذ هو اللازم عن وجوب النظر أو القصد إلى النظر.

ثانيتها: قول جماعة منهم إن من لم يعرف الله بالطرق التي رتبوها والأبحاث التي حرروها لم يصح إيمانه.

ب-  هذه المسألة كما يقول شيخ الإسلام هي ينبوع البدع وهو الاستدلال بحدوث الأعراض على حدوث الأجسام وبحدوث الأجسام على حدوث العالم وبحدوث العالم على وجود الله. فجرهم هذا إلى تعطيل صفات الله لأن الصفات في نظرهم أعراض, والأعراض لا تقوم إلا بجسم, والله يتنـزه عن ذلك .

فعطل الجهمية الأساسية أسماء الله وصفاته  وتأثر بهذا الأصل المعتزلة فعطلوا به صفات الله, وتأثر بهم الأشاعرة فعطلوا كثيراً من صفات الله ،ومنها العلو على الكون والاستواء على العرش والوجه واليدين والرضى والغضب والحكمة، فلم يثبتوا من صفات الله إلا الصفات السبع التي أثبتوها ومنها العلم والإرادة ..الخ.

ج-  جرهم ذلك إلى منع التقليد في العقيدة:

قال سعيد فودة في "الموقف" (ص9): ولا يجوز للمسلم المتعلم تقليد غيره من المسلمين في العقيدة.

وقال في "نقض التدمرية" (ص8): فإن النظر لمعرفة الله تعالى واجب, وإنما يكون النظر بالعقل لا بالنقل؛ فلا يصح القول إذن بتوقف وصف الله على ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله لأن هذا لا يتأتى إلا بعد نزول الشريعة وثبوتها عند المكلف والنظر يكون قبل ذلك كما هو ظاهر.

وقال في "بحوث في علم الكلام" (ص28): ومثاله أيضا القول: إن الدليل على وجود الله هو كون العالم مخلوقاً، أو كونه متقن الصنعة، أو كونه مرتباً على هيئة معينة بحيث يستحيل أن يوجد على تلك الهيئة من دون مريد قادر يخصصه بها, وهكذا فهذه المعرفة هي المعرفة الواجبة على كل إنسان!

قلت: قال ابن القيم رحمه الله: فإن قيل إنما ذم من قلد الكفار وآباءه الذين لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون, ولم يذم من قلد العلماء المهتدين بل قد أمر بسؤال أهل الذكر؛ وهم أهل العلم وذلك تقليداً لهم، فقال تعالى: ]فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ[ [النحل:43]، وهذا أمر لمن لا يعلم بتقليد من يعلم.

فالجواب: أنه سبحانه ذم من أعرض عما أنزله إلى تقليد الآباء, وهذا القدر من التقليد هو مما اتفق السلف والأئمة الأربعة على ذمه وتحريمه, وأما تقليد من بذل جهده في اتباع ما أنزل الله وخفي عليه بعضه فقلد فيه من هو أعلم منه؛ فهذا محمود غير مذموم ومأجور غير مأزور([40]).

وقال ابن حجر رحمه الله: وقرأت في جزء من كلام شيخ شيخنا الحافظ صلاح الدين العلائي ما ملخصه: أن هذه المسألة مما تناقضت فيها المذاهب وتباينت بين مفرط ومفرِّط ومتوسط، فالطرف الأول قول من قال: يكفي التقليد المحض في إثبات وجود الله تعالى ونفي الشريك عنه, وممن نسب إليه إطلاق ذلك عبيد الله بن الحسن العنبري وجماعة من الحنابلة والظاهرية, ومنهم من بالغ فحرم النظر في الأدلة واستند إلى ما ثبت عن الأئمة الكبار من ذم الكلام, والطرف الثاني قول من وقف صحة إيمان كل أحد على معرفة الأدلة من علم الكلام، ونسب ذلك لأبي إسحاق الإسفراييني, وقال الغزالي: أسرفت طائفة فكفروا عوام المسلمين وزعموا أن من لم يعرف العقائد الشرعية بالأدلة التي حرروها فهو كافر؛ فضيقوا رحمة الله الواسعة وجعلوا الجنة مختصة بشرذمة يسيرة من المتكلمين, وذكر نحوه أبو المظفر بن السمعاني وأطال في الرد على قائله, ونقل عن أكثر أئمة الفتوى أنهم قالوا: لا يجوز أن تكلف العوام اعتقاد الأصول بدلائلها لأن في ذلك من المشقة أشد من المشقة في تعلم الفروع الفقهية([41]).

5- الأخذ بظواهر الكتاب والسنة كفر في نظر سعيد فودة:

قال في "نقض التدمرية" (ص83): فهذه هي أصول الكفر على حسب ما وضحه الإمام السنوسي, وكلامه فيها في غاية الإتقان, وما يهمنا الكلام عليه ههنا هو الأصل الأخير, وهو التمسك في أصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب والسنة .. إلخ.  فالإمام السنوسي يقول: إن الاعتماد على النظرة الأولى التي يلقيها القاريء – خاصة إذا كان من المجسمة – إلى النصوص والآيات لا تصح أن تتخذ أصلاً يعتمد عليه بعد ذلك في تقرير أصول العقائد وعلم التوحيد. ومثاله ما فعله ابن تيمية عندما قال إن قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} يفيد أن الله جالس ومستقر على العرش بمماسة له!

قلت: وفي كلامه ما يلي:

أولاً: حكمهم بالكفر على كل من أخذ بظواهر الكتاب والسنة؛ فالعامي عندما يثبت العلو مثلاً من آيات إثبات العلو كقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى}، وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وغيرها؛ فهو كافر لأن ظاهر هذه الآيات غير مراد لأن عقولهم تفهم من ذلك إثبات الجهة والجهة مكان, وهي من متعلقات الأجسام فيلزم من ذلك التشبيه, وعلى ذلك فالعامي إذا اعتقد ذلك وقع في الكفر, وبعضهم عذره, ولذلك قال في "السنوسية" (ص62) قال البيجوري: فليس الله عن يمين العرش ولا عن شماله ولا أمامه ولا خلفه ولا فوقه ولا تحته فليحذر كل الحذر مما يعتقده العامة من أن الله تعالى فوق العالم، لكن الصحيح أن معتقد الجهة لا يكفر كما قاله ابن عبد السلام, وقيده النووي بأن يكون من العامة. ومفهوم المخالفة أن غير العامي يكفر عندهم فتأمل.

ثانياً: ما نسبه إلى شيخ الإسلام أنه يقول في الاستواء أن معناه الجلوس والاستقرار على العرش بمماسة فهو من الكذب على شيخ الإسلام, وهذا يدل على خيانته العلمية؛ فأين التزام وتقرير شيخ الإسلام أن استواء الله على العرش معناه الجلوس والاستقرار عليه بمماسة.

قلت: ولو كان يملك المعترض النص من كلام شيخ الإسلام في تقرير ذلك لملأ به كتبه. وخصوصاً أن شيخ الإسلام أكثر من قوله إن الله على عرشه بائن عن خلقه في كثير من المواضع, وإليك بعضها:

قال رحمه الله: وروى عبد الله بن أحمد وغيره بأسانيد صحاح عن ابن المبارك أنه قيل له بم نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه, ولا نقول كما تقول الجهمية أنه ههنا في الأرض. وهكذا قال الإمام أحمد وغيره([42]).

وقال رحمه الله: أما من اعتقد الجهة, فإن كان يعتقد أن الله داخل المخلوقات تحويه المصنوعات وتحصره السماوات, ويكون بعض المخلوقات فوقه, وبعضها تحته فهو مبتدع, وكذلك إن كان يعتقد أن الله يفتقر إلى شيء يحمله إلى العرش أو غيره, فهو أيضاً مبتدع ضال.

وكذلك إن جعل صفات الله مثل صفات المخلوقين فيقول استواء الله كاستواء المخلوق أو نزوله كنزول المخلوق, ونحو ذلك فهذا مبتدع ضال؛  فإن الكتاب والسنة مع العقل دلت على أن الله لا تماثله المخلوقات في شيء من الأشياء, ودلت على أن الله غني عن كل شيء, ودلت على أن الله مباين للمخلوقات عال عليها.

وإن كان يعتقد أن الخالق تعالى بائن عن المخلوقات, وأنه فوق سماواته على عرشه بائن من مخلوقاته ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته, وأن الله غني عن العرش, وعن كل ما سواه لا يفتقر إلى شيء من المخلوقات بل هو مع استوائه على عرشه يحمل العرش وحملة العرش بقدرته, ولا يمثل استواء الله باستواء المخلوقين بل يثبت لله ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات, وينفي عنه مماثلة المخلوقات, ويعلم أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله؛  فهذا مصيب في اعتقاده موافق لسلف الأمة وأئمتها([43]).

ثالثاً: في كلامه تلميح إلى  تكفير شيخ الإسلام، فإنه لما ذكر قول السنوسي فال: فهذه هي أصول الكفر على حسب ما وضحه الإمام السنوسي ثم قال بعد ذلك: ومثاله ما فعله ابن تيمية عندما قال إن قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} يفيد أن الله جالس ومستقر على العرش بمماسة له.

6- هل آيات الصفات من المشكل؟

نقل سعيد فودة في كتابه "الفرق العظيم" (36): قول المحلي في "شرحه لجمع الجوامع": وننزهه عند سماع المشكل منه كما في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}, {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ}، {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}, {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}. وقوله عليه الصلاة والسلام: ((إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن ...))، ثم ذكر .. اختلف أئمتنا أنؤول أم نفوض؟ ثم ذكر أن مذهب السلف أسلم وهو التفويض ومذهب الخلف أعلم وهو التأويل.

قلت: أما قوله أن آيات الصفات من المشكل فهو تخرص وقول بلا دليل.

 قال ابن القيم رحمه الله  في "إعلام الموقعين" (1/49): "اتفاق الصحابة في مسائل الصفات"، قال: وقد تضمن هذا أموراً منها أن أهل الإيمان قد يتنازعون في بعض الأحكام ولا يخرجون بذلك عن الإيمان, وقد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام وهم سادات المؤمنين وأكمل الأمة إيماناً, ولكن بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة كلمة واحدة من أولهم إلى آخرهم لم يسوموها تأويلاً, ولم يحرفوها عن مواضعها تبديلاً, ولم يبدوا لشيء منها إبطالاً ولا ضربوا لها أمثالاً, ولم يدفعوا في صدورها وأعجازها, ولم يقل أحد منهم يجب صرفها عن حقائقها وحملها على مجازها، بل تلقوها بالقبول والتسليم, وقابلوها بالإيمان والتعظيم, وجعلوا الأمر فيها كلها أمراً واحداً, وأجروها على سنن واحد, ولم يفعلوا كما فعل أهل الأهواء والبدع حيث جعلوها عضين, وأقروا ببعضها, وأنكروا بعضها من غير فرقان مبين مع أن اللازم لهم فيها أنكروه كاللازم فيما أقروا به وأثبتوه.

وأما قوله: مذهب السلف أسلم وهو التفويض ومذهب الخلف أعلم وهو التأويل.

قلت: قال شيخ الإسلام: ولا يجوز أيضا أن يكون الخالفون أعلم من السالفين كما قد يقوله بعض الأغبياء ممن لم يقدر قدر السلف، بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها من أن طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم.

فإن هؤلاء المبتدعين الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة ومن حذا حذوهم على طريقة السلف إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} [البقرة:78]، وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات.

فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر, وقد كذبوا على طريقة السلف, وضلوا في تصويب طريقة الخلف؛ فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف([44]).

قلت: ومن الدليل على تجهيلهم للسلف قول المعترض في "الفرق العظيم" (ص38): هذا مع ملاحظة إمكان فهم شيء لم يفهمه السلف أو بالأصح لم يهتموا كثيراً بتدقيقه وتنقيحه .. فتأمل .

وجعل التفويض مذهب السلف: قال في "الفرق العظيم" (ص11): هذا هو مذهب السلف رحمهم الله تعالى فهم يفوضون في المعنى, ولا يفسرون فأين هذا المذهب من قول من يفسر وينسب لله تعالى اليد الجارحة والاستواء الذي هو جلوس واستقرار ومماسة ونزولاً هو حركة وانتقال وغير ذلك.

قلت: أما قوله أن السلف يفوضون المعنى فهو من الكذب عليهم، بل السلف يثبتون المعنى المراد, ويفوضون الكيفية, وقد نقل المعترض (ص25) قول الشهرستاني: وأما السلف الذين لم يتعرضوا للتأويل, ولا تهدفوا للتشبيه فمنهم مالك بن أنس إذ قال: الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة, ومثل أحمد بن حنبل.

قلت: ومن المعلوم بداهة أن قول الإمام الاستواء معلوم أي معلوم في لغة العرب؛ وهو العلو والارتفاع, وقوله والكيفية مجهولة أي نفوضها فلا أحد يعرف كيفية استوائه إلا هو سبحانه فتأمل.

وثانيا : أن القاعدة التي يرددونها أن مذهب السلف أسلم يراد به أن السلف أجروا النصوص على ظاهرها .

نقل البيهقي في "الاعتقاد" (ص117) بإسناده إلى يحيى بن يحيى قال: كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال: يا أبا عبد الله {الرحمن على العرش استوى} كيف استوى؟  فأطرق مالك رأسه ثم علاه الرحضاء ثم قال: الاستواء غير مجهول, والكيف غير معقول, والإيمان به واجب, والسؤال عنه بدعة, وما أراك إلا مبتدعاً فأمر به أن يخرج. قال الشيخ: وعلى مثل هذا درج أكثر علمائنا في مسألة الاستواء, وفي مسألة المجيء، والإتيان، والنزول، قال الله عز وجل: {وجاءَ ربُّكَ والمَلكُ صفاً صفاً}، وقال:{هَل يَنظرون إلاَّ أن يأتيَهُم اللهُ في ظُللٍ من الغَمامِ}.

7- قال في "الفرق العظيم" (ص38): فعندما يقول العلماء إن التفويض مذهب السلف والتأويل هو مذهب الخلف فلا يعني ذلك أنه لم يوجد واحد من أهل القرون الثلاثة أوَّل، بل يعني أنهم كانوا على الإجمال يتبعون طريقة التفويض لا بالكلية.

قلت: قد تحدى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله سلفه أن يأتوا بمثال واحد صحيح على تأويل السلف؛ فلم يفعلوا.

قال شيخ الإسلام: ولهذا لما اجتمعنا في المجلس المعقود وكنت قد قلت أمهلت كل من خالفني ثلاث سنين إن جاء بحرف واحد عن السلف يخالف شيئاً مما ذكرته كانت له الحجة وفعلت وفعلت، وجعل المعارضون يفتشون الكتب فظفروا بما ذكره البيهقي فى كتاب "الأسماء والصفات" في قوله تعالى: {وَلله المَشرقُ والمغرب فأينما تُولوا فَثَمَّ وَجه الله}، فإنه ذكر عن مجاهد والشافعي: أن المراد قبلة الله، فقال أحد كبرائهم في المجلس الثاني: قد أحضرت نقلاً عن السلف بالتأويل فوقع في قلبي ما أعد فقلت: لعلك قد ذكرت ما روى في قوله تعالى: {وَلله المَشرقُ والمغرب فأينما تُولوا فَثَمَّ وَجه الله}. قال: نعم. قلت: المراد بها قبلة الله فقال: قد تأولها مجاهد والشافعي وهما من السلف, ولم يكن هذا السؤال يرد عليّ فإنه لم يكن شيء مما ناظروني فيه صفة الوجه, ولا أثبتها لكن طلبوها من حيث الجملة، وكلامي كان مقيداً كما في الأجوبة فلم أر إحقاقهم في هذا المقام، بل قلت: هذه الآية ليست من آيات الصفات أصلاً ولا تندرج في عموم قول من يقول لا تؤول آيات الصفات.

قال: أليس فيها ذكر الوجه؟ فلما قلت: المراد بها قبلة الله قال: أليست هذه من آيات الصفات؟ قلت: لا، ليست من موارد النزاع فإني إنما أسلم أن المراد بالوجه هنا القبلة؛ فإن الوجه هو الجهة في لغة العرب، يقال: قصدت هذا الوجه وسافرت إلى هذا الوجه، أي إلي هذه الجهة وهذا كثير مشهور([45]).                       8- فسر الاستواء بالاستيلاء: قال في "بحوث في علم الكلام" (ص83): إن الاستواء اللائق بالله هو الاستيلاء دون الاستقرار والجلوس لأنهما من صفات الأجسام.

قلت: قال ابن بطال: فأما قول المعتزلة؛ - أي تفسيره بالاستيلاء -، فإنه فاسد لأنه لم يزل قاهراً غالباً مستولياً, وقوله ثم استوى يقتضي افتتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن, ولازم تأويلهم أنه كان مغالباً فيه؛ فاستوى عليه بقهر من غالبه, وهذا منتف عن الله سبحانه.

وأما قول المجسمة ففاسد أيضاً، لأن الاستقرار من صفات الأجسام, ويلزم منه الحلول والتناهي, وهو محال في حق الله تعالى ولائق بالمخلوقات، لقوله تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ}، وقوله: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ}. قال: وأما تفسير استوى علا؛ فهو صحيح وهو المذهب الحق, وقول أهل السنة؛ لأن الله سبحانه وصف نفسه بالعلي وقال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}، وهي صفة من صفات الذات.

وقال ابن حجر رحمه الله: وقد نقل أبو إسماعيل الهروي في كتاب "الفاروق" بسنده إلى داود بن علي بن خلف قال: كنا عند أبي عبد الله بن الأعرابي يعني محمد بن زياد اللغوي فقال له رجل: {الرحمنُ عَلى العَرش استوى} فقال: هو على العرش كما أخبر قال: يا أبا عبد الله إنما معناه استولى، فقال: اسكت لا يقال استولى على الشيء إلا أن يكون له مضاد.

ومن طريق محمد بن أحمد بن النضر الأزدي سمعت ابن الأعرابي يقول : أرادني أحمد بن أبي داود أن أجد له في لغة العرب {الرحمنُ عَلى العَرش  استوى} بمعنى استولى فقلت: والله ما أصبت هذا. وقال غيره: لو كان بمعنى استولى لم يختص بالعرش، لأنه غالب على جميع المخلوقات. ونقل محي السنة البغوي في تفسيره عن ابن عباس وأكثر المفسرين أن معناه ارتفع([46]).

9- قال في "الفرق العظيم" (ص53): والأصل أن الكيف غير ثابت لله تعالى... أما الإمام مالك والمتقدمون من علماء السلف فأصل الكيف عندهم منفي قطعاً. وقال في "النقد والتقويم" (ص35): والسلف لم يثبتوا كيفية أصلاً ويفوضوا العلم بها إلى الله تعالى.

قلت: وهذا من قوله على الله بلا علم ومن تقوله على السلف بلا علم ولا دليل.


قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتوى الحموية" (ص309):


فقول ربيعة ومالك: الاستواء غير مجهول موافق لقول الباقين أمروها كما جاءت بلا كيف فإنما نفوا علم الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة, ولو كان القوم آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله لما قالوا: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول، ولما قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف فإن الاستواء حينئذ لا يكون معلوماً بل مجهولاً بمنزلة حروف المعجم.

وأيضاً فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى, وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبت الصفات.

وأيضاً فإن من ينفي الصفات الجزئية - أو الصفات مطلقاً - لا يحتاج إلى أن يقول  بلا كيف،  فمن قال: إن الله ليس على العرش  لا يحتاج أن يقول  بلا كيف، فلو كان مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر لما قالوا: وبلا كيف.

وأيضاً قولهم: أمروها كما جاءت يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه؛ فإنها جاءت ألفاظاً دالة على معاني، فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال: أمروا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد  أو أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة, وحينئذ تكون قد أمرت كما جاءت, ولا يقال حينئذ بلا كيف إذا نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول.

وقال الخطيب البغدادي: أما الكلام في الصفات، فإن ما روي منها في السنن الصحاح، مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها، وقد نفاها قوم، فأبطلوا ما أثبته الله، وحققها قوم من المثبتين، فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف، والقصد إنما هو سلوك الطريقة المتوسطة بين الأمرين، ودين الله تعالى بين الغالي فيه والمقصر عنه.

والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع الكلام في الذات، ويحتذى في ذلك حذوه ومثاله، فإذا كان معلوماً  أن إثبات رب العالمين إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف.

فإذا قلنا: لله يد وسمع وبصر، فإنما هي صفات أثبتها الله لنفسه، ولا نقول: إن معنى اليد القدرة، ولا إن معنى السمع والبصر العلم، ولا نقول: إنها جوارح. ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل،  ونقول: إنما وجب إثباتها لان التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها لقوله: {ليس كمثله شيء}، {ولم يكن له كفوا أحد}([47]).

10- أنكر على شيخ الإسلام ما قرره رحمه الله من قوله أن طريقة السلف في صفات الله نفي مجمل وإثبات مفصل كما في "نقض التدمرية" (ص11).

والجواب:

قال شيخ الإسلام: إن الطريقة التي بعث الله بها أنبياءه ورسله وأنزل بها كتبه مشتملة على الإثبات المفصل والنفي المجمل كما يقرر في كتابه وعلمه وقدرته وسمعه وبصره ومشيئته ورحمته وغير ذلك، ويقول في النفي: {ليس كمثله شيء}، {هَل تَعلمُ له سمياً}، {لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد}، وعلى أهل العلم والإيمان إتباع المرسلين من الأولين والآخرين, وأما طريقة هؤلاء فهي نفي مفصل ليس بكذا ولا كذا وإثبات مجمل، يقولون: هو الوجود المطلق لا يوصف إلا بسلب أو إضافة أو مركب منهما, ونحو ذلك، وكل من علم ما جاءت به الرسل وما يقوله هؤلاء علم أن هؤلاء في غاية المشاقة والمحادة والمحاربة لله ورسله([48]).

ويقال أيضاً: ألا ترى أنك لو مدحت ملكاً فقلت له: أنت كريم شجاع محنك..، إلى غير ذلك من الصفات لكان هذا من أعظم الثناء عليه, وكان فيه من زيادة مدحه وإظهار محاسنه ما يجعله محبوباً محترماً لأنك فصلت في الإثبات، ولو قلت: أنت ملك لا يساميك أحد من ملوك الدنيا في عصرك لكان مدحاً بالغاً لأنك أجملت في النفي, ولو قلت: أنت ملك غير بخيل ولا جبان ولا فقير ولا بقال ولا كناس ولا بيطار .. وما أشبه ذلك من التفصيل في نفي العيوب التي لا تليق لعد ذلك استهزاء به وتنقصاً لحقه([49]).

وقارن بين طريقة المتكلمين كما في "تهذيب شرح السنوسية": يستحيل على الله العجز .. ويستحيل على الله الذهول .. ويستحيل الجهل عليه تعالى .. ويستحيل عليه تعالى الموت.. ويستحيل عليه تعالى الصمم .. ويستحيل عليه تعالى العمى .. ويستحيل عليه تعالى البكم ...!

وبين طريقة القرآن: {ليس كمثله شيء}، {هل تعلم له سميا}، {ولم يكن له كفوا أحد}، وفي الإثبات: {الرحمن الرحيم}، {العلي الحكيم}، {السميع البصير}، لتعرف الفرق بينهما.

11- قال في "الفرق العظيم" (ص54): ثم أين هي تلك النصوص التي يمتليء بها القرآن الكريم والتي تصرح بالجهة، نحن نتحدى الشوكاني وغيره أن يأتينا بنص واحد فيه إثبات الجهة في الكتاب أو السنة، وكيف لم ترد الجهة في القرآن  منسوبة إلى الله تعالى ولا في السنة كذلك ولا وردت عن صحابي.

قلت: قوله الجهة من باب قلب الحقائق؛ فهو ليتوصل لنفي علو الله على خلقه يسميها جهة.

أ- قال ابن القيم: وكذلك قولهم ننزهه عن الجهة؛ إن أردتم أنه منزه عن جهة وجودية تحيط به وتحويه وتحصره إحاطة الظرف بالمظروف فنعم هو أعظم من ذلك وأكبر وأعلى. ولكن لا يلزم من كونه فوق العرش هذا المعنى. وإن أردتم بالجهة أمراً يوجب مباينة الخالق للمخلوق, وعلوه على خلقه, واستواءه على عرشه فنفيكم لهذا المعنى الباطل, وتسميته جهة اصطلاح منكم توصلتم به إلى نفي ما دل عليه العقل والنقل والفطرة, وسميتم ما فوق العالم جهة, وقلتم منزه عن الجهات, وسميتم العرش حيزاً, و قلتم ليس بمتحيز, وسميتم الصفات أعراضاً, وقلتم  الرب منزه عن قيام الأعراض به([50]).

وقال ابن رشد في "مناهج الأدلة": وأما هذه الصفة – أي الجهة - فلم يزل أهل الشريعة في أول الأمر يثبتونها لله سبحانه حتى نفتها المعتزلة ثم تبعهم على نفيها متأخروا الأشعرية كأبي المعالي, ومن اقتدى بقوله, وظواهر الشرع تقتضي إثبات الجهة مثل قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، ومثل قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}، ومثل قوله: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}، ومثل قوله: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ}، ومثل قوله: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}، ومثل قوله: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ}، إلى غير ذلك من الآيات التي إن سلط التأويل عليها عاد الشرع كله مؤولاً, وإن قيل فيها: إنها من المتشابهات عاد الشرع كله متشابهاً، لأن الشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء, وأن منها تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين, وأن من  السماء نزلت الكتب وإليها كان الإسراء بالنبي r حتى قرب من سدرة المنتهى.


قال: "وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك, والشبهة التي قادت نفاة الجهة إلى نفيها هو أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية. قال: ونحن نقول: إن هذا كله غير لازم؛ فإن الجهة غير المكان"([51]).

ب- طريقتهم في نفي العلو عن الله، فقد قال المعترض في "تهذيب شرح السنوسي" (ص61): فيستحيل على الله أن تأخذ ذاته قدراً من الفراغ، ويستحيل عليه تعالى أن يكون جرماً أو يكون عرضاً يقوم بالجرم, ويستحيل على الله تعالى أن يكون في جهة للجرم بأن يكون فوق العرش مثلاً أو تحته أو يمينه أو شماله أو أمامه أو خلفه، لأن الله تعالى لو كان في جهة للجرم لكان جرما ولو كان جرماً لانتفت المخالفة.

ج- إن في القرآن والسنة أكثر من ألف دليل على إثبات العلو لله.

قال شيخ الإسلام: قال بعض أكابر أصحاب الشافعي: في القرآن ألف دليل أو أزيد تدل على أن الله تعالى عال على الخلق وأنه فوق عباده([52]).

وإليك مثال واحد من القرآن ومن السنة ومن أقوال الصحابة"

أما القرآن فقوله تعالى: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء}، وقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ}.

ومن السنة حديث أنس أن زينب بنت جحش كانت تفخر على أزواج النبي r تقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات.                                                 

ولفظ عيسى: كانت تقول إن الله أنكحني في السماء.

وفي لفظ أنها قالت للنبي r: زوجنيك الرحمن من فوق عرشه.

قال الذهبي في العلو: هذا  حديث صحيح أخرجه البخاري.

ومن أقوال الصحابة قول ابن مسعود الذي يقول فيه: والعرش فوق الماء, والله عز وجل فوق العرش ولا يخفى عليه شيء من أعمالكم([53]).

12- قال في "نقض التدمرية" (ص43): عن صفة النزول .. بل هو غير ثابت أصلاً على سبيل الحقيقة لله تعالى بل الملائكة هي التي تنزل، ونزول الله هو قربه واستجابته لدعاء العباد لا غير، ولا يوجد هناك فعل حادث يقوم بالله تعالى اسمه النزول والحركة، لا بل كل هذا محض خيال لا يقوم إلا في خيال ابن تيمية وصحبه وأتباعه.



قلت: قال ابن عبد البر في "التمهيد" (7/153): وقول رسول الله r ينزل ربنا إلى السماء الدنيا عندهم مثل قول الله عز وجل: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ}، ومثل قوله: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّاكلهم يقول ينزل ويتجلى، ويجيء بلا كيف، لا يقولون كيف يجيء وكيف يتجلى وكيف ينزل، ولا من أين جاء ولا من أين تجلى، ولا من أين ينزل، لأنه ليس كشيء من خلقه وتعالى عن الأشياء ولا شريك له.

وقال الأشعري: ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل عن النزول إلى سماء الدنيا وأن الرب عز وجل يقول : ((هل من سائل هل من مستغفر؟))، وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافاً لما قاله أهل الزيغ والتضليل([54]).

وقال الجيلاني: والله ينزل كل يوم إلى السماء كيف شاء, وليس بمعنى نزول الرحمة والثواب كما تدعي المعتزلة والأشعرية([55]).

13- أول فودة رؤية الله سبحانه وتعالى بمعنى مزيد العلم به، قال في "شرح صغرى الصغرى" (ص86): إننا لا نريد من وقوع الرؤية إلا الحصول على علم أكثر بالله تعالى .. فالرؤية الحاصلة فينا هي عبارة عن زيادة كشف لبعض  كمالات الله.

وقال في "موقف أهل السنة" (ص86): لا يستحيل عقلاً أن يخلق الله تعالى فينا إدراكا وعلماً به جل شأنه زائداً على ما أدركناه بالنظر والنقل بحيث يكون في زيادته كرؤية الشيء بعد العلم به بالنظر.

قلت: قبح الله التأويل ما يصنع بأهله، فما الفرق بين من نفى رؤية الله في الآخرة وبين من أولها.

ثم أين هي تلك الآيات والأحاديث التي فيها إثبات الرؤية على الحقيقة عياناً والنظر إلى الله تعالى بعد كشف الحجاب والذي هو أعلى نعيم في الجنة. والذي جرهم إلى ذلك الفرار من قبح إلزاماتهم، لأن من لوازم الرؤيا في مذهبهم أنه انفعال يحصل في شبكية العين نتيجة ارتطام شعاع منعكس عن المرئي بها، وهذا لازم في حق المخلوق، وأما أهل السنة فيقولون هذا لا يلزم لأن الله أخبر عن نفسه بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].

14- شبهة التجسيم: هذه الشبهة أكبر مسألة أخذت حيزاً في كتاب المعترض "الكاشف"، فهو يتكلم عليها في مقدمة كتابه ثم يعقد لها فصلاً مستقلاً طويلاً,  ويحشر الأقوال الكثيرة من كلام شيخ الإسلام ويقتطع من هنا وهنا, ويضع اللوازم والتفسيرات , ويلبس على القاريء ويشوش عليه.

وللجواب على هذه الشبهة إليك البيان:

أولاً: إن لفظ الجسم والجسمية هي من ألفاظ أهل الكلام الذين يتبجح هذا المعترض بالانتساب إليهم, ويدعو إلى دراسة هذا العلم الذي أوله سفسطة وآخره زندقة. وهو لفظ لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة.

قال شيخ الإسلام رحمه الله:  وأما اللفظ - أي الجسم - فبدعة نفياً وإثباتاً فليس في الكتاب والسنة, ولا قول أحد من سلف الأئمة وأئمتها إطلاق لفظ الجسم في صفات الله تعالى لا نفياً ولا إثباتاً.

ثانياً: بين شيخ الإسلام رحمه الله تعالى سبب خوضه في مثل هذه الألفاظ المجملة, والتي توهم معنى حقاً وباطلاً. فقال رحمه الله: "وإذا كانت هذه الألفاظ مجملة؛  فالمخاطب لهم إما أن يفصل ويقول ما تريدون بهذه الألفاظ؛ فإن فسروها بالمعنى الذي يوافق القرآن قبلت, وإن فسروها بخلاف ذلك ردت, وإما أن يمتنع عن موافقتهم في التكلم بهذه الألفاظ نفياً وإثباتاً؛ فإن امتنع عن التكلم بها معهم فقد ينسبونه إلى العجز والانقطاع, وإن تكلم بها معهم نسبوه إلى أنه أطلق تلك الألفاظ التي تحتمل حقاً وباطلاً, وأوهموا الجهال باصطلاحهم أن إطلاق تلك الألفاظ يتناول المعاني الباطلة التي يتنزه الله عنها"([56]).

قلت: كما فعل هذا المعترض في كتابه.

وقال ابن القيم رحمه الله: لما ذكر الأسباب التي تسهل على النفوس الجاهلية قبول التأويل، السبب الثاني: أن يخرج المعنى الذي يريد إبطاله بالتأويل في صورة مستهجنة تنفر عنها القلوب, وتنبو عنها الأسماع، فيتخير له من الألفاظ أكرهها, وأبعدها وصولاً إلى القلوب وأشدها نفرة، فكذلك أهل البدع والضلال من جميع الطوائف.

هذا معظم ما ينفرون به عن الحق ويدعون به إلى الباطل فيسمون إثبات صفات الكمال لله تجسيماً وتشبيهاً وتمثيلاً, ويسمون إثبات الوجه واليدين تركيباً , ويسمون إثبات استوائه على عرشه وعلوه على خلقه فوق سماواته تحيزاً وتجسيماً ويسمون العرش حيزاً([57]).

ثالثاً: إن من نفى لفظ الجسم والجسمية أراد نفي صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه, ووصفه بها النبي r، كالوجه واليد والعين وغيرها من صفات الكمال له سبحانه وتعالى, وجعل إثبات الصفات يستلزم التجسيم والتركيب.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: وكذلك هؤلاء نفاة الصفات أخذوا يقولون إثبات الصفات يقتضي التركيب والتجسيم. إما لكون الصفة لا تقوم إلا بجسم في اصطلاحهم, والجسم مركب في اصطلاحهم, وإما لأن إثبات العلم والقدرة ونحوهما يقتضي إثبات أمور متعددة وذلك تركيب([58]).

وقال رحمه الله: "فالمعتزلة والجهمية ونحوهم من نفاة الصفات يجعلون كل من أثبتها مجسماً ومشبهاً, ومن هؤلاء من يعد من المجسمة والمشبهة من الأئمة المشهورين كمالك والشافعي وأحمد وأصحابهم([59]).

وقال رحمه الله: لفظ الجسم فيه إجمال قد يراد به المركب الذي كانت أجزاؤه مفرقة فجمعت أو ما يقبل التفريق والانفصال أو المركب من مادة وصورة أو المركب من الأجزاء المفردة التي تسمى الجواهر المفردة. والله تعالى منزه عن ذلك كله عن أن يكون كان متفرقاً؛ فاجتمع أو أن يقبل التفريق والتجزئة التي هي مفارقة بعض الشيء بعضا وانفصاله عنه أو غير ذلك من التركيب الممتنع عليه. وقد يراد بالجسم ما يشار إليه أو ما يرى أو ما تقوم به الصفات, والله تعالى يرى في الآخرة وتقوم به الصفات, ويشير إليه الناس عند الدعاء بأيديهم وقلوبهم ووجوههم وأعينهم؛ فإذا أراد بقوله ليس بجسم هذا المعنى. قيل له: هذا المعنى الذي قصدت نفيه بهذا اللفظ معنى ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول, وأنت لم تقم دليلاً على نفيه. وأما اللفظ فبدعة نفياً وإثباتاً([60]).

وقال ابن القيم في"الصواعق": "فالناس كانوا طائفتين سلفية وجهمية فحدثت الطائفة السبعية - الأشاعرة - واشتقت قولاً بين القولين، فلا للسلف أثبتوا ولا مع الجهمية بقوا.

وقالت طائفة أخرى: ما لم يكن ظاهره جوارح وأبعاض كالعلم والحياة والقدرة والإرادة والكلام لا يتأول, وما كان ظاهره جوارح وأبعاض كالوجه واليدين والقدم والساق والإصبع؛ فإنه يتعين تأويله لاستلزام إثباته التركيب والتجسيم.

قال المثبتون: جوابنا لكم بعين الجواب الذي تجيبون به خصومكم من الجهمية والمعتزلة نفاة الصفات؛ فإنهم قالوا لكم لو قام به سبحانه صفة وجودية كالسمع والبصر والعلم والقدرة والحياة لكان محلاً للأعراض, ولزم التركيب والتجسيم والانقسام كما قلتم لو كان له وجه ويد وأصبع لزم التركيب والانقسام. فما جوابكم لهؤلاء نجيبكم به!

فإن قلتم: نحن نثبت هذه الصفات على وجه لا تكون أعراضاً ولا نسميها أعراضاً فلا يستلزم تركيباً ولا تجسيماً.

قيل لكم: ونحن  نثبت الصفات التي أثبتها الله لنفسه إذ نفيتموها أنتم على  وجه لا يستلزم الأبعاض والجوارح, ولا يسمى المتصف بها مركباً ولا جسماً ولا منقسماً([61]).

فملخص الكلام:

1-       إن لفظ الجسمية لم يثبته شيخ الإسلام ولم ينفه حتى يستفصل عن معناه.

2-       إن من نفاه أراد نفي صفات الله, وأن من أثبته أراد إثبات الصفات لله مع التوقف في هذا اللفظ.

3-       إن هذا اللفظ من ألفاظ المتكلمين التي يضطر أهل السنة للتكلم بألفاظهم للرد عليهم.

4-       إن شيخ الإسلام يناقش أهل الكلام باصطلاحاتهم وينقض أقوالهم  بأقوالهم وقواعدهم التي يتحاكمون إليها.

15- قال المعترض في "كاشفه" (ص85): وابن تيمية كما تراه يحاول بكل قواه  أن يدلل على أن الفطرة هي الإسلام , وذلك ليتخذ كل ما يسميه بالفطرة دليلاً على ما يريد من عقائد التجسيم، فيقول مثلاً إن الإنسان بفطرته يعتقد أن الله فوق الخلق مريداً إثبات الجهة لله تعالى ... ثم قال: وهكذا فتصبح الفطرة في يديه سلاحاً للتجسيم.

وللرد على هذه الفرية أقول مستعينا بالله:

أولاً: إن أول من عرف عنه إنكار المعرفة بالفطرة هم أهل الكلام الذين اتفق السلف على ذمهم من الجهمية والقدرية, وهم عند سلف الأمة من أضل الطوائف وأجهلهم([62]).

وهو كذلك قول المعتزلة([63])، وذلك إنكاراً لقول أهل السنة في أن معرفة علوه على عرشه مغروس في فطر العباد.

ثانياً: إن تفسير شيخ الإسلام بأن الفطرة الإسلام والتوحيد مسبوقاً بكلام من سبقه من أهل العلم, وهو ليس ببدع من القول, وعليه تدل الأدلة الكثيرة من كتاب الله تعالى وسنة النبي r.

قال ابن عبد البر مبيناً اختلاف العلماء في معنى الفطرة: "الفطرة المذكورة في هذا الحديث اختلف العلماء فيها واضطربوا في معناها وذهبوا في ذلك مذاهب متباينة, ونزعت كل فرقة منهم في ذلك بظاهر آية ونص وسنة.

وقال آخرون: الفطرة ها هنا الإسلام قالوا: وهو المعروف عند عامة السلف من أهل العلم بالتأويل قد أجمعوا في قول الله عز وجل: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}، على أن فطرة الله دين الله الإسلام([64]).

فالمسألة خلافية, وأكثر السلف على ما قرره شيخ الإسلام.

ثالثاً: تعقب شيخ الإسلام ابن عبد البر في ترجيحه للفطرة بما رجحه النظار, وبين أن الصواب قول السلف في تعريف الفطرة بالإسلام، واستدل رحمه الله بالحديث القدسي الذي رواه الإمام مسلم في "صحيحه": ((إني خلقت عبادي حنفاء)) ([65]). والحنيف هو المسلم كما رجح ذلك ابن عبد البر([66]).

قال شيخ الإسلام: وقول النبي r في الحديث الصحيح: ((كل مولود يولد على الفطرة)), وقوله فيما يرويه عن ربه: ((خلقت عبادي حنفاء)), ونحو ذلك لا يتضمن مجرد الإقرار بالصانع فقط؛ بل إقرار تبعه عبودية الله بالحب والتعظيم وإخلاص الدين له, وهذا هو الحنيفية, وأصل الإيمان قول القلب وعمله أي علمه  بالخالق, وعبوديته للخالق والقلب مفطور على هذا([67]).

قلت: وإلى هذا جنح الإمام أحمد و البخاري وعامة السلف ورجحه ابن حجر وغيره من العلماء. قال البخاري: قال ابن شهاب: يصلى على كل مولود متوفى, وإن كان لغية من أجل أنه ولد على فطرة الإسلام([68]). وقال البخاري أيضاً: والفطرة الإسلام([69]).

ونقل ابن حجر عن محمد بن نصر المروذي: أن آخر قولي الإمام أحمد أن المراد بالفطرة الإسلام .

وقال ابن حجر: وأشهر الأقوال أن المراد بالفطرة الإسلام، قال ابن عبد البر: وهو المعروف عند عامة السلف.

وأجمع أهل العلم بالتأويل على أن المراد بقوله تعالى: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}، الإسلام. واحتجوا بقول أبي هريرة في آخر حديث الباب: اقرؤوا إن شئتم فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}. وبحديث عياض بن حمار  عن النبي r فيما يرويـه عن ربه: ((إني خلقت عبادي حنفاء كلهم فاجتالتهم الشياطين عن دينهم))([70]).

وقال ابن القيم: ليس المراد بقوله" "يولد على الفطرة" أنه خرج من بطن أمه يعلم الدين لأن الله يقول: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا}, ولكن المراد أن فطرته مقتضية لمعرفة دين الإسلام ومحبته؛ فنفس الفطرة تستلزم الإقرار والمحبة, وليس المراد مجرد قبول الفطرة، لأنه لا يتغير بتهويد الأبوين مثلاً بحيث يخرجان الفطرة عن القبول, وإنما المراد أن كل مولود يولد على إقراره بالربوبية لو خلي؛ وعدم المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره، كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من ارتضاع اللبن حتى يصرفه عنه الصارف , ومن ثم شبهت الفطرة باللبن بل كانت إياه في تأويل الرؤيا، والله أعلم([71]).

رابعاً: إن الفطرة قطعاً دلت على علو الله تعالى علو ذات وعلو قهر وعلو منزلة سبحانه وتعالى, وعلى ذلك مذهب الأشعري وشيخه ابن كلاب.

قال ابن القيم: الطريق الثاني: أن يقال علوه سبحانه على العالم, وأنه فوق السماوات كلها, وأنه فوق عرشه أمر مستقر في فطر العباد معلوم لهم بالضرورة كما اتفق عليه جميع الأمم إقراراً بذلك, وتصديقاً من غير تواطؤ منهم على ذلك ولا تشاور, وهم يخبرون عن أنفسهم أنهم يجدون ذلك بالضرورة, وجميع الطوائف تنكر قول المعطلة إلا من تلقاه منهم, وأما العامة من جميع الأمم ففطرهم جميعهم مقرة بأن الله فوق العالم, وإذا قيل لهم لا داخل العالم, ولا خارجه, ولا فوقه, ولا تحته, ولا مباين له, ولا محايث, ولا يصعد إليه شيء, ولا ينزل منه شيء, ولا يقرب إليه شيء,  ولا يقرب هو من شيء, ولا يحجب العباد عنه حجاب منفصل,  ولا ترفع إليه الأيدي, ولا تتوجه إليه القلوب نحو العلو أنكرت فطرهم ذلك غاية الإنكار ودفعته غاية الدفع.

قال أبو الحسن الأشعري في كتبه: ورأينا المسلمين جميعاً يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء لأن الله عز وجل مستوٍ على العرش الذي هو فوق السماوات؛ فلولا أن الله عز وجل على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو السماء كما لا يحطونها إذا دعوا نحو الأرض.

هذا لفظه في أجل كتبه وأكبرها وهو "الموجز", وفي أشهرها وهو "الإبانة" التي اعتمد عليها أبصر الناس له, وأعظمهم ذباً عنه من أهل الحديث أبو القاسم ابن عساكر؛ فإنه اعتمد على هذا الكتاب وجعله من أعظم مناقبه في كتاب "تبيين كذب المفتري" ثم قال في كتابه: ومن دعاء أهل الإسلام جميعاً إذا هم رغبوا إلى الله عز وجل في الأمر النازل بهم يقولون يا ساكن العرش ويقولون: لا والذي احتجب بسبع سماوات.

وقال أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب في كتاب "الصفات", وقد ذكر مسألة الاستواء ... قال: ولو لم يشهد بصحة مذهب الجماعة في هذا إلا ما ذكرنا من هذه الأمور لكان فيه ما يكفي؛ كيف وقد غرس في بنية الفطرة, ومعارف الآدميين من ذلك ما لا شيء أبين منه, ولا أوكد لأنك لا تسأل أحدا عنه عربياً ولا عجمياً ولا مؤمناً ولا كافراً فتقول أين ربك؟ إلا قال: في السماء إن أفصح أو أومأ بيده أو أشار بطرفه، وإن كان لا يفصح لا يشير إلى غير ذلك من أرض ولا سهل ولا جبل, ولا رأينا أحداً داعياً إلا رافعاً يديه إلى السماء.

وقال ابن عبد البر إمام أهل السنة ببلاد المغرب في "التمهيد" لما تكلم على حديث النزول قال: هذا حديث ثابت من جهة النقل صحيح الإسناد لا يختلف أهل الحديث في صحته, وهو منقول من طرق سوى هذه من أخبار العدول عن النبي r, وفيه دليل على أن الله في السماء على العرش فوق سبع سماوات كما قال الجماعة, وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم إن الله بكل مكان، قال:  والدليل على صحة قول أهل الحق قوله تعالى - وذكر عدة آيات - إلى أن قال: وهذا أشهر وأعرف عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد, ولا أنكره عليهم مسلم وهذا قليل من كثير من كلام من ذكر أن مسألة العلو فطرية ضرورية, وأما من نقل إجماع الأنبياء والرسل والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين؛ فأكثر من أن يذكر ولكن ننبه على اليسير منه([72]).

ومن ذلك ما دار بين أبي المعالي وأبي جعفر:

قال شيخ الإسلام : وقد حكى محمد بن طاهر المقدسي عن الشيخ أبي جعفر الهمداني أنه حضر مجلس أبي المعالي فذكر العرش, وقال: كان الله ولا عرش ونحو ذلك وقام إليه الشيخ أبو جعفر فقال: يا شيخ دعنا من ذكر العرش, وأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا؛ فإنه ما قال عارف قط: يا الله إلا وجد في قلبه ضرورة لطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة, قال فضرب أبو المعالي على رأسه وقال: حيرني الهمداني.

فأخبر هذا الشيخ عن كل من عرف الله أنه يجد في قلبه حركة ضرورية إلى العلو إذا قال: يا الله, وهذا يقتضي أنه في فطرتهم وخلقتهم العلم بأن الله فوق, وقصده والتوجه إليه إلى فوق([73]).


16- بيان مذهب الأشاعرة في كلام الله:

يقوم مذهب الأشاعرة على:

1-   أن كلام الله معنى قائم بالنفس دون الحروف والألفاظ, وهذا ما يسمونه بالكلام النفسي ([74]), ومن ثم منعوا أن الله يتكلم بحرف وصوت.

2-       أنه قديم أزلي قائم بذات الله كحياته وعلمه, ولذا فهو لا يتعلق بمشيئة الله وقدرته ولا يتكلم إذا شاء متى شاء.

3-   أنه معنى واحد لا يتجزأ هو الأمر بكل مأمور, والنهي عن كل منهي عنه, والخبر عن كل مخبر عنه؟ إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً, وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة, وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً.

4-       إن القرآن عبارة عن كلام الله وهو مخلوق أتى به جبريل أو محمد r أو أوجده في الهواء أو في اللوح المحفوظ.

5-   أن تكليم الله لملائكته، وتكليمه لموسى, وتكليمه لعباده يوم القيامة, ومناداته لمن ناداه إنما هو خلق إدراك في المستمع أدرك به ما لم يزل موجوداً([75]).

وللرد عليهم نبين:

كيف نشأ مذهب الأشاعرة

كان الناس قبل ابن كلاب – شيخ الأشعري – في الصفات على قولين:

الأول: قول أهل السنة الذين يثبتون جميع الصفات كالعلم والحياة والقدرة والإرادة والكلام والوجه واليدين والعين والمجيء، دون أن يفرقوا بين صفات الذات, وصفات الفعل المتعلقة بمشيئته وقدرته.

والثاني: قول الجهمية والمعتزلة الذين ينفون جميع هذه الصفات دون تفريق.

ولم يكن هناك قول ثالث حتى جاء ابن كلاب فأثبت الصفات المعنوية والذاتية كالعلم والإرادة والكلام والوجه واليدين, ونفى ما يتعلق بمشيئته وإرادته من الصفات الاختيارية, وتبعه على ذلك الأشعري وجمهور الأشاعرة.

قال شيخ الإسلام: "ولكن هذا القول أول من قاله في الإسلام عبد الله بن كلاب؛ فإن السلف والأئمة كانوا يثبتون لله تعالى ما يقوم به من الصفات والأفعال المتعلقة بمشيئته وقدرته, والجهمية تنكر هذا وهذا؛ فوافق ابن كلاب السلف على القول بقيام الصفات القديمة, وأنكر أن يقوم به شيء يتعلق بمشيئته وقدرته.

وجاء أبو الحسن الأشعري بعده, وكان تلميذاً لأبي علي الجبائي المعتزلي ثم إنه رجع عن مقالة المعتزلة, وبين تناقضهم في مواضع كثيرة, وبالغ في مخالفتهم في مسائل القدر والإيمان والوعد والوعيد حتى نسبوه بذلك إلى قول المرجئة والجبرية والواقفة, وسلك في الصفات طريقة ابن كلاب, وهذا القول في القرآن هو قول ابن كلاب في الأصل, وهو قول من اتبعه، كالأشعري وغيره([76]).

وقد نقل شيخ الإسلام عن أبي نصر السجزي في رسالته المعروفة إلى أهل زبيد والتي تسمى باسم "الرد على من أنكر الحرف والصوت"؛ بين فيه نشأة قول ابن كلاب ومن اتبعه في كلام الله، فقال: "اعلموا - أرشدنا اله وإياكم - أنه لم يكن خلاف بين الخلق على اختلاف نحلهم من أول الزمان إلى الوقت الذي ظهر فيه ابن كلاب والقلانسي والأشعري, وأقرانهم الذين يتظاهرون بالرد على المعتزلة, وهم معهم ...، من أن الكلام لا يكون إلا حرفاً وصوتاً ذا تأليف واتساق , وإن اختلفت به اللغات.

وعبر عن هذا المعنى الأوائل الذي تكلموا في العقليات , وقالوا: الكلام حروف متسقة وأصوات مقطعة وقالت - يعني علماء العربية - : الكلام اسم وفعل وحرف جاء لمعنى؛ فالاسم مثل زيد وعمرو والفعل مثل جاء وذهب, والحرف الذي يجيء لمعنى مثل هل وبل وقد, وما شاكل ذلك فالإجماع منعقد بين العقلاء على كون الكلام حرفاً وصوتاً؛ فلما نبغ ابن كلاب وأضرابه , وحاولوا الرد على المعتزلة من طريق مجرد العقل, وهم لا يخبرون أصول السنة, ولا ما كان السلف عليه , ولا يحتجون بالأخبار الواردة في ذلك زعماً منهم أنها أخبار آحاد, وهي لا توجب علماً, وألزمتهم المعتزلة الاتفاق على أن الاتفاق حاصل على أن الكلام حرف وصوت ويدخله التعاقب والتأليف, وذلك لا يوجد في الشاهد إلا بحركة وسكون, ولا بد له من أن يكون ذا أجزاء وأبعاض,  وما كان بهذه المثابة لا يجوز أن يكون من صفات ذات الله تعالى لأن ذات الحق لا توصف بالاجتماع والافتراق والكل والبعض والحركة والسكون وحكم الصفة الذاتية حكم الذات.

قالوا: فعلم بهذه الجملة أن الكلام المضاف إلى الله تعالى خلق له أحدثه, وأضافه إلى نفسه كما نقول: خلق الله وعبد الله وفعل الله.

قال: فضاق بابن كلاب وأضرابه النفس عند هذا الإلزام لقلة معرفتهم بالسنن وتركهم قبولها, وتسليمهم العنان إلى مجرد العقل. فالتزموا ما قالته المعتزلة, وركبوا مكابرة العيان, وخرقوا الإجماع المنعقد بين الكافة: المسلم والكافر, وقالوا للمعتزلة: الذي ذكرتموه ليس بحقيقة الكلام, وإنما سمي ذلك كلاماً على المجاز لكونه حكاية أو عبارة عنه, وحقيقة الكلام معنى قائم بذات المتكلم؛ فمنهم من اقتصر على هذا القدر, ومنهم من احترز عما علم دخوله على هذا الحد فزاد فيه - تنافي السكوت والخرس والآفات المانعة فيه من الكلام -  ثم خرجوا من هذا إلى أن إثبات الحرف والصوت في كلام الله تجسيم, وإثبات اللغة فيه تشبيه, وتعلقوا بشبه منها قول الأخطل:

إن البيان  من  الفؤاد  وإنما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

فغيروه وقالوا: إن الكلام من الفؤاد([77]).

ثم قال شيخ الإسلام: وإنما اضطر ابن كلاب و الأشعري, ونحوهما إلى هذا الأصل: أنهم لما اعتقدوا أن الله لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته لا فعل ولا تكلم, ولا غير ذلك, وقد تبين لهم فساد قول من يقول: "القرآن مخلوق"، ولا يجعل لله تعالى كلاماً قائماً بنفسه بل يجعل كلامه ما خلقه في غيره, وعرفوا أن الكلام لا يكون مفعولاً منفصلاً عن المتكلم, ولا يتصف الموصوف بما هو منفصل عنه بل إذا خلق الله شيئاً من الصفات, والأفعال بمحل كان ذلك صفة لذلك المحل لا لله؛ فإذا خلق في محل الحركة كان ذلك المحل هو المتحرك بها , وكذلك إذا خلق فيه حياة كان ذلك المحل هي الحي بها, وكذلك إذا خلق علماً أو قدرة كان ذلك المحل هو العالم القادر بها؛ فإذا خلق كلاماً في غيره كان ذلك المحل هو المتكلم به.

وهذا التقرير مما اتفق عليه القائلون بأن القرآن غير مخلوق من جميع الطوائف، مثل أهل الحديث والسنة، ومثل الكرامية والكلابية وغيرهم.

ولازم هذا أن من قال: "إن القرآن العربي مخلوق"، أن لا يكون القرآن العربي كلام الله بل يكون كلاماً للمحل الذي خلق فيه, ومن قال: إن لفظ الكلام يقع بالاشتراك على هذا وهذا, تبطل حجته على المعتزلة؛ فإن أصل الحجة أنه إذا خلق كلاماً في محل؛ كان الكلام صفة لذلك المحل؛ فإذا كان القرآن العربي كلاماً مخلوقاً في محل كان ذلك المحل هو المتكلم به, ولم يكون كلام الله ولهذا قال من قال: "لا يسمى كلاماً إلا مجازاً" فرارا من أن يثبتوا كلاماً حقيقياً قائماً بغير المتكلم به؛ فلما عظم شناعة الناس على هذا القول, وكان تسمية هذا كلاماً حقيقة معلوماً بالاضطرار من اللغة أراد من ينصرهم أن يجعل لفظ الكلام مشتركاً؛ فأفسد الأصل الذي بنوا عليه قولهم.

وبإنكار هذا الأصل استطال عليهم من يقول بخلق القرآن من المعتزلة والشيعة والخوارج, ونحوهم؛ فإن هؤلاء لما ناظرهم من سلك طريقة ابن كلاب - ومضمونها: أن الله لا يقدر على الكلام ولا يتكلم بما شاء, ولا هو متكلم باختياره ومشيئته([78])- طمع فيهم أولئك، لأن جمهور الخلق يعلمون أن المتكلم يتكلم بمشيئته واختياره, وهو قادر على الكلام وهو يتكلم بما يشاء.

ولكن منشأ اضطراب الفريقين اشتراكهما في أنه لا يقوم به ما يكون بإرادته وقدرته فلزم هؤلاء - إذا جعلوا الله يتكلم بإرادته وقدرته واختياره - أن يكون كلامه مخلوقاً منفصلاً عنه, ولزم هؤلاء - إذا جعلوه غير مخلوق - أن لا يكون قادراً على الكلام, ولا يتكلم بمشيئته وقدرته ولا يتكلم بما يشاء.

والمقصود هنا: أن عبد الله بن سعيد بن كلاب, وأتباعه وافقوا سلف الأمة وسائر العقلاء على أن كلام المتكلم لا بد أن يقوم به فما لا يكون إلا بائناً عنه لا يكون كلامه كما قال الأئمة: كلام الله من الله ليس ببائن منه, وقالوا: إن القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود, فقالوا: "منه بدأ" رداً على الجهمية الذين يقولون: بدأ من غيره, ومقصودهم أنه هو المتكلم به كما قال تعالى: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}، وقال تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي}، وأمثال ذلك.

ثم إنهم - مع موافقتهم للسلف والأئمة والجمهور على هذا - اعتقدوا هذا الأصل, وهو أنه لا يقوم به ما يكون مقدوراً له متعلقاً بمشيئته بناء على هذا الأصل الذي وافقوا فيه المعتزلة؛ فاحتاجوا حينئذ أن يثبتوا ما لا يكون مقدوراً مراداً,  قالوا: والحروف المنظومة والأصوات لا تكون إلا مقدورة مرادة؛ فأثبتوا معنى واحداً لم يمكنهم إثبات معان متعددة خوفاً من إثبات ما لا نهاية له فاحتاجوا أن يقولوا ط معنى واحداً"، فقالوا القول الذي لزمته تلك اللوازم التي عظم فيها نكير جمهور المسلمين بل جمهور العقلاء عليهم.

وأنكر الناس عليهم أموراً منها: إثبات معنى واحد هو الأمر والخبر وجعل القرآن العربي ليس من كلام الله الذي تكلم به, وأن الكلام المنزل ليس هو كلام الله وأن "التوراة" و"الإنجيل" و"القرآن" إنما تختلف عباراتها؛ فإذا عبر عن التوراة بالعربية كان هو القرآن, وأن الله لا يقدر أن يتكلم, ولا يتكلم بمشيئته واختياره وتكليمه لمن كلمه من خلقه كموسى وآدم ليس إلا خلق إدراك ذلك المعنى لهم، فالتكليم هو خلق الإدراك فقط.

ثم منهم من يقول: السمع يتعلق بذلك المعنى, وبكل موجود فكل موجود يمكن أن يرى ويسمع كما يقوله أبو الحسن ونحوه.

ومنهم من يقول: إنه يسمع ذلك المعنى من القاريء مع صوته المسموع منه كما يقول ذلك طائفة أخرى .

وجمهور العقلاء يقولون: إن هذه الأقوال معلومة الفساد بالضرورة, وإنما ألجأ إليها القائلين بها ما تقدم من الأصول التي استلزمت هذه المحاذير وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم([79]).

وأنكر الأشاعرة أن الله يتكلم بحرف وصوت([80]) وقالوا: هما مخلوقان لله!

قال الإيجي في "المواقف" (3/129): إذا عرفت هذا فاعلم أن ما يقوله المعتزلة, وهو خلـق الأصوات والحروف وكونها حادثـة قائمة؛ فنحن نقول به, ولا نزاع بيننا وبينهم فـي ذلك. وما نقوله من كلام النفس فهم ينكرون ثبوته.

وأما الرد عليهم:


أولا: عقيدة أهل السنة والجماعة أن كلام الله حرف والصوت، "ومن أنكر أن الله يتكلم بحرف وصوت فهو جهمي([81]).

ثانياً: إن هذه المسألة من المسائل التي يجب أن يستفصل عن معناها.

قال شيخ الإسلام: "ويتبين هذا الجواب بالكلام على المسألة الثانية وهي قوله إن كلام الله هل هو حرف وصوت أم لا؛ فإن إطلاق الجواب في هذه المسألة نفياً وإثباتاً خطأ, وهي من البدع المولدة الحادثة بعد المائة الثالثة، لما قال قوم من متكلمة الصفاتيه إن كلام الله الذي أنزل على أنبياءه كالتوراة والإنجيل والقرآن, والذي لم ينزله، والكلمات التي كون بها الكائنات، والكلمات المشتملة على أمره ونهيه وخبره؛ ليست إلا مجرد معنى واحد هو صفة واحدة قامت بالله إن عبر عنها بالعبرانية كانت التوراة, وإن عبر عنها بالعربية كانت القرآن, وأن الأمر والنهي والخير صفات لها لا أقسام لها, وأن حروف القرآن مخلوقة خلقها الله ولم يتكلم بها, وليست من كلامه إذ كلامه لا يكون إلا بحرف وصوت.

وعارضهم آخرون من المثبتة فقالوا بل القرآن هو الحروف والأصوات، وتوهم قوم أنهم يعنون بالحروف المداد وبالأصوات أصوات العباد, وهذا لم يقله عالم.

والصواب الذي عليه سلف الأمة كالإمام أحمد والبخاري صاحب "الصحيح" في كتاب "خلق أفعال العباد", وغيره وسائر الأئمة قبلهم وبعدهم أتباع النصوص الثابتة, وإجماع سلف الأمة, وهو: أن القرآن جميعه كلام الله حروفه ومعانيه ليس شيء من ذلك كلاماً لغيره, ولكن أنزله على رسوله وليس القرآن اسماً لمجرد المعنى ولا لمجرد الحرف بل لمجموعها, وكذلك سائر الكلام ليس هو الحرف فقط ولا المعاني فقط، كما أن الإنسان المتكلم الناطق ليس هو مجرد الروح ولا مجرد الجسد بل مجموعهما. وأن الله تعالى يتكلم بصوت كما جاءت به الأحاديث الصحيحة, وليس ذلك كأصوات العباد لا صوت القاريء ولا غيره,  وأن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فكما لا يشبه علمه وقدرته وحياته علم المخلوق وقدرته وحياته, كذلك لا يشبه كلامه كلام المخلوق, ولا معانيه تشبه معانيه, ولا حروفه يشبه حروفه, ولا صوت الرب يشبه صوت العبد؛ فمن شبه الله بخلقه فقد ألحد في أسمائه وآياته ومن جحد ما وصف به نفسه فقد ألحد في أسمائه وآياته([82]).

وقال ابن حجر مثبتاً الحرف والصوت لله: واختلف أهل الكلام في أن كلام الله هل هو بحرف وصوت أم لا؟

فقالت المعتزلة: لا يكون إلا بحرف وصوت ([83])، والكلام المنسوب إلى الله قائم بالشجرة.

وقالت الأشاعرة: كلام الله ليس بحرف ولا صوت, وأثبتت الكلام النفسي, وحقيقته معنى قائم بالنفس, وإن اختلفت عنه العبارة كالعربية والعجمية, واختلافها لا يدل على اختلاف المعبر عنه, والكلام النفسي هو ذلك المعبر عنه, وأثبتت الحنابلة أن الله متكلم بحرف وصوت.

أما الحروف فللتصريح بها في ظاهر القرآن. وأما الصوت فمن منع قال: إن الصوت هو الهواء المنقطع المسموع من الحنجرة.

وأجاب من أثبته بأن الصوت الموصوف بذلك هو المعهود من الآدميين كالسمع والبصر, وصفات الرب بخلاف ذلك؛ فلا يلزم المحذور المذكور مع اعتقاد التنزيه, وعدم التشبيه, وأنه يجوز أن يكون من غير الحنجرة فلا يلزم التشبيه.

وقد قال عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب "السنة": سألت أبي عن قوم يقولون لما كلم الله موسى لم يتكلم بصوت فقال لي أبي: بل تكلم بصوت، هذه الأحاديث تروى كما جاءت وذكر حديث ابن مسعود وغيره([84]).

17- مسألة تسلسل الحوادث و مسألة حوادث لا أول لها موجبة بالذات:

أولاً: حاول المعترض أن يدلس على القراء أن شيخ الإسلام يقول بقدم العالم, وبحوادث لا أول لها,  وأنها ملازمة لذات الله([85]).

قلت: وهذا من الافتراء على شيخ الإسلام.

قال المعترض في "كاشفه" (ص89): وقد يفهم من كلمات لابن تيمية في بعض المواضع أن كل ما هو موجود الآن؛ فإنه مخلوق في شيء قبله, وهذا الشيء مخلوق ومنه كل شيء. وهذا القول قريب من قول الفلاسفة بقدم مادة العالم وحدوث صورتها, والقول بقدم العالم بالنوع هو عين القول بقدم نوع المفاعيل والآثار لا يوجد فرق بينهما, وكل منهما بينه ابن تيمية على كون الله تعالى خالقاً منذ الأزل, ومعنى كونه خالقاً عنده لا يحتمل إلا أنه لم يزل يوجد مخلوق, وقبله مخلوق وهكذا لا إلى بداية؛ فهو مبني على قدم نوع صفات الله تعالى, وسنتحدث عن هذه المسألة في فصل خاص, ومبني أيضاً على القول بأن الله تحل فيه الحوادث المتعاقبة منذ الأزل إلى الأبد؛ فإذن هذه الأصول هي أساسية عند ابن تيمية, وهو يقول بها جميعاً ليتم له إثبات ما يريد إثباته.

وللجواب:

1-لفظ التسلسل لفظ مجمل لم يرد في نفيه ولا إثباته كتاب ولا سنة([86]). فالواجب الاستفصال عن معناه.

ثانياً: ممن أبان عن هذه المسألة ابن أبي العز الحنفي في شرحه "للطحاوية"، قال رحمة الله: وهو ينقسم إلى واجب وممتنع وممكن؛ فالتسلسل في المؤثرين محال ممتنع لذاته وهو أن يكون مؤثرون كل واحد منهم استفاد تأثيره مما قبله لا إلى غاية([87]).

وهو فرض أن المخلوقات كلها متوالدة عن بعضها إلى ما لا نهاية بحيث يكون كل واحد منها معلولاً بما قبله, وعلة لما بعده دون أن تتبع هذه السلسلة أخيراً علة واجبة([88]).

والتسلسل الواجب ما دل عليه العقل والشرع من دوام أفعال الرب تعالى في الأبد, وأنه كلما انقضى لأهل الجنة نعيم أحدث لهم نعيماً آخر لا نفاد له, وكذلك التسلسل في أفعاله سبحانه من طرف الأزل, وأن كل فعل مسبوق بفعل آخر فهذا واجب في كلامه؛ فإنه لم يزل متكلماً إذا شاء, ولم تحدث له صفة الكلام في وقت, وهكذا أفعاله التي هي من لوازم حياته؛ فإن كل حي فعال, والفرق بين الحي والميت الفعل.

ولهذا قال غير واحد من السلف: الحي الفعال.

وقال عثمان بن سعيد:  كل حي فعال, ولم يكن ربنا تعالى قط في وقت من الأوقات معطلاً عن كماله من الكلام والإرادة والفعل([89]).

قلت: وهذا هو الذي ينكره الجهمية والمعتزلة والأشاعرة الذين يزعمون أن إثبات ذلك يلزم قيام الحوادث به, والذي يلزم من ذلك مشابهته للمخلوق, ولذلك جعلوا من أثبت قيام الأفعال الاختيارية به ألزموه بالقول بقدم العالم كما فعل هذا المعترض محاولاً التلبيس والتدليس بقوله المتقدم: والقول بقدم العالم بالنوع هو عين القول بقدم نوع المفاعيل والآثار لا يوجد فرق بينهما, وكل منهما بينه ابن تيمية على كون الله تعالى خالقاً منذ الأزل, ومعنى كونه خالقاً عنده لا يحتمل إلا أنه لم يزل يوجد مخلوق وقبله مخلوق, وهكذا لا إلى بداية فهو مبني على قدم نوع صفات الله تعالى، كذا قال.

قلت: وهذا الكلام هو عين كلام الجهمية الذين ينكرون أن الله يتكلم بقدرته ومشيئته, ويمتنع عندهم أنه كان قادراً على الخلق حتى خلق وعلى الإحياء حتى أحيا؛ فكان معطلاً لا يفعل شيئا ولا يتكلم بشيء بل هو وحده موجود بلا كلام ولا فعل يفعله ثم أحدث ما أحدث من كلامه ومفعولاته.

قال ابن أبي العز: وأصل هذا الكلام من الجهمية؛ فإنهم قالوا إن دوام الحوادث ممتنع, وأنه يجب أن يكون للحوادث مبدأ لامتناع حوادث لا أول؛ فيمتنع أن يكون الباري عز وجل لم يزل فاعلاً متكلماً بمشيئته بل يمتنع أن يكون قادراً على ذلك لأن القدرة على الممتنع ممتنعة وهذا فاسد([90]).

ولذلك قرر الإمام الطحاوي في عقيدته الرد على أولئك الجهمية وأضرابهم بقوله: "ليس بعد الخلق استفاد اسم الخالق, ولا بإحداثه البرية استفاد اسم الباري له معنى الربوبية ولا مربوب, ومعنى الخالق ولا مخلوق, وكما أنه محيي الموتى بعد ما أحيا استحق هذا الاسم قبل أحيائهم كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم.

قلت: وهو الذي يسميه المتكلمون بقدم النوع.

ثالثاً: وأما التسلسل الممكن فالتسلسل في مفعولاته من هذا الطرف كما تتسلسل في طرف الأبد؛ فإذا لم يزل حياً قادراً مريداً متكلماً, وذلك من لوازم ذاته فالفعل ممكن له بموجب هذه الصفات له - أي يمكن أن يخلق وأن لا يخلق, أن يتكلم,  وأن لا يتكلم سبحانه فهو يفعل ما يشاء -، وأن يفعل أكمل من أن لا يفعل, ولا يلزم من هذا أنه لم يزل الخلق معه فإنه سبحانه متقدم على كل فرد من مخلوقاته تقدماً لا أول له؛ فلكل مخلوق أول, والخالق سبحانه لا أول له؛ فهو وحده الخالق, وكل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن([91]).

وقال أيضاً: والمقصود أن الذي دل عليه الشرع والعقل أن كل ما سوى الله تعالى محدث كائن بعد أن لم يكن؛ أما كون الرب تعالى لم يزل معطلاً عن الفعل ثم فعل؛ فليس في الشرع, ولا في العقل ما يثبته بل كلاهما يدل على نقيضه([92]).

وهذا التسلسل الممكن هو الذي قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو واضح بين, وفرق بين هذا القول, وبين قول الفلاسفة القائلين بقدم العالم وبحوادث لا أول لها موجبة بالذات - أي ملازمة لذات الله لا تنفك عنه-.

ولذلك قال ابن أبي العز رحمه الله: "ومن المعلوم بالفطرة أن كون المفعول مقارناً لفاعله لم يزل ولا يزال معه ممتنع محال, ولما كان تسلسل الحوادث في المستقبل لا يمنع أن يكون الرب سبحانه هو الآخر الذي ليس بعده شيء؛ فكذا تسلسل الحوادث في الماضي لا يمنع أن يكون سبحانه هو الأول الذي ليس قبله شيء؛ فالرب سبحانه وتعالى لم يزل ولا يزال يفعل ما يشاء ويتكلم إذا شاء قال تعالى: {كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء}[آل عمران:40]، وقال تعالى: {وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253]، وقال تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ* فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [البروج:15-16]، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقلأمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان:27]، وقال تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:109]([93]).

رابعاً: إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قد قرر في أكثر من موضع من كتبه ورسائله أن الله كان ولم يكن شيء قبله, ولم يكن شيء معه سبحانه وتعالى, وأن هذا العالم حادث وكائن من العدم, وأن الله خلقه بعد أن كان معدوماً, ورد على الفلاسفة الذين جعلوا هذا العالم لازماً لذات الله أزلاً.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: " المقصود هنا التنبيه على أنه لا حجة لهم تدل على قدم شيء من العالم([94]).

وقال: وهذا مما يتبين به بطلان قولهم في قدم العالم, ويتبين أن كل ما سوى الله تعالى حادث بعد أن لم يكن([95]).

وقال: وحينئذ فنعلم بالعقل الصريح أن العالم حادث كما أخبرت به الرسل مع أن الرب لم يزل ولا يزال متصفاً بصفات الكمال لم يصر قادراً بعد أن لم يكن,  ولا متكلماً بعد أن لم يكن، ولا موصوفاً بأنه خالق فاعل بعد أن لم يكن. بل لم يزل موصوفاً بصفات الكمال المتضمنة لكماله في أقواله وأفعاله, وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع([96]).

توضيح مسألة حوادث لا أول لها موجبة بالذات:


كان الناس في مسألة خلق العالم  قبل ابن سينا على قسمين:

الأول: الذين يقولون بقدم العالم, وأنه لاخالق لهذا الكون والموجودات, وهم الدهريون والمشركون.

الثاني: الذين يقولون بإثبات الخالق, وأن هذا الكون مخلوق لله كائن بعد العدم. 

فأحدث ابن سينا وقوم من متأخري الفلاسفة  قولاً ثالثاً وهو أن العالم   موجب بالذات أي لازم لذات الله لا ينفك عنه, وهذا الذي دندن حوله هذا المعترض في "كاشفه" (ص97). مع أنه لشيخ الإسلام الأقوال الكثيرة في رد هذا القول.

قال رحمه الله: وبهذا التحرير يزول الإشكال في هذه المسألة؛ فإن الموجب بذاته إذا كان أزلياً يقارنه موجبه فلو كان الرب تعالى موجباً بذاته للعالم في الأزل لكان كل ما في العالم مقارناً له في الأزل, وذلك ممتنع بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فكل ما شاء الله وجوده من العالم؛ فإنه يجب وجوده بقدرته ومشيئته, وما لم يشأ يمتنع وجوده إذ لا يكون شيء إلا بقدرته ومشيئته وهذا يقتضي وجوب وجود ما شاء تعالى وجوده.

ولفظ الموجب بالذات فيه إجمال؛ فإن أريد به أنه يوجب ما يحدثه بمشيئته وقدرته فلا منافاة بين كونه فاعلا بالقدرة والاختيار؛ وبين كونه موجباً بالذات بهذا التفسير, وإن أريد بالموجب بالذات أنه يوجب شيئاً من الأشياء بذات مجردة عن القدرة والاختيار فهذا باطل ممتنع, وإن أريد أن علة تامة أزلية تستلزم معلولها الأزلى بحيث يكون من العالم ما هو قديم بقدمه لازم لذاته أزلاً وأبداً، الفلك أو غيره، فهذا أيضاً باطل.

فالموجب بالذات إذا فسر بما يقتضى قدم شيء من العالم مع الله أو فسر بما يقتضي سلب صفات الكمال عن الله فهو باطل, وإن فسر بما يقتضى أنه ما شاء كان  , وما لم يشأ لم يكن فهو حق؛ فإن ما شاء وجوده فقد وجب وجوده بقدرته ومشيئته لكن لا يقتضي هذا أنه شاء شيئاً من المخلوقات بعينه في الأزل بل مشيئته لشيء معين في الأزل ممتنع لوجوه متعددة([97]).

18- الرد على شبهة الحس والإحساس:


وهذه المسألة تنقسم إلى قسمين:

الأول: هل يمكن أن يدرك الله بالحواس, ويقصد بذلك أن الله يُرى ويُسمع كلامه, والذي حاول المعترض زوراً وبهتاناً إلزام شيخ الإسلام بالشم والذوق  بالتضليل والتلبيس.

الثاني: هل توصف ذات الله بالإدراكات، أي هل نثبت لله بما يسمى في حق المخلوق حواساً كالسمع والبصر اليد, وهو ما جاء في الكتاب والسنة والتي عبر عنها أهل الكلام بالحواس.

والجواب عن ذلك من وجوه:

المسألة الأولى:

1- إن الكذب مجانب الإيمان, وهذا المعترض لا يتورع من الكذب  فهو يتهم شيخ الإسلام أنه يقول: يمكن أن يحس بالله بسائر الحواس الخمس السمع والبصر واللمس والشم والذوق هذا هو الأصل! كذا قال (ص51) من "كاشفه"، عامله الله بما يستحق .

2- هذه الألفاظ كالجسم والحس واللمس والجوهر والعرض والحد والحيز ومثل هذه الألفاظ, والتي اضطر أهل السنة للتكلم فيها, والخوض في معانيها بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله سبب اضطرار أهل السنة للتكلم بهذه الألفاظ والمصطلحات التي هي مصطلحات أهل البدع من أهل الكلام.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وإذا كانت هذه الألفاظ مجملة فالمخاطب لهم إما أن يفصل, ويقول ما تريدون بهذه الألفاظ؛ فإن فسروها بالمعنى الذي يوافق القرآن قبلت, وإن فسروها بخلاف ذلك ردت, وإما أن يمتنع عن موافقتهم في التكلم بهذه الألفاظ نفيا وإثباتاً؛ فإن امتنع عن التكلم معهم فقد ينسبونه إلى العجز والانقطاع. وإن تكلم بها معهم نسبوه إلى أنه أطلق تلك الألفاظ التي تحتمل حقا وباطلا, وأوهموا الجهال باصطلاحهم أن إطلاق تلك الألفاظ يتناول المعاني الباطلة التي ينزه الله عنها([98]).

الأصل في هذه الألفاظ التي لم ترد في الكتاب والسنة على قاعدة أهل السنة أنها لا ترد ولا تثبت حتى يستفصل عن معناها؛ فإن أريد بها معنى حقا قبلت مع التوقف في اللفظ. 

3- سياق كلام شيخ الإسلام في مسألة هي يدرك الله بالحواس كما جاء في الفتاوى الكبرى(5/31)، في كتابه المسمى "بالتسعينية" والتي رد فيها على الأشاعرة, ومن نحا نحوهم ممن يقول بالكلام النفسي لما تحدث عن سبب ضلال جهم كما نقل عن الإمام أحمد([99]).

قال: فكان مما بلغنا من أمر جهم عدو الله أنه كان من أهل خراسان من أهل ترمذ, وكان صاحب خصومات وكلام, وكان أكثر كلامه في الله تبارك وتعالى، فلقي ناساً من المشركين يقال لهم السمنية فعرفوا الجهم.

فقالوا له: نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا, وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك، فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له: ألست تزعم أن لك إلها؟ قال الجهم: نعم. فقالوا له: فهل رأيت إلهك؟ قال: لا. فقالوا له: هل سمعت كلامه؟ قال: لا. قالوا: فشممت له رائحة ؟ قال: لا. قالوا: فوجدت له حساً؟ قال: لا. قالوا: فوجدت له مجسماً؟ قال: لا. قالوا: فما يدريك أنه إله؟ قال:  فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يوماً.

ثم استدرك حجة من جنس حجة الزنادقة من النصارى.

وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح التي في عيسى هي من روح الله من ذات الله, وإذا أراد الله أن يحدث أمراً دخل في بعض خلقه؛ فتكلم على لسان بعض خلقه فيأمر بما شاء وينهى عن ما شاء, وهو روح غائب عن الأبصار فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة.

فقال للسمني: ألست تزعم أن فيك روحاً. فقال:نعم. قال: فهل رأيت روحك؟ قال: لا. قال: فسمعت كلامه؟ قال: لا. قال: فوجدت له حساً؟ قال: لا. قال: فكذلك الله لا يرى له وجه ولا يسمع له صوت ولا يشم له رائحة, وهو غائب عن الأبصار ولا يكون في مكان دون مكان.

قال: ووجد ثلاث آيات في القرآن من المتشابه قوله:{ليس كمثله شيء}، {وهو الله في السموات وفي الأرض}، {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار}.

فبنى أصل كلامه كله على هذه الآيات, وتأول القرآن على غير تأويله, وكذب بأحاديث رسول الله r, وزعم أن من وصف من الله شيئاً مما وصف الله به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله كان كافراً.

وكان من المشبهة وأضل بشراً كثيراً, وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة, ووضع دين الجهمية. وهكذا وصف العلماء حال جهم كما قال أبو عبد الله محمد بن سلام البيكندي شيخ البخاري في كتاب السنة والجماعة من تأليفه([100]).

ثم قال شيخ الإسلام بعد ذلك: "والجواب الذي أجاب به مبتدعة الصابئين, ومن اتبعهم من مبتدعة هذه الأمة باطل, وذلك أن قول القائل ما لا يحس به العبد لا يقر به أو ينكره أو أن يريد به أن كل أحد من العباد لا يقر إلا بما أحسه هو بشيء من حواسه الخمس أو يريد به أنه لا يقر العبد إلا بما أحس به العباد في الجملة أو بما يمكن الإحساس به في الجملة؛ فإن كان أرادوا الأول وهو الذي حكاه عنهم طائفة من أهل المقالات حيث ذكروا السمنية أنهم ينكرون من العلوم ما سوى الحسيات فينكرون المتواترات والمجربات والضروريات العقلية وغير ذلك، إلا أن هذه الحكاية لا تصح على إطلاقها عن جمع من العقلاء في مدينة أو قرية, وما ذكره من مناظرة الجهم لهم يدل على أقرارهم بغير ذلك.

وذلك أن حياة بني آدم وعيشهم في الدنيا لا يتم إلا بمعاونة بعضهم لبعض في الأقوال أخبارها وغير أخبارها وفي الأعمال أيضاً. فالرجل منهم لا بد أن يقر أنه مولود, وأن له أباً وطئ أمه وأماً ولدته, وهو لم يحس بشيء من ذلك من حواسه الخمس بل أخبر بذلك, ووجد في قلبه ميلاً إلى ما أخبر به. وكذلك علمه بسائر أقاربه من الأعمام والأخوال والأجداد وغير ذلك, وليس في بني آدم أمة تنكر الإقرار بهذا.

وكذلك لا ينكر أحد من بني آدم أنه ولد صغيراً, وأنه ربي بالتغذية والحضانة, ونحو ذلك حتى كبر, وهو إذا كبر لم يذكر إحساسه بذلك قبل تمييزه، بل لا يذكر طائفة من بني آدم أمورهم الباطنة مثل جوع أحدهم وشبعه ولذته وألمه ورضاه وغضبه وحبه وبغضه وغير ذلك مما لم يشعر به بحواسه الخمس الظاهرة. بل يعلمون أن غيرهم من بني آدم يصيبهم ذلك, وذلك مما لم يشعروا به بالحواس الخمس الظاهرة, وكذلك ليس في بني آدم من لا يقر بما كان في غير مدينتهم من المدائن والسير والمتاجر وغير ذلك مما هم متفقون على الإقرار به, وهم مضطرون إلى ذلك, وكذلك لا ينكرون أن الدور التي سكنوها قد بناها البناؤون, والطبيخ الذي يأكلونه طبخه الطباخون, والثياب المنسوجة التي يلبسها نسجها النساجون, وإن كان ما يقرون به من ذلك لم يحسه أحدهم بشيء من حواسه الخمس.

وهذا باب واسع فمن قال: إن أمة من الأمم تنكر هذه الأمور فقد قال الباطل.

ثم قال - رحمه الله - بعد ذلك: "والسمنية الذين ناظروا الجهم قد غالطوا الجهم, ولبسوا عليه في الجدال حيث أوهموه أن ما لا يحسه الإنسان بنفسه لا يقر به, وكأن الأصل أن ما لا يتصور الإحساس به لا يقر به، فكان حقه أن يستفسرهم عن قولهم ما لا يحسه الإنسان لا يقر به هل المراد به هذا أو هذا؟ فإن أراد أولئك المعنى الأول أمكن بيان فساد قولهم بوجوه كثيرة, وكان أهل بلدتهم وجميع بني آدم يرد عليهم ذلك. وإن أرادوا المعنى الثاني؛ وهو أن ما لا يمكن الإحساس به لا يقر به؛ فهذا لا يضر تسليمه لهم بل يسلم لهم يقال لهم؛ فإن الله تعالى تمكن رؤيته ويسمع كلامه.

بل قد سمع بعض البشر كلامه وهو موسى عليه السلام, وسوف يراه عباده في الآخرة، وليس من شرط كون الشيء موجوداً أن يحس به كل أحد في كل وقت أو أن يمكن إحساس كل أحد به في كل وقت؛ فإن أكثر الموجودات على خلاف ذلك. بل متى كان الإحساس به ممكناً ولو لبعض الناس في بعض الأوقات صح القول بأنه يمكن الإحساس به, وقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلاّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى:51].

وهذا هو الأصل الذي ضل به جهم وشيعته حيث زعموا أن الله لا يمكن أن يرى ولا يحس به بشيء من الحواس كما أجاب إمامهم الأول السمنية بإمكان وجود موجود لا يمكن إحساسه.

ولهذا كان أهل الإثبات قاطبة متكلموهم وغير متكلميهم على نقض هذا الأصل الذي بناه الجهمية, وأثبتوا ما جاء به الكتاب والسنة من أن الله يرى ويسمع كلامه وغير ذلك، وأثبتوا أيضاً بالمقاييس العقلية أن الرؤيا يجوز تعلقها بكل موجود؛ فيصح إحساس كل موجود؛ فما لا يمكن إحساسه يكون معدوماً, ومنهم من طرد ذلك في اللمس, ومنهم من طرده في سائر الحواس كما فعله طائفة من متكلمة الصفاتية الأشعرية وغيرهم([101]).

قارن بهذا السياق الطويل الذي سقته من كلام شيخ الإسلام, وبين اقتطاعه كلام شيخ الإسلام وتشويش القاريء والتلبيس عليه, ووضع اللوازم الباطلة لكلام شيخ الإسلام والتفسيرات المنفرة التي توقع القاريء في المتاهات.

شيخ الإسلام أورد هذا الكلام وتكلم بمصطلحات القوم في مسألة الحواس,  وقرر رحمه الله مذهب أهل السنة والجماعة أن الله يرى في الآخرة, وأنه يسمع كلامه كما مر معنا تقريره.

حاول أن يلصق المعترض بابن تيمية رحمه الله مسألة أنه يمكن أن يحس الله باللمس والذوق والشم، مع أن شيخ الإسلام  ليس كلامه موضع تقرير لمذهب أهل السنة, وإنما هو ناقل لأقوال الطوائف والفرق.

وإليك تعليق هذا المعترض الذي نسأل الله أن يعامله بما يستحق عند قول شيخ الإسلام: ومنهم من طرد ذاك في اللمس.

قال: من أهل الإثبات أي المجسمة من قال: إن الله يلمس ويُلمس إن الله يلمسنا ونحن نلمسه فاستمع واستمع, وهذا القول هو الذي يقول به ابن تيمية كما سوف يظهر لك من خلال مباحث هذا الكتاب ثم قال: ومنهم من طرده في سائر الحواس كما فعله طائفة من متكلمة الصفاتية الأشعرية وغيرهم([102]).

ثم قال المعترض: أما نسبته هذا القول إلى طائفة من الأشعرية فهي كذب عليهم.

قلت: وفي كلامه كذب ظاهر فأين التزم شيخ الإسلام رحمه الله بالمس وأين  قرره في مسألة الذوق والشم. وأما تكذيبه نسبة ذلك إلى الأشاعرة فهذا من جهله أو تجاهله بمذهبه.

قال البيجوري (ص122) ناقلاً الخلاف بين علماء الأشاعرة هل يدرك الله؟: "وقد اختلف أيضاً في كونه مُدركاً أولاً تبعاً للاختلاف في الإدراك"!

المسألة الثانية:


هل يوصف الله بالإدراكات الخمس؟


هذه المسألة  شبيهة بالمسألة الأولى فلفظ الحواس لفظ مجمل، والأصل أن يستفصل عن معناه, وقرر رحمه الله إثبات السمع والبصر التي ورد في إثباتها الكتاب والسنة ولم يلتزم غير ذلك كما فعلت الأشاعرة([103]).

إن الأشاعرة أثبتوا الإدراكات لله بما لم يرد في الكتاب والسنة.

قال البيجوري في: "والإدراك في حق الحادث هو تصور حقيقة الشيء المدرك, وأما في حقه تعالى على القول به فهو صفة قديمة قائمة بذاته تعالى تسمى الإدراك. قيل: إنه يدرك بها كل موجود. وقيل:  يدرك بها الملموسات كالنعومة, والمشمومات كالروائح, والمذوقات كالحلاوة من غير اتصال بمحالها التي هي الأجسام ولا تكيف بكيفيتها لأن الاتصال, والتكيف إنما هو عادي في حصول الإدراك وقد ينفك. وقد صرح بعض المتأخرين بأنها صفة واحدة لكن الواقع في كتب علم الكلام أنها ثلاث صفات إدراك الملموسات,  وإدراك المشمومات, وإدراك المذوقات, ودليل المثبتين لها كالباقلاني وإمام الحرمين بأنها كمال, وكل كمال واجب لله. لأنه لو لم يتصف بها لا تصف بضدها وهو نقص والنقص عليه تعالى محال؛ فوجب أن يتصف بها على ما يليق به من غير اتصال بالأجسام ومن غير وصول اللذات والآلام له تعالى([104]).

فما رأي هذا المعترض بهذا الكلام عن أرباب علماء الأشاعرة؟!

19- الأشاعرة  في باب الإيمان مرجئة جهمية:

ومنه قول صاحب "الجوهرة":

وفسـر الإيمان  بالتصديق

النطق فيه الخلف بالتحقيق

قال فودة في "تهذيب شرح السنوسية" (ص134): والراجح في مسألة الإيمان أن الإيمان هو التصديق بالقلب ققط! وأما النطق بالشهادتين فهو شرط إجراء أحكام المسلمين عليه ثم علق في الحاشية: القول بأن التلفظ بالشهادتين شرط صحة ضعيف!

وقال أيضا في "النقد" (ص49): .. علموا أن العمل ليس داخلاً في ماهية الإيمان .. ووجدوا عدم دخول الأعمال في ماهية وحقيقة الإيمان واضحاً، ثم قال بعد ذلك: أما الأعمال فقد بالغ الحشوية المجسمة في القول بأنها تدخل في صميم الإيمان.

قلت: فعلى كلامهم لا داعي لحرص النبي r أن يقول لعمه أبي طالب: قل لا إله إلا الله، لأنه لا شك في تصديقه له بقلبه هو, ومن شابهه على مذهبهم من أهل الجنة([105]).

وأما المجسمة الذين عناهم المعترض كالشافعي الذي يقول: في كتاب "الأم" في باب النية في الصلاة .. وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ومن أدركناهم يقولون الإيمان قول وعمل ونية لا يجزئ واحد من الثلاث إلا بالآخر!

20- إنكاره الإرادة الشرعية:

1- أنكر فودة الإرادة الشرعية موافقاً لمذهب المعتزلة والأشاعرة كما في "بحوث في علم الكلام" (ص118).

2- سبب إنكار الأشاعرة الإرادة الشرعية لأنها تتعلق بالرضى والمحبة وهم ينكرون إثبات هذه الصفات في حق الله تعالى ولذلك يؤولونها.

3- قوله: وقد استقرأت جميع المواضع القرآنية التي تكلمت على الإرادة, وبحثت في ما تعلقت به فوجدته واقعاً بلا أدنى تخلف.

قلت: قال تعالى: {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7]. فالله لا يرضى الكفر لعباده شرعاً, وإن كان أراده كوناً.

ثم وقفت على كلام لابن حجر، حيث قال: وقال بعضهم: الإرادة على قسمين إرادة أمر وتشريع وإرادة قضاء وتقدير؛ فالأولى تتعلق بالطاعة والمعصية سواء وقعت أم لا، والثانية شاملة لجميع الكائنات محيطة بجميع الحادثات طاعة ومعصية، وإلى الأول الإشارة بقوله تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]. وإلى الثاني الإشارة بقوله تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الانعام:125]([106]). فتأمل

فإن قيل: ما الحكمة في أمره بشيء وهو يعلم أنه لا يريد وقوعه كوناً وقدراً؟ فالجواب: أن الحكمة في ذلك ابتلاء الخلق وتمييز المطيع من غير المطيع وقد صرح الله تعالى بهذه الحكمة؛ فإنه تعالى أمر إبراهيم بذبح ولده مع أنه لم يرد وقوع ذبحه بالفعل كوناً وقدراً, وقد صرح بأن الحكمة في ذلك ابتلاء إبراهيم حيث قال: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ} [الصافات:106]، فظهر بطلان قول المعتزلة أن لا يكون أمراً إلا بإرادة وقوعه .. وقد يشاهد  السيد يأمر عبده اختياراً لطاعته ونيته أنه إن أظهر الطاعة أعفاه من فعل المأمور به فهو أمر دون إرادة وقوع المأمور به([107]).       

21- قوله إن العرب لم يقروا بتوحيد الربوبية:

1- قال في "نقض التدمرية" (ص155): إذن يتبين من ذلك أن ادعاء ابن تيمية أن العرب كانوا مؤمنين بالربوبية لله ادعاء باطل.

قلت: أدلة إثبات أن العرب كانوا مقرين بتوحيد الربوبية كثيرة جداً:

قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [لقمان:25].

وقال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9].

2- قوله: حصر توحيد الأفعال في توحيد الخالقية الذي يسميه ابن تيمية توحيد الربوبية غلطاً ومغالطة غير صحيح؛ فإن التوحيد في الأفعال أعم وأيضا فإن توحيد الربوبية ليس معناه فقط توحيد الخالقية حتى يقال إن العرب كانوا يقولون به بل هو أعم.

قلت: أما زعمه أن شيخ الإسلام حصر الربوبية في الخلق فهو من تدليسه، فتوحيد الربوبية معروف عند أصغر طلبة العلم أنه إفراد الله في الخلق والملك والتدبير أو إفراد الله بأفعاله, وأفعاله لا تنحصر من خلق وتدبير ورزق وإحيـاء.

وقد ناقض نفسه، فقال في "تهذيب شرح السنوسية" (ص91): وتوحيد الأفعال مرجعه إلى أن الله هو الفاعل وحده أي أن الله هو الخالق وحده!

3- تكذيبه لشيخ الإسلام: قال في "نقض التدمرية" (ص155): وأما قوله إن علماء التوحيد جعلوا الإلهية هي القدرة على الاختراع فهو كذب عليهم، بل هم قرروا أن الإله ليس فقط هو الخالق بل هو المتصف بجميع صفات الألوهية ومنها الأمر والنهي والتدبير والعلم وغير ذلك من الصفات العلا.

قلت: وفي كلامه من التخليط ما يلي:

أ-  خلطه بين توحيد الربوبية والألوهية؛ فتوحيد الألوهية أو العبودية معناه إفراد الله بالعبادة أو إفراد الله بأفعال العباد وليس كما عرفه؛ فما عرفه لا يخرج عن تعريف الربوبية.

ب- تكذيبه لشيخ الإسلام أولاً، وثانياً جهله أو تجاهله بمذهبه.

قلت: قال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري: إذا كان الخالق على الحقيقة هو الباري تعالى لا يشاركه في الخلق غيره فأخص وصفه تعالى هو: القدرة على الاختراع. قال: وهذا هو تفسير اسمه تعالى الله([108])!

ثم ناقض المعترض نفسه، فقد عرف الوحدانية كما في "شرح تهذيب السنوسية" (ص41): حقيقة الوحدانية عبارة عن نفي التعدد في الذات والصفات والأفعال.

ثم قال: فوحدانية الذات تنفي الكم المتصل والمنفصل، فالمتصل أن تكون ذاته مركبة من جواهر وأعراض أو أن تكون مركبة. ووحدانية الصفات تنفي الكم المتصل والمنفصل، فالمتصل أن يكون له قدرتان وإرادتان، وتنفي المنفصل بأن يكون لأحد من المخلوقين كصفات الله تعالى، ووحدانية الأفعال تنفي الكم المنفصل فقط بأن يكون غيره يفعل كفعله وهذا محال لأن الله لا شريك له في أفعاله بل هو المنفرد بالإيجاد والإعدام.

قلت: وهذا التعريف لا يخرج عما ذكره شيخ الإسلام لا يتعدى إثبات القدرة على الاختراع([109]).

وقال في "السنوسية" (ص115): معنى الألوهية استغناء الإله عن كل ما سواه وافتقار كل ما عداه إليه.

ودليل الوحدانية عندهم كما في "شرح السنوسية" (ص92): والدليل على الوحدانية أن نقول: لو لم يكن واحداً في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله لزم أن لا يوجد شيء من العالم أجراماً كانت أو أعراضاً للزوم عجزه حينئذ!

22- تقريره لمذهب الكسب والذي باعترافه أنه  من المسائل التي تفرد بها الأشاعرة عن سائر المذاهب.

قلت: ولهذا كان يقال عجائب الكلام ثلاثة: أحوال أبي هاشم، وطفرة النظام، وكسب الأشعري.

نقل فودة في (ص42) من "تهذيب السنوسية" ما نصه: ليس في الوجود فعل لغيره عز وجل بل هو الفاعل لجميع الأفعال وما يظهر من الأفعال على يد الخلق، إنما لهم فيها كسب وهو مقارنة القدرة للفعل عند وجوده فإذا أراد الإنسان فعلاً كالقيام مثلاً فالله تعالى هو الذي يخلق ذلك القيام، ويخلق لذلك العبد قدرة تصاحبه عند وجوده، وتلك القدرة لا تأثير لها في القيام وإنما هي مصاحبة له وهكذا جميع الأفعال.

قلت: وهو بذلك يقرر مذهب الجهمية([110]) الذين قالوا إن الله يجبر العبد على الطاعة أو المعصية, ولذلك قال بعض الأشاعرة: إن العبد مجبور في الباطن, وهي بمعنى العبارة المشهورة عندهم أن العبد مجبور في صورة مختار([111])، وإن حاول المعترض أن يتهرب من قبح العبارة. والذي جرهم إلى ذلك أنهم لما وجدوا أن المعتزلة يقولون الإنسان يخلق فعل نفسه قابلوهم ببدعة لا تقل عن قبح ما يقوله المعتزلة.

قال شيخ الإسلام:  والمعتزلة استطالوا على الأشعرية ونحوهم من المثبتين للصفات والقدر بما وافقوهم عليه من نفي الأفعال القائمة بالله تعالى؛ فنقضوا بذلك أصلهم الذي استدلوا به عليهم في أن كلام الله غير مخلوق, وأن الكلام وغيره من الأمور إذا خلق بمحل عاد حكمه على ذلك المحل، واستطالوا عليهم بذلك في مسألة القدر واضطروهم إلى أن جعلوا نفس ما يفعله العبد من القبيح فعلاً لله رب العالمين دون العبد، ثم أثبتوا كسباً لا حقيقة له؛ فإنه لا يعقل من حيث تعلق القدرة بالمقدور فرق بين الكسب والفعل, ولهذا صار الناس يسخرون بمن قال هذا ويقولون ثلاثة أشياء لا حقيقة لها: طفرة النظام، وأحوال أبى هاشم، وكسب الأشعري.

واضطروهم إلى أن فسروا تأثير القدرة في المقدور بمجرد الاقتران العادي والاقتران العادي يقع بين كل ملزوم ولازمه ويقع بين المقدر والقدرة؛ فليس جعل هذا مؤثرا في هذا بأولى من العكس ويقع بين المعلول وعلته المنفصلة عنه مع أن قدرة العباد عنده لا تتجاوز محلها, ولهذا فر القاضي أبو بكر إلى قول وأبو اسحق الإسفرائيني إلى قول وأبو المعالي الجويني إلى قول لما رأوا ما في هذا القول من التناقض والكلام على هذا مبسوط في موضعه([112]).                                                                               

23- قرر (ص65) من "السنوسية": ويستحيل على الله أن يتصف بالأغراض في الأفعال أو الأحكام، والأغراض جمع غرض وهو الباعث لمراعاة المصالح ودفع المفاسد.

قلت: أرادوا بذلك نفي الحكمة عن أفعال الله.

قال ابن القيم لما ذكر الأسباب التي تحمل  النفوس الجاهلة قبول التأويل: السبب الثاني: أن يخرج المعنى الذي يريد إبطاله بالتأويل في صورة مستهجنة تنفر عنها القلوب, وتنبوا عنها الأسماع؛ فيتخير له من الألفاظ أكرهها وأبعدها وصولاً إلى القلوب وأشدها نفرة؛ فكذلك أهل البدع والضلال من جميع الطوائف هذا معظم ما ينفرون به عن الحق ويدعون به إلى الباطل.

 قلت: ومن ذلك أنهم يسمون حكمته غرضاً([113]). ولذلك قالوا في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] }، قالوا: اللام تسمى لام العاقبة ولا تسمى لام التعليل([114]).

قال ابن القيم رحمه الله: وقد أثنى على عباده المؤمنين حيث نزهوه عن إيجاد الخلق لا لشيء ولا لغاية فقال تعالى:{وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً} [آل عمران:191]. وأخبر أن هذا ظن أعدائه لا ظن أوليائه فقال: َمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [ص:27]، وكيف يتوهم أنه عرفه من يقول أنه لم يخلق لحكمة مطلوبة له, ولا أمر لحكمة ولا نهى لحكمة, وإنما يصدر الخلق والأمر عن مشيئة وقدرة محضة لا لحكمة ولا لغاية مقصودة, وهل هذا إلا إنكار لحقيقة حمده بل الخلق والأمر إنما قام بالحكم والغايات فهما مظهران بحمده وحكمته؛ فإنكار الحكمة إنكار لحقيقة خلقه وأمره؛ فإن الذي أثبته المنكرون من ذلك ينزه عنه الرب ويتعالى عن نسبته إليه فإنهم أثبتوا خلقاً وأمراً لا رحمة فيه ولا مصلحة ولا حكمة، بل يجوز عندهم أو يقع أن يأمر بما لا مصلحة للمكلف فيه البتة وينهى عما فيه مصلحة والجميع بالنسبة إليه سواء، ويجوز عندهم أن يأمر بكل ما نهى عنه وينهى عن جميع ما أمر به, ولا فرق بين هذا وهذا إلا لمجرد الأمر والنهي, ويجوز عندهم أن يعذب من لم يعصه طرفة عين بل أفنى عمره في طاعته وشكره وذكره، وينعم على من لم يطعه طرفة عين بل أفنى عمره في الكفر به والشرك والظلم والفجور([115]). فلا سبيل إلى أن يعرف خلاف ذلك منه إلا بخبر الرسول, وإلا فهو جائز عليه, وهذا من أقبح الظن وأسوأه بالرب سبحانه وتنزيهه عنه كتنزيهه عن الظلم والجور بل هذا هو عين الظلم الذي يتعالى الله عنه.

والعجب العجاب أن كثيراً من أرباب هذا المذهب ينزهونه عما وصف به نفسه من صفات الكمال ونعوت الجلال، ويزعمون أن إثباتها تجسيم وتشبيه ولا ينزهونه عن هذا الظلم والجور, ويزعمون أنه عدل وحق وأن التوحيد عندهم لا يتم إلا به كما لا يتم إلا بإنكار استوائه على عرشه وعلوه فوق سماواته، وتكلمه وتكليمه، وصفات كماله فلا يتم التوحيد عند هذه الطائفة إلا بهذا النفي وذلك الإثبات والله ولي التوفيق([116]).

24- لما أنكر الأشاعرة القول أن الله يخلق لحكمة جرهم ذلك إلى إنكار طبائع الأشياء بل كفروا من اعتقد أن شيئاً من الأسباب يؤثر بطبعه.

قال المعترض في "تهذيب شرح السنوسية" (ص122): إن من اعتقد أن تلك الأسباب تؤثر فيما قارنها بطبع أو علة فلا خلاف في كفره.

قلت: وهم بذلك خالفوا المعقول والمحسوس.                                                  

 قال ابن حزم رحمه الله:

ذهبت الأشعرية إلى إنكار الطبائع جملة, وقالوا ليس في النار حر ولا في الثلج برد ولا في العالم طبيعة أصلاً, وقالوا إنما حدث حر النار جملة وبرد الثلج عند الملامسة. قالوا ولا في الخمر طبيعة إسكار, ولا في المني قوة يحدث بها حيوان, ولكن الله عز وجل يخلق منه ما شاء وقد كان ممكناً أن يحدث من مني الرجال جملاً, ومن مني الحمار إنساناً ومن زويعة الكزبر نخل.

قال أبو محمد:

ما نعلم لهم حجة شغبوا بها في هذا الهوس أصلاً، وقد ناظرت بعضهم في ذلك فقلت له أن اللغة التي نزل بها القرآن تبطل قولكم لأن من لغة العرب القديمة ذكر الطبيعة والخليقة والسليقة والنجيزة والغريزة والسجية والسيمة والجبلة بالجيم, ولا يشك ذو علم في أن هذه الألفاظ استعملت في الجاهلية وسمعها النبي r فلم ينكرها قط ولا أنكرها أحد من الصحابة رضي الله عنهم ولا أحد ممن بعدهم حتى حدث من لا يعتد به.

وقد قال امرؤ القيس:

..............................

وإن كنت قد ساءتك مني خليقة

وقال حميد بن ثور الهلالي الكندي:

لكل امرئ يا أم عمرو  طبيعة

وتفرق ما بين الرجال الطبائع

وقال النابغة:

لهم سيمة لم  يعطها الله  غيرهم

من الجود والأحلام غير عوازب

وقال رسول الله r للجارود إذا أخبره أن فيه الحلم والأناة فقال له الجارود: الله جبلني عليهما يا رسول الله. فقال رسول الله r: ((بل الله جبلك عليهما))([117]).

ومثل هذا كثير وكل هذه الألفاظ أسماء مترادفة بمعنى واحد عندهم وهو قوة في الشيء يوجد بها على ما هو عليه؛ فاضطرب ولجأ إلى أن قال أقول بهذا في الناس خاصة. فقلت له: وأنى لك بالتخصيص, وهذا موجود بالحس وببديهة العقل في كل مخلوق في العالم فلم يكن عنده تمويه.

قال أبو محمد: وهذا المذهب الفاسد حداهم على أن سموا ما تأتي به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الآيات المعجزات خرق العادة؛ لأنهم جعلوا امتناع شق القمر وشق البحر وامتناع إحياء الموتى وإخراج ناقة من صخرة وسائر معجزاتهم إنما هي عادات فقط.

وكل هذه الطبائع والعادات مخلوقة خلقها الله عز وجل فرتب الطبيعة على أنها لا تستحيل أبداً، ولا يمكن تبدلها عند كل ذي عقل كطبيعة الإنسان بأن يكون ممكناً له التصرف في العلوم والصناعات إن لم يعترضه آفة, وطبيعة الحمير والبغال بأنه غير ممكن منها ذلك, وكطبيعة البر أن لا ينبت شعيراً ولا جوزاً, وهكذا كل ما في العالم والقوم مقرون بالصفات وهي الطبيعة نفسها لأن من الصفات المحمولة في الموصوف ما هو ذاتي به لا يتوهم زواله إلا بفساد حامله وسقوط الاسم عنه؛ كصفات الخمر التي إن زالت عنها صارت خلاً وبطل اسم الخمر عنها، وكصفات الخبز واللحم التي إذا زالت عنها صارت زبلاً وسقط اسم الخبز واللحم عنهما وهكذا كل شيء له صفة ذاتية، فهذه هي الطبيعة ... فهذه هي حقيقة الكلام في الصفات وما عدا ذلك فطريق السوفسطائية الذين لا يحققون حقيقة ونعوذ بالله من الخذلان([118]).


مسائل أخرى تدل على جهله بعلم الأثر

قال في "الفرق العظيم" (ص45): هذا الرسول عليه السلام لما أخبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن سؤال القبر وما يلاقي فيه الإنسان من أهوال قال له عمر: أيكون عقلي معي؟ قال: نعم.  فقال: إذن أكفيكهما. فقال رسول الله r: ((إن عمر لموقن مصدق)).

ومصدره في هذا الحديث الشيخ عليش في شرحه على "عقيدة التوحيد", فيصلح أن يقال فيه: رواه عليش([119])!

وقال في (ص43): ماذا تقول في قول أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لو كانت إحدى قدمي في الجنة والأخرى خارجها لما أمنت مكر الله!

قلت: وهذا يدل من فودة على تبحر في علم الآثار والأحاديث!

فهم عجيب: قال فودة في "تدعيم المنطق" (ص141): وأما قول الرسول r: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)). فقد تكلم عليه كبار العلماء أهل السنة وبينوا أنه بذاته دليل على جواز استحداث ما لم يكن حادثا في الدين بشرط أن لا يكون مخالفاً لقواعد الدين وأخذوا ذلك من مفهوم المخالفة, وحاصله أن الأمر المستحدث إذا كان لا يخالف القواعد الإسلامية المقررة والنصوص الشرعية فلا مانع منه، وبنفس الحديث يمكن أن يستدل على جواز البحث في علم الكلام والأصول وغيرها من العلوم والمعارف الدينية!

هذا ما يسر الله كتابته في التعقب على سعيد فودة, وإن كان المقام يقتضي أطول من ذلك وفي الختام نذكر سعيد فودة بقوله تعالى: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} [النحل:25].





(1)          بل وتعدى الطعن إلى بعض الصحابة كما فعل الكوثري والحبشي والسقاف, وهذا من شؤم البدعة البدعة بعدها كما قال بعض السلف.

(2)          انظر: "تهذيب التهذيب" (9/46).

(3)          "الفتح" (8/551).

).
(

(102)    "الكاشف" (ص70).

(103)    انظر كلامه في "مجموع الرسائل والمسائل " (2/237).

(104)    "شرح الجوهرة" للبيجوري (ص121).

(105)    انظر كتاب: "عقيدة الأشاعرة" (ص44).

(106)    "فتح الباري" (13/458).

(107)    "مذكرة أصول الفقه" للشنقيطي (ص190).

(108)    "الملل والنحل" (1/93).

(109)    "مجموع الفتاوى" (3/97).

(110)  قال الأشعري  في "مقالات الإسلاميين" (1|279): الذي تفرد به جهم القول بأن الجنة والنار تبيدان وتفنيان، وأن الإيمان هو المعرفة بالله فقط، والكفر هو الجهل به فقط، وأنه لا فعل لأحد في الحقيقة إلا الله وحده، وأنه هو الفاعل وأن الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على المجاز.

(111)    انظر: "السنوسية" (ص72).

(112)    "مجموع الفتاوى" (8/129).

(113)    انظر: "مختصر الصواعق" (1/181).

(114)    انظر: "السنوسية" (ص66).

(115)  انظر: "تهذيب شرح السنوسية" (ص28)، كيف جوزوا إثابة العاصي وتعذيب المطيع ولذلك اشتد نكير بعضهم على الأشاعرة في هذه المسألة لأن لازم قولهم أنه يجوز وضع النبي r في النار وجعل إبليس في الجنة فتأمل هذا القول القبيح.

(116)    "شفاء العليل" (2/588).

(117)    رواه أبو داود في "سننه" رقم (5225). وأصله في "الصحيحين".

(118)    "الفصل في الملل والنحل" لابن حزم(5/12).


(119)    الحديث عزاه ابن حجر في "المطالب العالية" (4/363) للحارث وحكم عليه بالإرسال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق