الاثنين، 24 أغسطس 2015

ثانيا :مناقشة حجة الفلاسفة:
إنّ صفة الكلام من صفات الكمال التي يجب إثباتها لله تعالى على الوجه الـذي يليق بجلاله وكماله، ولا يعني بالضرورة أن إثباتها يقتضي أن يكون من جـنس كـلام البشر، فالقرآن الكريم والسنة جاء فيهما إثبـات الكـلام والنطـق لـبعض المخلوقـات والجمادات، ومن المعلوم أن كلام هذه المخلوقات ليس من جنس كلام البشر، فليس لهـا آلات ولا أدوات قال تعالى مخبراً عن قول جهنـم يوم القيامة(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَـنَّمَ هَـلْ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) سورة ق: 30، وأخبر عن السماء والأرض أنهما قالتا ، قال تعالى:(ثم اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَـا أَتَيْنَا طَـائِعِينَ) سورة فصلت 11 ، وأخبر عن نطق أعضاء الإنسان يوم القيامة، شـاهدةً على أعمال صاحبه قال تعالى"(حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَليْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فصلت: 20-21.
وجاء في السنّة أنّه عليه الصلاة والسلام كان يسمع تسليم الحجر والشجر عليه،وهو بمكة المكرمة. ( )وسمع أصحابه تسبيح الحصى بين يديه. ( )وبهذه الأخبار وغيرها أصبح معلوماً لدى الناس أن الكـلام والـتكلم بـالحرف والصوت ليس  موقوفا على الأدوات والآلات التي يتكلم بها الإنسان، بل قد يتكلم المخلوق بدونها فكيف بالخالق عز وجل الذي لا يماثله المخلوق، فلا يلزم إذاً أن يكون الله تعـالى جرماً إذا اتصف بالكلام كما زعم الفلاسفة. ( )
وأمّا ما جاء في الدليل من الزعم بأن الكلام إذا كان من غير جنس كلام البشـر فغير معقول، وغير المعقول محال .فيرد عليه بأن كلام الله لا يماثل كلام البشر، وغيـر المعقول أن يكون من جنس كلام البشر، إذ لو كان من جنسه لدخل الله تعالى تحت جنس البشر وهذا محال .فذاته تعالى لا تماثل ذات أحد من المخلوقات لا بشـر ولا غيـرهم، وكذلك صفاته تعالى، وإذا كان الفلاسفة لا يتصورون كلاما من غير جنس البشر فهـذا راجع لقصور عقولهم، وعدم إيمانهم بالقرآن الكريم وغيره من الكتب السـماوية التـي أثبتت كلاماً للجمادات .وأهل الإيمان لا يلزمهم التسليم بكل ما يقرره من يلحد في أسماء الله وصفاته .
 وأمّا ما زعموه من معنى الطاعة وتحقيق الرسالة فإنّ الآمدي يبين بطلانه بقوله :وأما ما أشاروا إليه في معنى الطاعة وتحقيق الرسالة فتمويه لا حاصل له، وإلا لزم أن يكون كل تسخير بفعل شيء ما أمراً وتركه نهياً، وأن يكون الانقياد إلى ذلـك التسـخير طاعة، كان ذلك في نفسه عبادة أو معصية .ولا يخفي ما في طي ذلك من المحال، فإنّـه ليس كل ما يسخر به مأموراً، ولا كل ما انقاد العبد إلى فعله يكون طاعةً، علـى مـا لا يخفي .وإذا كان الأمر على هذه المثابة لم يصح معنى التبليغ والرسالة عن الله. ( )
ثالثا :مناقشة معنى كلام الله عندهم :
وأمّا قول الفلاسفة بأن كلام الله عبارة عن فيض من العقل الفعّال علـى نفـس النبي فيرد عليه بالآتي :-
1- لو كان كلام الله هو ما يفيض به العقل الفَعَّال على نفس النبي، لكان آحـاد النـاس مشاركاً للنبي في هذا الأمر، فمن الناس من يرى في المنام أن الملائكة تخاطبه وتكلمـه، وأنه في السماوات.
2- لو كان كلام الله ليس له وجود في الخارج، إنما يسمعه الرسول من نفسه بما يفيض فيها من العقال الفَعَّال، لما عاندت قريش رسول الله صلى الله عليه وسـلم وكذبتـه فـي دعواه أنه رسول من رب العالمين أنزل الله عليه القرآن، ليكون للناس هاديـاً ومبشـراً ونذيراً) ( ).
3-قال تعالى:(وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) الشورى:51، وقال تعالى:(وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً)النساء:164. وقال:)وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ)الشورى:51، وقال تعالى:(تلك الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ ُ اللَّـه) سورة البقرة :253 ، وهذه الآيات ونحوها أثبتت كلام الله تعالى لبعض رسـله تكليمـا، وتكليم الله لبعض عباده تكليماً خارجاً عن جنس الفيض -الذي زعمه الفلاسفة - الذي هو ضرب من الإيحاء العام. ( )
4-قال الله تعالى:(وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)الأنعام:114، أثبتت الآية الكريمة التنزيل صفةً للكتاب الذي هـو كلام الله، والمنزل من الله تعالى لا يكون فيضاً من العقل الفعال على نفس النبـي عليـه السلام. ( )
خامساً:الواحد لا يصدر عنه إلا واحد:
ويدخل في مسمى التوحيد عند الفلاسفة ما زعموه: الواحد لا يصـدر عنـه إلا واحد. ذلك أن الله تعالى- في نظرهم - واحد محض بسيط من جميع الوجوه وصـدور الكثرة عنه يوجب في ذاته تعدداً وتكثراً، وهذا ينافي وحدته، ولذا لابد من القـول بـأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، لتسلم له الوحدة من كل وجه.
    ولبيان كيف صدر العالم المتكثر بما فيه من مخلوقـات كثيـرة متعـددة، لجـأ الفلاسفة الإسلاميون إلى نظرية الفيض التي تقوم على فكرة الوساطة .
نظرية الفيض عند الفلاسفة الإسلاميين :
نظرية الفيض يونانية المنشأ، فصاحبها الفيلسوف أفلوطين .ولقد ظـن بعـض الفلاسفة أنّ صاحب هذه النظرية الفيلسوف أرسطو، والذي أوقعهم في هذا الظنّ اعتقادهم أنّ كتاب "الربوبية" أو "أثولوجيا" الذي جاءت فيه هذه النظرية هو من تأليف أرسطو وقد أثبتت الدراسات الحديثـة حول الكتـاب أنه منحول على أرسطو، وأنّ صاحبه الحقيقي هو أفلوطين. ( )
      ويبدو أنّ المتأثرين بهذه النظرية الأفلوطينية من الفلاسـفة الإسـلاميين هـم: الفارابي ( )وابن سينا ( )وإخوان الصفا ( )وابن مسكويه  .( )ودعاة الإسماعيلية مثل حميد الدين الكرماني، ( )والسهروردي، ( )أما الكندي فإن رسـائله المطبوعـة تظهر بعده عن التأثر بهذه النظرية ( ) ، ولا ندري كيف ذهب بعض البـاحثين إلـى أن الكندي قد تأثر بهذه النظرية كغيره من الفلاسفة الإسلاميين. ))
وملخص نظرية الفيض عند أفلوطين :أنّ الموجودات صدرت عن الأول علـى هيئة فيض بتوسط العقل الأول الصادر عنه مع بقية العقول التي صدرت بعضـها عـن بعض .وأن الأول – الذي هو الواحد الحق  يفعل بعض أفعاله بذاته وبعضـها بتوسـط أشياء وأن هناك خمس مراتب للموجودات وهي:-
1-الأول الواحد : من كل جهة، وهو واحد محض بسيط لا كثرة فيه، وهو فوق التمـام والكمال.
2- العقل : وهو من إبداع الأول الواحد، وقد صدر عنه من غير توسط، وبعد أن أبـدع الأول العقل التفت هذا العقل إلى الأول مبدعه، فوقع بصره عليه فامتلأ منه نوراً وبهاءً، فأفاض عليه الأول الواحد المحض قوى كثيرة عظيمة .ثم صـدرت عـن الأول جميـع الأشياء التي في العالم العلوي والسفلي، ولكن بتوسط العقل – الصادر عنـه مـن غيـر توسط -والعالم العقلي .
 3-النفس الكلية : وقد صدرت عن العقل الأول لما صار قوة عظيمة . وهي أقل مرتبـة من العقل، لأنها مبدعة عنه، وفي الإبداع نقصان .
 4- الطبيعة : وقد صدرت عن النفس الكلية لما تحركت علواً نحو علتها فـامتلأت نـوراً وقوةً، وتحركت سفلاً، فكان صدور الطبيعة عنها .
5- الأشياء الواقعة تحت الكون والفساد : وهي العالم السفلي بما فيه من النبات والحيوان والجماد وهي آخر الأشياء صدوراً وأدناها مرتبة، وقد صدرت بتوسط الطبيعة. )) وإذا كان الفلاسفة الإسلاميون قد تأثروا بنظرية الفيض الأفلوطينية فإنّهم لم يأخذوا بكـل تفصيلاتها، فمراتب الموجودات مثلاً في نظرية أفلوطين خمسة، وعند الفارابي وأتباعـه ستة، ثم إن نظام صدور الموجودات عن بعضها فيه بعض الاختلاف .وقد لاحظ الدكتور محمد البهي أنّ الفارابي في نظريته أقرب شبهاً بالفيلسوف برقلس منه بأفلوطين. ( )
وإذا كان العالم قد فاض عن الله تعالى بتوسط العقل الأول – حسب مـا تقـرره نظرية الفيض -فهل يستفيد الله تعالى من فيض الموجودات ؟ وهل يزيده فيضـها عنـه كمالاً بالإضافة إلى كماله ؟ يجيـب الفارابـي عن هذا السؤال فيقول:"والأول هو الذي عنه وجد، ومتى وجد للأول الوجود الذي هو له لزم ضـرورة أن يوجـد عنـه سـائر الموجودات التي وجودها لا بإرادة الإنسان واختياره".  ( )
وأقسام الموجودات كما جاء في نظرية الفيض التي ابتدعها الفلاسفة الإسـلاميون كمـا يلي:-
أولاً :الله الواحد المطلق : وهو الأول، واجب الوجود بذاته، واحد لا كثرة في ذاتـه ولا تعدد، مبدع المبدعات ومنشئ الكل .
ثانيا :العقل الأول : وهو أول المبدعات التي تفيض عن الأول، وهو جوهر غير متجسّـم أصلاً، ولا هو في مادة، وهو ممكن الوجود في ذاته، ويعقل ذاته الممكنة، وبتعقله لذاتـه يلزم عنه فلك ذو جرم، ونفس هي صورة الفلك، وهو يعقل وجوبه عن الأول، وبتعقله هذا يلزم عنه العقل الثاني.
 ثالثا:العقول الثمانية: وهو العقول التي تصدر عن العقل الأول، فالعقل الثاني منها هـو أيضاً جوهر، لا في مادة، وهو يعقل ذاته ويعقل الأول، فبتعقله لذاته يلزم عنه فلـك ذو جرم، ونفس هي صورته، وبتعقله للأول يلزم عنه عقل ثالث. وهكذا بالنسبة لبقية العقول الأخرى، فهي تصدر تباعاً بعضها عن بعض، وكل عقل منها تصدر عنه ثلاثـة أشـياء عقل، وجسم هو جرم الفلك، ونفس هي صورته .والعقل لا يستطيع تحريك الجسم بغير واسطة، والنفس هي الواسطة التي تؤثر العقل في الجسم بتوسطها .والعقول التسعة ( ) مجتمعة هي التي تسمى ملائكة السماء .
رابعاً :العقل الفعَّال : وهو آخر العقول، وهو يلزم(يصدر) عن العقل التاسع، ووجوده لا في مادة أيضاً، وهو يعقل ذاته ويعقل الأول، لكن عنده تنتهي العقول والمعقـولات، أي ينتهي الوجود الذي لا يحتاج ما يوجد ذلك الوجود إلى مادة وموضوع أصلاً . وعن هـذا العقل تصدر مادة الأشياء الأرضية، والصور الجنسية، والنفوس الإنسانية .وهو يدبر هذه الأمور كلها، ويصل العالم العلوي بالعالم السفلي وهو المسمى بروح القدس أو بـالروح الأمين، ومنه يفيض الوحي والعلم على الأنبياء وغيرهم .
خامساً :الأفلاك التسعة :وهي الأفلاك التي تصدر عن العقول التسعة، وكل فلـك منهـا يدبره ويحركه عقل من هذه العقول .وهي لا تفنى ولا تتغير أبد الدهر. والفلك التاسع من هذه الأفلاك هو العرش الذي جاء ذكره في قوله تعالى:)وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) الحاقة:17، وهو نهايـة الموجـودات المبدعـة الجسمانية السماوية.
سادساً :النفوس السماوية : وهي النفوس التي صدرت عن العقول التسعة، وبواسطة كل نفس منها يحرك العقل الفلك الذي صدر مع النفس عنه .وإذا أردنا ترتيب الموجودات من الأعلى إلى الأدنى كما جاءت فـي نظريـة الفيض، فتكون على الترتيب الآتي:-
أولاً :المراتب العقلية:-
الأولى :الله الواحد المطلق، مبدع المبدعات ومنشئ الكل .
الثانية :العقول التسعة .
الثالثة :العقل الفعال.
الرابعة :النفس .والعقل الفعَّال والنفس يتكثران بتكثّر أفراد الإنسان.
الخامسة :الصورة .
السادسة :المادة .
وهذه المراتب ليست أجساماً، ولكنها تلابس الأجسام .
ثانيا :المراتب الجسمية : بعد المراتب الستة السابقة تأتي أجناس الأجسام الستة التي منشؤها القوة المتخيلة في العقل .وهي :الأجسام السماوية، والحيوان الناطق، والحيوان غير الناطق، وأجسـام النبات، والمعادن، والأركان الأربعة :الماء والهواء والنّار والتراب. ( )
وإذا كانت نظرية الفيض تقرر صدور ثلاثة أشياء عن العقل الأول وهي العقل الثاني، ومادة الفلك الأقصى)السماء الأولى)، والنفس  وتعتبر هذه الأشياء كثـرة فـإن الفلاسفة يرون بأنها كثرة حصلت بعد وجوده الحقيقي، وبسبب ما فيه من كثرة اعتبارية فقط، فالعقل الأول واحد بالذات، ومتكثّر بالاعتبار فقط، وسبب الكثرة الاعتبارية راجـع إلى اعتبار وجوده مرة، وإلى اعتبار علمه مرة أخرى. ))
مناقشة نظرية الفيض:
1- إنّ زعم الفلاسفة بأن الواحد لا يصدر عن ه إلا واحد، وما ترتب عليه من القـول بنظرية الفيض باطل شرعاً وعقلاً، فلا يدل عليه نص شرعي أو دليل عقلي، بل جاء الشرع والعقل بخلافه.
2- إنّ في زعم الفلاسفة بأن العقول والنفوس قد صدرت عن الله تعالى موافقـة لـزعم الكفرة والمشركين من أهل مكة الذين خرقوا لله تعالى بنين وبنات بغير علم، بل مشركو مكة أفضل حالاً من الفلاسفة، فالمشركون لم يجعلوا شيئاً مما خرقوه مُبْدِعاً لما سواه من المخلوقات، والفلاسفة جعلوا العقل الأول مبدعاً لكل ما سـواه، وجعلوا العقـل كالـذكر، والنفس كالأنثى والمشركون من العرب كانوا يقرون بربوبية الله للسماوات والأرض، ولم يكونوا يقولون ما قالته الفلاسفة. وقد ردّ الله عز وجل على المشركين زعمهم وبين ضلالهم وانحـرافهم، قـال تعالى:)وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُون َبَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) الأنعام: 12-101.( )  –3 لقد ضاهى الفلاسـفة في كفرهـم النصـارى، فالنصارى زعموا أن المسـيح- وهو حادث – تولد عن الله تعالى، وهؤلاء الفلاسفة يزعمـون أن العقـول والنفـوس متولدة عن الله تولداً قديماً وأزلياً لذاته، وأن العالم متولد عن ذلك أزلاً وقديماً .فنفـت الفلاسفة عن الله تعالى المشيئة والاختيار والإرادة، ونفت ربوبيته لكـل مـا سـواه، وأثبتوا الربوبية للعقل الأول، فهم في ذلك أشد ضلالاً وأعظم كفراً مـن النصـارى واليهود، وقد رد الله تعالى على ضلال اليهود والنصارى في كثير من آيات الكتـاب العزيز، ومن ذلك قوله):أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) سورة الأنعام: .101وقوله:)قلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) الإخلاص.( )  4- إنّ المخلوقات المعلومات صدرت عن اثنين، وأما واحد وحده فإنّه لا يصـدر عنـه شيء، ولقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك، قال تعالى :)وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) الذاريات:49. وقال:)سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَـا مِمَّـا ُ تُنْبِـت الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلمون) سورة يس: ( ) .36
يقول ابن تيمية: "ليس في الوجود واحد يصدر عنه واحد، بل كل صـادر فـي الوجود فهو عن اثنين فصاعداً، فلا حادث من المخلوقات إلا عن أصـلين كالولـد بـين أبوين، والتسخين والتدبير والإحراق والإغراق وغير ذلك، لابد فيه من اثنين، والشـعاع المنبسط لابد فيه من اثنين، فإذا لم يكن في الوجود واحد لا يصدر عنه واحد، كان قـول القائل :ليس كل واحد يصدر عنه إلا واحـد أصح في العقـل والقياس من قولهم، بل لو قال :الواحد الذي ذكروه لا يصدر عنه شيء أصلاً لكان قوله أصح في العقل والقياس من قولهم، وكذلك إذا قيل :الواحد الذي ذكروه لا يصدر عنه شيء إلا م ع غيره لكان قولـه أصح من قولهم" ).)
وأمّا ما ذكروه من أنّ الشمس يصدر عنها الشعاع، والنّار يصدر عنها الإحراق وأن الحرارة تصدر عن الحار، والبرودة تصدر عن البارد، وغير ذلك من الأمثلة، فـإن هذا الصدور صدور أعراض لا صدور أعيان، ومع ذلك فلابد من وجود أصلين اثنـين .فالإحراق مثلاً لا يصدر عن النّار وحدها، بل لابد من محل قابل للإحـراق، فـالإحراق مثلاً لا يصدر عن النّار في السمندل والياقوت، ( )ونحوهما من الأجسام التي لا تقبـل الإحراق كما أن الإحراق له موانع تمنعه فهو موقوف على وجود الشرط وانتفاء المانع، وهذه أمور غير النّار، وكذلك الحال بالنسبة للشمس مع الشعاع، فإنّه لابد مـن أصـلين اثنين، وهما الشمس التي تجري مجرى الأب، والأرض التي تجري مجرى الأم القابلـة وإن حصل حاجز من سحاب أو سقف لم يحصل الشعاع تحته، ثم إن هذا يختلـف عمّـا زعموه من صدور العقول والنفوس والأفلاك، التي هي في نظرهم جواهر قائمة بنفسـها صدرت عن جوهر واحد بسيط، فأين إذاً التوافق بين صدور الأعيـان عـن الأعيـان، وصدور الأعراض عن الأعيان. ( )
 إنّ قول الفلاسفة : الواحد لا يصدر عنه إلا واحد دعوى كلية ليس معهم برهـان أو دليل يثبتها، ولا يعلم أصلاً وجود حجه تدل عليها. )) فإنّ عَلَّلَ الفلاســفة ذلــك بقولهم:باستقراء الآحاد، أو بقياس بعضها إلى بعض. قيل لهم : هذا استقراء ناقص، وهو تمثيل، ولا يفيد عندكم اليقين .وقياس التمثيل قد يكون من أفسد القياس لأنّه يقتضي تشبيه الله تعالى بخلقه. ))
5- لقد زعم الفلاسفة أنّ العقل الأول هو المبدع لكل ما سوى الله، وأن العقل الفعَّال هو المبدع لكل ما تحت فلك القمر من هواء وسحاب وجبال وحيوان ونبات ومعدن، وهـذا الزعم مردود بالدليل الذي يثبت أن الحوادث تصدر عن حركات حـي مختـار، وهـي الملائكة التي أخبرت بها الأنبياء عليهم السلام، وليست الملائكة هي العقول التي جـاءت في نظرية الفيض الفلسفية .
      ثم إنّه من المعلوم بالاضطرار من دين الرسل عليهم الإسلام أنه لا أحد غير الله تعالى خلق جميع الكائنات والمبدعات، ولم يثبت أنّ أحداً من الملائكة أبـدع مـا تحـت السماء لا العقل الفعَّال ولا غيره .والملائكة عباد الله المكرمون ليسوا متولدين عنه، وليس فيهم من هو مستقل بإحداث جميع الحوادث، فضلاً أن يكون مبدعاً لكل مـا سـوى الله وسواه، والملائكة لا يتصرفـون إلا بإذن الله .ولا يسبقونه بالقول، وهـم يفعلـون مـا يؤمـرون .يقـول الله تعالـى في وصـف الملائكـة):وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) الأنبياء:28-26. ويقول:)لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً)النساء:172. )وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)النحل:49-50. ) وكل مِـنْ مَلَـكٍ فِـي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شفاعتهم شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى) سـورة النجـم :26 ، إنّ هذه الصفات التي ذكرها الله تعالى للملائكة تخـالف الصـورة التـي رسمتها نظرية الفيض للعقول المبدعة ).)
إنّ الموجودات التي فاضت عن الله تعالى بواسطة العقل الأول، وهـي العقـول والأفلاك والأنفس، ليس مع الفلاسفة دليل شرعي أو عقلي على حصرها وبيان وصـفها وعملها، وكل ما معهم هو من الظن، والظن لا يغني عن الحق شيئا.ً ( )
لقد زعمت نظرية الفيض أنّ العقول العشرة متولدة عن الله أزلاً وهي قديمة لازمـة لذاته تعالى، ويردّ على هذا الزعم بالقول :كيف نفسر حدوث الحوادث؟ ذلك أن الحوادث لابد لها من محدث، ولا يمكن أن يكون واحد من العقول العشرة محدثاً، لأنها قديمة أزلية ومعلولها يقارنها أزلاً، فلا حوادث تحدث عنها، وبذلك يمتنـع أن يكون شـيء من الحوادث قد صدر عن واجب الوجود بواسطة أو بغيـر واسـطة، فتكـون الحوادث ولا محدث لها، وهذا باطل. ( )
إنّ الواحد الذي قرره الفلاسفة، وزعموا أنّه لا يصدر عنه إلا واحد إ نّما يوجـد في الأذهان لا في الخارج، لأنّهم قالوا : إنّه وجود مطلق، والمطلق لا يوجد إلا في الذهن، فلا يوجد في الأعيان ألبته. ( )
إنّ الواحد الذي قرروه وزعموا أنّه يلزم من كونه واحداً أن يصدر عن ه واحـد فقط، لابد أن يكون ما صدر عن معلوله)العقل الأول) واحد أيضاً، وكـذلك عـن هـذا الواحد واحد، وهلمَّ جرا، وهذا يوجب عدم وقوع الكثرة في المعلولات والعالم، ولكن مـا نراه أن نظرية الفيض الفلسفية تقول بوقوع الكثرة عـن كـل معلـول، كمـا أن تكثـر الموجودات وتعددها مما يشهد به الواقع ويكذب رأي الفلاسفة الذي هو ضحكة وسخرية العقلاء وأولى الألباب. ( )
    "إنّ صدور الكثـرة عن المعلول(العقل الأول) إما أن تكـون وهـو متحـد أو متكثر، فإن كان واحداً فقد ناقض قولكم إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، فهـلا قلـتم بصدور الكثرة عن واجب الوجود، وإن كان واحداً، كما قلتم بصدور الكثرة عما صـدر عنه واحد .وإن قلتم :إن ما صدر عنه الكثرة متكثر، فقد قلتم بصدور الكثرة عن واجـب الوجـود،وأفسدتم ما ظننتم إحكامه، وما رمتم إتقانه، وذلك سخف القول والفعال". ( )
إنّ ابن رشد أحد أساطين الفلسفة قد أنكر القول :أن الواحد لا يصـدر عنـه إلا واحد، وذهب إلى أنّه أمر مبتدع في الفلسفة، حيث لم يقل به الفلاسفة القدماء، فالفـارابي وابن سينا هما أوّل من قال به . وهذا القول من الخرافات والأقاويل الضعيفة، والدخيلـة على الفلسفة، وليست جارية على أصول الفلاسفة، ولا تبلغ مرتبة الإقناع الخطابي فضلاً عن الإقناع الجدلي، وهو يعجب كيف خفي هذا على الفارابي وابن سينا ( ).
وممّا يدل على فساد نظرية الفيض التي قال بها الفارابي وابن سينا، أن متأخري الفلاسفة -من أتباعهم - اضطربت أقوالهم فيها، فأبو البركات البغدادي جعل منها مـادة للسخرية والتهكم، وابن رشد رأى أنها أضاعت هيبة الفلاسفة، وهي من الخرافات. ( ) وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى اضطراب أقوال الفلاسفة المتأخرين فقال رحمه الله :"ولهذا اضطرب متأخروهم، فأبو البركات صاحب المعتبر أبطل هذا القـول ورده غايـة الرد". ( )
وابن رشد الحفيد زعم أن الفلك بما فيه صادر عن الأول. ( ) والطوسي وزير الملاحدة يقرب من هذا، فجعل الأول شرطاً في الثاني، والثاني شرطاً في الثالث، وهـم مشتركون في الضلال، وهو إثبات جواهر قائمة بنفسها أزلية مع الرب لم تزل ولا تزال معه، لم تكن مسبوقة بعدم، وجعل الفلك أيضاً أزلياً، وهذا وحده فيه من مخالفة المعقول،والكفر بما جاءت به الرسل ما فيه كفاية، فكيف إذا ضم إليه غيره، ذلك مـن أقـاويلهم المخالفة للعقل والنقل. ( )
إنّ نظرية الفيض دخيلة على الفكر الإسلامي، فالإسلام يقرر بوضوح أن الخالق للعالم وما فيه من موجودات هو الله عز وجل، بينما تقرر هذه النظرية أنّ ثمّة خالقاً مـع الله تعالى يشاركه في الخلق، كحركات الكواكب والأفلاك، والعقول التسعة، والعقل الفعال الذي أسندت إليه كل ما في عالم الكون والفساد من الصور والأعراض .
     ويرى بعض الباحثين أنّ نظرية الفيض ترجع إلى مصدرين اثنين:-
أحدهما:مدرسة أفلوطين التي قالت بصدور الموجودات عن الأول على هيئة فيض مـن العقول الصادر بعضها عن بعض صدوراً يتفق ونظام الأفلاك عند بطليموس، ونظريـة الفيض عند أفلوطين تعبر عن الجاهلية الوثنية، هذه الجاهلية التي أضفت الحياة والعقـل على الكواكب، وهذا الإضفاء فكرة وثنية جاءت من مذهب الصابئة عبدة الكواكب .
ثانيهما:المعلمون النصارى الذين تتلمذ عليهم الفارابي، ويؤكد هذا الأمر التقسيم الثلاثي الذي قامت عليه النظرية، وتسمية العقل الفعال بالروح القدس، والقـول بتولـد العقـول العشرة، وهو شبيه زعم النصارى بتولد الكلمة عن الذات. ( )
ولقد حدّثنا الفارابي نفسه عن التأثير الأفلوطيني والنصراني في فلسفته، فقـال : انتقل التعليم بعد ظهور الإسلام من الإسكندرية إلى إنطاكية، ( )وبقي بها زمناً طـويلاً إلى أن بقي معلم واحد، فتعلم منه رجلان، وخرجا ومعهما الكتب، فكـان أحـدهما مـن حران، )) والآخر من أهل مرو، ( )وكانت مرو عاصمة خراسان فأم الذي من أهل مرو فتعلم منه رجلان، أحدهما إبراهيم المروزي، ( )والآخر يوحنا بن حـيلان، )) وتعلم من الحراني إسرائيل الأسقف، ( )وقويري، ( )وساروا إلـى بغـداد فتشـاغل إسرائيل أيضاً بدينه، وانحدر إبراهيم المروزي إلى بغداد فأقام بها، وتعلم المروزي مـن متى بن يونان، ( )وتعلمت ( ) من يوحنا بن حيلان، وقرأت عليه إلى آخـر كتـاب البراهين التحليلات الثانية. ))
     وقد ذكر المسعودي في كتابه (الإشراف والتنبيه صفحة 106 -105) أن انتقال تعاليم فلسفة مدرسة الإسكندرية إلى أنطاكية كـان في خلافة عمر بن عبد العزيز رحمه الله، ثم انتقلت إلى حران في فترة خلافة المتوكـل العباسي، وانتهت في أيام الخليفة المعتضد، إلى قويري ويوحنا بن حيلان ثم إلى إبراهيم المروزي، ثم إلى محمد بن كرنيب، ( )وأبي بشر متى يونس تلميذي إبراهيم المروزي، ثم إلى الفارابي تلميذ يوحنا بن حيلان.
وأخيراً فلقد تركت نظرية الفيض الفلسفية آثاراً سيئة في الفكر الإسلامي، يقـول الدكتور محمد عبد الفضيل القوصي :"وربما كانت هذه النظرية التـي وضـع الفـارابي أسسها فيما يتعلق بالعقول وإناطة التأثير في عالمنا الأرضي بآخر هذه العقول هبوطـاً، وهو العقل العاشر، وهي السر في انزلاق الفلسفة الإسلامية وعلم الفلك معها إلى صناعة التنجيم بالمعنى الذي جعل من بعض الأفلاك مصدراً للسعادة، ومن بعضها الآخر مصدراً للنحوسة .ولع لّها أيضاً إحدى الأسباب الهامة التي انزلقت بالعلم الطبيعي الإسلامي إلى علم في تأثيرات الأفلاك والبروج ومعرفة المطالع، إلى غير ذلك ممـا راج لـدى جمهـرة المسلمين ونأى بها رويداً رويداً عن الموضوعية العلمية التي كان ينبغي أن تسير فيهـا أشواطاً بعيدة المدى". ( )
وممّا يؤسف له أنّ نظرية الفيض وغيرها من الأفكار الفلسفية تـدرس لتلاميـذ الثانوية العامة في مصر بشكل تقريري، دون أيّ نقد يفنـدها، ويبـين مـدى انحرافهـا وضلال أصحابها. ( )













الفصل الرابع
مسلكهم في إثبات التوحيد
سلك الفلاسفة الإسلاميون في إثبات وحدانية الله تعالى مسلكين:أحدهما:شرعي مستمد من القرآن الكريم، وثانيهما:عقلي مستمد من الفكر الفلسفي.
المبحث الأول:المسلك الشرعي:
يعتبر ابن رشد الفيلسوف الإسلامي الوحيد الذي عني بالشرع في الاستدلال على وحدانية الله عز وجل، إذ أن غيره من الفلاسفة اعتمد على العقل فحسب في هذا المجال، وابن رشد في مسلكه الشرعي يلجأ إلى القرآن الكريم الذي تقرر آياته الشريفة وحدانيـة الله تعالى وتنفي الإلهية عما سواه ( )، ومن الآيات:
الدليل الأول :قوله تعالى:"لو كان فِيهِمَا ٌ آلِهَة إِلَّا اللَّهُ لَفَسَـدَتَا"سورة الأنبياء:آيـة .22 ودلالة هذه الآية على وحدانية الله تعالى مغروزة في فطر النفوس، وهي حقيقـة بديهيـة تشهد الملاحظة بصدقها ))، ووجه الاستدلال بهذه الآية على الوحدانية يوضحه ابن رشد بقوله:"إنّه من المعلوم بنفسه أنه إذا كان ملكان كل واحد منهما فعله فعل صـاحبه، أنـه ليس يمكن أن يكون عن تدبيرهما مدينة واحدة، لأنه ليس يكون عن فاعلين من نوع واحد فعل واحد، فيجب ضرورة إن فعلا معاً أن تفسد المدينة الواحدة، إلا أن يكـون أحـدهما يفعل ويبقى الآخر عطلاً، وذلك منتف في صفة الآلهة. فإنّه متى اجتمع فعلان من نـوع واحد على محل واحد فسد المحل ضرورة " ( ).وأيضاً فإنّ معنى الآية:أنّا لو فرضنا وجود آلهة متعددة أو أكثر من إله لفسـد العالم في الآن، ولمّا يكن العالم فاسداً، وجب ألا يكون هناك إلا إله واحد. ( )
المناقشة :-
إنّ الآية القرآنية واضحة الدلالة في إثبات وحدانيته عز وجل، فالآية يمكـن أن يؤخذ منها دليل عدم فساد الكون ).) فانتظام أمر الكون بما فيه من المخلوقات المختلفة المتعددة دليل على أن الإلـه المدبر واحد، لأنه لو كان مدبر الكون أكثر من إله واحد لدخله الفساد والخلل كما أشارت الآية الكريمة، وما دام الكون ً منتظما تمام الانتظام فالعقل يجزم أن الإله المدبر المتصرف فيه المستحق العبادة دون سواه إله واحد لا شريك له .وإذا كانت الآية تدل على توحيد الربوبية فهي تدل أيضاً على توحيد الإلهيـة إذ يقال في معناها :إنه لو كان في السماوات والأرض آلهة تصلح لها العبـادة سـوى الله تعالى الذي خلق كل شيء لفسدت السماوات والأرض. ( )
يقول ابن تيمية معقباً على الآية السابقة(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) الأنبياء:"فإنّ قوامهما )) بأن تأله الإله الحق فلو كان فيهما آلهة غير الله لم يكن إلهاً حقاً، إذ الله لا سمي له ولا مثل له، فكانت تفسد لانتفاء ما به صلاحها هذا من جهة الإلهية". ( )ويقول ":فكل مألوه سـواه يحصـل به الفساد، ولا يحصل صلاح القلوب إلا بعبادة الله وحده لا شريك له" ( ). 
وممّا يؤخذ على ابن رشد أنه استدل بالآية على توحيد الربوبية فحسب، ولم يستدل بها علـى وحدانية الإلهية إذ الآية تدل عليهما معاً، كما ذهب إلى ذلك ابن تيمية وغيره ( ).
الدليل الثاني : قوله تعالى) :مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا  َكانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) سـورة المؤمنـون آيـة 9. يبيّن ابن رشد وجه الاستدلال بهذه الآية في إثبات وحدانية الله تعالى فيقول "فهذا رد منه على من يضع آلهة كثيرة مختلفة الأفعال، وذلك أنه يلزم فـي الآلهـة المختلفـة الأفعال، التي لا يكون بعضها مطيعاً لبعض، لا يكون عنها موجود واحد ولما كان العالم واحداً وجب ألا يكون موجوداً عن آلهة متفننة الأفعال. ( )
المناقشة-:
الآية الكريمة التي استدل بها ابن رشد من الأدلة القرآنية في إثبات وحدانيـة الله عز وجل، كما أنّ فيها رداً على الذين يزعمون أنّ الله اتخذ له ولداً، أو له شـريك فـي الملك والتصرف، وهي تثبت وحدانية الله عن طريق انتظام الوجود واتسـاقه وارتبـاط بعضه ببعض، وكما تدل الآية الكريمة على ربوبية الله الشاملة للوجود كله، فهـي تـدل أيضاً على تفرده في الإلهية والعبادة، وكان من الواجب على ابن رشد أن يبين تقرير الآية لتوحيد الإلهية كما استدل بها على توحيد الربوبية.
الدليل الثالث: قوله تعالى:(قُلْ لوْ َكانَ مَعَهُ ٌ آلِهَة كَمَا يَقُولُـونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَـى ذِي العَرْشِ سَبِيلا) سورة الإسراء: .42 ذهب ابن رشد إلى أن هذه الآية كآية سورة الأنبياء، برهان على امتناع إلهـين فعلهما واحد، وذكر وجه استدلاله بالآية في إثبات الوحدانية فقال:" ومعنى هذه الآية أنه لو كان فيهما آلهة قادرة على إيجاد العالم وخلقه غير الإله الموجود، حتى تكون نسـبته من هذا العالم نسبة الخالق له، لوجب أن يكون على العرش معه فكـان يوجـد موجودان متماثلان ينسبان إلى محل واحد نسبة واحدة، فإنّ المثلين لا ينسبان إلى محـل واحــد نسـبة واحـدة، لأنه إذا اتحدت النسبة اتحد المنسوب". ( )
يقصد ابن رشد أن وجود آلهة أخرى مع الإله الحق يوجب أن يكونـوا جميعـاً على العرش، وهذا متعذر لأن العرش واحد، وكون العرش واحداً، يدل على وجود الإله الواحد الذي ينسب إلى المحل الواحد.
المناقشة:
يلاحظ أنّ ابن رشد استدل بالآية الكريمة على إثبات توحيد الربوبية، والصواب أنّ الآية في إثبات توحيد الإلهية المتضمن توحيد الربوبية، فك فار مكة الذين نزلت الآيـة في كشف زيف معتقدهم وفساد شركهم كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، ومـا عرف عـنهم الجدال والمخاصمة فيه، والذي كانوا ينكرونه هو توحيد الإلهية، وهو التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأنزل الله تعالى به الكتب، وأيضاً فإن المعنى المستفاد من الآية ليس هو مـا ذهب إليه ابن رشد، فالمعنى الصحيح هو المنقول عن السلف، كقتادة وغيره، وهو الـذي ذكره شيخ المفسرين ابن جرير الطبري والإمام ابن كثير. ( )
يقول ابن كثير في تفسيره للآية: "يقول تعالى قل يا محمد لهـؤلاء المشـركين الزاعمين أن لله شريكاً من خلقه، العابدين معه غيره ليقربهم إليه زلفا، لو كان الأمر كما يقولون وأن معه آلهة تعبد لتقرب إليه وتشفع لديه، لكان أولئـك المعبـودون يعبدونـه ويتقربون إليه، ويبتغون إليه الوسيلة والقربة، فاعبدوه أنتم وحده، كما يعبده من تدعونه،
 ولا حاجة لكم إلى معبود يكون واسطة بينكم وبينه، فإنّه لا يحب ذلك ولا يرضـاه، بـل يكرهه ويأباه، وقد نهى عن ذلك على ألسنة جميع رسله وأنبياءه". ))
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام نفيس حول هذه الآية، بيّن فيه فساد تفسـير ابـن رشد لها، وذكر التفسير الصحيح الذي تدعمه آيات القرآن الكـريم، يقـول رحمـه الله:"والآية فيها قولان معروفان للمفسرين -:
أحدهما:أن قوله:)إذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي العَرْشِ سَبِيلاً) سورة الإسراء42: ، أي بـالتقرب إليه والعبادة والسؤال له.
الثاني:بالممانعة والمغالبة.والأول هو الصحيح، فإنّه قال):لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَـة كَمَـا يَقولونَ) سورة الإسراء 42 ، وهم لم يكونوا يقولون:إن آلهتهم تمانعه وتغالبه  بخلاف: (وَمَا كانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) سورة المؤمنون: .91 فهذا في الآلهة المنفية، ليس فيها أنها تعلوا على الله، وأن المشركين يقولون ذلك .وأيضاً فقوله:)لابْتَغَوْا إِلَى ذِي العَرْشِ سَبِيلاً) يدل على ذلك، فإنّه تعالى قـال:(إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَة فمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا) سورة المزمل:19 .والمراد بـه اتخـاذ السبيل إلى عبادته وطاعته بخلاف العكس، فإنّه قال:(فإِنْ أَطَعْنَكمْ فلا تَبْغُـوا عَلَـيْهِنَّ سَبِيلاً)سورة النساء: 34، ولم يقل إليهن سبيلا .وأيضاً فاتخاذ السبيل إليه مـأمور بـه،كقوله(وَابْتغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ)سورة المائدة 35: وقوله:(قلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتمْ مِـنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشفَ الضُّرِّ عَنكمْ وَلا تَحْوِيلاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِـمْ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافونَ عَذابَهُ) سورة الإسراء: .57- 56 فبين أن الذين يدعون من دون الله يطلبون إليه الوسيلة - فهذا مناسب لقوله:(لوْ كانَ مَعَهُ ٌ آلِهَـة كَمَا يَقولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي العَرْشِ سَبِيلاً) سورة الإسراء:42. ( )
المبحث الثاني
المسلك العقلي
اعتمد الفلاسفة الإسـلاميون على العقـل في إثبـات وحدانيـة الله تعـالى كعادتهم في تقرير العقيد-ولهم في إثبات وحدانية الله تعالى دليلان عقليان. وقد أشـار ابن تيمية إلى ذلك فقال":وعمدة هؤلاء الفلاسفة في توحيدهم الذي هو تعطيل محـض) ).) في الحقيقة-حجتان، ( )ودليلا الفلاسفة همـا:الاشـتراك فـي العليـة، والاشـتراك والامتياز. ( )ونذكر هذين الدليلين كما وردا في مؤلفات الفلاسفة ومؤلفات غيرهم من العلماء المطلعين على المذهب الفلسفي.
الدليل الأول:الاشتراك في العلية:
يقول الفارابي في بيان هذا الدليل:" ويجب أن يكون واحداً، إذ كل اثنين فالواحد متقدم والثاني متأخر، وهذا تقدم طبيعي، وهو تقدم الواحد على الاثنين، وإذا كانـا معـاً: فإمّا أن يشتركا في جميع الأشياء، فإن اشتركا لم يكن بينهما إثنينية وإن اختلفا فلابـد أن يكون أحدهما سبباً والآخر مسبباً، لأن أحدهما واجب الوجود، فإن كـان الآخـر أيضـاً واجب الوجود لم يتخصص أحدهما، ولم يتعين الوجود الواجب بل يتخصص بشيء آخر، ولا محالة من أن يتخصص ما وجوده واحد في مفهوم ماهيته بوجوب الوجود". ( )يذكر ابن سينا هذا الدليل في كثير من مؤلفاته، فذكره في بعضها على وجه التفصيل، ( ) وذكره في بعضها على وجه الإيجاز. ( )
جاء في "الإشارات والتنبيهات" ذكر الدليل في الفصل الثامن عشـر مـن قسـم الإلهيات، يقول":إشارة:واجب الوجود المتعين: إن كان تعينه ذلك لأنه واجب الوجـود، فلا واجب وجود غيره، وإن لم يكن تعينه لذلك، بل لأمر آخر فهو معلول، لأنّه إذا كـان وجود واجب الوجود لازماً لتعينه كان الوجود لازماً لماهية غيره، أو صفة، وذلك محال وإن كان عارضاً، فهو أولى بأن يكون لعلة وإن كان ما يتعين به عارضاً لـذلك، فهـو لعلة.فإن كان ذلك وما يتعين به ماهية واحدة، فتلك العلّة علة لخصوصية ما لذاته يجب وجوده، وهذا محال، وإن كان عروضه بعد تعين أول سابق، فكلامنا في ذلـك السـابق وباقي الأقسام محال ".
وجاء في كتابه الهداية":( )لا يجوز أن يكون وجوب الوجود لشخصين، فقد قيل إن ذلك يوجب أن يكون كل واحد منهما معلولاً من حيث هوهـو، ولا يلحـق وجـوب الوجود لاحق في ذاته يستحيل به، وإلا لتعلق وجوده بعلتي كونه ولا كونه لـم ينفــك عنهما، وكانا:إما معلولية فيكون علة إحالة نفسه، وهذا محال، أو واجبين معـه، فيكثـر وجوب الوجود.فواجب الوجود بذاته واجب الوجود من جميع جهاته ".وقد ذكر كل من الغزالي وابن تيمية وغيرهما ( )دليل الاشتراك في العلية الذي اعتمده الفلاسفة في إثبات الوحدانية.وتقرير ابن تيمية للدليل أقرب لتقرير ابن سينا له في الإشارات والتنبيهات " على حين جاء تقرير الغزالي له بمعناه، وهو أيسر فهماً، حيث لا يحتاج إلى إعمال عقل في فهمه، ومعرفة مقصوده، وسبب ذلك أن ابن تيمية لخص الدليل من كتاب "الإشارات والتنبيهات " وما عليه من شروح للطوسي والرازي ( )، وقد أشار هو إلى ذلك ( ) على حين لخصه الغزالي-كما نرى-من فهمه للدليل مـن مجموعـة مؤلفات ابن سينا وغيره، فجاء تقريره للدليل بالمعنى .
ولبيان ذلك نذكر الدليل كما جاء عند الغزالي وابن تيمية.
1- تقرير الغزالي للدليل":لو كانا اثنين، لكان نوع وجوب الوجود مقولاً على كـل واحد منهما، وما قيل عليه:إنه واجب الوجود فلا يخلو:إما أن يكون وجـوب وجـوده لذاته، فلا يتصور أن يكون لغيره، أو وجوب الوجود له لعلة، فتكون ذات واجب الوجود معلولاً، وقد اقتضت علة له وجوب الوجود، ونحن لا نريد بواجب الوجـود، إلاّ مـا لا ارتباط لوجوده بعلة، بجهة من الجهات.
         وزعموا أنّ نوع الإنسان مقول على زيد وعلى عمرو، وليس زيد إنساناً لذاتـه، إذ لو كان إنساناً لذاته لما كان عمرو إنساناً، بل لعلّة جعلته إنساناً، وقد جعلت عمراً أيضاً إنساناً، فتكثرت الإنسانية بتكثر المادة الحاملة لها، وتعلقها بالمادة معلـول لـيس لـذات الإنسانية، فكذلك ثبوت وجوب الوجود لواجب الوجود، إن كان لذاته فلا يكـون إلاّ لـه، وإن كان لعلّة فهو إذن معلول، وليس بواجب الوجود، فقد ظهر بهذا أنّ واجب الوجـود لابد أن يكون واحداً. ( )
    وأمّا تقرير ابن تيمية له:" أنهما ( )إذا اتفقا في الوجوب، وامتاز كل منهما عـن الآخر بما يخصه، لزم أن يكون المشترك ( )معلولاً للمختص، كما إذا اشترك اثنان فـي الإنسانية، وامتاز كل واحد منهما عن الآخر بشخصه فالمشترك معلول للمختص، وهـذا باطل هنا، وذلك لأن كلاً من المشترك والمختص:إن كان أحدهما عارضاً للآخر لزم أن يكون الوجوب عارضاً للواجب، أو معروضاً له، وعلى التقديرين فلا يكـون الوجـوب صفة لازمة للواجب، وهذا محال، لأن الواجب لا يمكن أن يكون غير واجب. وإن كان أحدهما لازماً للآخر، لم يجز أن يكون المشترك علة للمختص، لأنـه حيث وجدت العلّة وجد المعلول، فيلزم أنه حيث وجد المشترك وجد المختص والمشترك في هذا وهذا، فيلزم أن يكون ما يختص بهذا في هذا، وما يختص بهذا في هـذا، وهـذا محال يرفع الاختصاص". ( )
المناقشة:
تعرّض دليل الاشتراك في العلية لجملة من الردود التي تبين بطلان الدليل وعدم صحته في الاستدلال على المطلـوب ولعـل أقـوى الـردود هـو مـا وجهـه إليـه الغزالي، ويتلخص في بيان عدم صحة تقسيم الفلاسفة نوع واجب الوجود:إلـى واجـب الوجود لذاته، وواجب الوجود لعلة، ذلك أن واجب الوجود لعلة لا يمكـن أن يكـون إلا معلولاً، والمعلول لا يكون واجباً، وإنما يكون جائزاً، فكيف يكون قسماً ً ثانيا من أقسـام واجب الوجود.
ويرى الغزالي أنّ لفظ (وجوب الوجود) فيه إجمال، وهو يحتمل معنيين، لا يدل واحد منهما على مقصود الفلاسفة، ولا يستقيم الدليل به، أحدهما :أنّ من معاني وجـوب الوجود "نفي العلّة"، وبهذا المعنى يكون سياق الدليل هكذا:إنّ الذي لا علة له، لا علة له، لا علة له لذاته أو لسبب، وهذا تقسيم خاطئ، لأنّ نفي العلّة، واستغناء الوجود عن العلّة لا يطلب له علة، وإذا كان كذلك فأيّ معنى للقول:إنّ ما لا علة له، لا علة له إما لذاتـه أو لعلة.لأنّ قولنا:لا علة له سلب محض، والسلب المحض لا يكون له سبب ولا علـة، ولا يقال فيه:إنّه لذاته، أولا لذاته.
 وثانيهما: من معاني وجوب الوجود" الوصف الثابت لواجب الوجـود"، فيكـون واجـب الوجود هو الموجود الذي لا علة لوجوده. وهذا معنى غير مفهـوم فـي نفسـه فالـذي يسـتفاد من نفي العلّة لوجوده، هو سلب محض. ولا يقال فيه:إنه لذاتـه أو لعلـة. ( )وبعد أن يبين الغزالي فساد الدليل، يقول:فدلّ أنّ هذا برهان من خرف لا أصل له".  ( )   
ويكشف الشهرستاني عن أوجه التناقض في الدليل من جهة الرسم والحد، ومـن جهة المادة الموضوعة للاستدلال. فمن جهة الحد والرسم يظهر التناقض في أقوال ابن سينا التي تتعلق ببيان معنى واجب الوجود وإطلاقاته، فتارة يقول:إنّ واجب الوجود لا يقال على كثيـرين، وتـارة يقول:ولا يجوز أن يكون نوع واجب الو جود لغير ذاته، فلفظ " النوع " هنا لا يقـال إلا على كثيرين، فكيف يطلق ابن سينا لفظ "النوع " على واجب الوجود، وواجب الوجود لا يقال إلا على ذات وموجود لا يشاركه في الاسم غيره ؟ ( )
وأما التناقض الثاني:فهو أن ابن سينا أخذ الوجود مطلقاً وجعله موضوعاً للعلم الإلهي، وتكلم في لوازمه، ثم جعل واجب الوجود من أقسامه ولواحقه، ثمّ تكلم في لوازم واجب الوجود مطلقاً، وذكر من لوازمه أنّه حق، وأنّه تام، وأنّه علة ومبدأ، ثم أخذ فـي البرهنة عليه وإثباته، وهذا دليل على أنّه جعل واجب الوجود نوعاً، فالسؤال فكيف تجعله نوعاً، ثم تأخذ في البرهنة على وحدانيته ؟ !وكيف يؤخذ واجب الوجود بإطلاق أو علـى شكل كلي ثم يبرهن على وحدانيته ؟!إنّ المطلق أو الكلي لا يوجد في الخارج، لأنّ الذي في الخارج هو المعين فحسب. ( )
وأمّا ابن رشد فيرى أنّ مسلك ابن سينا وأتباعه في التوحيد، لم يكن مسلكاً لأحد من قدماء الفلاسفة، وأنه مؤلف من مقدمات عامة، تكاد تكون معانيها مقولـة باشـتراك، وبسبب ذلك ترد عليها المعاندة كثيراً، ويذهب إلى أن تفصيل المعاني ومعرفة المقصـود منها يقرب المسلك من الأقاويل البرهانية. ( )ثمّ يصحح ابن رشد هذا الدليل بتلاقي نقاط الضعف فيه، ويأتي بدليل غيره يدل على وحدانية الله تعالى يقول ابن رشد ": وبرهـان ابن سينا يتم على هذا الوجه :واجب الوجود إن كان اثنين، فلا يخلو أن تكون المغـايرة التي بينهما :بالعدد أو بالنوع . أو بالتقديم والتأخير فإن كانت المغايرة التي بينهما بالعـدد كانا متفقين بالنوع، وإن كان التغاير بالنوع، كانا متفقين بالجنس.
       وعلى هذين النوعين يلزم أن يكون واجب الوجود مركباً. وإن كان التغاير الذي بينهما بالتقديم والتأخير، وجب أن يكون واجب الوجود واحداً، وهو العلّة لجميعها، وهذا هو الصحيح، فواجب الوجود إذن واحد، إذ لم يكن ههنا غير هذه الثلاثة أقسام، بطل منها الاثنان، وصح القسم الذي يوجب انفراد الوجود بالوحدانية. ( )
إنّ دليل ابن رشد الذي قرره من خلال تصحيح دليل ابن سينا، أيسر فهما علـى العقل من دليل الفلاسفة، ولكنه دليل فلسفي لا يمكن إثبات عقيدة التوحيد به، لأن العقيـدة الإسلامية لا تحتاج إلى الأدلة الفلسفية المجردة لكي يستدل على تقريرها وإثباتهـا، وإذا كانت عقيدة التوحيد بدهية فطرية فإن الأدلة التي تناسبها هي الأدلة التي تخاطب الـنفس البشرية مباشرة، فتنفذ إلى أعماقها بكل يسـر وسـهولة دون الحاجـة إلـى اسـتخدام المصطلحات الفلسفية التي يجهلها أكثر الناس.
ثمّ إنّ دليل ابن رشد يثبت وحدانية واجب الوجود، دون أن يثبـت وحدانيـة الله تعالى في الربوبية والإلهية، وما جاءت رسل الله تعالى إلا لتذكير الناس بما استقر فـي فطرهم من الإقرار بربوبيته عز وجل، ووجوب الإقرار له بالإلهية والعبودية، مع عـدم صرف أي شيء من العبادة لغيره تعالى من الشركاء والأنداد.
وكان الأجدر بابن رشد أن يكتفي بالأدلة الشرعية المستقاة من القـرآن الكـريم فهي أدلة سمعية وعقلية في نفس الوقت، وقد استدل ابن رشد نفسه بأدلة القرآن الكـريم في إثبات وجوده تعالى، ولم يلتفت إلى سواها من الأدلة، وقد ذهب إلى اعتبار تلك الأدلة أدلة بدهية فطرية، وأنّ ما دونها لا يصل إلى مرتبة اليقين والبرهان. ( )
الدليل الثاني:دليل الاشتراك والامتياز:-
      يعود دليل الاشتراك والامتياز إلى أبي يعقوب الكندي، وعلى أساسه جرى كـل من الفارابي وابن سينا وأتباعه من الفلاسفة في إثبات وحدانية واجب الوجود. ( )
       وقـد أخذ به بعض المتكلمين المتأخرين كالفخر الرازي، ( )وابن حزم الظاهري، ( ) وشمس الدين محمد بن الأصفهاني ( ) وقد أشار إلى هذا الدليل منسوباً للفلاسـفة الغزالـي، وابن تيمية،  ( )والمكلاتي، ( )وعلاء الدين الطوسي،   ( )والإيجي، ( )ونذكر هذا الدليل من كتب الفلاسفة وكتب غيرهم من العلماء.
يقول الكندي:لو كان الإله أكثر من واحد، لكانوا جميعا مشتركين فـي شـيء يعمهم جميعاً، وهو كونهم فاعلين مبدعين، ولكانوا مختلفين ومنفصلين بحال مـا، فـإذن يكون كل واحد منهم مركباً من العام الذي يشتركون فيه، ومن الخاص المختلفـين بـه، والمركب لابد له بحكم العقل من مركب فإذاً لابد للفاعل من فاعل، ويستحيل أن يسـير ذلك إلى غير نهاية، فلابد إذن من فاعل أول واحد غير متكثـر ولا مركـب، سـبحانه وتعالى عن صفات الملحدين علواً كبيراً، ولا يشبه خلقه بحال فهو مبدع وهم مبـدعون، وهو دائم وهم غير دائمين. ))
ويذكر دي بور ( )الدليل منسوباً إلى الفارابي بصورة موجزة واضـحة سـهلة الفهم، فيقول:" فلو كان ثَمَّ موجودان، كل منهما واجب الوجود، لكانا متفقين مـن وجـه ومتباينين من وجه، وما به الاتفاق غير ما به التباين، فلا يكون كل منهما واحداً بالذات، وإذن فالموجود الذي له غاية الكمال يجب أن يكون واحداً. ))
وقد ذكر ابن مسكويه دليل الاشتراك والامتياز بطريقة موجزة واضحة، وقد جاء دليله قريب الشبه بدليل الكندي، ذلك أن الكندي جعل الشيء الذي يشترك فيه أكثر من إله هو كونهم فاعلين أو مبدعين، وهذا ما ذهب إليه ابن مسكويه، بينما الفارابي وابن سـينا جعلا الشيء المشترك هو الوجود الواجب.
يقول ابن مسكويه:"إنّه لو كان الفاعلون أكثر من واحد، للزم أن يكونوا مركبين، وذلك أنّهم اشـتركوا في أنهم فاعلون، واختلفوا في الذوات، ولابد من أن يكون الشـيء الذي به خالف أحدهم الآخر غير ما وافقه به، فيجب أن يكون كل واحد منهم مركباً مـن جوهر وفصل، والتركيب حركة، لأنه أثر، ولابد له من مؤثر...فيجب من ذلك أن يكون للفاعل فاعل، وهذا يمر بلا نهاية، فبالضرورة يرتقي إلى فاعل واحد". ))
ويوضح أبو حامد دليل الفلاسفة في إثبات الوحدانية فيقول: " قالوا:لـو فرضـنا واجبي الوجود، لكانا متماثلين من كل وجه أو مختلفين، فإن كانا متماثلين من كل وجـه، فلا يعقل التعدد والإثنينية...وإذا استحال التماثل من كل وجه، ولابد من الاختلاف، ولـم يكن بالزمان ولا بالمكان، فلا يبقى إلا الاختلاف في الذات. ومهما اختلفا في شيء، فـلا يخلو، إما أن يشتركا في شيء أو لا يشتركا في شيء، فإن لم يشتركا فـي شـيء فهـو محال، إذ يلزم أن لا يشتركا في الوجود، ولا في وجوب الوجود، ولا في كون كل واحد قائماً بنفسه لا في موضوع.فإذا اشتركا في شيء، واختلفا في شـيء، كـان مـا فيـه الاشتراك غير ما فيه الاختلاف، فيكون ثم تركيب وانقسام بالقول، وواجـب الوجـود لا تركيب فيه، وكما لا ينقسم بالكمية، فلا ينقسم أيضاً بالقول الشارح، إذ لا تتركب ذاته من أمور يدل القول الشارح على تعددها، كدلالة الحيوان والناطق على ما تقوم بـه ماهيـة الإنسان..وهذا لا يتصور في واجب الوجود، ودون هذا لا تتصور الإثنينية. ( )
وقد لخصّ ابن تيمية دليل الاشتراك والامتياز، وقد جاء تلخيصـه قريبا من تقرير الغزالي له، ولا يكاد يختلف عنه، إلا في كون تقريـر الغزالـي أكثـر تبسيطاً، وتوضيحاً للتركيب المنفي عن واجب الوجود، وهو التركيب اللازم بفـرض أن واجب الوجود أكثر من واحد.يقول ابن تيمية في تلخيصه لهذا الدليل:لو كان واجب الوجود أكثر من واحـد، لاشتركا في الوجوب، وامتاز أحدهما عن الآخر بما يخصه وهـو التعيـين، ومـا بـه الاشتراك غير ما به الامتياز، فيلزم أن يكون واجب الوجود مركباً في نفسه، وقد فرضناه فرداً، وهذا خلف، لأن المركب مفتقر إلى أجزائه، وأجزاؤه غيره، والمفتقر إلى غيره لا يكون واجباً بنفسه. ( )
المناقشة:-
إنّ دليل الاشتراك والامتياز الذي اعتمد عليه الفلاسفة في إثبات وحدانية الله عز وجل هو نفسه:الأصل الذي بنوا عليه نفي الصفا ت عنه تعالى، وعنـدما يقولـون: إنّ الواجب لا يكون إلا واحداً، فإن مرادهم به أنه واحد مجرد من العلم والقـدرة والحيـاة، وليست له صفة تقوم به، لأنّه في زعمهم لو كان متصفاً بالصفات القائمة به لكان مركباً، والمركب لا يكون واحدا.ً ))
وأهم الردود التي قيلت في نقده وإبطاله ما يلي:
1- لقد زعم الفلاسفة أن واجب الوجود لو كان أكثر من واحد لتباينا في التعيـين الـذي يخصه، والصواب:"أن المتباينين قد تباينا في جوهريهما من غير أن يتفقا في شـيء إلا في اللفظ فقط، وذلك إذا لم يكونا متفقين في جنس أصلاً، لا قريب ولا بعيد، مثـل اسـم الجسم عند الفلاسفة، المقول على الجسم السماوي، والجسم الفاسد، ومثـل اسـم العقـل المقول على عقل الإنسان وعلى العقول المفارقة، ومثل اسم الموجود المقول على الأمور الكائنة الفاسدة، والأزلية.فإن أشباه هذه الألفاظ هي أشبه أن تدخل في الأسماء المشتركة منها في الأسماء المتواطئة .فإذن ليس يلزم في الموجودات المتباينة أن تكون مركبة". ))
2- إنّ المشترك المطلق الكلي سواء كان الوجوب أو غيره- أمر اعتباري لا وجود لـه إلا في العقل، فليس له تحقق في الخارج، لأنّ الذي في الخارج متعين خاص، وإذا كـان الأمر كذلك فليس في أحدهما شيء يشاركه الآخر فيـه فـي الخـارج، فـإنّ الشـيئين الموجودين في الخارج، سواء كانا واجبين أو ممكنين، وسواء قدر التقسيم في موجودين، أو جوهرين، أو جسمين، أو حيوانين، أو إنسانين، لم يشارك أحدهما الآخر في الخـارج في شيء من خصائصـه، لا في الوجوب ولا في الوجود، ولا في الماهية، إنما يشـابهه في ذلك، وإذا كان الاشتراك ليس إلا في الذهن لم يكن أحدهما مركبـاً مـن مشـترك ومميز، بل يكون كل منهما موصوفاً بصفة تخصه، لا يشابهه الآخر فيها، وبصفة يشابهه الآخر فيها، وهذا لا محذور فيه.إن هذا يمكن معارضته بما يلي:
أ–معارضته بالوجود : فالوجود ينقسم إلى واجب وممكن، والواجب والممكن يمتاز وجود كل منهما عن الآخر بما يخصه، فيلزم أن يكون الوجود الواجب مركباً مما به الامتيـاز ومما به الاشتراك، وأيضاً يلزم أن يكون الوجود الواجب معلولاً.
ب–معارضته بالحقيقة : فإن الحقيقة تنقسم إلى واجب وممكن، والواجـب يمتـاز عـن الممكن بما يخصه، فيلزم أن تكون الحقيقة الواجبة مركبة من المشترك والمختص، ويلزم أن تكون الحقيقة الواحدة معلولة.
ج -المعارضة بالماهية: فالماهية تنقسم إلى واجب وممكن، والواجب يمتاز عن الممكـن بما يخصه، فيلزم أن تكون الماهية الواجبة مركبة من المشترك والمخـتص، ويلـزم أن تكون الماهية معلولة وإذا أمكن معارضة ما في الـدليل ونقضـه بـالوجود والحقيقـة والماهية، دل ذلك على أن الدليل الفلسفي لا يمكن أن يؤدي إلى مقصود أصحابه منه. ( )
3-  لو سلمنا جدلاً أن التركيب المذكور في الدليل كان صحيحاً- وهو قولهم :أن الواجب تركب مما به الاشتراك ومما به الامتياز-فإن دليل الفلاسفة على نفي التركيب باطـل . لأن المعنى الذي نفوه و سموه تركيباً، لازم لكل موجود. ( )
4- إنّ دليل الامتياز والاشتراك الذي سلكه الفلاسفة في إثبات وحدانيـة الله تعـالى، لا يفهمه إلا قلة من الناس وهو مبني على ألفاظ وعبارات غريبة عن الحـس الإسـلامي، وطريقتهم لا تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، فهي بعيدة عن طريقة القرآن الكريم، وهي لا تفيد علماً ولا عملاً، ولا توصل قارئها إلى اليقين، حيث لا تؤدي إلى إثبات وحدانية الله تعالى، ووجوب عبادته وطاعته وحـده لا شريك له.
-5 إنّ طريقة الفلاسفة في إثبات وحدانية الله تعالى تحصر العقل ضمن مفاهيم نظريـة فلسفية من صنع الفكر البشري القاصر، ثمّ تحاول تطبيق هـذه المفـاهيم علـى عقيـدة التوحيد، وبالتالي فإنّها لا تصل إلى التوحيد الحق الذي أرسل الله تعالى رسله من أجـل بيانه للناس، ودعوتهم للالتزام بمقتضياته وما توجبه مفاهيمه.
 6- إنّ الدليل الفلسفي غير ملائم للفطرة البشرية، ولا يمكن أن يخاطب القلب، ولا يهـز مشاعر النفس، إنه يكلف قارئه العنت لكثرة ما فيه من قضايا ذهنية مجردة، ومصطلحات غامضة يصعب فهمها بسهولة ويسر.
إنّ الاعتماد على الأدلة السمعية والعقلية المأخوذة من القرآن الكريم خير وأفضل في الوصول إلى اليقين الذي تزول به شبهات المتشككين، ويزداد به إيمان المؤمنين.إنّ القرآن الكريم متضمن للبراهين والدلائل القطعية التي توصل إلى الحق وهو شفاء لما في الصدور من أدواء الشبه والشكوك.قال تعالى:)يا أيها النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكم مَوْعِظَـةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى ٌ وَرَحْمَة لِلْمُؤْمِنِينَ) سورة يونس: 57،(وَنُنزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ ٌ وَرَحْمَة لِلْمُؤْمِنِين) سورة الإسراء وقـال:"وبراهين القرآن الكريم أقرب إلى العقول، وأفصح بيانا من غيرها، فلا تكلف فيها ولا تعقيب ولا تطويل. ومن فهم القرآن الكريم وعرف معانيه وتأمل براهينه ودلائله على التوحيد وغيـره مـن قضايا العقيدة أبصر الحق ً عيانا بقلبه، كما يرى الليل والنهار. وهي تختلف عن بـراهين غيره من الفلاسفة والمتكلمين التي ما تكون غالباً عبارة عن ظنون كاذبة، وقضايا ذهنية مجردة يصعب على المرء تحصيلها. ))














الفصل الخامس
موقف الفلاسفة من النبوة والأنبياء
      درس الفلاسفة الإسلاميون الفلسفة اليونانية وتأثروا بها إلى حدّ كبير، بل واعتمدوها موضوعاً ومنهجاً، وتعصّبوا لكبار الفلاسفة اليونان أمثال أرسطو، وأفلاطون، وأفلوطين، واستبدل هؤلاء الفلاسفة الوحي بالعقل المجرد، وزعموا أنّ العقل وحده يعطي حقائق الأشياء، أمّا الوحي فيعطي عنها تخيلاً وتمثيلاً. ولقد حاول هؤلاء الفلاسفة التوفيق بين الفلسفة والدين في المسائل الاعتقادية، ولكنهم لم يستطيعوا، لأنّه يستحيل التوفيق بين العقيدة الربانية الثابتة بالوحي، والفلسفة الوثنية التي تعتمد على التأمل العقلي المجرد والرأي والهوى والخيال، وهي من نتاج الفكر البشري المحدود. ومن هنا وقعوا في مجموع من المتناقضات والأغاليط، لقد أوقعتهم فلسفتهم في الخروج الصريح عن الدين الإسلامي، ممّا جعل جمع من أهل العلم يذهبون إلى تكفيرهم، والحكم عليه بالزندقة والإلحاد.
      وفي اعتقادي أنّ المسلم اليوم بحاجة ماسّة إلى تقويم منهج هؤلاء الفلاسفة - ومنهم ابن سينا- وتمحيص أفكارهم، وكشف باطلها وآثارها السلبية. خاصة إذا علمنا أنّ لهؤلاء مكانة في كثير من الجامعات والمعاهد العلمية في بعض دول العالم الإسلامي.وأنّ نتاجهم العلمي ما زال مكان الصدارة في تلك الجامعات والمعاهد.
إنّ عقيدة النبوة من القضايا الاعتقادية التي حاول الفلاسفة الإسلاميون أن يوفق فيها بين الفلسفة اليونانية والدين الإسلامي.
المطلب الأول: تعريف الرسول والرسالة:
الرسالة: يعرِّف ابن سينا الرسالة بقوله:"هي ما قُبل من الإفاضة المسماة وحياً على أي عبارة استصوبت لصلاح عالمي البقاء والفساد علماً وسياسة".
الرسول: ويعرِّف الرسول بقوله:هو"المبلغ ما استفاد من الإفاضة المسماة وحياً على عبارة استصوبت ليحصل بآرائه صلاح العالم الحسي بالسياسة، والعالم العقلي بالعلم".( ) والمراد بالإفاضة في قول ابن سينا:ما فاض على نفس النّبي من المعاني من العقل الفعّال،( ) -وهو الملك جبريل- ثمّ فاض من ذلك العقل على النفس الناطقة الزكية المستعدة لذلك.
المناقشة:
إنّ الفرق المشهور-عند العلماء- بين النّبي والرسول، أنّ الرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، والنّبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه( )، ولكن هذا الفرق لا يسلم من إشكال، لأنّ النّبي مرسل ومأمور بالدعوة والتبليغ، قال تعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) سورة الحج:52، لذا ذهب بعض العلماء إلى أن الرسول: من أوحى إليه بشرع جديد، والنّبي: هو المبعوث لتقرير شرع من قبله، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الصواب أنّ الرسول هو من أرسل إلى قوم كفار مكذبين، والنّبي من أرسل إلى قوم مؤمنين بشريعة رسول قبله يعلمهم ويحكم بينهم، كما قال تعالى:(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النّبيونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) سورة المائدة:44، فأنبياء بني إسرائيل يحكمون بالتوراة التي أنزل الله على موسى عليه السلام.( ) وما ذكره ابن سينا مبني على أصوله الفلسفية، التي لا يسلم بها علماء الإسلام.وهناك مناقشة لابن سينا في معنى الوحي، فيما يأتي من الكتاب.
وأمّا زعمه أنّ ذلك فيض فاض من العقل على نفس النّبي، فيردّ عليه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: إنّ هذا ليس من مقالات أهل الملل لا سنيهم ولا بدعيهم، لكن من مقالات الصابئة المتفلسفة الذين ليس عندهم في الحقيقة لله كلام، ولا ملائكة تنزل بكلامه، ولا عندهم تمييز بين موسى وهارون عليهما السلام ولا بينهما وبين عدو الله فرعون.( ) وقد بناه ابن سينا على أصله الفاسد إذ كان لا يرى أنّ الله يسمع كلام عباده، ولا يعلم ما في نفوسهم، ولا يقدر أن يغيّر شيئا من العالم، ولا له مشيئة يفعل بها من يشاء.( ) ومن قال مثل هذا الكلام يعلم بالاضطرار أنّه يكذب على القرآن الكريم الذي أخبر بأنّ موسى عليه السلام سمع نداء الله  تعالى له، وأنّه كلّمه دون واسطة في جبل طور سيناء،(وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً) مريم:52، (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً) النساء:16، وإخبار الرسول عن أمور الغيب يدلّ على نبوته،وهو يدلّ على أنّ النّبوة إنباء من الله عز وجل،وليس ذلك مما يقوله ابن سينا من أنّه فيض فاض عليه من العقل الفعّال. وهو لازم لقول من جعل كلام الله معنى مجرداً، وإذا كان اللزوم معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام علم فساد اللازم الذي زعمه.( )
     إنّ قوله تعالى:(فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) البقرة:97، وقوله:(وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ) الأنعام:من الآية114، يفيد أنّ التنزيل من الله تعالى، وهو يدلّ على بطلان قول ابن سينا الذي يجعل الرسالة فيض فاض على نفس النّبي من العقل الفعّال، وهذا القول من أعظم الكفر والضلال،( ) وقوله بالفيض يعني عدم إثبات حقيقة الرسالة،والنبوة عنده فيض من جنس المنامات، وهذا الجنس موجود لعموم الناس،ويشترك فيه المسلمون والكفار من المشركين وأهل الكتاب فأي ميزة أو فضل للأنبياء؟؟
المطلب الثاني:معنى الوحي عنده:
والوحي عند ابن سينا مرتبط بمعنى الرسول والنّبي، ويفسِّره بأنّه:" إفاضة العقل الكلي على نفس النّبي الذي ينتهي إليه التفاضل في الصور المادية، وفيضان العلوم منه على لوح قلب النّبي بواسطة العقل الفعّال".( )
        ويعرِِف ابن سينا الوحي- في رسالة له بعنوان(الفعل والانفعال)،( ) بقوله:" إلقاء الخفي من الأمر العقلي بإذن الله تعالى في النفوس البشرية المستعدة لقبول هذا الإلقاء. إمّا في حالة اليقظة ويسمى الوحي، وإمّا في حالة النوم ويسمى النفث في الروع". ولإيضاح كيفية الوحي يقول ابن سينا: إنّ النّبي بما له من قوة قدسية يستطيع أن يتصل بالملك، ولأنّ الملك عقل مجرد، والعقل لا يستطيع أن يدرك الأشياء إلاّ مجردة عن الزمان، فإنّ الوحي في هذه الحالة يكون عبارة عن إلقاء الشيء إلى النّبي بلا زمان، وذلك بواسطة الملك، فتأتي قوة المخيلة في النّبي فتتلقى هذا الغيب عن العقل الفعّال، وتتصوره بصورة الحروف والأشكال المختلفة. كما تتصور الملك بصورة بشرية. والنّبي لا يصل إلى هذه الحالة إلا بعد استعداده وصفاء نفسه إلى درجة تجعلها أهلاً لذلك. ولتمييز كون الوحي قرآناً أو سنةً، لابد من التفريق بين العبارة المقارنة لتصور قوة المخيلة- في النّبي- في العلم بصورة الحروف والأشكال، وبين العبارة النقشية التي يصوغها النّبي بعد ذلك يقول ابن سينا في ذلك:" وكلما عبر-أي النّبي- بعبارة قد اقترنت بنفس التصور فذالك هو آيات الكتاب، وكلما عبر عنه بعبارة نقشية فذلك هو إخبار النبوة ".( )
إنّ ابن سينا يصرّح هنا بأنّ عبارات الوحي ما هي إلا ألفاظ استصوبها الرسول للتعبير بها عمّا أوحي إليه، أي أنّ الرسول قد تلقى بالفيض عن العقل الفعّال معان عبّر عنها بألفاظ من عنده، وهذا الكلام مناقض للنصوص القرآنية، قال الله تعالى:(وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) سورة النجم 3-4.( )
    وإذا كان النّبي يرى الملائكة ويسمع كلام الله بواسطتهم، فإنّ ابن سينا يزعم:أنّ الملائكة هي ما يتخيل في نفسه من الخيالات النورانية، وكلام الله هو ما يسمعه في نفسه من الأصوات، وهو بمنزلة ما يراه النائم في منامه.( ) وسيأتي مزيد إيضاح لأقوال ابن سينا في مسألة كلام الله تعالى والملائكة في بقية هذا البحث.
    ويلاحظ في أقوال ابن سينا السابقة مدى تأثره بنظرية الفيض الأفلاطونية،( )ومدى محاولتـه التوفيـق بينهـا وبين الدين، وهي محاولة لم يكتب لها النجاح كما هو واضح.ونذكر هنا أنّ نظرية الفيض عند ابن سينا تقول بوجود عشرة عقول، آخرها العقل الفعّال( ): وهو يلزم عن العقل التاسع ووجوده لا في مادة، وهو يعقل ذاته ويعقل الأول -الذي هو الواحد الحق- لكن تنتهي عنده العقول والمعقولات، أي ينتهي الوجود الذي لا يحتاج ما يوجد ذلك الوجود إلى مادة وموضوع أصلاً، وعن هذا العقل تصدر مادة الأشياء الأرضية، والصور الجنسية، والنفوس الإنسانية، ويصل العالم العلوي بالعالم السفلي، وهو المسمى بالروح القدس أو بالروح الأمين، ومنه يفيض الوحي والعلم على الأنبياء.( ) وسنتعرض لمناقشة ابن سينا في معنى الوحي الذي ذهب إليه أثناء مناقشتنا لصفة الكلام، وذلك في المطلب السادس.
المطلب الثالث:النبوة ضرورية وواجبة:
      يذهب الفلاسفة إلى ضرورة وجود النّبي، وأنّ بعثة النّبي واجبة عقلاً، يقول في ذلك ابن سينا:"فواجب إذاً أن يكون نبي، وواجب أن يكون إنساناً، وواجب أن تكون له خصوصية ليست لسائر الناس، حتى يستشعر الناس فيه أمراً لا يوجد لهم، فيتميز به عنهم، فتكون له المعجزات التي أخبر به".( ) ويقول أيضاً:"إنّ النّبي من عند الله، وبإرسال الله، وواجب في الحكمة الإلهية إرساله، وأن جميع ما يسنه فإنّما هو ما وجب من عند الله أن يسنّه، وإنّما يسنّه من عند الله...".( )
    ويعـدّ الفارابي أول الفلاسفة الإسلاميين القائلين بنظرية النّبوة وضرورة النّبي، وهو يعدّ النّبوة وسيلة من وسائل الاتصال بين عالم الأرض وعالم السماء، وأنّ النّبي لازم لحياة المدينة الفاضلة من الناحيتين السياسية والأخلاقية.
    والشروط التي يجب توافرها في النّبي هي نفس الشروط اللازمة لرئيس المدينة الفاضلة، وهي: أن يكون سليم البنية، قوي الأعضاء تامّها، جيد الفهم والتصور، قوي الذاكرة، كبير الفطنة، وسريع البديهة، حسن العبارة، محباً للعلم وللاستفادة، وأن يكون صادقاً أميناً، ناصراً للعدالة، مجتنباً للملذات الحسية، غير شَرِه على المأكول والمشروب والمنكوح، مبتعداً عن اللهو واللعب، وأن تكون أعراض الدنيا هينة عنده. وأن يسمو إلى درجة العقل الفعّال الذي يستمد منه الوحي والإلهام.( )
    وأمّا ابن سينا فيربط بين العناية الإلهية والنبوة، فيقول:"فلا بدّ في وجود الإنسان وبقائه من مشاركة، ولا تتم المشاركة إلا بمعاملة، كما لا بد في ذلك من سائر الأسباب التي تكون له، ولا بد في المعاملة من سنة وعدل، ولا بد للسنة والعدل من سانّ ومعدِّل، ولا بد أن يكون هذا بحيث يجوز أن يخاطب الناس ويلزمهم السنة، ولا بد من أن يكون هذا إنساناً".( )
ووجود النّبي–في نظر ابن سينا– أكثر حاجةً وأشدّ من وجود كثير من المنافع الدنيوية فوجوده أشدّ حاجةً من الحاجة إلى إنبات الشعر على الأشفار، وعلى الحاجبين، وتقعير الأخمص من القدمين، وغيرها من المنافع التي لا ضرورة إليها في البقاء الإنساني، ووجود النّبي تقتضيها العناية الإلهية، وليس من المعقول أن تقتضي العنايـة وجـود تلك المنافع وأمثالها التي لا ضرورة لها في البقاء، ولا تقتضي النّبـوة التي هـي أسُّها، إذ لولا النّبوة لما كان هناك بقاء للنوع الإنساني.( )
     فوجود النبوة واجب، وواجب أن يكون إنساناً، وله من الخصائص ما لغيره من الناس حتّى يستشعر الناس فيه أمراً لا يوجد لهم، ويجب أن تكون له المعجزات التي أخبرنا بها.( )
المناقشة:-
     إنّ من الحق الذي ذهب إليه ابن سينا: أنّ وجود النّبي أكثر حاجةً وأشدّ من وجود كثير من المنافع الدنيوية، وأشدّ حاجةً من الحاجة إلى إنبات الشعر على الأشفار، وعلى الحاجبين، وتقعير الأخمص من القدمين، وغيرها من المنافع التي لا ضرورة إليها في البقاء الإنساني، وهذا موافق لما ذكره أئمة أهل السنة في هذا الموضوع، ومن ذلك ما قاله ابن تيمية، قال: فإنّ الله سبحانه جعل الرسل وسائط بينه وبين عباده في تعريفهم ما ينفعهم وما يضرهم، وتكميل ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم، وبعثوا جميعا بالدعوة إلى الله، وتعريف الطريق الموصل إليه، وبيان حالهم بعد الوصول إليه..".
      ثم ذكر ثلاثة أصول وهي:-
1- إثبات الصفات والتوحيد والقدر وذكر أيام الله في أوليائه وأعدائه، وهى القصص التي قصّها على عباده، والأمثال التي ضربها لهم.
 2- تفصيل الشرائع، والأمر والنهى والإباحة، وبيان ما يحبه الله وما يكرهه.
 3- الأيمان باليوم الآخر والجنة والنار والثواب والعقاب. ثمّ قال:"وعلى هذه الأصول الثلاثة، مدار الخلق والأمر، والسعادة والفلاح موقوفة عليها، ولا سبيل إلى معرفتها إلا من جهة الرسل، فإنّ العقل لا يهتدي إلى تفاصيلها ومعرفة حقائقها، وإن كان قد يدرك وجه الضرورة إليها من حيث الجملة، كالمريض الذي يدرك وجه الحاجة إلى الطب ومن يداويه، ولا يهتدي إلى تفاصيل المرض وتنزيل الدواء عليه، وحاجة العبد إلى الرسالة أعظم بكثير من حاجة المريض إلى الطب، فإنّ آخر ما يقدر بعدم الطبيب موت الأبدان، وأمّا إذا لم يحصل للعبد نور الرسالة وحياتها مات قلبه موتا لا ترجى الحياة معه أبدا أو شقي".( )
ويبيّن ابن قيم الجوزية أنّ الحاجة إلى علوم الرسل أعظم من الحاجة إلى الطب، فيقول: "حاجة النّاس إلى الشريعة ضرورية، فوق حاجتهم إلى كل شيء، ولا نسبة لحاجتهم إلى علم الطب إليها، ألا ترى أنّ أكثر العالم يعيشون بغير طبيب، ولا يكون الطبيب إلا في بعض المدن الجامعة، وأمّا أهل البدو كلّهم وأهل الكفور كلّهم وعامة بني آدم فلا يحتاجون إلى طبيب، وهم أصحّ أبداناً وأقوى طبيعةً ممّن هو متقيد بالطبيب، ولعلّ أعمارهم متقاربة، وقد فطر الله بني آدم على تناول ما ينفعهم واجتناب ما يضرهم، وجعل لكل قوم عادةً وعرفاً في استخراج ما يهجم عليهم من الأدواء، حتى أنّ كثيراً من أصول الطب إنّما أخذت عن عوائد الناس وعرفهم وتجاربهم، وأمّا الشريعة فمبناها على تعريف مواقع رضا الله وسخطه في حركات العباد الاختيارية، فمبناها على الوحي المحض، والحاجة إلى التنفس فضلا عن الطعام والشراب، لأنّ غاية ما يقدر في عدم التنفس والطعام والشراب موت البدن وتعطل الروح عنه، وأمّا ما يقدر عند عدم الشريعة ففساد الروح والقلب جملة، وهلاك الأبدان، وشتان بين هذا، وهلاك البدن بالموت، فليس الناس قط إلى شيء أحوج منهم إلى معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والقيام به، والدعوة إليه، والصبر عليه وجهاد من خرج عنه، حتى يرجع إليه، وليس للعالم صلاح بدون ذلك البتة، ولا سبيل إلى الوصول إلى السعادة والفوز الأكبر إلا بالعبور على هذا الجسم".( )
      ويقال للفلاسفة إنّ قولكم:فوجود النبوة واجب، وأن بعثة النّبي واجبة عقلاً، ممّا لا يقبل في حق الله تعالى، فالعباد لا يجوز لهم أن يوجبوا على الله شيء، أو يحرّموا عليه شيء، فالوجوب يجب أن يعلم بالسمع، والله هو الذي يوجب على نفسه، قال تعالى:(كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة) الأنعام: من الآية54، وقال:(وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) الروم:من الآية47. ولا يلزم من كونه تعالى أوجب على نفسه شيئاً أن يكون فاعلاً بالإيجاب، أي لا اختيار له، لأنّه سبحانه وتعالى أوجبه على نفسه باختياره ومشيئته، وأهل السنة والجماعة متفقون على أنّه تعالى خالق كل شيء وربّه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنّ العباد لا يوجبون عليه شيئاً، لمنافاته مشيئة الله واختياره المطلق في مخلوقاته،ولأنّ في ترك هذا النوع من الواجب إمّا حصول مضرة أو فوات منفعة أو لزوم محال، والله تعالى يتنزه عن هذه كلها، لأنّه لا ينتفع بإرسال الرسل، ولا يتضرر بترك إرسالهم، ولا يلزم من عدم إرسالهم محال بالنسبة إليه سبحانه وتعالى.( )
       يقول ابن تيمية:"وقد اتفق العلماء على وجوب ما يجب بوعد الله الصادق، وتنازعوا هل يوجب الله بنفسه على نفسه ويحرم بنفسه على نفسه على قولين، ومن جوز ذلك: احتج بقوله سبحانه كتب ربكم على نفسه الرحمة، وبقوله في الحديث القدسي الصحيح إني حرمت الظلم على نفسي الخ...وأمّا الإيجاب عليه سبحانه وتعالى والتحريم بالقياس على خلقه، فهذا قول القدرية، وهو قول مبتدع مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول، وأهل السنة متفقون على أنّه سبحانه خالق كل شيء، وربه ومليكه، وأنّه ما شاء كان، وما شاء لم يكن، وأنّ العباد لا يوجبون عليه شيئاً،ولهذا كان من قال من أهل السنة بالوجوب قال:إنّه كتب على نفسه الرحمة،وحرّم الظلم على نفسه، لا أنّ العبد نفسه مستحق على الله شيئاً، كما يكون للمخلوق على المخلوق، فإنّ الله هو المنعم على العباد بكل خير، فهو الخالق لهم، وهو المرسل إليهم الرسل، وهو الميسّر لهم الإيمان والعمل الصالح".( )
ويقول العلامة محمد بن أحمد السفاريني:"إنّ إرسال الرسل وإنزال الكتب وشرع الشرائع منّة من الله وفضل، لا واجب عليه ذلك، وإنّما هو على سبيل اللطف بالخلق والفضل عليهم، فبعثة الله جميع الرسل من آدم إلى محمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين إلى المكلفين لطف من الله بهم ليبلغوهم عنه سبحانه وتعالى أمره ونهيه، ووعده ووعيده، ويبينوا لهم عنه سبحانه ما يحتاجون إليه من أمور المعاش والمعاد..".( )
وبعثة النبي وإرسال الرسل تفضل من الله ورحمة للعباد، قال تعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) الأنبياء:107،(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) آل عمران: من الآية164، وحتى لا يكون حجة للناس بأنّهم لم يبلغوا منهج الله وقال:(رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) النساء:165، وقال:(وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى) طـه:134.
      ومن المستنكر أن يقال أنّ إرسال الله تعالى رسله لعباده الذي فيه غاية صلاحهم وسعادتهم في الدنيا و الآخرة، ونهيه لهم عمّا فيه هلاكهم وشقاؤهم في الدنيا والآخرة، واجب عقلاً!. المطلب الرابع:النبوة مكتسبة:
    زعم الفلاسفة أنّ النبوة مكتسبة، فإنّ من راض نفسه، وخلّصها من الأوصاف الذميمة إلى الأوصاف الحميدة، ولازم الخلوة والعبادة، ودوام المراقبة، وإخلاء نفسه من الشواغل العائقة عن المشاهدة.إنّ النّبوة فيض يفيض على نفس النّبي إذا استعدت لذلك.( ) يقول ابن سينا:"ولنفسك أن تنتقش بنفس ذلك العالم– يقصد العالم العقل- بحسب الاستعداد، وزوال الحائل، قد علمت ذلك فلا تستنكرن أن يكون بعض الغيب ينتقش فيها من عالمه".( ) ويقول ابن سينا:"وهذه القوة ربّما كانت للنفس بحسب المزاج الأصلي، وقد تحصل بضرب من الكسب يجعل النفس لشدة الزكاة كما تحصل لأولياء الله الأبرار، والذي يقع له هذا في جبلة النفس ثمّ يكون خيراً رشيداً مزكياً لنفسه، فهو ذو معجزة من الأنبياء أو كرامة من الأولياء، وكلما زكّى المرء نفسه، رقي في هذا الباب، وزاد على مقتضى جبلته إلى أن يبلغ المبلغ الأقصى".( )
المناقشة:
    إنّ ما ذهب إليه الفلاسفة مخالف لنص القرآن ولإجماع المسلمين، فالله تعالى يختص برحمته من يشاء من عباده، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، ولا يشترط في النبوة استعداد ذاتي كما زعم ابن سينا، ولا تنال بمجرد الكسب، وتكلف أنواع العبادات، وتطهير الأخلاق، ورياضة النفس، والله تعالى بيَّن في كتابه العزيز أن النبوة اصطفاء واختيار واجتباء إلهي، وهي فضل من الله يؤتيه من يشاء من عباده،( ) ونصوص القرآن في ذلك كثيرة، ومن ذلك :قوله تعالى:(الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس إن الله سميع بصير) سورة الحج :75، وقوله:(إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) سورة آل عمران:33، وقوله تعالى لنبيه موسى:(قال يا موسى إنّي اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين) سـورة الأعراف:144، وقوله تعالى:(واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار إنّا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار) سورة ص:45-47 .
      إنّ ادعاء الفلاسفة بأنّ النبوة مكتسبة قد رتّبه على نظرية الفيض التي استمدوها من الفلسفة اليونانية، وخاصة فلسفة أفلوطين، وادعاؤه هذا يسقط الفوارق بين الأنبياء عليهم السلام وغيرهم من الناس، فما دامت النبوة مكتسبة فقد يدعيها مدع، ويزعم أنه كالنّبي علماً وحكمة وعملاً، أو أنّه فوق النّبي في مثل هذه الأمور.
     وبهذا يتبين أنّ الفلاسفة ما قَدَّر حق قدره، ولا قدّر الأنبياء حق قدرهم، لما ظنّ أنّ الإنسان إذا كان فيه استعداد لكمال تزكية نفسه وإصلاحها فاضت عليه بسبب ذلك المعارف من العقل الفعّال، وأنّ حصول النبوة ليس هو أمر يحدثه الله بمشيئته وقدرته واختياره.( )
 يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:"والذي عليه جمهور سلف الأمة وأئمتها وكثير من النظار أنّ الله يصطفى من الملائكة رسلًا ومن الناس، والله أعلم حيث يجعل رسالاته، فالنبي يختص بصفات ميزه الله بها على غيره، وفي عقله ودينه واستعدّ بها لأنّ يخصه الله بفضله ورحمته، كما قال تعالى:(وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات) سورة الزخرف31-32، وقال تعالى:(ما يودّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزّل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم) سورة البقرة:10وقال تعالى لمّا ذكر الأنبياء بقوله:(ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلاً فضّلنا على العالمين ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم) سورة الأنعام: 84-87، فأخبر الله تعالى أنّه اجتباهم وهداهم".( )  
ويقول العلامة محمد بن أحمد السفاريني:"وعند التحقيق فلا فرق عندهم- أي الفلاسفة، وابن سينا منهم- بين الفيض على نفس النّبي وسائر النفوس إلا من جهة كونها أصفى وأكمل"، ويقول:" من زعم أنّها مكتسبة فهو زنديق يجب قتله، لأنّه يقتضي كلامه واعتقاده أن لا تنقطع، وهو مخالف للنّص القرآني والأحاديث المتواترة بأنّ نبينا صلى الله عليه وسلّم خاتم النّبيين عليهم السلام".( ) وقال القاضي عياض:"ونكفر من ادعى النبوة لنفسه، أو جوّز اكتسابها، والبلوغ بصفاء القلب إلى مرتبتها كالفلاسفة وغلاة الصوفية".( )
المطلب الخامس:عمدة الفلاسفة في إثبات النبوة:
    إنّ عمدة الفلاسفة في إثبات النبوة هو المنامات. قالواك إنّ معرفة الأمور الغائبة عن طريق النوم ممكنة، فوجب أيضاً أن تكون كذلك في حالة اليقظة. فالنائم تتجرد نفسه عن بدنه نوع تجرد فيحصل لها من العلم الذي يلقيه الله إليها ما لم تحصله في غير هذا الحال. وهكذا يمكن أن يحصل في اليقظة نوع تجرد فتتصل النفس البشرية بالنفس الكلية وتتلقى عنها من العلم ما لم تحصله في غير هذا الحال.( )
      وفي رأي الفلاسفة أنّ التجربة والبرهان القياسي يشهدان أنّ النّفس الإنسانية تستطيع أثناء النوم الوقوف على المجهول، وإذا كان الأمر كذلك فليس بمستبعد عليها أن تتكشف المجهول حال اليقظة. وأنّ التجربة والقياس يقرران أن أشخاصاً كثيرين تنبؤا بالمستقبل عن طريق الأحلام. وكذلك العقل حيث نسلم بأن الأحداث الماضية والحاضرة والمستقبلية مثبتة في العالم العلوي، ومقيدة في اللوح المحفوظ. وإذا استطاعت النفوس البشرية الصعود إلى العالم العلوي والوقوف على ما في اللوح المحفوظ عرفت ما فيه، وتنبّأت بالغيب. وإذا كان هناك أشخاص يدركون مثل هذا الغيب عن طريق مخيلتهم أثناء النوم فيحلمون بأشياء كأنّها حقائق مسلمة. فإنّ غيرهم من الأشخاص ممن عظمت نفوسهم وقويت مخيلتهم يدركون ما في علم الغيب حال اليقظة، - كما يدرك غيرهم حال النوم- وهؤلاء هم الأنبياء.( )
      يقول ابن سينا: "التجربة والقياس متطابقان علماً أنّ للنّفس الإنسانية أن تنال من الغيب نيلاً ما في حال النوم، فلا مانع من أن يقع مثل ذلك النيل في حال اليقظة، إلّا ما كان إلى زواله سبيل، ولارتفاعه إمكان. أما التجربة فالسماع والتعارف يشهدان به، وليس أحد من الناس إلا وقد جرّب ذلك في نفسه تجارب ألهمته التصديق، اللهم إلا أن يكون أحدهم فاسد المزاج، نائم قوي التخيل والتذكر،أمَّا القياس فاستبصر فيه من تنبيهات: تنبه: قد علمت فيما سلف أن الجزيئات منقوشة في العالم العقلي نقشاً على وجه كلى، ثم قد نبهت لأنّ الأجرام السماوية لها نفوس ذوات إدراكات جزئية وإرادات جزئية تصدر عن رأى جزئي، ولا مانع لها عن تصور اللوازم الجزئية لحركاتها الجزئية من الكائنات عنها في العالم العنصري" ( ).
        ويرى ابن سينا استمرار أفعال اليقظة في الأحلام، وذلك يكون باستمرار بعض الأفعال والأفكار التي تشغل الإنسان أثناء اليقظة، حتى إذا استمرت المتخيلة مشغولة بها، والمتخيلة تحكي أموراً قريباً إليها إرادية، ويحدث هذا عندما تكون في همة لنفس وقت اليقظة شيء تنصرف النفس إلى تأمله وتدبره، فإذا نام لإنسان أخذت المتخيلة تحكي ذلك الشيء وما هو من جنسه، وهذا من بقايا انشغال الفكر في حالة اليقظة ( ).
    والأحلام التي أشبه بها النبوات-عند ابن سينا- لا تنشأ عن إحساسات خارجية أو داخلية بدنية، ولا تكون من بقايا اليقظة، وإنما تنشأ عن اتصال النفس بالملكوت (الملائكة أو العقل الفعّال) ويحدث ذلك أثناء النوم وفي بعض حالات اليقظة، فتتلقى النفس من هناك الوحي والإلهام. ويكون ذلك بمثابة الإنذار والإخبار بما سيكون( ). فإذا حدث الاتصال أثناء النوم فهو رؤيا، وإذا حدث ذلك أثناء اليقظة فهو وحي وإلهام، وذلك وظيفة من وظائف القوة المتخيلة عند الإنسان( ). 
يقول ابن سينا:" وصنف- أي عن المعجزات-يتعلق بفضيلة التخيل، ذلك أن يؤتي المستعد لذلك ما يقوى به على تخيلات الأمور الحاضرة والماضية، والإطلاع على مغيبات الأمور المستقبلة، فيلقي إليه كثير من الأمور التي تقدم وقوعها بزمن طويل فيخبر عنها، وكثير من الأمور التي تكون في زمان المستقبل يخبر بها، وبالجملة يتحدث عن الغيب فيكون بشيراً ونذيراً..وقد يكون هذا المعنى لكثير من الناس في النوم ويسمى الرؤيا. وأما الأنبياء عليهم السلام فإنما يكون ذلك لهم في حالة النوم واليقظة معاً".( )
المناقشة:
إنّ الرؤيا ثلاثة أقسام: رؤيا بشرى من الله تعالى، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدّث المرء به نفسه في اليقظة، فيراه في المنام، وقد ثبت هذا التقسيم في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم. فعن أبي هريرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:" الرؤيا الصالحة بشارة من الله، والتحزين من الشيطان، ومن الرؤيا يحدّث به الرجل نفسه".( )
        إنّ كلام ابن سينا في الرؤيا، واتصال النفس بالعالم العلوي أثناء النوم يحتاج إلى  توضيح، وبيان ذلك: أن عامة علماء الإسلام يقرون بأنّ الرؤيا الصادقة من الله تعالى، فإنّ ما ادعاه من أنّ الرؤيا قد يحصل بها معرفة المغيبات فحق، فرسول الله صلى الله عليه وسلم  أول ما بدئ به الوحي الرؤيا الصادقة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت:أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءته مثل فلق الصبح..."( ) وكان في أول الأمر يرى الوحي في المنام ودام كذلك نصف سنة ثمّ رأى الملك في اليقظة، حكى البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر.( )
     ورؤى الأنبياء وحي معصوم، والرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح، أو تُرى له حق، وهي جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، كما جاء في الأحاديث الصحيحة:منها:قوله صلى الله عليه وسلم "رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة "،( ) وقوله:"الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة ".( )
     ورؤيا الأنبياء وحي بخلاف غيرهم، فالوحي لا يدخله خلل، ولا يتعلق به هوى لأنه محروس قال الله تعالى:(وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) سورة النجم:3-4، بخلاف رؤيا غير الأنبياء، فإنها قد يحضرها الشيطان, وقد وردت في القراَن الكريم أمثلة من الرؤيا الصادقة، وهى رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ومن ذلك الرؤيا التي رآها النّبي صلى الله عليه وسلم وهو في طريقة إلى الحديبية، قال الله تعالى:(لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) سورة الفتح:27، والرؤيا التي رآها إبراهيم عليه السلام. قال تعالى:(يا يبني إنّي أرى في المنام أنّي أذبحك) سورة الصافات:102.
وكلام ابن سينا عن الرؤيا الصادقة، وهو ما يراه الإنسان نتيجة اتصاله بالعالم العلوي حق، خاصّة وأنه يرى أنّ الأحلام الناشئة عن الإحساسات البدنية كاذبة، ويسميها أضغاث أحلام( ).ولكن أقواله  بالجملة تحتاج إلى تحليل وبيان، حتى لا يلتبس الحق بالباطل، لأنّ رؤيا الأنبياء وحي بخلاف رؤيا غيرهم من الناس، والوحي لا يدخله خلل، ولا يخالطه هوى أو تخيلاّت، وهذا حاصل في رؤيا كثير من الناس، بسبب تلبيس إبليس، أو نتيجة مرض أو هوس، ونحو ذلك. قال ابن بطال:"والرؤيا الصادقة وأن كانت جزءاً من النبوة فهي باعتبار صدقها، وإلا لساغ لصاحبها أن يسمى نبياً، وليس كذلك".( ) وإذا كان الأنبياء يختصون بآيات يؤيدون بها ليتميزوا بها عمّن ليس مثلهم، كما تميزوا بالعلم الإلهي، فإنّ رؤاهم كذلك يجب أن يتميزوا بها عمّن ليس مثلهم.
قال الخطابي:"قال بعض العلماء:أقام صلى الله عليه وسلم يوحى إليه ثلاثا وعشرين سنة, منها عشر سنين بالمدينة وثلاث عشرة بمكة, وكان قبل ذلك ستة أشهر يرى في المنام الوحي، وهي جزء من ستة وأربعين جزءاً، وقال بعض العلماء:معنى الحديث أي حديث الرؤيا- أن الرؤيا تأتي على موافقة النبوة, لأنّها جزء باق من النبوة ". وأضاف الخطابي: "هذا الحديث توكيد لأمر الرؤيا وتحقيق منزلتها, وقال وإنما كانت جزءاً من أجزاء النبوة في حق الأنبياء دون غيرهم، وكان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يوحى إليهم في منامهم كما يوحى إليهم في اليقظة ".
وقال المازري:"ويحتمل أن يكون المراد أنّ المنام فيه إخبار الغيب، وهو إحدى ثمرات النبوة, وهو ليس في حد النبوة ; لأنه يجوز أن يبعث الله تعالى نبياً ليشرع الشرائع, ويبين الأحكام, ولا يخبر بغيب أبدا, ولا يقدح ذلك في نبوته, ولا يؤثر في مقصودها, هذا الجزء من النبوة وهو الإخبار بالغيب إذا وقع لا يكون إلا صدقا ". وأضاف المازري:"كثر كلام الناس في حقيقة الرؤيا, وقال فيها غير الإسلاميين أقاويل كثيرة منكرة, لأنهم حاولوا الوقوف على حقائق لا تدرك بالعقل ولا يقوم عليها برهان وهم لا يصدقون بالسمع فاضطربت أقوالهم...ومن ينتمي إلى الفلسفة يقول: إن صور ما يجري في الأرض هي في العالم العلوي كالنقوش فما حاذى بعض النقوش منها انتقش فيها، قال وهذا أشدّ فساداً من الأول لكونه تحكماً لا برهان عليه والانتقاش من صفات الأجسام, وأكثر ما يجري في العالم العلوي الأعراض, والأعراض لا ينتقش فيها، والصحيح ما عليه أهل السنة أنّ الله يخلق في قلب النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان، فإذا خلقها فكأنّه جعلها علماً على أمور أخرى يخلقها في ثاني الحال, ومهما وقع منها على خلاف المعتقد فهو كما يقع لليقظان، ونظيره أن الله خلق الغيم علامة على المطر، وقد يتخلف, وتلك الاعتقادات تقع تارة بحضرة الملك فيقع بعدها ما يسرّ، أو بحضرة الشيطان فيقع بعدها ما يضرّ، والعلم عند الله تعالى". وقال القرطبي: سبب تخليط غير الشرعيين إعراضهم عمّا جاءت به الأنبياء من الطريق المستقيم, وبيان ذلك: أنّ الرؤيا إنّما هي من إدراكات النفس وقد غيّب عنّا علم حقيقتها أي النفس, وإذا كان كذلك فالأولى أن لا نعلم علم إدراكاتها, بل كثير ممّا انكشف لنا من إدراكات السمع والبصر إنّما نعلم منه أموراً جملية لا تفصيلية ".( )
إنّ ما يجعله الله تعالى في النفوس إنّما يكون بعد إعدادها لذلك وتسويتها –لما يلقى فيها– بالعبادة الخالصة ومجاهدة النفس وإلزامها طاعة ربها عز وجل. لكن لا تجعل النبوة كلها من هذا الجنس فالنّبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيه الملك ويخاطبه بالكلام، وأحياناً يأتيه في الباطن فيكلمه، وأحياناً يتمثل له في صورة الرجل فيكلمـه. قـال تعالى:(وما كـان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عليٌّ حكيم) الشورى:42.( )
يقول أبو حامد الغزالي في مناقشته لمسلك ابن سينا السابق:"بم تنكرون على من يقول: إن النّبي صلى الله عليه وسلم، يعرف الغيب، بتعريف الله عز وجل، على سبيل الابتداء، وكذا من يرى في المنام، فإنها يعرفه بتعريف الله تعالى، أو تعريف ملك من الملائكة، فلا يحتاج إلى شيء مما ذكرتموه،فلا دليل في هذا، ولا دليل لكم في ورود الشرع باللوح المحفوظ، والقلم، فإنّ أهل الشرع، لم يفهموا من اللوح والقلم، هذا المعنى قطعاً، فلا متمسك لكم في الشرعيات..وإنّما السبيل فيه أن يتعرف من الشرع، لا من العقل".( )
     ويقال لابن سينا وإخوانه من الفلاسفة:إنّ الأدلة على إثبات النبوة ليست مقتصرة على ما ذكرتموه، فإنّما تثبت بالمعجزة، وبالاستدلال بأحوال النّبي وصفاته قبل النبوة وبصفاته حال الدعوة، وبعد تمامها، ومن خلال دراسة أخلاقه وأحكامه ومعاملاته مع الناس، ويستدل عليها أيضا بنصرة دينه على أعدائه، وعلى غيره من الأديان، وبهلاك المكذبين له. وتثبت بصدق ما يخبر عن ربه بوقوعه على ما أخبر به. وبإخبار الأنبياء المتقدمين عليه عن نبوته. كما جاء خبر ووصف رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل. وتثبت نبوته من خلال دراسة ما يدعو إليه واتصافه بالواقعية والترابط وعدم التناقض والاضطراب، وكونه مما ترتضيه الفطرة السليمة، والعقل الصريح، وتستريح إليه القلوب والضمائر الحية.( )
ومن الباطل في أقوال الفلاسفة أنهم جعلوا إدراك النبي الأمور الحاضرة والماضية، والإطلاع على مغيبات أمور المستقبل يحصل بفضيلة قوى التخيل عند النبي نفسه، ومن المعلوم بالضرورة أنّ هذه لا تدرك إلا بخبر المخبر للإنسان، وأمّا علمه بها بدون الخبر فممتنع من قوى النفس، قال تعالى:(وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) القصص:46، وقال:(وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ)القصص:44، وقال:(ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) يوسف:102، وقال"(ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) آل عمران:44.( ).
المطلب السابع:تفضيل الملائكة على الأنبياء:
ذهب الفلاسفة ومنهم ابن سينا إلى تفضيل الملائكة على الأنبياء وإلى هذا الرأي ذهب المعتزلة وبعض الأشاعرة.( ) واستدلّ الفلاسفة على مذهبهم بأدلة عقلية، منها:
1- الملائكة أرواح مجردة كمالاتها بالفعل، بخلف النفوس البشرية، والتام أكمل من غيره.
2- الملائكة مطهرة من الشهوة والغضب،وهما مبدأ الأخلاق الذميمة،بخلاف الجسمانيات، فهي لا تخلو منها.
3-الملائكة بسائط، غير مركبة بأي نوع من التركيب، وأمّا الأنبياء فأجسام مركبة والبسائط أفضل من المركبات.
4-الملائكة نورانية علوية لطيفة، والأنبياء أجسام كثيفة مركبة من المادة والصورة، والمادة ظلمانية مانعة.
5-الملائكة لها قوة وقدرة على تصريف الأعمال الشاقة، كالزلازل والسحاب ونحوها ولا يلحقها فتور وضعف، بخلاف الجسمانيات.
6- الملائكة أفضل من جهة العلم والعمل، فمن جهة العلم: فلإحاطتها بالأمور الغائبة وإطلاعها على مستقبل الأحوال الجارية، ومن جهة العمل: فلكونهم عاكفين على العبادة، والتسبيح ليلاً ونهاراً، ولا يفترون عن ذلك. وعلوم الملائكة كلية فعلية آمنة من الغلط، وعلوم الأنبياء غير ذلك تماماً، فهي جزئية كسبية انفعالية، ولا تسلم من الغلط.
7- الملائكة روحانيات متعلقة بالهياكل العلوية النورانية، والنفوس الإنسانية متعلقة بالأجسام السفلية الفاسدة، ونسبة النفوس كنسبة الأجساد.( ) 
المناقشة:-
يقول القرطبي:اختلف العلماء في التفضيل بين الملائكة وبني آدم على قولين، فذهب قوم إلى أنّ الرسل من البشر أفضل من الرسل من الملائكة، والأولياء من البشر أفضل من الأولياء من الملائكة. وذهب الآخرون إلى أنّ الملأ الأعلى أفضل...وقال بعض العلماء ولا طريق إلى القطع بأنّ الأنبياء أفضل من الملائكة، ولا القطع بأنّ الملائكة خير منهم، لأن طريق ذلك خبر الله تعالى وخبر رسوله أو إجماع الأمة، وليس ها هنا شيء من ذلك.( ) وأما الأدلة العقلية التي ذكرتها الفلاسفة مبنية على أصولهم الفلسفية التي لا يسلم بها أهل السنة والجماعة.( )
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن هنا غلط من غلط في تفضيل الملائكة على الأنبياء والصالحين، فإنّهم اعتبروا كمال الملائكة مع بداية الصالحين، ونقصهم فغلطوا، ولو اعتبروا حال الأنبياء والصاحين بعد دخول الجنان، ورضا الرحمن، وزوال كل ما فيه نقص وملام، وحصول كل ما فيه رحمة وسلام، حتى استقر بهم القرار والملائكة يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، فإذا اعتبرت تلك الحال ظهر فضلها على غيرهم من المخلوقين، وإلاّ فهل يجوز لعاقل أن يعتبر حال أحدهم قبل الكمال في مقام المدح والتفضيل والبراءة من النقائص والعيوب".( )
يقول علي ابن أبي العز الحنفي:"فإنّ الواجب علينا الإيمان بالملائكة والنّبيين، وليس علينا أن نعتقد أيّ الفريقين أفضل، فإن هذا لو كان من الواجبات، لبين لنا نصاً، وقد قال تعالى:(اليوم أكملت لكم دينكم) المائدة:3. (وما كان ربك نسياً) سورة مريم:64، وفي الصحيح –يقصد الحديث الصحيح-"إنّ الله فرض فرائض فلا تضيّعوها، وحدّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها". فالسكوت عن الكلام في هذه المسألة نفياً أو إثباتاً، والحالة هذه أولى. ولا يقال:إنّ هذه المسألة نظير غيرها من المسألة المستنبطة من الكتاب والسنة، لأنّ الأدلة هنا متكافئة".( ) ويضيف:"والأدلة في هذه المسألة من الجانبين إنمّا تدل على الفضل، لا على الأفضلية، ولا نزاع في ذلك..".( ) وفي موضع آخر يقول:"وحاصل الكلام:أنّ هذه من المسألة من فضول المسائل، ولهذا لم يتعرض لها كثير من أهل الأصول، وتوقف أبو حنيفة رحمه الله في الجواب عنها".( )  
المطلب الثامن:أخبار الأنبياء:
    زعم ابن سينا أنّ ما جاءت به الأنبياء نوعان، الأول: الأمور العلمية، ومنها معرفة الله بأسمائه وصفاته والمعاد. وهذه الأمور لم يذكر الأنبياء حقائقها، إنما أخبروا جمهور الناس بما يتخيلونه في ذلك لينتفعوا به في إقامة مصلحة دنياهم لا ليعرفوا الحق وهذا من جنس الكذب الجائز لمصلحة الناس، وهم يعلمون هذه المرتبـة، فضربـوا للنـاس الأمثال واستعملوا الرموز والإشارات.( ) يقول ابن سينا تحت عنوان: " في إثبـات النبـوة وكيفيـة دعـوة النّبي إلى الله والميعاد "،( ) "بل يجب أن يعرفهم جلالة الله تعالى وعظمته برموز وأمثلة، من الأشياء التي هي عندهم عظيمة وجليلة  ويلقي إليهم منه هذا القدر، أعني أنّه لا نظير له ولا شبه ولا شريك.." ويضيف:" وكذلك يجب أن يقرّر عندهم أمر المعاد على أوجه يتصورون كيفيته وتسكن إليه نفوسهم، ويضرب للسعادة والشقاوة أمثالاً ممّا يفهمونه ويتصورونه، وأمّا الحقّ في ذلك فلا يلوح لهم منه إلا أمراً مجملاً…ولا بأس أن يشتمل خطابه على رموز وإشارات".
    وفي رسالته"رسالة في إثبات النبوة وتأويل رموزهم "( ) يوجب ابن سينا على النّبي أنّ يخاطب الناس بلغة الرموز الإيمائية ، وأن يسلك التمثيل والتخييل في ذلك ، تقريباً لإفهام العامة وترويضاً لعقولهم . وأما خاصة الناس فهم المعنيون بفهم الحقائق وتأويل الرموز وإدراك المعاني الباطنية التي وراء تلك الألفاظ التي استعملها الأنبياء. ومن ذلك قوله:"إن المشترط على النّبي أن يكون كلامه رمزاً وألفاظه إيماءً".
    ولقد كانت الفلاسفة الإسلاميون في ذلك متأثراً بالفلاسفة اليونان. وبخاصة أفلاطون. ولقد اعترف ابن سينا بذلك صراحة فقال:" وكما يذكر أفلاطون في كتابه النواميس أن مَنْ لم يقف على معاني رموز الرسل لم ينل الملكوت الإلهي، وكذلك جلة ابن سينا يونان وأنبياؤهم كانوا يستعملون في كتبهم المراميز والإشارات التي حشَوا فيها أسرارهم كفيثاغورس وسقراط وأفلاطون…".( )
    وأمّا النوع الثانـي: فهـي الأمـور العمليـة– يقصـد الشرائع والطاعات والنواهي – فهـذه أخبروا عنها، ويجب طاعتهم فيها والعمل بشرائعهم.( ) وأنّ الأنبياء عليهم أن يعرفوا الناس العبادات التي تكون بها القربى من الله تعالى كالصلوات والصوم، وعليه أن يبين مصالح أخرى ومنافع دنيوية في تقوية السنة مثل الجهاد والحج، وأن يعين لهم أفعالاً يقدمونها خالصة لله كالذبائح ونحوها.ويجب أن يسن للصلاة سنناً لابد من اتباعها،وهى استعدادات يجريها الإنسان لملاقاة ربه تعالى من الطهارة والنظافة، وقد جرت العادة أن يقوم بها عندما يقابل الرؤساء والملوك، ولابد من الخشوع والسكون،وهذا يتحقق بغض البصر وقبض الأطراف، وترك الالتفات والاضطراب، وعلى النّبي أن يسنّ للإنسان في كل وقت من أوقات العبادة آداباً ورسوماً محمودة.( )
    ونجد الفلاسفة في أخبار الأنبياء العلمية(الاعتقادية) يسيرون على نفس منهجهم من أنّ جمهور النّاس يعلمون من الأمور ظواهرها، ويجب على عاميتهم اعتقاد الظاهر، والعمل به، كما جاء في الشرع وأمّا الخاصة– وهم الفلاسفة ومن على نحوهم – فينظرون إلى بواطن الأمور لا إلى حقائقها، فالصلاة مثلاً -عند ابن سينا- تنقسم إلى ظاهر وباطن فالظاهر منها: الطهارة والنظافة، والخشوع والسكون، وترك الالتفات والاضطراب،مع القيام والركوع والسجود، وما فيها من سنن وآداب، والباطن منها: المشاهدة الربانية التي تتحقق بمشاهدة الحق بالقلب الصافي، والنفس المجردة المطهرة عن الأماني، فالمشاهدة عنده عقلية، والعبادة عنده هي المحبة الربانية والرؤية الروحانية.( )
المناقشة:
 - إنّ هذه الأقوال التي ذهـب إليهـا ابن سـينا هي نفس ما ذهب إليه الملحدة الباطنية كالإسماعيلية من أمثال إخوان الصفا، وملحدة الصوفيـة كابن عربـي وابن سـبعين الذين يرون أن لكل ظاهر باطن وأنّ الأنبياء قصدوا تفهيم الجمهور ظواهر الأمور، وإن كانت مخالفة للحق .
- إنّ اتهام الأنبياء بالكذب على الجمهور هو من المعلوم من الدين بالاضطرار بطلانه بل هو من الكفر الصريح، فابن سينا وأمثاله لم يقدروا الله تعالى حق قدره، ولم يقدِّروا رسوله عليه السلام حق قدره، وفتحوا الباب على مصراعيه لكل الزنادقة والملحدة لإنكار كل ما جاءت به الأنبياء والمرسلون من العقائد والشرائع بحجة أنّ ظواهرها غير مرادة، وإنما وردت على سبيل التمثيل والتخييل.
- إنّ مراد ابن سينا من هذه الأقوال الفاسدة الصدّ عن سبيل الله، والصدّ عن فهم مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصديقه فيما أخبر به. ولقد أخبر الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم أنّه بلّغ البلاغ المبين وبين مراد الله تعالى، وفي أقوال الفلاسفة قدح في بيان الله تعالى، وقدح في الرسول الذي بلغ البلاغ الواضح المبين الذي هدى الله تعالى به العبـاد وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، وفرّق الله به بين الحق والباطل، فأوضح به السبيل وأنار به الدليل.( )
- إن الفلاسفة يسِّلمون بأنّ الرسل من أعلم الخلق بالحقائق، وأنهم مخصوصون بقوى قدسية يعلمون بها ما لا يتمكن غيرهم من العلم به، وأنهم من أبر الناس وأصدقهم، وما نسبوه إلى الرسل من إخبار جمهور الناس بضروب من التمثيل والتخييل والكذب لمصلحتهم يناقض ذلك، لذا كان الفلاسفة من المتناقضين في أمر النبوات.( )
المطلب التاسع:خصائص النبوة:
    ذهب الفلاسفة إلى أنّ النبوة لها ثلاث خصائص، من قامت به فهو نبي، قال:" وأفضل الناس من استكملت نفسه عقلاً بالفعل، ومحصّلاً للأخلاق التي تكون فضائل عملية، وأفضل هؤلاء هو المستعد لمرتبة النبوة، وهو الذي في قواه النفسانية خصائص ثلاث..وهو يسمع كلام الله ويرى ملائكة الله تعالى، وقد تحولّت على صورة يراها..".( ) والخصائص الثلاث التي يمتاز بها النّبي عن غيره، هي:-
الأولى: أن تكون له قوة قدسية، وهي قوة الحَدْس، بحيث يحصل له من العلم بسهولة ما لا يحصل لغيره، وبالتالي يكون له إطلاع على المغيبات الماضية والحاضرة والمستقبلة، وهذا أمر لا يستنكر، فإن من صفت نفسه صفاءً شديداً، وقويت قوة عظيمة بحيث لا تشغلها الحواس عن النظر إلى العالم العقلي فإنّه عند ذلك تستعد استعداداً خاصاً للاتصال بالعقول المفارقة-ومنها العقل الفعّال- بأدنى توجه، ويفيض عليها من علم الغيب ما لا يدرك بالفكر والقياس.
الثانية: قوة التخيل والحسِّ الباطن: وهي التي يتخيّل بها في نفسه ما يعلمه، بحيث يتمثل له ما يعلمه في نفسه فيراه ويسمعه فيرى في نفسه صوراً نورانية هي عند ابن سينا ملائكة الله، ويسمع في نفسه أصواتاً هي عندهم كلام الله، وهذا بأن تقوى نفس النّبي وتتصل في اليقظة بعالم الغيب، وتحاكي المتخيلة ما أدركته النفس بصورة جميلة وأصوات منظومة، فترى في اليقظة وتسمع. وليس هذا بمستنكر أيضاً فإنّه يحصل له في يقظته مثل ما يحصل للنائم في منامه، فالنائم يرى في نومه صوراً تكلمه، ويسمع كلامهم، وذلك موجود في نفسه لا في الخارج، وهذا من جنس ما يحصل لبعض أهل الرياضة من الصوفية، فإنّ من تجردّت نفسه عن الشواغل البدنية سهل عليها أن تنجذب إلى عالم القدس.
الثالثة: قوة نفسانية يتصرف بها في هيولي– مادة– العالم، وذلك بإحداث أمور غريبة، وهي عنده آيات الأنبياء ومعجزاتهم. فالنّبي بذلك تظهر منه من الخوارق للعادة لأنّ هيولي عالم العناصر مطيعة له ومنقادة لتصرفاته مثل انقياد بدنه لنفسه، تماماً كالعائن – الذي يصيب الآخرين بعينه – فإنّ له قوة نفسانية يؤثر بها في المعين، وإذا كان أمر النّبي كذلك، فلا يبعد أن تقوى نفس النّبي حتى تحدث بإرادتـه في الأرض رياح وزلازل، وكأن يزيل جبل عن مكانه، ويذيب جوهراً فيستحيل ماءً، ويجمد جسماً سائلاً ليستحيل حجراً، وغيرها من الأمور الخارقة للعادة، وهذا أيضاً ليس بمستنكر، فأهل الرياضة من الصوفية ونحوهم تحدث منهم أمور عجيبة.( )
المناقشة:
أولاً: مناقشة ما ذكروه في الخاصية الأولى:
- إنّ الاطلاع على جميع المغيبات لا يجب للنّبي، وهذا هو اعتقاد جميع المسلمين، يقول الله تعالى حاكياً قول رسول الله عن نفسه:(ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسَّني السوء)الأعراف: 188.
- إنّ الاطلاع على بعض الغيب لا يخصّ النّبي فقط، فالفلاسفة يقولون:إنّ أهل الرياضة والمرضى والنائمين يحصل لهم ذلك، فأي ميزة وخاصية للنّبي إذاً على غيره من آحاد الناس.( )
- إنّ النّبي عليه السلام لا يعلم الغيب من تلقاء نفسه، ولا باستعداد ذاتي، بل يعلم الغيب بواسطة أمين الوحي جبريل الذي يعلمه ما يأذن به الله عز وجل، وليس للقوة القدسية التي جعلها ابن سينا خاصية للنّبي علاقة بذلك. يقول الله تعالى فـي حـق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم:(ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقـون أقلامهم أيهم يكفل مريم ومـا كنت لديهم إذ يختصمون) آل عمران:44 ويقول:(عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول فإنّه يسلك من بين يديه ومن خلفه رَصَدا) الجن: 26-27.
ثانياً:مناقشة ما ذكروه في الخاصية الثانية:
- إنّ ما قالته الفلاسفة في شأن الملائكة لا يتمشى مع مذهبهم الفلسفي العام واعتقادهم في الملائكة فالملائكة عندهم: إما نفوس مجردة عن المادة في ذواتها، متعلقة بأجرام الأفلاك ويسمونها ملائكة سماوية وإما عقول مجردة ذاتاً وفعلاً، وتسمى بالملأ الأعلى، وليس لها كلام يسمع، لأنّ الكلام عندهم من خواص الأجسام. يقول الإيجي في الردّ على الفلاسفة:"قلنا:هذا تلبيس وتستر بعبارة لا يقولون بمعناها، لأنهم لا يقولون بملائكة يرون، بل الملائكة عندهم نفوس مجردة، ولا كلام لهم يسمع، لأنه من خواص الأجسام، ومآله إلى تخيل ما لا وجود له في الحقيقة، كما للمرضى والمجانين، على ما صرّحوا".( )
- إنّ الأدلة على وجود الملائكة كثيرة جداً، فنصوص الكتاب والسنة في هذا الجانب متواترة وهي تصرّح بما لا يدع مجالاً للإنكار:بأنَّ الملائكة تجيء في صورة البشر، كما جاءت مريم وإبراهيم ولوط عليهم السلام، وتكليمهم للأنبياء إياهم وسماعهم كلامهم ورؤيتهم لهم على وجه الحقيقة، وكما حصل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، بل وظهور جبريـل حقيقة على صورة الصحابي دحية الكلبي، وقد رآه غير واحـد من الصحابـة واستمعوا إليه، ثم إنّ أخبار نزول الملائكة لنصرة الأنبياء والأولياء وتأييـدهم، وإخبار الله تعالى عنهم بأنهم عباد الله المكرمون وأنهم يسارعون في الخيرات، ولا يستكبرون عن عبادته، وأنهم يحملـون عرش الله عز وجل ، ومنهم خزنة الجنة وخزنة النار، وما في القرآن والسنة من ذكر أوصافهم وهيئاتهم وأصنافهم وأعمالهم كله صريح في بيان تهافـت أقوال ابن سينا التي تلقّاها عن أسلافه من الفلاسفة الوثنيين.( )
- إن أقوالهم تتضمن تكذيباً صريحاً للقرآن الكريم، وهذا من الكفر القبيح، فضلاً عن مخالفته مما يعلم بالاضطرار من دين المرسلين.( )
- إنّ عامة الأمم وأهل الأديان يعترفون بوجود الأرواح الموجودة المنفصلة عن الآدميين من الملائكة والجن، والملائكة التي يثبتها الفلاسفة ويسمونها بالعقول فهي عند التحقيق لا توجد إلا في أذهان من أثبتها لا وجود لها في الأعيان.( )
- إنّ زعمهم بأن النّبي صلى الله عليه وسلم يخيل له أنه يسمع في نفسه أصواتاً هي كلام الله، فباطل من عدة وجوه، منها:-
أ- إنّ قولهم معناه إنكار الملائكة التي يسمع منها الرسول صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل يرسل أمين الوحي جبريل إلى أنبيائـه يوحي إليهـم بإذن ربه ما يشاء، قال تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء الشورى:51، ففرّق الله سبحانه بين إرسال الرسول الذي يوحي بإذنه ما يشاء وبين الوحي، كما فرّق بين ذلك وبين التكلم في قوله تعالى:(إنّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنّبيين من بعد) إلى قوله تعالى:(وكلّم الله موسى تكليماً) النساء:163-164. ففرق بين الإيحاء العام المشترك بين الأنبياء وتكليمه لموسى عليه السلام، كما فرّق بين الإيحاء وبين إرسال رسول يوحي بإذنه ما يشاء.
ب- إنّ ابن سينا يثبت فقط ما هو من جنس الوحي والإلهام عندما يقول بالقوة القدسية التي تفيض على نفس النّبي، بل الوحي والإلهام الذي أثبته الله تعالى فوق القوة القدسية التي يثبتها، والرسل لهم أحوال في السماع خارجة عن قوى النفس، وعن جنس الإيحاء العام والإلهام المشترك، إذ يسمعون كلام الملك المرسل إليهم، وتدل عليه آية الشورى السابقة، وقولـه تعالى:(الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس) الحج:175.
ج- لقد أخبر الله تعالى أنّه يكلم البشر من وراء حجاب، وأن يكلِّم موسى عليه السلام تكليماً، وهذا يقتضي أنه يكلم بعض رسله تكليماً خارجاً عن جنس ما يحصل بالوحي والإلهام مما يتناول القوة القدسية وغيرها.( )
د- يقول الله تعالـى في قصـة مريم:(فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً) سورة مريم:17-19. وقال تعالى:(ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا) سورة التحريم:12.
    لقد أخبر الله تعالى أنّ هذه الروح تصوّر بصورة بشر سوي، وخاطب مريم ونفخ فيها، ومن المعلوم أنّ القوى النفسانية التي تكون في نفس النّبي وغير النّبي لا يراها الحاضرون، ولا تحدث منها مثل هذه الأحوال والأفعال والأقوال، وعلى هذا يبطل قول ابن سينا أنّ النّبي يخيّل إليه أنّه يسمع في نفسه أصواتاً هي كلام الله، فكون الملك تمثل بشراً وخاطب مريم، فأي عاقل يقول أن مريم سمعت كلامه من داخل نفسها وهو أمامها بشري سوي تراه وتسمع كلامه.( )
هـ- يقول تعالى في حق جبريل عليه السلام: (إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم) سـورة التكوير:19-25. أخبـر الله تعالـى أن الذي جاء بالقرآن – وهو من كلام رب العالمين - رسول كريم، ذو قـوة عنـد ذي العـرش مكين، وأنه مطاع ثم أمين. ومن المعلوم امتناع أن تكون هذه الأوصاف للمَلَك الرسول صفات أعراض تقوم بنفس البشر سواء كان نبياً أو غيره، وما كان كذلك امتنع أن يكون النّبي قد تخيل في نفسه أنه رآه وسمع منه كلام الله تعالى.
و- إذا كان النّبي لم يسمع كلاماً من خارج نفسه بل هذا تَخَيُّلٌ في نفسه كما زعمت الفلاسفة فهذا معناه أنّ الرسول من جنس آحاد المسلمين الذين يرون في المنام أنهم في السماوات، وأن الملائكة خاطبتهم ونحو ذلك، ومثل هذا لا تكذب به قريش ولا أحد من الكفار.
ز- وإذا كانت الفلاسفة تزعم أن كلام الله هو ما يفيض على نفس النّبي من العقل الفعّال فإن هذا الزعم باطل وبيـان ذلـك:أن العقل الفعّال لا يمكن أن يتصور في صورة أعرابي ولا دحية الكلبي ولا ضيف إبراهيم ولا لوط، ولا في صورة بشر سوي فنفخ في مريم، ولا يمكن أن يكون كما قال تعالى:(ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثَمَّ أمين) لأنّ غاية العقل الفعّال عند الابن سينا أن يتحرك الفلك الأسفل تشبهاً به وأما فوق ذلك فلا تأثير له فيه.
    وأيضاً فلقد أخبر الله تعالى أن النّبي عليه السلام رآه عند سدرة المنتهى ورآه بالأفق المبين مرتين، وجاء في الحديث الصحيح أنّ النّبي عليه الصلاة والسلام رأى جبريل في صورته التي خلق عليها مرتين وله ستمائة جناح منها جناحان سد بهما ما بين المشـرق والمغـرب، ومَنْ كانت هذه أوصافه وأحواله استحال أن يكون هو العقل الفعّال كما تزعم الفلاسفة.( )
ثالثاً: مناقشة ما زعمه من أن معجزات الأنبياء هي نتيجة تأثيره القوة النفسانية للنّبي:-
إنّ كون بعض النفوس أو غيرها من الأعيان قد جعل الله تعالى فيها من القوى والطبائع ما يحصل به بعض الآثار لا ينكر شرعاً ولا عقلاً، ولكن دعوى ابن سينا بأنّ معجزات الأنبياء هي من هذا الباب فبهتان عظيم وإفك أثيم. وأدلة بطلانه كثيرة جداً نذكر هنا بعضاً منها يفي بالغرض المطلوب:-
-إنّ المؤثر الوحيد في الوجود هو: الله تعالى الذي لا شريك له في ملكه وتدبيره وتصريفه لما في ملكه ولم يثبت شرعاً ولو بدليل ضعيف هذا الكلام الذي زعمته الفلاسفة، ثمّ إنّ المعجزات وخوارق العادات هي: كرامات يظهرها الله تعالى على يد النّبي برهاناً على نبوته وتصديقاً لما جاء به من ربه عز وجل ولو كانت من تأثير نفسه كما تزعم الفلاسفة لما كانت معجزة يتحدى بها الأولين والآخرين من الجن والإنس.
- لقد أثبتت نصوص القرآن صراحة أنّ الملائكة لها تأثير في العالم بالقول والفعل ولكن بإذن الله تعالى وبمشيئته وقدرته، ومن ذلك تأييدها للأنبياء بالنصر والتأييد وإنزال السكينة، وهذا يبطل قول ابن سينا أن المؤثر في العالم هو القوى النفسانية أو القوى الطبيعية، فإنّ الملائكة خارجة عن هذا وهذا.
- إنّ الفلاسفة لم تدلل على مزاعمه بدليل صحيح، فقوله بلا علم ولا دليل، وعامة ما يعتمد عليه التجويز الذهني، والعقائد والمغيبات لا تثبت بمثل ذلك، ولا ريب أنّ معجـزات الأنبيـاء ممّا أجمـع النـّاس على أنّ قـوى النفوس لا تقتضيها، فالنّاس يعلمون بالمشاهدة والأخبار المتواترة والدلائل اليقينية حدوث خوارق للعادات كثيرة، ليس لها علاقة بنفوس بني آدم، لا نفوس أنبياء ولا غيرهم، كزلزلة الأرض ونزول المطر من السماء، وأخذ القرى الظالمة.
- إنّ تأثير النفوس في الأجسام لا يختص بالنّبي، فمثلاً الجن تفعل كثيراً من الغرائب والأعاجيب، ومن ذلك حملها لبعض الناس وطيرانها بهم في الهواء، وسرقة أنواع من الأطعمة وإتيانها بها للكهنة وإخبارهم بالأمور الغائبة. وهذا ما يعلمه كثير من الناس والجن ليست قوى نفسانية، فمن الناس من شاهدها، ورآها -أحياء ناطقين منفصلين عن الإنسان-، أو ثبت ذلك عنده بالأخبار الصادقة.
- إنّ الملائكة ثابتة آثارهم وأفعالهم في العالم، وأخبارهم في ذلك متواترة عند أتباع الأنبياء، ومعلومة بالمعاينة والمشاهدة، وهذا من أعظم الأدلة على بطلان دعوى أن المعجزات والكرامات والسحر هي قوى نفسانية.
 - إنّ تأثير قوى النفس لا يبلغ مبلغ معجزات الأنبياء، فإنزال ماء الطوفان الذي أغرق أهل الأرض وإرسال الريح العقيم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً التي أهلكت قوم عاد واقتلعت قرى قوم لوط وقلبتها حتى أهلكتهم، وإرسال الطير الأبابيل بحجارة من سجيل لهـلاك أبرهة الحبشي وأصحابه عام الفيل وإنزال المن والسلوى على بني إسرائيل زمن موسى عليه السلام، وفلق البحر، وتفجّر الماء كل يوم من الحجر اثنتي عشر عيناً، وانشقاق القمر، واهتزاز العرش، وخروج الناقة العظيمة من الصخـرة وإنـزال المائدة من السماء، لا يمكن أن يقول عاقل أنّ هذه وأمثالها من تأثيـرات القـوى النفسانية عند الأنبياء، بل كلّ عاقل يعلم أنّها من فعل فاعل مختار يفعل بمشيئته وقدرته، وبحسب مشيئته وحكمته، وأنّه هو الله رب السماوات والأرض، ورب كلّ شيء ومليكه.
- إنّ الأنبياء عليهم السلام قد أخبروا بأنّ خوارق العادات –المعجزات المؤيدة لدعوى النبوة– ليست في مقدور البشر، فمن زعم أنّها من تأثير قوى النفس كان مكذباً للأنبياء فيما أخبروا به، والأنبياء عليهم السلام أخبروا بوجود الملائكة والجن، وأنها أحياء ناطقة قائمة بأنفسها ليست أعراضاً قائمة بغيرها وأخبروا بأنّهم يفعلون أفعالاً خارجة عن قدرة البشر، ومن ذلك مجيء الملائكة إبراهيم عليه السلام في صورة رجال نكرهم ولم يعرفهم حتى ظن أنهم ضيوف، ثم إخبارهم له بأنهم ملائكة وبشروه بإسحاق ثم أخبروه بأنهم ذاهبون إلى قوم لوط من أجل إهلاكهم بأمر الله تعالى. ومن زعم أنّ مثل هذا من قـوى النفس فقـد كذّب القرآن الكريم وكذّب الأنبياء فيما أخبروه به، وهذا في غاية الكفر الصريح والعياذ بالله تعالى.
     ومن معجزات الأنبياء ما لا يكون النّبي شاعراً به، ومنها ما لا يكون مريداً له، وهذا لا يكون من فعل نفسه، ومنها ما يكون قبل وجوده، ووجود قدرته، ومنها ما يكون بعد موته ومفارقته لهذا العالم. ومن المعلوم أن أمثال هذه المعجزات خارجة عن مزاعم ابن سينا في تأثير القوة النفسانية للنّبي.ومن هذه المعجزات: قصة أصحاب الفيل التي حدثت حين مولده صلى الله عليه وسلم، وأخبار الكهان وأهل الكتاب عن نبوته وأخبار الأنبياء السابقين المتقدمين عن نبوته ورسالته، وانتشار دعوته عليه الصلاة والسلام في مشارق الأرض ومغاربها كما أخبـر هـو عن ذلك، وحفظ الله تعالى للكتاب الذي أنزله عليه، وما جعله الله تعالى في القلوب من محبته وتعظيمه، والعلم بمنزلته وعلو درجته ومكانته، وانتصار أوليائه، وهزيمة أعدائه.( )

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق