الرد على الصوفية=من النقل ما جاء في ذم البدع وأهلها عن الصوفية المشهورين عند الناس :
وإنما خصصنا هذا الموضع بالذكر ، وإن كان فيما تقدم من النقل كفاية ، لأن كثيرا من الجهال يعتقدون فيهم أنهم متساهلون في الاتباع ، وأن اختراع العبادات والتزام ما لم يأت في الشرع التزامه مما يقولون به ويعملون عليه ، وحاشاهم من ذلك أن يعتقدوه أو يقولوا به ، فأول شيء بنوا عليه طريقتهم : اتباع السنة ، واجتناب ما خالفها ، حتى زعم مذكرهم ، وحافظ مأخذهم ، وعمود نحلتهم ، ( أبو القاسم القشيري ) أنهم إنما اختصوا باسم التصوف انفرادا به عن أهل البدع ، فذكر أن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتسم أفاضلهم في [ ص: 120 ] عصرهم باسم علم سوى الصحبة ، إذ لا فضيلة فوقها ، ثم سمي من يليهم التابعين ، ورأوا هذا الاسم أشرف الأسماء ، ثم قيل لمن بعدهم أتباع التابعين ، ثم اختلف الناس وتباينت المراتب ، فقيل لخواص الناس ممن له شدة عناية من الدين : الزهاد والعباد .
قال : ثم ظهرت البدع ، وادعى كل فريق أن فيهم زهادا وعبادا ، فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله الحافظون قلوبهم عن الغفلة باسم التصوف .
هذا معنى كلامه ، فقد عد هذا اللقب مخصوصا باتباع السنة ومباينة البدعة ، وفي ذلك ما يدل على خلاف ما يعتقده الجهال ومن لا عبرة به من المدعين للعلم .
وفي غرضي إن فسح الله في المدة ، وأعانني بفضله ، ويسر لي الأسباب أن ألخص في طريقة القوم أنموذجا يستدل به على صحتها وجريانها على الطريقة المثلى ، وأنه إنما داخلتها المفاسد وتطرقت إليها البدع من جهة قوم تأخرت أزمانهم عن عهد ذلك السلف الصالح ، وادعوا الدخول فيها من غير سلوك شرعي ، ولا فهم لمقاصد أهلها ، وتقولوا عليهم ما لم يقولوا به ، حتى صارت في هذا الزمان الأخير كأنها شريعة أخرى غير ما أتى بهامحمد صلى الله عليه وسلم .
[ ص: 121 ] وأعظم من ذلك أنهم يتساهلون في اتباع السنة ، ويرون اختراع العبادات طريقا للتعبد صحيحا ، وطريقة القوم بريئة من هذا الخباط بحمد الله .
فقد قال الفضيل بن عياض : " من جلس مع صاحب بدعة ، لم يعط الحكمة " .
وقيل لـ إبراهيم بن أدهم : إن الله يقول في كتابه : ( ادعوني أستجب لكم ) ، ونحن ندعوه منذ دهر فلا يستجيب لنا ! فقال : ماتت قلوبكم في عشرة أشياء : أولها : عرفتم الله فلم تؤدوا حقه ، والثاني : قرأتم كتاب الله ولم تعملوا به ، والثالث : ادعيتم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركتم سنته ، والرابع : ادعيتم عداوة الشيطان ووافقتموه ، والخامس : قلتم نحب الجنة وما تعملون لها . إلى آخر الحكاية .
وقال ذو النون المصري : " من علامة حب الله متابعة حبيب الله صلى الله عليه وسلم في أخلاقه وأفعاله وأمره وسنته " .
وقال : " إنما دخل الفساد على الخلق من ستة أشياء ، الأول : ضعف النية بعمل الآخرة ، والثاني : صارت أبدانهم مهيئة لشهواتهم ، والثالث : غلبهم طول الأمل مع قصر الأجل ، والرابع : آثروا رضاء المخلوقين على رضاء الله ، والخامس : اتبعوا أهواءهم ونبذوا سنة نبيهم [ ص: 122 ]صلى الله عليه وسلم ، والسادس : جعلوا زلات السلف حجة لأنفسهم ودفنوا أكثر مناقبهم .
وقال لرجل أوصاه : " ليكن آثر الأشياء عندك وأحبها إليك : إحكام ما افترض الله عليك ، واتقاء ما نهاك عنه ، فإن ما تعبد الله به خير لك مما تختاره لنفسك من أعمال البر التي [ لا ] تجب عليك ، وأنت ترى أنها أبلغ لك فيما تريد ، كالذي يؤدب نفسه بالفقر والتقلل وما أشبه ذلك ، وإنما للعبد أن يراعي أبدا ما وجب عليه من فرض يحكمه على تمام حدوده ، وينظر إلى ما نهي عنه فيتقيه على إحكام ما ينبغي ، فإن الذي قطع العباد عن ربهم ، وقطعهم عن أن يذوقوا حلاوة الإيمان ، وأن يبلغوا حقائق الصدق ، وحجب قلوبهم عن النظر إلى الآخرة : تهاونهم بأحكام ما فرض عليهم في قلوبهم ، وأسماعهم ، وأبصارهم ، وألسنتهم ، وأيديهم ، وأرجلهم ، وبطونهم وفروجهم ، ولو وقفوا على هذه الأشياء وأحكموها; لأدخل عليهم البر إدخالا تعجز أبدانهم وقلوبهم عن حمل ما رزقهم الله من حسن معونته وفوائد كرامته ، ولكن أكثر القراء والنساك حقروا محقرات الذنوب ، واستهانوا بالقليل مما هم فيه من العيوب ، فحرموا ثواب لذة الصادقين في العاجل " .
وقال بشر الحافي : " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ، فقال لي : يا بشر ! تدري لم رفعك الله بين أقرانك ؟ قلت : لا يا رسول الله ، قال : لاتباعك سنتي ، وحرمتك للصالحين ، ونصيحتك لإخوانك ، ومحبتك لأصحابي وأهل بيتي ؛ هو الذي بلغك منازل الأبرار " .
وقال يحيى بن معاذ الرازي : " اختلاف الناس كلهم يرجع إلى ثلاثة أصول ، فلكل واحد منها ضد ، فمن سقط عنه ، وقع في ضده : التوحيد [ ص:123 ] وضده الشرك ، والسنة وضدها البدعة ، والطاعة وضدها المعصية " .
وقال أبو بكر الدقاق وكان من أقران الجنيد : " كنت مارا في تيه بني إسرائيل ، فخطر ببالي أن علم الحقيقة مباين لعلم الشريعة ، فهتف بي هاتف : كل حقيقة لا تتبعها الشريعة فهي كفر " .
وقال أبو علي الحسن بن علي الجوزجاني : " من علامات السعادة على العبد : تيسير الطاعة عليه ، وموافقة السنة في أفعاله ، وصحبته لأهل الصلاح ، وحسن أخلاقه مع الإخوان ، وبذل معروفه للخلق واهتمامه للمسلمين ، ومراعاته لأوقاته " .
وسئل كيف الطريق إلى الله ؟ فقال : " الطرق إلى الله كثيرة ، وأوضح الطرق وأبعدها عن الشبه : اتباع السنة قولا وفعلا وعزما وعقدا ونية ، لأن الله يقول : ( وإن تطيعوه تهتدوا ) .
فقيل له : كيف الطريق إلى السنة ؟ فقال : " مجانبة البدع ، واتباع ما أجمع عليه الصدر الأول من علماء الإسلام ، والتباعد عن مجالس الكلام وأهله ، ولزوم طريقة الاقتداء ، وبذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى : ( ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم ) .
وقال أبو بكر الترمذي : " لم يجد أحد تمام الهمة بأوصافها إلا أهل المحبة ، وإنما أخذوا ذلك باتباع السنة ومجانبة البدعة ، فإن محمدا صلى الله عليه وسلم كان أعلى الخلق كلهم همة ، وأقربهم زلفى " .
[ ص: 124 ] وقال أبو الحسن الوراق : " لا يصل العبد إلى الله إلا بالله ، وبموافقة حبيبه صلى الله عليه وسلم في شرائعه ، ومن جعل الطريق إلى الوصول في غير الاقتداء ، يضل من حيث أنه مهتد " .
وقال : " الصدق : استقامة الطريق في الدين ، واتباع السنة في الشرع " .
وقال : " علامة محبة الله متابعة حبيبه صلى الله عليه وسلم " .
ومثله عن إبراهيم القمار ، قال : " علامة محبة الله : إيثار طاعته ، ومتابعة نبيه " .
وقال أبو محمد بن عبد الوهاب الثقفي : " لا يقبل الله من الأعمال إلا ما كان صوابا ، ومن صوابها إلا ما كان خالصا ، ومن خالصها إلا ما وافق السنة " . وإبراهيم بن شيبان القرميسيني صحب أبا عبد الله المغربي وإبراهيم الخواص ، وكان شديدا على أهل البدع ، متمسكا بالكتاب والسنة ، لازما لطريق المشايخ والأئمة ، حتى قال فيه عبد الله بن منازل : إبراهيم بن شيبان حجة الله على الفقراء وأهل الآداب والمعاملات .
وقال أبو بكر بن سعدان - وهو من أصحاب الجنيد - وغيره : الاعتصام بالله هو الامتناع من الغفلة والمعاصي والبدع والضلالات .
وقال أبو عمر الزجاجي وهو من أصحاب الجنيد والثوري وغيرهما : " كان الناس في الجاهلية يتبعون ما تستحسنه عقولهم [ ص: 125 ] وطبائعهم ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ، فردهم إلى الشريعة والاتباع ، فالعقل الصحيح الذي يستحسن ما يستحسنه الشرع ، ويستقبح ما يستقبحه " .
وقيل لإسماعيل بن محمد السلمي جد أبي عبد الرحمن السلمي ، ولقي الجنيد وغيره : ما الذي لا بد للعبد منه ؟ فقال : " ملازمة العبودية على السنة ، ودوام المراقبة " .
وقال أبوعثمان المغربي التونسي : " هي الوقوف مع الحدود لا يقصر فيها ولا يتعداها ، قال الله تعالى : ( ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ) .
وقال أبو يزيد البسطامي : " عملت في المجاهدة ثلاثين سنة ، فما وجدت شيئا أشد من العلم ومتابعته ، ولولا اختلاف العلماء لشقيت . واختلاف العلماء رحمة إلا في تجريد التوحيد ، ومتابعة العلم هي متابعة السنة لا غيرها " .
وروي عنه أنه قال : " قم بنا ننظر إلى هذا الرجل الذي قد شهر نفسه بالولاية كان رجلا مقصودا مشهورا بالزهد " .
قال الراوي : " فمضينا ، فلما خرج من بيته ودخل المسجد; رمى ببصاقه تجاه القبلة ، فانصرف أبو يزيد ، ولم يسلم عليه ، وقال : هذا غير مأمون على أدب من آداب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكيف يكون مأمونا على ما يدعيه ؟ !
وهذا أصل أصله أبو يزيد رحمه الله للقوم ، وهو أن الولاية لا [ ص: 126 ] تحصل لتارك السنة ، وإن كان ذلك جهلا منه ، فما ظنك به إذا كان عاملا بالبدعة كفاحا ؟ !
وقال : " هممت أن أسأل الله أن يكفيني مؤنة الأكل ومؤنة النساء ، ثم قلت : كيف يجوز أن أسأل الله هذا ؟ ولم يسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أسأله ، ثم إن الله سبحانه كفاني مؤنة النساء حتى لا أبالي استقبلتني امرأة أم حائط " .
وقال : " لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرتقي في الهواء; فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي ، وحفظ الحدود وآداب الشريعة " .
وقال سهل التستري : " كل فعل يفعله العبد بغير اقتداء : طاعة كان أو معصية ، فهو عيش النفس يعني : باتباع الهوى ، وكل فعل يفعله العبد بالاقتداء; فهو عتاب على النفس يعني لأنه لا هوى له فيه " .
واتباع الهوى هو المذموم ، ومقصود القوم تركه ألبتة .
وقال : " أصولنا سبعة أشياء : التمسك بكتاب الله ، والاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأكل الحلال ، وكف الأذى ، واجتناب الآثام ، والتوبة ، وأداء الحقوق " .
وقال : " قد أيس الخلق من هذه الخصال الثلاث : ملازمة التوبة ، ومتابعة السنة ، وترك أذى الخلق " .
وسئل عن الفتوة ؟ فقال : " اتباع السنة " .
وقال أبو سليمان الداراني : " ربما تقع في قلبي النكتة من نكت [ ص: 127 ] القوم أياما ، فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين : الكتاب والسنة " .
وقال أحمد بن أبي الحواري : " من عمل عملا بلا اتباع سنة; فباطل عمله " .
وقال أبو حفص الحداد : " من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة ، ولم يتهم خواطره ، فلا تعده في ديوان الرجال " .
وسئل عن البدعة ؟ فقال : " التعدي في الأحكام ، والتهاون في السنن ، واتباع الآراء والأهواء ، وترك الاتباع والاقتداء " .
قال : " وما ظهرت حالة عالية; إلا من ملازمة أمر صحيح " .
وسئل حمدون القصار : متى يجوز للرجل أن يتكلم على الناس ؟ فقال : " إذا تعين عليه أداء فرض من فرائض الله في عمله ، أو خاف هلاك إنسان في بدعة يرجو أن ينجيه الله منها " .
وقال : " من نظر في سير السلف; عرف تقصيره ، وتخلفه عن درجات الرجال " .
وهذه والله أعلم إشارة إلى المثابرة على الاقتداء بهم ، فإنهم أهل السنة .
وقال أبو القاسم الجنيد لرجل ذكر المعرفة وقال : أهل المعرفة بالله يصلون إلى ترك الحركات من باب البر والتقرب إلى الله فقال الجنيد : " إن هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال عن الله تعالى ، وإليه يرجعون فيها " .
قال : ولو بقيت ألف عام; لم أنقص من أعمال البر ذرة ، إلا أن [ ص: 128 ] يحال بي دونها " .
وقال : " الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم " .
وقال : " مذهبنا هذا مقيد بالكتاب والسنة " .
وقال : " من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث ، لا يقتدى به في هذا الأمر; لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة " .
وقال : " هذا مشيد بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
وقال أبو عثمان الجبري : " الصحبة مع الله تعالى بحسن الأدب ودوام الهيبة والمراقبة ، والصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع سنته ، ولزوم ظاهر العلم ، والصحبة مع أولياء الله بالاحترام والخدمة " . إلى آخر ما قال .
ولما تغير عليه الحال ، مزق ابنه أبو بكر قميصا على نفسه ، ففتح أبو عثمان عينيه وقال : " خلاف السنة يا بني في الظاهر ، علامة رياء في الباطن " .
وقال : " من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا; نطق بالحكمة ، ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا; نطق بالبدعة; قال الله تعالى : ( وإن تطيعوه تهتدوا ) .
قال أبو الحسين النووي : " من رأيته يدعي مع الله حالة تخرجه عن حد العلم الشرعي ، فلا تقربن منه " .
وقال محمد بن الفضل البلخي : " ذهاب الإسلام من أربعة : لا [ ص: 129 ] يعملون بما يعلمون ، ويعملون بما لا يعلمون ، ولا يتعلمون ما لا يعلمون ، ويمنعون الناس من التعلم .
هذا ما قال ، وهو وصف صوفيتنا اليوم ، عياذا بالله .
وقال : " أعرفهم بالله أشدهم مجاهدة في أوامره ، وأتبعهم لسنة نبيه " .
وقال شاة الكرماني : " من غض بصره عن المحارم ، وأمسك نفسه عن الشبهات ، وعمر باطنه بدوام المراقبة وظاهره باتباع السنة ، وعود نفسه أكل الحلال ، لم تخطئ له فراسة " .
وقال أبو سعيد الخراز : " كل باطن يخالفه ظاهر فهو باطل " .
وقال أبو العباس بن عطاء وهو من أقران الجنيد : " من ألزم نفسه آداب الله; نور الله قلبه بنور المعرفة ، ولا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب صلى الله عليه وسلم في أوامره وأفعاله وأخلاقه " .
وقال أيضا : " أعظم الغفلة : غفلة العبد عن ربه عز وجل ، وغفلته عن أوامره ، وغفلته عن آداب معاملته " .
وقال إبراهيم الخواص : " ليس العلم بكثرة الرواية ، وإنما العالم من اتبع العلم ، واستعمله ، واقتدى بالسنن ، وإن كان قليل العلم " .
وسئل عن العافية ؟ فقال : " العافية أربعة أشياء : دين بلا بدعة ، وعمل بلا آفة ، وقلب بلا شغل ، ونفس بلا شهوة " .
وقال : " الصبر : الثبات على أحكام الكتاب والسنة " .
وقال بنان الحمال وسئل عن أصل أحوال الصوفية ؟ فقال : [ ص: 130 ] " الثقة بالمضمون ، والقيام بالأوامر ، ومراعاة السر ، والتخلي عن الكونين " .
وقال أبو حمزة البغدادي : " من علم طريق الحق سهل عليه سلوكه ، ولا دليل على الطريق إلى الله إلا متابعة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في أحواله وأفعاله وأقواله .
وقال أبو إسحاق الرقاشي : " علامة محبة الله إيثار طاعته ومتابعة نبيه " اهـ .
ودليله قوله تعالى : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) .
وقال ممشاد الدينوري : " آداب المريد في : التزام حرمات المشايخ ، وحرمة الإخوان ، والخروج عن الأسباب ، وحفظ آداب الشرع على نفسه " .
وسئل أبو علي الروذباري عمن يسمع الملاهي ويقول : هي لي حلال لأني قد وصلت إلى درجة لا يؤثر في اختلاف الأحوال . فقال : نعم ، قد وصل ، ولكن إلى سقر " .
وقال أبو محمد عبد الله بن منازل : " لم يضيع أحد فريضة من الفرائض; إلا ابتلاه الله بتضييع السنن ، ولم يبتل بتضييع السنن أحد; إلا يوشك أن يبتلى بالبدع " .
وقال أبو يعقوب النهرجوري : " أفضل الأحوال ما قارن العلم " .
وقال أبو عمرو بن نجيد : " كل حال لا يكون عن نتيجة علم; فإن [ ص: 131 ] ضرره على صاحبه أكثر من نفعه " .
وقال بندار بن الحسين : " صحبة أهل البدع تورث الإعراض عن الحق " .
وقال أبو بكر الطمستاني : " الطريق واضح ، والكتاب والسنة قائمان بين أظهرنا ، وفضل الصحابة معلوم لسبقهم إلى الهجرة ولصحبتهم ، فمن صحب منا الكتاب والسنة ، وتغرب عن نفسه والخلق ، وهاجر بقلبه إلى الله ، فهو الصادق المصيب " .
وقال أبو القاسم النصراباذي : " أصل التصوف ملازمة الكتاب والسنة ، وترك البدع والأهواء ، وتعظيم حرمات المشايخ ، ورؤية أعذار الخلق ، والمداومة على الأوراد ، وترك ارتكاب الرخص والتأويلات " .
وكلامهم في هذا الباب يطول ، وقد نقلنا عن جملة ممن اشتهر منهم ينيف على الأربعين شيخا ، جميعهم يشير أو يصرح بأن الابتداع ضلال والسلوك عليه تيه ، واستعماله رمي في عماية ، وأنه مناف لطلب النجاة ، وصاحبه غير محفوظ ، وموكول إلى نفسه ، ومطرود عن نيل الحكمة ، وأن الصوفية الذين نسبت إليهم الطريقة; مجمعون على تعظيم الشريعة ، مقيمون على متابعة السنة ، غير مخلين بشيء من آدابها ، أبعد الناس عن البدعوأهلها .
ولذلك لا نجد منهم من ينسب إلى فرق من الفرق الضالة ، ولا من يميل إلى خلاف السنة .
وأكثر من ذكر منهم علماء وفقهاء ومحدثون وممن يؤخذ عنه الدين [ ص: 132 ] أصولا وفروعا ، ومن لم يكن كذلك ، فلا بد من أن يكون فقيها في دينه بمقدار كفايته .
وهم كانوا أهل الحقائق والمواجد والأذواق والأحوال والأسرار التوحيدية ، فهم الحجة لنا على كل من ينتسب إلى طريقهم ولا يجري على منهاجهم ، بل يأتي ببدع محدثات ، وأهواء متبعات ، وينسبها إليهم ، تأويلا عليهم . من قول محتمل ، أو فعل من قضايا الأحوال ، أو استمساكا بمصلحة شهد الشرع بإلغائها ، أو ما أشبه ذلك .
فكثيرا ما ترى المتأخرين ممن يتشبه بهم ، يرتكب من الأعمال ما أجمع الناس على فساده شرعا ، ويحتج بحكايات هي قضايا أحوال ، إن صحت; لم يكن فيها حجة ، لوجوه عدة ، ويترك من كلامهم وأحوالهم ما هو واضح في الحق الصريح ، والاتباع الصحيح ، شأن من اتبع من الأدلة الشرعية ما تشابه منها .
ففي الصحيح ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ; قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله لا ينتزع العلم من الناس بعد إذ أعطاهموه انتزاعا ، ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم ، فيبقى ناس جهال ، يستفتون ، فيفتون برأيهم ، فيضلون ويضلون .
فإذا كان كذلك ، فذم الرأي عائد على البدع بالذم لا محالة .
وخرج ابن المبارك وغيره ، عن عوف بن مالك الأشجعي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة ، أعظمها فتنة قوم يقيسون الدين برأيهم ، يحرمون به ما أحل الله ، ويحلون به ما حرم .
قال ابن عبد البر : " هذا هو القياس على غير أصل ، والكلام في الدين بالتخرص والظن ، ألا ترى إلى قوله في الحديث : " يحلون الحرام ويحرمون الحلال " ؟ ومعلوم أن الحلال ما في كتاب الله وسنة رسوله تحليله ، والحرام ما كان في كتاب الله وسنة رسوله تحريمه ، فمن جهل [ ص: 134 ]ذلك وقال فيما سئل عنه بغير علم ، وقاس برأيه ما خرج ( منه ) عن السنة ، فهذا الذي قاس برأيه فضل وأضل ، ومن رد الفروع في علمه إلى أصولها; فلم يقل برأيه " .
وخرج ابن المبارك حديثا : " إن من أشراط الساعة ثلاثا ، وإحداهن : " أن يلتمس العلم عند الأصاغر " .
قيل لابن المبارك : من الأصاغر ؟ قال : " الذين يقولون برأيهم ، فأما صغير يروي عن كبير; فليس بصغير " .
وخرج ابن وهب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أنه قال : " أصبح أهل الرأي أعداء السنن ، أعيتهم الأحاديث أن يعوها ، وتفلتت منهم " .
قال سحنون : " يعني : البدع " .
[ ص: 135 ] وفي رواية : " إياكم وأصحاب الرأي ، فإنهم أعداء السنن ، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها ، فقالوا بالرأي ، فضلوا وأضلوا " .
وفي رواية لـ ابن وهب : " إن أصحاب الرأي أعداء السنة ، أعيتهم أن يحفظوها ، وتفلتت منهم أن يعوها ، واستحيوا حين يسألوا أن يقولوا : لا نعلم ، فعارضوا السنن برأيهم ، فإياكم وإياكم " .
قال أبو بكر بن أبي داود : " أهل الرأي هم أهل البدع " .
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : " من أحدث رأيا ليس في كتاب الله ، ولم تمض به سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يدر ما هو عليه إذا لقي الله عز وجل " .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه : " قراؤكم يذهبون ، ويتخذ الناس رؤساء جهالا يقيسون الأمور برأيهم " .
وخرج ابن وهب وغيره عن عمر بن الخطاب : أنه قال : " السنة ما سنه الله ورسوله ، لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة " .
وخرج أيضا عن هشام بن عروة عن أبيه ، قال : " لم يزل أمر بني إسرائيل مستقيما حتى أدرك فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم ، فأخذوا فيهم بالرأي ، فأضلوا بني إسرائيل " .
وعن الشعبي : " إنما هلكتم حين تركتم الآثار وأخذتم بالمقاييس " .
وعن الحسن : " إنما هلك من كان قبلكم حين شعبت بهم السبل ، وحادوا عن الطريق فتركوا الآثار ، وقالوا في الدين برأيهم ، فضلوا [ ص: 136 ]وأضلوا .
وعن دراج بن السمح قال : " يأتي على الناس زمان; يسمن الرجل راحلته حتى تعقد شحما ، ثم يسير عليها في الأمصار حتى تعود نقضا ، يلتمس من يفتيه بسنة قد عمل بها فلا يجد إلا من يفتيه بالظن " .
وقد اختلف العلماء في الرأي المقصود بهذه الأخبار والآثار :
فقد قالت طائفة : المراد به رأي أهل البدع المخالفين للسنن ، لكن في الاعتقاد كمذهب جهم وسائر مذاهب أهل الكلام ، لأنهم استعملوا آراءهم في رد الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بل وفي رد ظواهر القرآن; لغير سبب يوجب الرد ويقتضي التأويل ، كما قالوا بنفي الرؤية نفيا للظاهر بالمحتملات ، ونفي عذاب القبر ، ونفي الميزان والصراط . وكذلك ردوا أحاديث الشفاعة والحوض إلى أشياء يطول ذكرها وهي مذكورة في كتب الكلام .
وقالت طائفة : إنما الرأي المذموم المعيب الرأي المبتدع ، وما كان مثله من ضروب البدع ، فإن حقائق جميع البدع رجوع إلى الرأي ، وخروج عن الشرع .
وهذا هو القول الأظهر ، إذ الأدلة المتقدمة لا تقتضي بالقصد الأول من البدع نوعا دون نوع ، بل ظاهرها تقتضي العموم في كل بدعة ، حدثت أو تحدث إلى يوم القيامة ، كانت من الأصول أو الفروع ، كما قاله القاضي إسماعيل في قوله تعالى : ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ) ; بعدما حكى أنها نزلت في الخوارج .
[ ص: 137 ] وكأن القائل بالتخصيص والله أعلم لم يقل به بالقصد الأول ، بل أتى بمثال مما تتضمنه الآية ، كالمثال المذكور; فإنه موافق لما كان مشتهرا في ذلك الزمان ، فهو أول ما يمثل به ، ويبقى ما عداه مسكوتا عن ذكره عند القائل به ، ولو سئل عن العموم لقال به .
وهكذا كل ما تقدم من الأقوال الخاصة ببعض أهل البدع إنما تحصل على التفسير بحسب الحاجة ، ألا ترى أن الآية الأولى من سورة آل عمران إنما أنزلت في قصة نصارى نجران ، ثم نزلت على الخوارج حسبما تقدم إلى غير ذلك مما يذكر في التفسير ، إنما يحملونه على ما يشمله الموضع بحسب الحاجة الحاضرة لا بحسب ما يقتضيه اللفظ لغة .
وهكذا ينبغي أن تفهم أقوال المفسرين المتقدمين ، وهو الأولى لمناصبهم في العلم ، ومراتبهم في فهم الكتاب والسنة .
ولهذا المعنى تقرير في غير هذا الموضع .
وقالت طائفة وهم فيما زعم ابن عبد البر جمهور أهل العلم : الرأي المذكور في هذه الآثار هو القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون ، والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات ، ورد الفروع والنوازل بعضها إلى بعض قياسا دون ردها إلى أصولها والنظر في عللها واعتبارها ، فاستعمل فيها الرأي قبل أن تنزل ، وفرعت قبل أن تقع ، وتكلم فيها قبل أن تكون بالرأي المضارع للظن .
قالوا : لأن في الاشتغال بهذا والاستغراق فيه : تعطيل السنن ، والبعث على جهلها ، وترك الوقوف على ما يلزم الوقوف عليه منها ، ومن كتاب الله تعالى ومعانيه .
[ ص: 138 ] واحتجوا على ذلك بأشياء ، منها : أن عمر رضي الله عنه لعن من سأل عما لم يكن ، وما جاء من النهي عن الأغلوطات ، وهي صعاب المسائل ، وعن كثرة السؤال ، وأنه كره المسائل وعابها ، وإن كثيرا من السلف لم يكن يجيب إلا عما نزل من النوازل دون ما لم ينزل .
وهذا القول غير مخالف لما قبله ، لأن من قال به; قد منع من الرأي وإن كان غير مذموم ، لأن الإكثار منه ذريعة إلى الرأي المذموم ، وهو ترك النظر في السنن اقتصارا على الرأي .
وإذا كان كذلك; اجتمع مع ما قبله ، فإن من عادة الشرع أنه إذا نهى عن شيء وشدد فيه; منع ما حواليه ، وما دار به ورتع حول حماه ، ألا ترى إلى قوله عليه السلام : الحلال بين ، والحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهة ، وكذلك جاء في الشرع أصل سد الذرائع ، وهو منع الجائز; لأنه يجر إلى غير الجائز ، وبحسب عظم المفسدة في الممنوع يكون اتساع المنع في الذريعة وشدته .
وما تقدم من الأدلة يبين لك عظم المفسدة في الابتداع ، فالحوم حول حماه يتسع جدا ، ولذلك تنصل العلماء من القول بالقياس وإن كان جاريا على الطريقة ، فامتنع جماعة من الفتيا به قبل نزول المسألة ، وحكوا في ذلك حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال :
لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها فإنكم إن تفعلوا تشتت بكم الطرق [ ص: 139 ] هاهنا وهاهنا .
وصح نهيه عليه السلام عن كثرة السؤال .
وقال : إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وعفا عن أشياء رحمة لكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها .
وأحال بها جماعة على الأمراء ، فلم يكونوا يفتون حتى يكون الأمير هو الذي يتولى ذلك ، ويسمونها : صوافي الأمراء .
وكان جماعة يفتون على الخروج عن العهدة ، وأنه رأي ليس بعلم : كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذ سئل في الكلالة : " أقول فيها برأيي ، فإن كان صوابا فمن الله ، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان " ، ثم أجاب .
وجاء رجل إلى سعيد بن المسيب ، فسأله عن شيء فأملاه عليه ، ثم سأله عن رأيه ، فأجابه ، فكتب الرجل ، فقال رجل من جلساء سعيد : أتكتب يا أبا محمد رأيك ؟ فقال سعيد للرجل : " ناولنيها " ، فناوله [ ص: 140 ] الصحيفة ، فخرقها .
وسئل القاسم بن محمد عن شيء ؟ فأجاب ، فلما ولى الرجل; دعاه ، فقال له : " لا تقل : إن القاسم زعم أن هذا هو الحق ، ولكن إن اضطررت إليه عملت به " .
وقال مالك بن أنس : " قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تم هذا الأمر واستكمل ، فإنما ينبغي أن نتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نتبع الرأي ، فإنه متى اتبع الرأي; جاء رجل آخر أقوى في الرأي منك فاتبعته ، فأنت كلما جاء رجل غلبك اتبعته ، أرى هذا لا يتم " .
ثم ثبت أنه كان يقول برأيه ، ولكن كثيرا ما كان يقول بعد أن يجتهد رأيه في النازلة : ( إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين ) .
ولأجل الخوف على من كان يتعمق فيه ، لم يزل يذمه ويذم من تعمق فيه ، فقد كان ينحى على أهل العراق ، لكثرة تصرفهم به في الأحكام ، فحكي عنه في ذلك أشياء ، من أخفها قوله :
والآثار المتقدمة ليست عند مالك مخصوصة بالرأي في الاعتقاد ، فهذه كلها تشديدات في الرأي ، وإن كان جاريا على الأصول ، حذرا من الوقوع في الرأي غير الجاري على أصل . ولابن عبد البر هنا كلام كثير كرهنا الإتيان به . [ ص: 141 ] والحاصل من جميع ما تقدم : أن الرأي المذموم ما بني على الجهل واتباع الهوى من غير أن يرجع إليه ، وما كان منه ذريعة إليه ، وإن كان في أصله محمودا ، وذلك راجع إلى أصل شرعي : فالأول : داخل تحت حد البدعة ، وتتنزل عليه أدلة الذم .
والثاني : خارج عنه ، ولا يكون بدعة أبدا . : من النقل يذكر فيه بعض ما في البدع من الأوصاف المحذورة ، والمعاني المذمومة ، وأنواع الشؤم :
وهو كالشرح لما تقدم أولا ، وفيه زيادة بسط وبيان زائد على ما تقدم في أثناء الأدلة ، فلنتكلم على ما يسع ذكره بحسب الوقت والحال .
فاعلموا أن البدعة : لا يقبل معها عبادة من صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا غيرها من القربات ، ومجالس صاحبها تنزع منه العصمة ، ويوكل إلى نفسه ، والماشي إليه وموقره معين على هدم الإسلام ، فما الظن بصاحبها ؟ وهو ملعون على لسان الشريعة ، ويزداد من الله بعبادته بعدا ، وهي مظنة إلقاء العداوة والبغضاء ، ومانعة من الشفاعة المحمدية ، ورافعة للسنن التي تقابلها ، وعلى مبتدعها إثم من عمل بها ، وليس له من توبة ، وتلقى عليه الذلة والغضب من الله ، ويبعد عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويخاف عليه أن يكون معدودا في الكفار الخارجين عن الملة ، وسوء الخاتمة عند الخروج من الدنيا ، ويسود وجهه في الآخرة ، [ و ] يعذب بنار جهنم ، وقد تبرأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ منه المسلمون ، ويخاف عليه الفتنة [ ص: 142 ] في الدنيا زيادة إلى عذاب الآخرة .
فأما أن البدعة لا يقبل معها عمل :
فقد روي عن الأوزاعي : أنه قال : " كان بعض أهل العلم يقولون : لا يقبل الله من ذي بدعة صلاة ولا صياما ولا صدقة ولا جهادا ولا حجا ولا عمرة ولا صرفا ولا عدلا " .
وفيما كتب به أسد بن موسى : " وإياك أن يكون لك من البدع أخ أو جليس أو صاحب :
فإنه جاء الأثر : من جالس صاحب بدعة; نزعت منه العصمة ، ووكل إلى نفسه ، ومن مشى إلى صاحب بدعة ، مشى إلى هدم الإسلام .
وجاء : ما من إله يعبد من دون الله أبغض إلى الله من صاحب هوى .
ووقعت اللعنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل البدع .
وإن الله لا يقبل منهم صرفا ولا عدلا ، ولا فريضة ولا تطوعا .
وكلما ازدادوا اجتهادا صوما وصلاة ازدادوا من الله بعدا .
فارفض مجالستهم ، وأذلهم ، وأبعدهم ، كما أبعدهم وأذلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة الهدى بعده .
وكان أيوب السختياني يقول : " ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إلا ازداد من الله بعدا " . وقال هشام بن حسان : " لا يقبل الله من صاحب بدعة صلاة ولا [ ص: 143 ] صياما ولا زكاة ولا حجا ولا جهادا ولا عمرة ولا صدقة ولا عتقا ولا صرفا ولا عدلا " .
وخرج ابن وهب عن عبد الله بن عمر ; قال : " من كان يزعم أن مع الله قاضيا أو رازقا أو يملك لنفسه ضرا أو نفعا أو موتا أو حياة أو نشورا ، لقيالله ، فأدحض حجته ، وأخرس لسانه ، وجعل صلاته وصيامه هباء منثورا ، وقطع به الأسباب ، وكبه في النار على وجهه " .
وهذه الأحاديث وما كان نحوها مما ذكرناه تتضمن عمدة صحتها كلها; فإن المعنى المقرر فيها له في الشريعة أصل صحيح لا مطعن فيه .
أما أولا; فإنه قد جاء في بعضها ما يقتضي عدم القبول .
وهو في الصحيح كبدعة القدرية ، حيث قال فيها عبد الله بن عمر : " إذا لقيت أولئك ، فأخبرهم أني بريء منهم ، وأنهم براء مني ، فوالذي يحلف بهعبد الله بن عمر ; لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبا ، فأنفقه; ما تقبله الله منه حتى يؤمن بالقدر " ، ثم استشهد بحديث جبريل المذكور في صحيح مسلم .
ومثله حديث الخوارج وقوله فيه : " يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " ، بعد قوله : تحقرون صلاتكم مع صلاتهم ، وصيامكم مع صيامهم ، وأعمالكم مع أعمالهم الحديث .
[ ص: 144 ] وإذا ثبت في بعضهم هذا لأجل بدعة; فكل مبتدع يخاف عليه مثل من ذكره .
وأما ثانيا : فإن كان المبتدع لا يقبل منه عمل : إما أن يراد أنه لا يقبل له بإطلاق على أي وجه وقع من وفاق سنة أو خلافها ، وإما أن يراد أنه لا يقبل منه ما ابتدع فيه خاصة دون ما لم يبتدع فيه .
فأما الأول : فيمكن على أحد أوجه ثلاثة .
الأول : أن يكون على ظاهره; من أن كل مبتدع أي بدعة كانت فأعماله لا تقبل معها داخلتها تلك البدعة أم لا .
ويشير إليه حديث ابن عمر المذكور آنفا .
ويدل عليه حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أنه خطب الناس وعليه سيف فيه صحيفة معلقة ، فقال : " والله; ما عندنا كتاب نقرؤه; إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة ، فنشرها ، فإذا فيها أسنان الإبل ، وإذا فيها : المدينة حرم من عير إلى كذا ، من أحدث فيها حدثا ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا " .
وذلك على رأي من فسر الصرف والعدل بالفريضة والنافلة .
وهذا شديد جدا على أهل الإحداث في الدين .
الثاني : أن تكون بدعته أصلا يتفرع عليه سائر الأعمال ، كما إذا ذهب إلى إنكار العمل بخبر الواحد بإطلاق ، فإن عامة التكليف مبني عليه; لأن الأمر إنما يرد على المكلف من كتاب الله أو من سنة رسوله . وما تفرع [ ص: 145 ] منهما راجع إليهما :
فإن كان واردا من السنة ، فمعظم نقل السنة بالآحاد ، بل قد أعوز أن يوجد حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متواترا .
وإن كان واردا من الكتاب ، فإنما تبينه السنة ، فكل ما لم يبين في القرآن; فلا بد لمطرح نقل الآحاد أن يستعمل رأيه [ فيه ] ، وهو الابتداع بعينه ، فيكون [ كل ] فرع ينبني على ذلك بدعة لا سنة ، لا يقبل منه شيء ، كما في الصحيح من قوله عليه السلام : كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد .
وكما إذا كانت البدعة التي ينبني عليها كل عمل ، فإن الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى .
ومن أمثلة ذلك قول من يقول : إن الأعمال إنما تلزم من لم يبلغ درجة الأولياء المكاشفين بحقائق التوحيد ، فأما من رفع له الحجاب وكوشف بحقيقة ما هنالك ، فقد ارتفع التكليف عنه ، بناء منهم على أصل هو كفر صريح لا يليق في هذا الموضع ذكره .
أمثلة ما ذهب إليه بعض المارقين من إنكار العمل بالأخبار النبوية جاءت تواترا أو آحادا وأنه إنما يرجع إلى كتاب الله .
وفي الترمذي عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته ، يأتيه أمري فيما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا أدري ! ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ! حديث حسن .
[ ص: 146 ] وفي رواية : ألا هل عسى رجل يبلغه عني الحديث وهو متكئ على أريكته فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله ( قال ) : فما وجدنا فيه حلالا حللناه وما وجدنا فيه حراما حرمناه ، وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله . حديث حسن .
وإنما جاء هذا الحديث على الذم وإثبات أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التحليل والتحريم ككتاب الله ، فمن ترك ذلك ، فقد بنى أعماله على رأيه لا على كتاب الله ، ولا على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومن الأمثلة إذا كانت البدعة تخرج صاحبها عن الإسلام باتفاق أو باختلاف ، إذ للعلماء في تكفير أهل البدع قولان .
وفي الظواهر ما يدل على ذلك; كقوله عليه السلام في بعض روايات حديث الخوارج حين ذكر السهم بصيغة الخوارج من الرمية بين الفرث والدم .
ومن الآيات قوله سبحانه وتعالى : ( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ) الآية .
ونحو الظواهر المتقدمة .
الوجه الثالث : أن صاحب البدعة في بعض الأمور التعبدية أو غيرها قد يجره اعتقاد بدعته الخاصة إلى التأويل الذي يصير اعتقاده في الشريعة ضعيفا ، وذلك يبطل عليه جميع عمله .
بيان ذلك أمثلة ،
[ ص: 147 ] منها : أن يترك العقل مع الشرع في التشريع ، وإنما يأتي الشرع كاشفا لما اقتضاه العقل .
فيا ليت شعري ! هل حكم هؤلاء في التعبد لله شرعه أم عقولهم ؟ بل صار الشرع في نحلتهم كالتابع المعين لا حاكما متبعا .
وهذا هو التشريع الذي لم يبق للشرع معه أصالة ، فكل ما عمل هذا العامل مبني على ما اقتضاه عقله ، وإن شرك الشرع ، فعلى حكم الشركة لا على إفراد الشرع ، فلا يصح بناء على الدليل الدال على إبطال التحسين والتقبيح العقليين ، إذ هو عند علماء الكلام من مشهور البدع ، وكل بدعة ضلالة .
ومنها : أن المستحسن للبدع يلزمه عادة أن يكون الشرع عنده لم يكمل بعد ، فلا يكون لقوله تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) ; معنى يعتبر به عندهم ، ومحسن الظن منهم يتأولها حتى يخرجها عن ظاهرها .
وذلك أن هؤلاء الفرق التي تبتدع العبادات أكثرها ممن يكثر الزهد والانقطاع والانفراد عن الخلق ، وإلى الاقتداء بهم يجري أغمار العوام ، والذي يلزم الجماعة وإن كان أتقى خلق الله لا يعدونه إلا من العامة ، وأما الخاصة فهم أهل تلك الزيادات .
ولذلك تجد كثيرا من المعتزين بهم ، والمائلين إلى جهتهم ، يزدرون بغيرهم ممن لم ينتحل مثل ما انتحلوا ، ويعدونهم من المحجوبين عن [ ص: 148 ] أنوارهم ، فكل من يعتقد هذا المعنى; يضعف في يده قانون الشرع الذي ضبطه السلف الصالح ، وبين حدوده الفقهاء الراسخون في العلم ، إذ ليس هو عنده في طريق السلوك بمنهض حتى يدخل مداخل خاصتهم ، وعند ذلك لا يبقى لعمل في أيديهم روح الاعتماد الحقيقي ، وهو باب عدم القبول في تلك الأعمال ، وإن كانت بحسب ظاهر الأمر مشروعة ، لأن الاعتقاد فيها أفسدها عليهم ، فحقيق أن لا يقبل ممن هذا شأنه صرف ولا عدل والعياذ بالله !
وأما الثاني : وهو أن يراد بعدم القبول لأعمالهم ما ابتدعوا فيه خاصة فيظهر أيضا .
وعليه يدل الحديث المتقدم : كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد والجميع من قوله : كل بدعة ضلالة ، أي : إن صاحبها ليس على الصراط المستقيم ، وهو معنى عدم القبول ، وفاق قول الله : ( ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) .
وصاحب البدعة لا يقتصر في الغالب على الصلاة دون الصيام ، ولا على الصيام دون الزكاة ، ولا على الزكاة دون الحج ، ولا على الحج دون الجهاد ، إلى غير ذلك من الأعمال ، لأن الباعث له على ذلك حاضر معه في الجميع ، وهو الهوى والجهل بشريعة الله ، كما سيأتي إن شاء الله .
وفي " المبسوطة " عن يحيى بن يحيى : أنه ذكر الأعراف وأهله ، [ ص: 149 ] فتوجع واسترجع ، ثم قال : " قوم أرادوا وجها من الخير فلم يصيبوه " .
فقيل له : يا أبا محمد ! أفيرجى لهم مع ذلك لسعيهم ثواب ؟
قال : " ليس في خلاف السنة رجاء ثواب " .
ولما كان أهل التصوف في طريقهم بالنسبة إلى إجماعهم على أمر كسائر أهل العلوم في علومهم ، أتيت من كلامهم بما يقوم منه دليل على ( مدعي ) السنة وذم البدعة في طريقتهم ، حتى يكون دليلا لنا من جهتهم على أهل البدع عموما ، وعلى المدعين في طريقهم خصوصا ، وبالله التوفيق . وهو المبني على غير أس ، والمستند إلى غير أصل من كتاب ولا سنة ، لكنه وجه تشريعي ، فصار نوعا من الابتداع ، بل هو الجنس فيها; فإن جميع البدع إنما هي رأي على غير أصل ، ولذلك وصف بوصف الضلال .
" الاستحسان تسعة أعشار العلم ، ولا يكاد المغرق في القياس إلا يفارق السنة " .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق