الأربعاء، 19 أغسطس 2015


الرد على الصوفية6=الشطح الصوفي======فسر أبو نصر السراج الطوسي الشطح الصوفي بأنه (عبارة مستغرقة في وصف وجد فاض بقوته، وهاج بشدة غليانه وغلبته) (اللمع ص453)، وقد لجأ المتصوفة إلى هذا التعريف لتبرير الكفر والزندقة الذي فاضت به كتب القوم وتواتر عنهم معتذرين أن ما قالوه قد قالوه في حالة سكر بما تجلى لهم من حقائق وبما عاينوا من علوم وزعموا أنها أسكرتهم وأطارت صوابهم، وجعلتهم يتكلمون بمثل هذه العبارات وهذا التبرير السمج الذي لجأ إليه الصوفية لا يغير من الحقائق شيئاً وهو أن ما قالوه كفر واضح ظاهر وافتراء على الشريعة.

وقبل أن نبدأ في تفنيد مزاعمهم نستعرض طائفة يسيرة من عباراتهم التي اعتذروا عنها بأنها من الشطح وأن قائليها معذورون فيما قالوه لأنهم بزعمهم كانوا سكارى غائبين عن وعيهم عند ذكرهم لهذه العبارات. فقد تواتر ونقل الناس عن أبي يزيد البسطامي أنه قال "رفعني مرة فأقامني بين يديه وقال لي يا أبا يزيد إن خلقي يحبون أن يروك!! فقلت: زيني بوحدانيتك وألبسني أنانيتك وارفعني إلى أحديتك حتى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك، فتكون أنت ذاك، ولا أكون أنا هنا" (اللمع ص461) أ.هـ.

وذكر عنه كذلك أنه قال "أول ما صرت إلى وحدانيته فصرت طيراً جسمه من الأحدية، وجناحاه من الديمومة فلم أزل أطير إلى أن صرت في ميدان الأزلية، فرأيت فيها شجرة الأحدية" (اللمع الطوسي ص461)، ونقل عنه أيضاً أنه قال: "سبحاني سبحاني" وقال أيضاً "ضربت خيمتي بإزاء العرش" (اللمع ص464)، ومر يوماً بمقبرة للمسلمين فقال "مغرورون" و.. لليهود فقال "معذورون"!! (اللمع ص463).

وأما الشبلي فهو أحد مقدميهم وقادتهم واسمه دلف بن جحدر فقد قيل له يوماً: يا أبا بكر أخبرنا عن التوحيد فقال: للسائل: "ويحك! من أجاب عن التوحيد بالعبارة فهو ملحد، ومن أشار إليه فهو ثنوي، ومن سكت عنه فهو جاهل، ومن هم أنه واصل فليس له حاصل، ومن أومأ إليه فهو عابد وثن، ومن نطق فيه فهو غافل ومن ظن أنه قريب فهو بعيد ومن تواجد فهو فاقد، وكلما ميزتموه بأوهامكم وأدركتموه بعقولكم في أتم معانيكم فهو مصروف مردود إليكم محدث مصنوع مثلكم" أ.هـ.

وعندما سئل الشبلي عن أبي يزيد البسطامي وعرض عليه بعض ما قاله البسطامي مما نقلناه آنفاً قال الشبلي:

"لو كان أبو يزيد ها هنا لأسلم على يد بعض صبياننا وقال: لو أن أحداً يفهم ما أقول لشددت الزنانير" (اللمع ص50).

وكان هذا الشبلي أيضاً يقول: "لو خطر ببالي أن الجحيم نيرانها وسعيرها تحرق مني شعرة كنت مشركاً" (اللمع ص479 ومعنى شددت الزنانير جمع زنار وهو ما كان يضعه أهل الذمة على وسطهم تميزاً لهم عن المسلمين).

وذكر عنه أيضاً أنه سمع قارئاً يقرأ هذه الآية {اخسأوا فيها ولا تكلمون} فقال الشبلي ليتني كنت واحداً منهم (اللمع ص490).

وذكر عنه كذلك أنه قال: "إن لله عباداً لو بزقوا على جهنم لأطفأوها" (اللمع ص490) وثبت عن أبي الحسين النوري أنه قال (أنا أعشق الله وهو يعشقني"!! (اللمع ص491).

وشهدوا عليه أيضاً أنه سمع المؤذن فقال: طعنه وشم الموت!! وسمع نباح كلب فقال: "لبيك وسعديك"!! (اللمع ص492)، وكذلك كان أبو حمزة الصوفي إذا سمع صوت هبوب الريح وخرير الماء، وصياح الطيور يصيح ويقول: لبيك!!.

ودخل دار الحارث المحاسبي فسمع شاه مرغياً: فقال: "لبيك يا سيدي"!!.

هذه عبارات قليلة جداً مما نقل عن هؤلاء وتواتر عنهم، ومهما حاول المرء أن يعتذر عن أصحابها بأي وجه من الوجوه فإنه لا يجد مفراً من  الحكم بكفر معتقديها وقائليها.. فأما قولهم إن هذا شطح، وغلبة حال وغلبة سكر، ونحو هذا من الأقوال فالرد عليها ما يأتي:

1- لا نسلم أن قائلي هذه العبارات قد قالوها كما زعموا وهم في حالة هذيان وغيبة عقل، وذلك أن هذه العبارات لها لمعان محدودة، وهي نسيج مؤلف مركب قصد بها صاحبها أن يدل على عقيدة عنده، ولم يقلها كلاماً غير منضبط ككلام السكران والغائب عن الوعي.

2- إن هذه العبارات قد تلقاها تلاميذ التصوف بالقبول واعتقدوا ما فيها بل وشرحوا العقيدة التي تشير هذه العبارات إليها في كتب كاملة.. والعقيدة هذه هي أن الأديان جميعاً دين واحد، وأن الخلق جميعاً هم عين الخالق وأنه لا موجود إلا الله!! وأن هذا الخنزير الذي كان يمر به أحدهم فيقول له عم صباحاً!! هم مظهر من مظاهر الخالق -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- ونستغفر الله من كتابة أقوالهم وإعادتها وكذلك هذه الشاة التي ترغي فيقول لها أحدهم لبيك يا سيدي، ما قال ذلك في غلبة السكر، وفي رؤيته للنار أو النعيم، ولا لتذكره لآية من كتاب الله وإنما قال ذلك لأنه سمع ثغاء شاة، أو نباح كلب، ومثل هذه الأصوات لا تخلق في المسلم (حالة) ولا تجعل عنده وجداً يحمله على الغياب عن الوعي حتى يقول مجيباً له "لبيك يا سيدي"!!

وكذلك نقول أيضاً ما الذي يبعثه نداء المؤذن في قلب الصوفي حتى يرد عليه قائلاً.. ضربه وشم الموت!!، هل سماع المؤذن يؤدي إلى حالة وجد وغياب عن الوعي حتى يقول سامع المؤذن: ضربك أيها المؤذن وشم الموت!! وأنا أقول نعم هي حالة حقيقية للزنديق عند سماع المؤذن لأنه لا يريد لصوت الداعي إلى الله أن يعلو.. لأنه يكفر بالإسلام والصلاة ويريد لأصوات الكلاب والخنازير أن يقبلها المسلم بقولهم (لبيك يا سيدي"!!.. إقرأ في كتاب اللمع للطوسي قوله "وأخذوا عليه (يعني أبا الحسن النووي) أنه سمع أذان المؤذن فقال: طعنه وشم الموت، وسمع نباح الكلب فقال: لبيك وسعديك". ومثله تماماً ما نقلناه آنفاً عن أبي يزيد أنه اجتاز بمقبرة لليهود: فقال: معذورون. وبمقبرة للمسلمين فقال: مغرورون!! فأي غلبة حال وسكر، وهذيان غلبت على هؤلاء حتى قالوا ما قالوا.. وأليست هذه عقيدة زنديقية واحدة.. ثم ما هذا (المربي) -زعموا- الذي رأى مريده يقتل قملة فقال له: قاتلك الله شفيت غيظك بقتل قملة!! وهذا الشيخ نفسه يمر على الخنزير فيقول له: عم صباحاً!!

وكان يبدأ الكلاب والخنازير بالسلام.. المهم أن هذه العبارات التي يسمونها شطحاً لم تكن شطحاً كما زعموا وقد قالها قائلوها في حالة صحو وليس في حالة سكر، وإنها تنبئ عن عقيدة وليست كلاماً فارغاً من المعنى وهذياناً كما زعموا.

3- ثم إننا نسأل إذا كان مثل هذه العبارات يسميها الصوفية شطحاً وهذياناً، فلماذا يعمدون إلى تأويلها وتفسيرها، وإخراج درر معانيها، بل وجعلها من مناقب قائليها ووصولهم إلى الحقيقة؟! فقد فسروا كلام من أجاب الشاة بقوله: لبيك يا سيدي بأنه علم  أن كل شيء يسبح بحمد الله، وأن ثغاء الشاة تسبيح ولذلك أجابها.. فإذا كان كلامهم هذا شطحاً فلماذا فسروه وأخرجوا معانيه الغالية!! ودرره الثمينة.. وتقول لهم جعل الشاة في موضوع السيادة ليس تعظيماً للخالق!! والسلام ليس موضوعاً ليلقي على الخنازير والكلاب بل ولا على غير المسلم أيضاً لأن السلام تحية خاصة بالمسلمين فقط فإلقاؤها على الكلاب والخنازير مروق من الدين، وخروج عن حقيقة الشريعة المطهرة وظاهرها. وأما تفسيرهم لقول النوري الذي دعا على المؤذن بالموت عندما سمع نداءه، بأنه خشي أن يكون هذا المؤذن مرائياً أو يأخذ أجراً على أذانه كما زعموا فليس هذا طريق الإنكار على المؤذن وإنما النوري أنكر على الأذان وليس على المؤذن. وكان يجب لو كان يؤمن بالإسلام حقاً، وبالأذان صدقاً أن يقول كما يقول وأن يصلي بعد ذلك على الرسول ويطلب له الوسيلة والفضيلة ثم يسارع إلى المسجد ويشهد الصلاة مع المسلمين ثم ينكر على المؤذن أخذه للأجرة لو شاء.. ولكن هؤلاء كما أسلفنا ينشرون عقيدة معلومة لديهم تلقوها عن الزنادقة والملاحدة، وهذا الذي يسمونه شطحاً ما هو إلا تأسيس لهذه العقيدة.

4- والأمر الرابع نسألهم: هذا السكران بحب الله كما زعمتم.. وبرؤية الجلال الإلهي أو الجمال -كما تزعمون- هل يجلس ليؤلف كتباً كاملة في هذا الهذيان والسكر وغلبة الحال كما تقولون.. أو يكفيه عبارة أو عبارتان، جملة أو جملتان.. أعني لو كانوا صادقين أن هذا الكلام الخارج عن موازين الشريعة هذيان وشطح حقاً لكان شيئاً قليلاً ولكن الحاصل والموجود أن هناك عشرات بل مئات بل آلاف الكتب قد شحنت بهذا الكفر والزندقة فكتاب يزعم صاحبه أنه تلقاه من الغيب بالوحي الإلهي ولا يترك كفراً إلا ويضعه فيه كالحكم ببراءة قوم نوح من الشرك، وجهل نوح لأنه دعاهم إلى التوحد، والحكم بإيمان فرعون، وجهل هارون لأنه نهى قومه عن عبادة العجل، والعجل هذا في زعم مؤلف كتاب (الفصوص) هو مظهر من مظاهر الله تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وكذلك تبرئة إبليس والحكم بنجاته، بل والحكم بأن أهل النار منعمون فهم في عذوبة لا عذاب وأنه وأنه..

بعضهم يسمي كل هذا شطحاً. وآخر وهو عبدالكريم الجيلي يكتب كتاباً يقع في أكثر من مائتي صفحة من القطع المتوسط يسميه (الإنسان الكامل) لا يترك كفراً في الأرض إلا ويجعله فيه؛ من ذلك أنه يصف رحلة مزعومة له من الأرض إلى السماء الدنيا، حيث يصف ما فيها وأنه قابل فيها فلاناً وفلاناً من الأنبياء وناقشهم واستفاد منهم، ثم السماء الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة والسادسة والسابعة وإلى الكرسي والعرش والحجب السبعين!! ويصف ما رآه هناك ثم يعود ليهبط إلى الأرض الأولى فالثانية فالثالثة، فالرابعة وحتى السابعة ويقابل فيها أولياء وروحانيين وفلاسفة وحكماء و.. ويدعي أن من لم يصدق هذا فهو كافر!! ويأتي كاتب صوفي آخر ينسج على منوال هؤلاء فيكتب كتاباً يسميه (مشارق شموس الأنوار ومقارب حسها في معنى عيون العلوم والأسرار) والكاتب هذا هو إسماعيل بن عبدالله السوداني ألف كتابه سنة 1262هـ فيصف كذلك مشاهداته الحسية -في زعمه- للسماوات السبع العلى، وللأرضين السبع ويجد القارئ  فصولاً من هذيانه وتخليطه في باب (المعراج الصوفي) من هذا الكتاب..

وغير هذا.. وهذا شيء يصعب إحصاؤه واستقصاؤه وإن جئت تناقش بعض المدافعين عن هذا الهذيان يقولون لك تارة هذا شطح، وتارة هذه كرامة، وتارة هذا فتح، وهذا تناقض منهم وسنناقش دعوى الفتح والكرامة في موطن آخر من الكتاب والمهم هنا أن نرد على دعواهم أن مثل هذا من الشطح، فيقول كيف يكتب كاتب كتاباً يقسم أبوابه ويضعفصوله ويقول للناس هذا من عند الله وتدعون أنتم أنه شطح وهذيان وأن قائله معذور لأنه قاله في غلبة حال وضياع عقل!! أليس قولكم هذا تلبيساً على الناس، واستهزاء بعقولهم!! الشطح لا يكون كتباً كاملة مؤلفة منسقة منفصلة!! وإنما هذه عقيدة ودين باطني يريد أربابه به صرف المسلمين عن عقيدة الكتاب والسنة إلى الكفر والإلحاد والزندقة.

5- ثم نقول لهؤلاء إثباتكم أن الصوفية يشطحون ويقولون ما لا يريدونه ولا يقصدونه في أقل أحواله إثبات لأحوال غريبة وبدعة منكرة ما كان عليها أحد من سلف الأمة الصادقين كالصحابة والأئمة فهل سمعتم أن أبا بكر وعمر والخلفاء والصحابة شطحوا!! وهل وجد في التابعين لهم بإحسان من عرف عنه شيء من ذلك، وهل كان الأئمة الأربعة من أهل الشطح أليس الشطح الصوفي دليلاً على الابتداع والخروج عن الدين القويم..؟

أليس الإمام الشافعي قد قال وقد صدق والله فيما قال: "لا أرى شخصاً يتصوف في أول النهار، إلا وأصبح أحمق في آخره!!" أليست هذه كلمات من نور الإمام الشافعي الذي رأى بعينه بدايات التصوف وأخبر أن يوماً واحداً في التصوف يكفي لجعل الشخص أحمق. فأنتم باعترافكم أن هذا شطح إنما تسجلون على أنفسكم الحماقة والبدعة والخروج عن نهج السلف الصالح رضوان الله عليهم ورضي الله عن الشافعي الذي يقول أيضاً "ما لزم أحد الصوفية أربعين يوماً فعاد عقله إليه أبداً" (تلبيس إبليس).

6- ولكن بعض الصوفية وقد أحرجوا في حكاية الشطح هذه أرادوا أن يستخرجوا دليلاً من الكتاب والسنة على شطحهم وأن أحوالهم هذه وهذيانهم مؤيد أيضاً بالكتاب والسنة فقال: لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً] فدل هذا على جواز الشطح وأن الرسول فعله أو مثله.. ونحن نقول: نسبة النبي إلى الشطح كفر وزندقة.. فالنبي صلى الله عليه وسلم عاين ما عاين من أمر الله وكان في كل ذلك هو الإنسان الكامل والرسول الصادق والعبد الكامل صلى الله عليه وسلم ولم يكن له حال أو مقال يخالف عقيدته التي نشرها وبينها والتي جاء بها كتاب الله وسنة رسوله. ومن قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خالف بعض كلامه بعضاً لحال أو مشاهدة فقد كفر وافترى وكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما استدلالكم بالحديث على أن من رأى ما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقول: من هذا الذي رأى ما رآه الرسول في الغيب: الحلاج والبسطامي، والشبلي، والنوري وأشكالهم سبحان الله أجاء هؤلاء ليطلعوا على ما لم يطلع عليه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والمبشرون بالجنة. أكان الحلاج يزعق بالشوارع، والشبلي يصرخ بالمجالس لأن الله أطلعه على الجنة والنار!! ألا تستحون من إيراد مثل هذه السخافات!!.. ونتنزل معكم درجة: هبو صدقناكم أن هؤلاء اطلعوا على الجنة والنار وشاهدوها رأي العين ألم يكن الواجب أن يحصل فيهم ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم فيبكون كثيراً ويضحكون قليلاً وهذا ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم.

[لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً]. ما قال لشطحتم ونصحتم وافتريتم وكذبتم وقلتم "سبحاني" وما في الجبة إلا الله، ويا خنزير عم صباحاً، ويا كلب عم مساءً.

وفي ختام هذا الفصل نقول من سمع آيات الله وكان من أهل الإيمان والتقوى خشع قلبه وقد تدمع عينه، ويقشعر جلده، ثم يلين لذكر الله كما قاله سبحانه وتعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد} (الزمر:23).

وقال أيضاً سبحانه وتعالى في وصف حال الأنبياء والرسل والمؤمنين عند سماع آيات الله بعد أن قص في سورة مريم أخبار طائفة من رسله وأنبيائه وأوليائه وهم زكريا ويحيى وعيسى ومريم وإبراهيم وموسى وهارون، وإسحاق ويعقوب، وإسماعيل وإدريس..:

{أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدوا وبكياً} (مريم: 58).

فليس عندهم عند سماع الآيات إلا السجود والبكي، وليس الشطح فهل هؤلاء الصوفية حقاً متأسون بالأنبياء والأولياء الصالحين أو أنهم صارخون مستصرخون من وخز الشياطين ولترويج عقائد الملحدين؟!

7- لقد شاهدت بنفسي كيف يصرع هؤلاء عند الذي يسمونه حالاً، والله لا أشك لحظة واحدة أنه وخز شيطان أو تصنع منافق خبيث، فقد كان أحدهم يقوم ويقعد ويصرخ ويزبد ويأخذ (بطاقيته) وقلنسوته وغترته أو عمامته فيلقيها على الأرض ويسارقنا النظر ونحن ننظر إليه راثين لأحوال هؤلاء الحمقى الذين يستفزهم الشيطان ويحركهم ويتلاعب بهم، وقد كان هؤلاء المطيرون الضاحكون يفعلون ذلك عندما كان يقال كلام كله كفر وشرك وغلو في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم يسمونه مدحاً وهو في الحقيقة ذم للرسول، وسب له.

فاعلم أخي المسلم أن هذا الشطح الذي يأتي مما يسمونه بالحال ما هو إلا وخز شيطاني وتحريك إبليسي، هذا عند الصادقين منهم، وأما الكاذبون فإنهم يفتعلون ما يفعلون لإيهام العامة والسذج بأنهم من أهل الأحوال ومن المشاهدين لما يسمونه بحضرة الجلال أو الجمال!! وذلك كله من الرياء والنفاق وسوء الأخلاق. ومخالفته هدي سلفنا الصالح والخروج على مناهج الأنبياء. فنسأل الله لنا ولإخواننا المسلمين السلامة والعافية مما ابتلي به هؤلاء.

الفصل الثالث

قواعد التربية في المنهج الصوفي

وضع المتصوفة لهم قواعد خاصة للتربية حسب منهجهم الصوفي فحددوا أهدافاً خاصة للتربية ووضعوا شروطاً في المريد (وهو اسم أطلقوه على الطالب أو المبتدئ) وشروطاً خاصة بشيخ الطريق، ومنازل يسير فيها السالك في دربهم. وقد بدأ وضع ملامح هذا المنهج منذ بدأ الفكر الصوفي في الظهور في أواخر القرن الثاني الهجري، وبلغ هذا المنهج الغاية تقريباً مع نهاية القرن الرابع الهجري حيث أسست الخانات والأماكن الخاصة التي يتجمع فيها الصوفية وكانوا يسمون بالفقراء أولاً.

وكانت لهم في هذا الوقت مشاعر خاصة، كالسماع والذكر الخاص، ورسوم وإشارات وملابس خاصة، ولم يكن لهؤلاء الفقراء أو المتصوفة في القرن الثالث وأوائل القرن الرابع شيخ خاص بكل فريق وإنما كانوا يتربون على ما يسمعونه ويتناقلونه من كلام مشايخهم بوجه عام. ولكن منذ أواسط القرن الرابع بدأ التربي على الشيخ الخاص وأن يكون لكل جماعة شيخ معلوم لا يتجاوزونه إلى غيره ثم يرثه بعد ذلك شيخ على منهجه وطريقته. وهكذا ومنذ ذلك الوقت عرف ما يسمى بالطريقة الخاصة. ثم تدرج الأمر وتحولت وراثة الطريق إلى وراثة النسب فكان الأبناء يرثون آباءهم في الطريق وأحياناً ما كانت الزوجات هن اللائي يرثن الأزواج وهن اللائي يسلكن المريدين ويعطين العهود.. باختصار تحولت الطريقة الصوفية في أواخر عهودها وخاصة بعد القرن العاشر الهجري إلى طرق وراثية، وإمارات خاصة وإقطاعيات دينية يرث فيها الأبناء جمهور الطريق والرعية التي كانت لآبائهم من قبل.

وعلى مر هذه العصور وضع المتصوفة لهم آداباً خاصة في التربية وشروطاً خاصة في المريد وها نحن نذكر لك بالتفصيل هذه الآداب والقواعد التي دونها علماء التصوف في كتبهم لينشأ لهم في النهاية الجيل الصوفي الذي يريدون.

أولاً- اتخاذ الشيخ:

أول ما يجب على مريد الطريق الصوفي أن يتخذ شيخاً له ليدله على الطريق. يقول عبدالكريم القشيري "ثم يجب على المريد أن يتأدب بشيخ فإن لم يكن له أستاذ فإمامه الشيطان" (القشيرية ص181)، وهذا النص قد كتبه سنة 387هـ وهو يدلك على أن قضية وجوب اتخاذ الشيخ قضية قديمة، واتخاذ الشيخ قد تفسر بأن لها سنداً من الكتاب والسنة في أن الرسول علم أصحابه والأصحاب علموا التابعين وهكذا، ولكن هذا استدلال من لا يعلم ماذا يعني الشيخ في الطريق الصوفي! إن الشيخ يعني شيئاً آخر تماماً كما ستأتي مواصفات الشيخ والشروط والآداب التي يجب مراعاتها معه.

والمهم هنا أن نعلم أن كون من لم يتخذ شيخاً لا يفلح أبداً ليس بصحيح فمن الممكن أن يهتدي المسلم بسماعه للقرآن وقراءته للحديث من شيخ أو طالب علم، أو كتاب ولا يشترط في الهداية الالتزام بشيخ معين بل لو سمع المسلم من عشرات الشيوخ لكان هذا أحكم له وأعلم وهكذا كان سلفنا الصالح يسمعون الحديث النبوي من أهله، والفقه من أهله، والقواعد العربية من أهلها، والتفسير من أهله وهكذا..

وأما في الطريق الصوفي فيجب عليك أن تتخذ شيخاً واحداً لا تحيد عنه ولا تلتفت إلى غيره بل لا يجوز أيضاً طلب العلم من غير أهل التصوف مطلقاً.

يقول القشيري بعد أن قرر في زعمه أن طائفة التصوف هم أهل الحق وأن علومهم أشرف العلوم:

".. فإذا كان أصول هذه الطائفة أصح الأصول ومشايخهم أكبر الناس وعلماؤهم أعلم الناس فالمريد الذي له إيمان بهم إن كان من أهل السلوك والتدرج إلى مقصدهم فهو يساهمهم فيما خصوا به من مكاشفات الغيب فلا يحتاج إلى التطفل على من هو خارج عن هذه الطائفة".

وقد قرر شيوخ التصوف من أهل الطرق الحديثة أن من ترك طريقتهم إلى طريقة غيرهم ابتلي بسوء الخاتمة. وهكذا فقد كان رجال التصوف قديماً يأمرون فقط بمجرد الانتساب والسلوك في الطريق الصوفي أياً كان الشيخ أو الطريقة، المهم أن يكون السالك (الموفق) حسب زعمهم سائراً في هذا الطريق غير ملتفت إلى غيره من مذاهب العلماء والفقهاء الذين يصفهم المتصوفة دائماً بأنهم علماء رسوم وطلاب دنيا، وتجار.. الخ الأوصاف التي يطلقونها على علماء الشريعة لتنفير الناس منهم. وانظر مثلاً إلى ما يقول القشيري في التنفير من سماع المريد إلى كلام غير كلام المتصوفة:

"ويقبح بالمريد أن ينتسب إلى مذهب من مذاهب من ليس من هذه الطريقة وليس انتساب الصوفي إلى مذهب من مذاهب المختلفين سوى طريقة الصوفية إلا نتيجة جهلهم بمذاهب أهل هذه الطريقة فإن هؤلاء حججهم في مسائلهم أظهر من حجج كل أحد وقواعد مذاهبهم أقوى من قواعد كل مذهب والناس إما أصحاب النقل والأثر وإما أرباب العقل والفكر وشيوخ هذه الطائفة ارتقوا عن هذه الجملة فالذي للناس غيب فهو لهم ظهور، والذي للخلق من المعارف ومقصود فلهم من الحق سبحانه موجود فهم من أهل الوصال (أي مع الله في زعمه) والناس أهل الاستدلال وهم كما قال القائل:

ليلي بوجهك مشرق                 وظلامه في الناس ساري

فالناس في صدف الظلام            ونحن في ضوء النهار"

(القشيرية ص180).

وها أنت ترى هنا أنه يقسم علماء الإسلام إلى ثلاثة أقسام: علماء النقل والأثر، وهم حملة القرآن والحديث والسير وعمل الصحابة والقسم الثاني من سماهم بأرباب العقل والفكر ويعني بهم الفلاسفة والمتكلمين كالمعتزلة والأشاعرة ونحوهم والفريق الثالث المتصوفة ومدح هؤلاء ويقول إن حججهم أظهر وقواعدهم أقوى وأن ما هو غيب عند الآخرين هو شهادة عند المتصوفة يعني أن المتصوفة يشاهدون الله والجنة والنار عياناً ولا يحتاجون إلى الاستدلال بالقرآن والسنة كما هو شأن علماء الأثر، ولا بالأدلة العقلية كما هو حال علماء الكلام والمنطق والجدل. أقول: كان الشأن في أول التصوف هو إلحاق المريد بركب المتصوفة أياً كانوا وكيفما كانوا، ولكن في العصور الحديثة أصبح التصوف دولاً، وإمارات خاصة، وإقطاعات دينية مستقلة، فالطريقة تدر على أصحابها وأربابها أرباحاً وفيرة ولذلك فلا بد من الاستحواذ على المريدين، وإدخالهم في سلك الطريقة الخاصة وعدم السماح لواحد منهم بتاتاً أن ينفلت من القيد الذي يوضع في رجليه والمقود الذي يوضع في رأسه وإلا ارتد عن دينه وعوقب بسوء الخاتمة. فالشيخ في الطريقة الصوفية ليس هو بتاتاً ما يعنيه الكتاب والسنة من اتخاذ المرشد والهادي والداعي إلى الله، وإنما هو التزام أبدي بطريقة خاصة ورجل خاص يقدسه حياً وميتاً. فشتان بين اتخاذ شيخ وإمام في دين الإسلام الصحيح واتخاذ شيخ صوفي ليكون رائداً للطريقة.

ثانياً - مواصفات الشيخ:

وليس كل شيخ يصلح أن يكون شيخاً في الطريق الصوفي بل لا بد أن يمر بمراحل الطريق من أولها إلى نهايتها، أو على الأقل أن يكون قد أخذ العهد من شيخ سابق أو والد له وقد أذن له الشيخ أو الأب بتسليك المريدين، وإدخالهم في الطريق وتلقينهم الأذكار الخاصة..، الخ.

وحتى تكون المشيخة الصوفية مشيخة معتبرة فقد اخترع المتصوفة قديماً شيئاً سموه السلسلة الصوفية وهذه السلسلة المزعومة هي عبارة عن سند مزعوم يتناقله الخلف عن أسلافهم زاعمين أن هذه السلسلة تنتهي (بالجنيد) الذي يسمونه سيد الطائفة وأن هذا الجنيد قد أخذها عن سري السقطي، والسقطي عن معروف، ومعروف عن داود الطائي، وداود الطائي عن حبيب العجمي، والعجمي هذا عن الحسن البصري، والحسن البصري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه..

يقول ابن عربي في فتوحاته:

"اعلم أنه قد صح وثبت بحكم النقل عند المشايخ (هذه الطريقة المتصوفة في الإسناد فلا ذكر لشيوخ النقل ولا كيف نقلوا)، أن علياً أمير المؤمنين دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، دلني على أقرب الطرق وأفضلها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليك يا علي، بما نلت ببركة النبوة. فقال علي: ما هذا يا رسول الله: قال عليه السلام: ذكر الله تعالى.. قال علي: يا رسول الله، هكذا فضيلة الذكر وكل الناس ذاكرون. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه يا علي، لا تقوم الساعة وعلى وجه الأرض من يقول: الله. الله، ثم قال: أحصيت، يا علي، حتى أنا أقوله ثلاث مرات وأنت تسمع مني فإذا أمسكت فقل أنت حتى أنا أسمع منك. هكذا لقن رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً، ثم لقن علي عليه السلام الحسن البصري، ثم لقن الحسن حبيباً العجمي، ثم لقن داود معروفاً الكرخي، ولقن معروف سري السقطي، وهو لقن أبا القاسم: الجنيد محمد بن البغدادي وعلى هذه السلسلة باقي المشايخ رحمهم الله" أ.هـ (الفتوحات المكية).

ولا شك أن هذا يدل بغير بيان على ما فيه من الباطل وأنه كذب من أوله إلى آخره فبين ابن عربي الذي افترى هذا الكلام والجنيد أكثر من ثلاثمائة سنة، وهو يقول هنا: اعلم أنه ثبت وصح بحكم النقل عند المشايخ؛ ما هذا (حكم النقل عن المشايخ)!! وهذه السلسلة إلى الحسن البصري سلسلة مظلمة والجنيد قد اتهم من علماء زمانه بالزندقة والكفر وهو صاحب الحلاج الذي أجمع المسلمون في عصره على كفره وزندقته وهذا الحديث عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لا أصل له فيما أعلم في كتاب صحيح من كتب السنة، وهو يخالف ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه يخص أهل البيت لا علياً ولا غيره بذكر خاص أو بعلم خاص امتثالاً لقوله تعالى {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعله فما بلغت رسالته} والجواب عن هذه الشبهة في مكان آخر من هذا الكتاب، أعني، شبهة أن الرسول قد كتم علماً وخص أناساً بعلم من علوم الشريعة أو بذكر خاص أو طريقة خاصة والشاهد هنا أن هذه الطريقة المزعومة كذب وافتراء على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى علي بن أبي طالب والحسن البصري رضي الله عنهم، وقد وضع ذلك المتصوفة ليوهموا الناس أن وحيهم الشيطاني الذي يدعونه، ومشاهداتهم الإبليسية التي يشاهدونها وعلومهم الخرافية التي يتناقلونها لها أصل من الإسناد، وهي متلقاة عن الرسول.

فعجباً لمن يحاربون الإسناد والحديث والنقل ثم يدعونه هنا لأنفسهم وهذا من تخبطهم وضلالهم فالإسناد لأهل الحديث كلام ميت عن ميت هذا زعمهم والإسناد لأهل التصوف شرف واتصال وعلم واتصال بالرسول فانظر وتعجب!!

* والمهم أن الشيخ في الطريق الصوفي يزعم أن له إسناداً متصلاً، وأنه قد أخذ عهداً عن شيوخ سابقين وأن شيوخه عن شيوخ وهكذا إلى الجنيد إلى الرسول.. ومن هؤلاء الشيوخ أهل التسليك من يقنع بأن يكون مجرد شيخ في الطريقة، ومنهم من ينفصل عن طريقته السابقة ويؤسس له طريقة خاصة باسمه ويؤلف ويبتدع لها من ثم أذكاراً خاصة ومشاعر خاصة.. ولكنه لا يقر طبعاً بالتأليف، والابتداع وإنما يزعم لأتباعه ومريديه أنه قد أخذ هذه الأذكار من الحضرة الإلهية هكذا أو من حضرة الرسول، أو من الخضر.. المهم أنه لا بد أن يكون للذكر الخاص صلة بالوحي الخاص، والإلهام.. وأن يكون للذكر الخاص هذا فضل عظيم لم ينله الأولون ويستحيل أن يناله الآخرون (واقرأ تفاصيل ذلك في الباب الخاص بالذكر الصوفي).

وبالطبع فإن هذا الشيخ الذي ينفرد بطريقة خاصة لا بد أن يجعل لنفسه من الشرف والمنزلة ما يؤهله لأن يتبعه الناس ويأخذوا عنه فيروي لنفسه من الكرامات والفضل والعلوم والكشف ما يتضاءل أمامه كل منازل الأنبياء والمرسلين (اقرأ الفصل الخاص بالولاية الصوفية).

وهكذا تعلم أن اتخاذ الشيخ في الطريق الصوفي ليس هو مجرد اتخاذ معلم قد اشتهر بالعلم والعمل والصلاح بل هو اتخاذ شيخ خاص له كرامات وكذلك له منهج خاص بتسليك المريدين.. وله كذلك حقوق خاصة.

ثالثاً - آداب المريد:

وقد وضع المتصوفة آداباً أوجبوها على المريد والسالك في الطريق الصوفي وهذه أهم هذه الآداب نقول تجاوزاً آداب وإنما هي في الحقيقة جهل وانحلال وعبودية وإذلال:

1- لا تخالف الشيخ مطلقاً فيما يأمرك به هذا هو المبدأ الأول والشرط الأول والأدب الأول للمريد، وأن تكون موافقة الشيخ بالقلب والجوارح فلا إنكار ولا مخالفة لشيء مما يقوله مطلقاً ولا اعتراض عليه بلسان أو بقلب وشعارهم دائماً:

"كن بين يدي شيخك كالميت بين يدي الغاسل"!!

يقول القشيري في بيان ما يجب على المريد: "وأن لا يخالف شيخه في كل ما يشير عليه لأن الخلاف للمريد في ابتداء حاله دليل على جميع عمره" (القشيرية ص182)

ويقول أيضاً:

"ومن شروطه أن لا يكون بقلبه اعتراض على شيخه" (القشيرية ص182).

ومن الأقوال يقصد بها بالطبع إماتة القلب واستسلامه للدواهي والمصائب التي سيتلقاها المريد في طريقه الصوفي. وإليك طائفة من الأقوال والحكايات الصوفية التي يراد من ورائها في النهاية استسلام المريد لشيخه ليعبث بعقله وقلبه كيف شاء.

2. لا يجوز الإنكار على شيوخ التصوف أبداً ولو مع المنكر دليل. يقول أحمد بن مبارك السلجماسي فيما يرويه عن شيخه الجاهل الأمي عبدالعزيز الدباغ:

"* واعلم وفقك الله أن الولي المفتوح عليه يعرف الحق والصواب ولا يتقيد بمذهب من المذاهب. ولو تعطلت المذاهب بأسرها لقدر على إحياء الشريعة وكيف لا وهو الذي لا يغيب عنه النبي صلى الله عليه وسلم طرفة عين!! ولا يخرج عن مشاهدة الحق جل جلاله في أحكامه التكليفية وغيرها وإذا كان كذلك فهو حجة على غيره وليس غيره حجة عليه لأنه أقرب إلى الحق من غير المفتوح عليه وحينئذ فكيف يسوغ الإنكار على من هذه صفته ويقال إنه خالف مذهب فلان في كذا، إذا سمعت هذا فمن أراد أن ينكر على الولي المفتوح عليه لا يخلو إما أن يكون جاهلاً بالشريعة كما هو الواقع غالباً من أهل الإنكار وهذا لا يليق به الإنكار والأعمى لا ينكر على البصير أبداً" (الإبريز ص192).

وهذا داهية الدواهي لأنه زعم أن الشيخ له مذهبه الخاص الذي يتلقاه من النبي رأساً ولا حاجة عنده إلى التلقي من أي مذهب فقهي لأي إمام مجتهد فلا تعترض أيها المريد على شيخك لأنه يتلقى الوحي غضاً طرياً، وهؤلاء العلماء عميان وهو مبصر!!

ويقول أيضاً شارحاً القصيدة الرائية في آداب المريد:

"فذو العقل لا يرضى سواه وإن نأى     عن الحق نأي الليل عن واضح الفجر

المعنى أن من له عقل سليم وطبع مستقيم لا يرضي سوى شيخه ويدور معه حيثما دار وإن بعد الشيخ في ظاهر الأمر عن الحق بعداً بيناً كبعد الليل من الفجر ويقول إن للشيخ في ذلك وجهاً مستقيماً عسى أن يطلعني عليه" أ.هـ (الإبريز ص203).

وهذا ظاهر في أنه لا يجوز الإنكار على الشيخ والخروج عنه، ولو خرج الشيخ عن الحق وظهر ذلك للمريد ظهور الفجر من الليل.

وليس هذا فقط هو المدى السيء الذي يريد المتصوفة جر المريد إليه بل هناك ما هو أشد من ذلك وأضل وهو ما يأتي في الفقرة الآتية:

3- يقول أحمد بن المبارك:

"(ومنها) أني سمعت الشيخ رضي الله عنه يقول جاء بعض المريدين لشيخ عارف فقال له يا سيدي القبول لله عز وجل. نعم، ثم أمره بالمقام عنده والعكوف على خدمته وأعطاه مسّاحة في رأسها كورة حديد زائدة لا نفع فيها إلا تثقيل المساحة وكان المريد هو وارث الشيخ بشرط أن لا ينتبه لكورة الحديد المذكورة فإن انتبه وقال ما فائدتها، ولأي شيء تصلح، ولا معنى لها إلا التثقيل فإنه لا يرث شيئاً. قال رضي الله عنه فبقي في خدمته سبع سنين وهو يخدم بالفأس ولا يتحرك له عرق وسواس ولا هزته عواصف رياح الشيطان وصارت الكورة المذكورة بمنزلة العدم الذي لا يرى ولا يسمع فهذه مسألة الصادقين الموفقين رضي الله عنهم والله تعالى الموفق" (الإبريز ص178).

فانظر كيف يكون المريد (الصادق) في زعمهم مع شيخه. إنه الذي ينفذ ما يأمره به الشيخ ولا يسأله عنه بتاتاً ولو كان شيئاً غير معقول المعنى ولا فائدة أصلاً منه.ككرة الحديد هذه التي كانت في رأسها المساحة (الفأس). وقد جعلوا صدق المريد عدم سؤال شيخه عن هذه (الكورة) التي لا تقع منها. وليت الأمر وقف عند هذا الحد ولكن...

4- لم يقتصر الأمر على طاعة الشيخ فيما لا فائدة منه ولا معقولية له بل تعدى الأمر ذلك إلى الاعتقاد أن للشيخ شريعته الخاصة، ودينه المستقل فله أن يشرب الخمر، أو يزني وليس لمريده أن يسأل عن شيء من ذلك. يقول السلجماسي أيضاً:

"قال محيي الدين العربي (رضي الله عنه) ومن شروط المريد أن يعتقد في شيخه أنه على شريعة من ربه ونبيه منه ولا يزن أحواله بمسيرته أنه فقد تصدر من الشيخ صورة مذمومة في الظاهر وهي محمودة في الباطن والحقيقة يجب التسليم وكم من رجل كأس خمر بيده ورفعه إلى فيه وقلبه الله في فيه عسلاً والناظر يراه شرب خمراً وهو ما شرب إلا عسلاً ومثل هذا كثير وقد رأينا من يجسد روحانيته على صورة ويقيمها في فعل من الأفعال ويراها الحاضرون على ذلك الفعل فيه ولو رأيناه فلا يفعل كذا وهو عن ذلك الفعل بمعزل وهذه كانت أحوال أبي عبدالله المصلي المعروف بقضيب البان وقد رأينا هذا مراراً في أشخاص" أ.هـ (الإبريز ص202).

وهذا الذي نقله أحمد بن مبارك السلجماسي عن ابن عربي مقرراً ومتبعاً له هو ما عليه عامة الصوفية بعد ابن عربي الذين يعتقدون أن للشيخ الصوفي (الكامل) أن يفعل ما  يشاء من المعاصي ولا حرج عليه ولا يجوز أن يظن المريد خلاف الخير لأن الخمر التي يراها المريد خمراً تنقلب عينها في الشيخ فتكون له لبناً أو عسلاً. أو أن الشيخ يشكل نفسه على النحو الذي يظهر منه الفسق والخروج على الشريعة ليؤدب المريدين ويعلمهم أن يثقوا بشيخهم ولو رأوه يفعل منكراً. أقول: وقد حدثني أستاذي وشيخي الشيخ محمد عبدالوهاب البنا حفظه الله أنه شاهد أباه وكان من هيئة كبار العلماء في الأزهر يشتري قارورة الخمر بنفسه ويعطيها لشيخ له في الطريق، ولما كلمه الشيخ محمد عبدالوهاب البنا في ذلك. قال له: يا بني إنها تنقلب في بطن الشيخ فتكون لبناً!!.. فانظر كيف يفعل مثل هذا الكلام في المريدين فيجعلهم يعتقدون في شيوخهم العصمة حتى لو رأوهم على المعصية جهاراً نهاراً، وهذا غاية في إلغاء العقول والأفهام وذلك حتى تتلقى هذه العقول ما هو شر من ذلك وأقبح من الكلام في العقائد وأصول الدين كلاماً وكفراً وزندقة لم يقلها اليهود ولا النصارى ولا المجوس.

ولم يكتف دهاقنة الفكر الصوفي بمثل هذا بل وضعوا آلاف الحكايات والروايات ليحملوا المريدين حملاً على الاستسلام لشيوخهم مهما فعلوا أمامهم وأن يطيعوهم مهما أمروهم. يقول أحمد بن مبارك أيضاً:

"(رأيت) في كتاب محيي الدين تلميذ تاج الدين الذاكر المصري رحمهما الله تعالى أن رجلاً جاء إلى بعض الأكابر فقال له يا سيدي أريد منكم أن تعطوني السر الذي خصكم الله به فقال الشيخ إنك لا تطيق ذلك. فقال المريد: أطيقه وأقدر عليه فامتحنه الشيخ بأمر سقط منه على أم رأسه وذلك أنه كان عند الشيخ مريد شاب حَدَث أبوه من الأكابر فلما قال ذلك المريد أنا أطيق السر. قال له الشيخ: إني سأعطيك إن شاء الله السر فأمره بالمقام عنده، ثم إن الشيخ أمر الشاب الحدث بالاختفاء في مكان بحيث لا يظهر لأحد، وأدخل الشيخ خلوته كبشاً فذبحه وجعل على ثيابه شيئاً من الدم فخرج على المريد السابق والسكين في يده والدم يسيل على يده وهو في صورة الغضبان فقال المريد ما عندكم يا سيدي؟ فقال: إن الشاب الفلان أغضبني فما ملكت نفسي أن ذبحته فها هو في ذلك المكان مذبوح يشير إلى الخلوة التي ذبح فيها الكبش فإن أردت السر يا ولدي فاكتم هذا الأمر ولا تذكره لأحد وإن سألني عنه أبوه فإني أقول له مرض ولدك ومات فإنه يصدقني ويحصل على المسألة لطف فعساك يا ولدي تساعدني على هذا الأمر وتسترني فيه فإن فعلت فأنا أعطيك السر إن شاء الله تعالى فقال له المريد وقد تمعر وجهه وظهر غيظه حيث ظن أن الشيخ في قبضته سأفعل بكلام يظهر فيه الكذب ففارق الشيخ وذهب سريعاً إلى والد الشاب وأعلمه بالقصة وقال له إن الشيخ الكذاب الذي كنتم تعتقدون فيه الخير قتل ولدكم في هذه الساعة وجعل يرغبني أن أستر ويطلب مني أن أكتمه عنكم وإن شككتم في الأمر فاذهبوا معي الساعة فإنكم تجدون ولدكم يتشحط في دمه فقال له الناس: ويحك فإن سيدي فلاناً لا يفعل هذا ولعل الأمر شبه عليك. فقال لهم: اذهبوا معي حتى يظهر صدقي أو كذبي ففشا قوله في الناس وسمع به أرباب الدولة فأقبلوا إلى الشيخ سراعاً والمريد أمامهم حتى وقفوا على خلوة الشيخ فقرعوا الباب فخرج الشيخ وقال لهم: ما لكم وأي شيء أقدمكم، فقالوا له: ألا تسمع ما يقول هذا (يشيرون إلى المريد). فقال له الشيخ: وأي شيء كان. فقال له المريد: الذي كنت ترغبني فيه وتطلب مني كتمانه هو الذي كان. فقال الشيخ: ما وقع بيني وبينك شيء وما كلمتك قط (انظر إلى هذا الكذب المبين) فقال المريد: الكذب لا ينجيك قد قتلت ولد الناس. فترامى الناس على الشيخ من كل ناحية.. قتلت ولد الناس فالآن نقتلك عدو الله.. تغش الناس في عبادتك وتخدعهم بخلوتك. فقال الشيخ: سلوه من أين علم بأني قتلته. فقال المريد: ألم تخرج علي وأثر الدم على يديك وثوبك. فقال الشيخ: نعم وقد ذبحت شاة. فقال المريد: فلندخل إلى الخلوة إن كنت صادقاً. فدخلوا فوجدوا شاة مذبوحة. فقال المريد: إنما أخفيت القتيل وأظهرت هذه الشاة في موضعه لئلا تقتل به. فقال الشيخ: أرأيت إن خرج الشاب ولا بأس عليه أتعلم الناس من الكاذبين الذين لا يفلحون. فقال المريد: فأخرجه إن كنت صادقاً. فأرسل الشيخ إلى الفتى فخرج ولا علم عنده بما وقع فلما رآه الناس تضرعوا إلى الشيخ وجعلوا يسبون المريد الكاذب وعند ذلك قال له الشيخ: ألست تزعم يا كذاب (بل الشيخ هذا هو الكذاب اللعين الذي يريد إلغاء عقل تلميذه قبل أن يطلعه على الأسرار المزعومة) أنك تطيق السر وتقدر عليه فما بالك لم تقدر على كتم هذا الأمر الذي لم يكن منه شيء، وإنما صنعنا معك هذا لدعواك أنك تطيق السر، فاذهب فقد أعطيناك السر الذي يليق بأمثالك، فكان ذلك المريد من يومه موعظة للمعتبرين نكالاً للمدعين الكاذبين. نسأل الله بمنه التوفيق" (الإبريز ص188).

فانظر في هذه الحكاية؛ كيف يعلم المريد على طاعة أمر الشيخ بمثل هذا الفعل الشيطاني، حتى لا يكون بعد ذلك فكاك عن القيد الذي يقيده به شيخه، بل يروي أحمد بن المبارك عن شيخه كذلك عشرات بل مئات الحكايات التي تصب كلها في هذا المص وانظر هذه الحكاية:

"سمعت من الشيخ يعني (عبدالعزيز الدباغ) رضي الله عنه يقول كان بعض من أراد الله رحمته في الماضين يحب الصالحين فألقى الله في قلبه أن خرج من ماله فباعه وجمع ثمنه فذهب به لبعض من شهر عنه الصلاح وكانت تقصده الوفود من النواحي فذهب إليه هذا المرحوم بجملة ماله حتى بلغ بلده فسأل عن داره فدل عليها فدق الباب ففتح الخادم فقال: ما اسمك فقال: عبدالعلي. وكان الشيخ المشهور بالولاية من العصاة المسرفين على نفوسهم (انظر كيف كان الشيخ الولي عاصياً مسرفاً على نفسه ومع ذلك فهو عند المتصوفة ولي عنده أسرار!!) وكان له نديم يتعاطى معه الشراب وغيره اسمه عبدالعلي فوافق اسمه اسم هذا المرحوم، فذهبت الجارية فقالت للشيخ، اسم هذا الذي دق الباب عبدالعلي. فقال وظن أنه نديمه: ائذني له. فدخل على الشيخ فوجد الشراب بين يديه وامرأة فاجرة معه ورزقه الله تعالى الغفلة عن ذلك كله (انظر إلى الكذب الواضح) فتقدم إليه فقال: يا سيدي سمعت بك من بلادي وجئتك قاصداً لتدلني على الله عز وجل وهذا مالي أتيتك به. فقال الشيخ (يتقبل الله منك) ثم أمر الجارية أن تدفع له رغيفاً فأخذه وأعطاه الفأس وأمره بالخدمة في بستان للشيخ عينه له. فذهب المرحوم من ساعته ونفسه مطمئنة وقلبه مسرور بقبول الشيخ له فذهب فرحاً للخدمة وقد لقي نصباً من سفره للشيخ وما استراح حتى بلغ البستان وجعل يخدم بفرح وسرور ونشاط نفسي فكان من قدر الله عز وجل وحسن جميله بذلك المرحوم أن صادف مجيئه للشيخ الكاذب المسرف وفاة رجل من أكابر العارفين وكان من أهل الديوان فحضر وفاته الغوث والأقطاب السبعة فقالوا له يا سيدي فلان: كم مرة ونحن نقول لك اهبط إلى المدينة من مدن الإسلام فعسى أن تلقى من يرثك في سرك ولم تساعد فالآن حانت وفاتك فيضيع سرك وتبقى بلا وارث فقال لهم يا سادتي قد ساق الله إلى من يرثني وأنا في موضعي فقالوا له ومن هو؟ فقال: عبدالعلي الذي وفد على فلان المبطل فانظروا إلى حسن سريرته مع الله عز وجل وإلى تمام صدقه ورسوخ خاطره ونفوذ عزمه وصلابة جزمه فإنه رأى ما رأى ولم يتزلزل له خاطر ولا تحرك له وسواس؛ فهل سمعتم بمثل هذا الصفاء الذي في ذاته أتوافقون على إرثه؟. فقالوا: نعم. فخرجت روح الولي واتصل سيدي عبدالعلي بالسر وأثابه الله عز وجل على حسن نيته فوقع له الفتح وعلم من أين جاءته الرحمة وأن الشيخ الذي وفد عليه مسرف كذاب وأن الله تعالى رحمه بسبب نيته لا غير والله الموفق" (الإبريز ص186) أ.هـ.

فانظر كيف أن المريد (الصادق) أعطى ماله كله لشيخ يقيم على الزنا والخمر (وهو في غفلة من ذلك.. عجباً).. وكيف يقوم المريد الصادق بخدمة هذا الشيخ الزنديق الفاسق وأصبح مجرد فلاح أو مزارع في بستانه يخدم الفاجرات ويقدم الخمور، ويهيء المزرعة للشيخ الأستاذ.. وكانت المكافأة أن مات شيخ آخر معه السر فاختار ذلك المريد البعيد واتصل بروح وأعطاه السر.. ويستطرد أحمد بن مبارك هذا أيضاً فيقول:

"وسمعت من غير الشيخ رضي الله عنه أن بعض الأكابر كان له عدة أصحاب وكان لا يتخيل النجابة إلا من واحد منهم فأراد أن يختبرهم ففروا بجملتهم سوى ذلك الواحد وذلك أنه تركهم على باب خلوته فأظهر لهم صورة امرأة فدخلت الخلوة فقام الشيخ فدخل معها فأيقنوا أن الشيخ اشتغل معها بالفاحشة فتفرقوا كلهم وخسرت نيتهم إلا ذلك الواحد فإنه ذهب وأتى بالماء وجعل يسخنه يقصد أن يغتسل به الشيخ فخرج عليه الشيخ فقال: ما الذي تفعل؟ فقال: رأيت المرأة دخلت فقلت لعلك بحاجة إلى غسل فسخنت لك الماء. فقال له الشيخ: وتتبعني بعد أن رأيتني على المعصية. فقال: ولم لا أتبعك والمعصية لا تستحيل عليك، وإنما تستحيل في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولم أخالطك على أنك نبي لا تعصي وإنما خالطتك على أنك بشر وأنك أعرف مني بالطريق ومعرفتك بالطريق باقية فيك والوصف الذي عرفتك عليه لم يزل فلم تتبدل لي نية ولا يتحرك لي خاطر. فقال له الشيخ: يا ولدي تلك الدنيا تصورت بصورة امرأة وأنا فعلت ذلك عمداً لينقطع عني أولئك القوم. فادخل يا ولدي وفقك الله معي إلى الخلوة فهل ترى امرأة فيها فدخل فلم يجد امرأة فازداد محبة على محبته والله الموفق" (الإبريز ص188) أ.هـ.

وهذه الحكاية تزيد على أن المريد الذي رأى شيخه يخرج من خلوة مع زانية معلومة مشهورة قام فسخن له الماء.. أليس هذا إلغاء تاماً للعقول، وغسلاً للأمخاخ من أي فكر أو حمية أو غيرة دينية أو عاطفية صادقة.

واقرأ أيضاً هذه الحكاية لترى العجب العجاب.. كان المريد يرى شيخه على الزنا، ويصلي وهو جنب من زنا والماء بجواره، ثم يشرب الخمر وكل هذا لم يحرك شيئاً في المريد الصادق.. قال صاحب الإبريز:

"وسمعته (رضي الله عنه) يقول: كان لبعض العارفين بالله عز وجل مريد صادق وكان هو وارث سره فأشهده الله تعالى من شيخه أموراً كثيرة منكرة ومع ذلك لم يتحرك له وساوس فلما مات شيخه وفتح الله عليه شاهد تلك الأمور وعلم أن الصواب مع الشيخ فيها، وليس فيها ما ينكره شرعاً إلا أنها اشتبهت عليه، في ذلك أن امرأة كانت من جيران الشيخ وكانت تذكر بالسوء اشتبهت بين باب الدار وبين البيوت وكان المريد لا يبلغ إليه وإنما يقف بالباب فاتفق أن دخلت المرأة المشهورة بالسوء على المريد وهو بالباب فجازت للدار واتفق أن خرجت امرأة الشيخ الشبيهة بها فدخلت على الشيخ الخلوة وكان الشيخ أرسل إليها ليقضي حاجته منها فدخلت وقام إليها الشيخ ومرت الشبيهة بها نحو البيوت فرمى المريد ببصره إلى الخلوة فرأى المرأة مع الشيخ وهو يقضي حاجته منها فما شك أنها المشهورة بالسوء، وربط الله على قلبه فلم يستفزه الشيطان ثم خرجت المرأة وحانت الصلاة فخرج الشيخ للصلاة وتيمم وكان به مرض منعه من الاغتسال فما شك المريد أن الشيخ قد تيمم من غير ضرورة وربط الله على قلب المريد وكان بالشيخ مرض منعه من هضم الطعام فصنعوا له ماء الفلنيص عصروه وأتوا له بمائه ليشربه فدخل المريد فوجده يشربه فما شك أنه ماء خمر وربط الله على قلبه فلم يتحرك عليه وسواس فلما فتح الله عليه علم أن المرأة التي وطئها الشيخ امرأته لا المرأة المشهورة بالسوء وعلم أن التيمم الذي فعله الشيخ لضرر كان بجسده وعلم أن الماء الذي شربه الشيخ ماء فلنيص لا ماء خمر والله الموفق" (الإبريز ص178) أ.هـ.

ولست أدري كيف يتأتى هذا التخليط: شيخ مريض عاجز عن الوضوء ولكنه قادر على الزنا وشرب الخمر.. وما معنى قول الكاتب في هذه القصة وربط الله على قلبه.. والحق أن يقال وطمس الله أبصارهم وبصائرهم. والعجب أنهم لم يكتفوا بطمس أبصار المريدين وبصيرتهم حتى لا يروا ما عليه شيوخهم من الفسق والفجور بل جعلوا رؤية ما عليه هؤلاء الشيوخ دليلاً على شقاوة المريدين، والمشاهدين.

يقول صاحب الإبريز أيضاً:

"(وسمعته رضي الله عنه) يقول: إن الولي الكبير فيما يظهر للناس يعصي وهو ليس بعاص وإنما روحه حجبت ذاته فظهرت في صورتها فإذا أخذت في المعصية فليست بمعصية لأنها إذا أكلت حراماً مثلاً فإنها بمجرد جعلها في فيها فإنها ترميه إلى حيث شاءت وسبب هذه المعصية الظاهرية شقاوة الحاضرين والعياذ بالله تعالى فإذا رأيت الولي الكبير ظهرت عليه كرامة فاشهد للحاضرين بأن الله تعالى أراد بهم الخير أو معصية فاشهد بشقاوتهم وكما أن أرواحهم هي التي تتولى كراماتهم كذلك هي التي تتولى معاصيهم الظاهرة والله أعلم" (الإبريز ص196).

أليس من العجيب أن يكون مثل هذا الفكر منسوباً إلى المسلمين وجزءاً من تراثهم الذي يتوارثونه ويحسبه من يحسبه منهم كتباً للهداية والدلالة على الله.

ولم يكتف أرباب الفكر الصوفي بجعل معاصي الشيوخ من شؤم من يشاهدونها من الناظرين بل جعلوا الشيخ ربما تعمد المعصية خشية على ذاته الترابية أن تتحول من شدة التجلي إلى ذات نورانية فتتلاشى!!..

يقول السلجماسي أيضاً:

"وسمعته (رضي الله عنه) يقول: إن الولي قد يغلب عليه الشهود فيخاف على ذاته الترابية من التلاشي فيستعمل أموراً ترده إلى حسه وإن كان فيها ما يعاب عليه من باب إذا التقى ضرران ارتكب أخفهما فإذا رآه شخص ارتكب ذلك الأمر ولا يعلم الوجه الذي ارتكبه لأجله ربما بادر إلى الإنكار عليه فيحرم بركته وقد تقرر في الشرع أي في الشريعة المطهرة أن العضو إذا أصابته الأكلة وخيف على الذات منها فإنه يباح قطعه لتسلم الذات مع أن العضو معصوم ولكنه من باب إذا التقى ضرران ارتكب أخفهما وكذلك الشخص إذا خاف على نفسه من الهلاك من شدة الجوع فإنه يباح له أكل الميتة حتى يشبع ويتزود منها"..

وهذا اعتذار في غاية القبح وكذب في غاية الوضوح لأن الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم كان الوحي يتنزل عليهم والملائكة تكلمهم وما كانوا يخشون على ذاتهم الترابية.. وأنا أعلم أن مثل هذه الحجج لا تناقش لأنها لا تنطلي إلا على سذج وأغبياء أو أناس فقدوا عقولهم وصوابهم ولكن ماذا نعمل إذا كان العالم الإسلامي قد ابتلي بهؤلاء وأفسدوا أجيالاً كثيرة من أبناء المسلمين وانظروا إلى الحكاية الآتية:

يقول أحمد بن مبارك:

"قال (رضي الله عنه) وإذا أراد الله شقاوة قوم وعدم انتفاعهم بالولي سخرهم الحق فيما هم فيه من قبح ومخالفة فيظنون أنه على شاكلتهم وليس كذلك حتى إنه يتصور في طور ولاية أن يقعد الولي مع قوم يشربون الخمر وهو يشرب معهم فيظنونه شارب خمر وإنما تصورت روحه في صورة من الصور وأظهرت ما أظهرت وفي الحقيقة لا شيء وإنما هو ظل ذاته تحرك فيما تحركوا فيه مثل الصورة التي تظهر في المرآة إنك إذا أخذت بالكلام تكلمت وإذا أخذت في الأكل أكلت وإذا أخذت في الشرب شربت وإذا أخذت في الضحك ضحكت وإذا أخذت في الحركة تحركت وتحاكيك في كل ما يصدر منك وفي الحقيقة لم يصدر منها أكل ولا غيره لأنها ظل ذاتك وليست بذاته الحقيقية فإذا أراد الله شقاوة قوم ظهر الولي معهم بظل ذاته وجعل يرتكب ما يرتكبون والله الموفق" (الإبريز ص195).

والعجب أن هؤلاء الذين هذا هو مستواهم في التقوى والعلم والصلاح وهذه هي أخلاقهم وأعمالهم استطاعوا أيضاً الاستحواذ على أموال الناس. وهذا باب واسع جداً سنبسطه في غير هذا الموضع إن شاء الله تعالى ولكننا نذكر هنا هذه الحكاية من حكاياتهم لنبين كيف يربي المريد أيضاً على سلب ماله وإعطائه لشيخه بل سلب عقله وشرفه..

قال ابن مبارك أيضاً:

"سمعته (رضي الله عنه) يقول كان لبعض المريدين أخ في الله عز وجل فمات ذلك الأخ وبقي المريد فجعل إذا فتح الله عليه بشيء يقسمه بين أولاده وبين أولاد الأخ في الله وكان لهذا المريد أرض مع إخوته فبعث عليهم من جانب المخزن ظلماً فلما أخذوا ثمنها كان نصيب المريد منها أربعين مثقالاً (سكة زماننا) فقال له إخوته ما تفعل بدراهمك فقال أقسمها بيني وبين أولاد أخي في الله؛ فاستحمقوه وقالوا ما رأينا مثلك في نقصان العقل تسبب (أي تاجر بها وأبذل سبباً لنمائها) بدراهمك واشتر بها كذا واصنع بها كذا واترك عنك هذه الحماقة التي أنت مشتغل بها فأرادت نفسه أن تميل إلى قولهم فقال لها يا نفسي ما تقولي لله عز وجل إذا وقفت بين يديه غداً حيث يقول لي رزقتك أربعين مثقالاً فاستأثرت بها وضيعت حق الأخوة فاليوم أضيعك كما ضيعتها فوفقه الله فقسم الدراهم بينه وبين أولاد أخيه في الله فلما خرج من عندهم فتح الله عليه وأعطاه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وجعله من العارفين لصدق نيته ولصداقة عزمه ونفوذ جزمه والله الموفق" (الإبريز ص178).

5- وحتى يتم تذليل المريد تذليلاً كاملاً ويلغي عقله إلغاءً تاماً فإن شيخه يأمره بأوامر في غاية الغرابة بل فيها المعصية الواضحة والكفر الصريح امتحاناً لطاعته، ومعرفة من الشيخ هل بقي من المريد مسكة عقل، أو أثارة علم، أو بقية غيرة أو دين غير الدين الصوفي الباطني فبعضهم يأمرون مريدهم بإحضار زوجاتهم لشيوخهم ليختلي بهن فإن تلكأ أو شك في عفة الشيخ علم أنه غير صادق وشيخ آخر يأمر تلاميذه ومريديه بما هو أقبح من ذلك وهذه بعض حكاياتهم في هذا الصدد.

يقول أحمد بن مبارك مبيناً كيف يكون المريد صادقاً مع شيخه مطيعاً له ولو أمره بقتل والديه يقول: "سمعت من الشيخ رضي الله عنه قال كان لبعض المشايخ مريد صادق فأراد أن يمتحن صدقه يوماً فقال له يا فلان أتحبني قال نعم يا سيدي فقال أرأيت إن أمرتك أن تأتيني برأس أبيك أتطيعني فقال يا سيدي فكيف لا أطيعك ولكن الساعة ترى فذهب من حينه وكان ذلك بعد أن رقد الناس فتسور جدار دارهم وعلا فوق السطح ثم دخل على أبيه وأمه في منزلهما فوجد أباه يقضي حاجته من أمه فلم يمهله حتى يفرغ من حاجته ولكن برك عليه وهو فوق أمه فقطع رأسه وأتى به للشيخ وطرحه بين يديه فقال له ويحك أتيتني برأس أبيك فقال يا سيدي نعم أما هو هذا فقال ويحك إنما كنت مازحاً فقال له المريد أما أنا فكل كلامك عندي لا هزل فيه فقال له الشيخ رضي الله عنه انظر هل هو رأس أبيك فنظر المريد فإذا هو ليس برأس أبيه فقال له الشيخ رأس من هو فقال له رأس فلان العلج قال وكان أهل مدينتهم يتخذون العلوج كثيراً بمنزلة العبيد السودانيين قال وكان أبوه غاب تلك الليلة فخانته زوجته في الفراش وواعدت عليه كافراً ومكنته من نفسها وكوشف الشيخ (رضي الله عنه) بذلك فأرسل المريد ليقتله على الصفة السابقة ليمتحن صدقه فعلم أنه جبل من الجبال فكان وارث سره والمستولي بعده على فتحه والله الموفق" (الإبريز ص186).

وهذه الحكاية الملفقة المكذوبة ما أريد بها إلا تعليم السالك في طريق التصوف أن يطيع أمر الشيخ مهما كان ولو أمره بقتل والديه وأن تنفيذه لأمر الشيخ خير له بكل حال.. فأين هذا من قول الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم} (الممتحنة:12).

فانظر إلى قوله تعالى {ولا يعصينك في معروف} فاشترط سبحانه طاعة النبي في المعروف علماً أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بالمعروف ولكن هذا ليتعلم غير النبي أنه ليس له أن يأمر إلا بمعروف وليس لأحد أن يطيعه إلا في معروف.. ولذلك لما أمر رسول الله أميراً على عدد من المسلمين في سرية ما قال هذا الأمير لأصحابه ألست أميركم قالوا بلى، قال ألم يأمركم الرسول بطاعتي قالوا بلى، قال: فإني آمركم أن تدخلوا هذه النار، وكان قد جمع حطباً وأشعله، فقالوا: والله ما آمنا إلا فراراً من نار الآخرة فكيف ندخل النار الآن..

ولما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الواقعة قال صلى الله عليه وسلم والله [لو دخلوها ما خرجوا منها] (رواه مسلم). 

ولكن الأمر يختلف تماماً عند مشايخ التصوف إذ العلوم والأسرار التي يجب على المريد أن يتلقاها من شيخه بالغة مبلغها في القبح والنكارة وما لم يكن المريد متهيئاً لقبول هذه الدواهي فإنه حتماً سينفر ويخرج من الطريق ولذلك فلا بد من تهيئته تهيئة كاملة. وتوطئته لتحمل العقيدة الصوفية.. إذ كيف سيفاجئ الشيخ مريده عندما يطلب منهل المريد السر الصوفي كيف سيقول له يا بني اعلم أنه ليس هناك إله غيري وغيرك فما هذا العالم الذي نعيش فيه إلا الله بكل مظاهره ومصنوعاته فهو عالم قد خلق نفسه بنفسه لنفسه فليس ثم غير.. كيف سيستطيع المريد تقبل ذلك كله إلا أن يكون الشيخ الصوفي قد تمكن من عقل مريده عن آخره من دينه إلى نهايته ومن أخلاقه وشرفه حتى لا يبقى من ذلك شيئاً إلا عبادة شيخه والتصديق أنه وساطته إلى الله وأنه لا نجاة له ولا فلاح له، إلا أن يكون هذا الشيخ هو كل شيء في حياته.. هذه هي الغاية التي يسعى إليها الفكر الصوفي من التربية وهي نقل هذه الأفكار الفلسفية الخبيثة إلى أذهان أبناء الإسلام ولذلك فلا بد من سلخهم أولاً من الدين حتى يكونوا بعد ذلك مطية سهلة لهؤلاء الشيوخ يغرسون في أذهانهم ما شاءوا من الخرافات والخزعبلات والهذيان الذي لم تعرف البشرية في كل عصورها مثالاً له..

6- لا حركة ولا سكون للمريد إلا بإذن الشيخ:

الأدب السادس من آداب المريد الصوفي مع شيخه أنه لا يجوز له أن يتحرك أو يسكن، أو يتصرف في نفسه أو ماله أو زوجته، أو سفره أو إقامته إلا بإذن شيخه، وأنه لا يجوز أن يجلس في مجلسه إلا بإذنه وأن يظهر قدمه أمام شيخه، أو يرفع صوته، أو يسأله من عند نفسه لأن الشيخ أعلم بما في نفس مريده فلا يجوز أن يبدأ بالسؤال، أو يستفسر عن إشكال وإنما ينتظر في كل ذلك ما يجود به شيخه.. لأنه في زعمهم هو أعلم بحاله.. وليس وراء ذلك عبودية في الأرض.. والعجيب أن المتصوفة قد أخذوا كل الحقوق والخصوصيات التي جعلها الله لرسوله فجعلوها حقاً أيضاً للشيوخ فانظر مثلاً ما يقوله صاحب الرائية وما يشرح به أحمد بن مبارك:

"قال:

ولا ترفعوا أصواتكم فوق صوته   ولا تجهروا كجهر الذي هو في قفر

يقول السلجماسي: والله أعلم لا ترفعوا أيها المريدون أصواتكم فوق صوت الشيخ فإن ذلك يخل بالأدب ولا تجهروا له بالقول كجهر سكان القفار والبوادي الذين معهم جفاء وجلافة ولكن عظموه وفخموه وقولوه يا سيدي ويا أستاذي ويا ولي الله ونحو ذلك وأصل هذا الكلام الآية الشريفة {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} قال السهروردي في العوارف (رضي الله عنه) ومن تأديب الله تعالى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله {ولا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} كان ثابت بن قيس بن شماس في أذنه وقر وكان جهوري الصوت وكان إذا تكلم جهر بصوته وربما كان يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فيتأذى بصوته فأنزل الله الآية تأديباً له ولغيره ثم قال بعد أن ذكروا آية في سبب نزولها وأنها نزلت في منازعة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بحضرته قال فكان عمر بعد ذلك إذا تكلم عند النبي صلى الله عليه وسلم لا يسمع كلامه حتى يستفهم وقيل لما نزلت الآية إلى أبو بكر أن لا يتكلم عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا كأخفى السر فهكذا ينبغي أن يكون المريد مع شيخه فلا ينبسط برفع الصوت وكثرة الضحك والكلام إلا إذا باسطه الشيخ" انتهى (الإبريز ص256).

وقد غاب عن هؤلاء الذين قرروا لشيوخهم ما أمر الله به نحو رسوله لمنزلته الخاصة غاب عنهم أن الله سبحانه وتعالى قال {كجهر بعضكم لبعض} فالمسلمون من شأنهم أن يجهر بعضهم في الكلام لبعض وأما مع النبي صلى الله عليه وسلم فيجب أن يكون للمسلمين معه أدب خاص في معاملتهم له صلى الله عليه وسلم..

وليت أنهم أعطوا الشيخ من الحقوق ما يجب على المسلم نحو الرسول واكتفوا بذلك بل جعلوا لشيوخهم من الحقوق على مريديهم ما لم يجعله الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم فقد جعلوا من حق الشيخ أن لا تنطق عنده إلا بإذنه وأن تطيل إذا أحب منك الإطالة وتختصر إذا أراد الاختصار.

قال صاحب الرائية:

"ولا تنطقن يوماً لديه فإن دعا   إليه فلا تعدل إلى الكلم النزر

وقال الشارح يقول والله أعلم لا تنطق في وقت من الأوقات عند شيخك فإن سألك عن شيء فلا تعدل عن الجواب الذي تدعو إليه الحاجة إلى الإكثار والتطويل فإن ذلك يزيل هيبة الشيخ وهذا والله أعلم ما لم يطلب منه الشيخ الإكثار من الكلام فإن طلب منه ذلك وكان للشيخ فيه غرض فإنه ينبغي له حينئذ الإسهاب والتطويل مراعياً خاطر الشيخ فإذا رآه شبع من الكلام فإنه يجب عليه الرجوع إلى أدبه وقد سبق ما كان يقوله لنا الشيخ رضي الله عنه حين يغيب في المشاهدة أهدروا علي كثيراً فإن الله يأجركم على ذلك يعني لأنه يرجع بذلك إلى حسه. أصل هذا الكلام الذي في البيت لصاحب العوارف قال فيها بعد أن ذكر تأويلات في قوله تعالى {لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} وقيل نزلت في أقوام كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء خاضوا فيه وتقدموا بالقول والفتوى فنهو عن ذلك وهكذا دأب المريد في مجلس الشيخ ينبغي أن يلزم السكون ولا يقول شيئاً بحضرته من كلام حسن إلا إذا استأمر الشيخ في ذلك ووجد من الشيخ فسحة" أ.هـ (الإبريز ص205).

وقد جاوزوا هنا ما أمر الله به المسلمين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} معناها أي لا تفتوا قبل أن يفتي ولا تحكموا في شيء حتى يأتيكم حكمه من الله ورسوله. وليس معناه لا تبدأوا في أي كلام وإلا فالصحابة كثيراً ما كانوا يبدأون ويعيدون في شئون كثيرة والنبي جالس يستمع وربما تبسم صلى الله عليه وسلم عندما يتكلمون أحياناً في شئون الجاهلية. كما ثبت في صحيح مسلم وغيره أن الصحابة كانوا يجلسون مع النبي بعد صلاة الصبح يستمع لهم وربما تبسم صلى الله عليه وسلم.. وأما هؤلاء الصوفية فإنهم جعلوا على المريد حجراً أن لا يتكلم بحضرة شيخه إلا أذن له.. وأن يختصر حيث أراد الشيخ أن يطيل إذا أمره الشيخ بذلك فجعلوه آلة ميتة يتحرك بحركة الشيخ ولماذا نذهب بعيداً وقد أجملوا هذه الآداب مع شيخهم بقولهم: "كن بين يدي شيخك كالميت بين يدي المغسل".. والعجيب أنهم لم يكتفوا بهذا أيضاً بل جعلوا من جملة الآداب في خطاب الشيخ أن يسأل الله التوفيق قبل أن يبدأ أمام الشيخ بالكلام.. انظر ما يقولون:

"وقال أيضاً من الأدب مع الشيخ أن المريد إذا كان له كلام مع الشيخ في شيء من أمر دينه أو دنياه لا يعجل بالإقدام على مكالمة الشيخ بالهجوم عليه حتى يتبين له من حال الشيخ أنه مستعد له ولسماع كلامه فكما أن للدعاء أوقاتاً وآداباً وشروطاً لأنه مخاطبة لله تعالى فللقول مع الشيخ أيضاً آداب وشروط لأنه من معاملة الله تعالى (!!) ويسأل الله قبل الكلام مع الشيخ التوفيق لما يجب من الآداب" أ.هـ (الإبريز ص213).

فجعلوا الشيخ هنا بمنزلة الله سبحانه وتعالى فكما أن لدعاء الله شروطاً وآداباً وأوقاتاً.. فكذلك يجب أن يكون الكلام مع الشيخ.. وانظر قوله (لأنه.. أي لأن معاملة الشيخ من معاملة الله تعالى..) فأي عبودية في الأرض أعظم من هذه؟...

وحتى يتلبس الأمر على المريدين التباساً كاملاً ولا يستطيع المريد أن يفرق بين الشيخ والله فإن المتصوفة زعموا أن الشيخ عندما يتكلم بكلامه في الدرس لا يكون متكلماً من عند نفسه وإنما هو مستمع كذلك لما يلقى عليه من الله، وما يجري على لسانه رغماً عنه فالشيخ غير مسئول عن كلامه، لأن كلامه في الدرس وحي من الله وإلهام إليه لا حيلة له فيه. قال السلجماسي:

"قال ويكون الشيخ فيما يجريه الحق سبحانه وتعالى على لسانه مستمعاً كأحدكم فأشكل ذلك على بعض الحاضرين وقال إذا كان القائل يعلم ما يقول فكيف يكون مستمعاً (فرجع إلى منزله فرأى في ليلته في المقام كأن قائلاً يقول له: أليس الغواص يغوص في البحر لطلب الدر ويرجع بالصدف) ويرجع بالصدف في مخلاته والدر وقد حصل معه ولكن لا يراه إلا إذا خرج من البحر ويشاركه في رؤية الدر من هو على الساحل ففهم في المنام إشارة الشيخ في ذلك فأحسن آداب المريد مع الشيخ السكون والخمود والجمود حتى يبادئه الشيخ بما له فيه المصلحة قولاً وفعلاً" (الإبريز ص105).

وهذا المثال الذي ضربوه لا ينطبق على هذا الأمر لا شكلاً ولا موضوعاً.. فالقضية الأساسية وهي أن الشيخ يلقي عليه الكلام عن الغيب رأساً في الدرس ولا حيلة له فيه هذا كفر وزندقة لأنه لا وحي بعد محمد صلى الله عليه وسلم.. ومن زعم أنه ينزل عليه وحي أو يكاشفه ملك، أو يطلع على غيب بعد رسول الله فهو كافر مرتد حلال الدم بإجماع الأمة.

وأما أن الغواص يغوص فيأتي بالمحار من البحر ولا يعرف إن كان فيها لؤلؤ أم لا ثم يفتحها على الشاطئ ويطالع مع الموجودين هناك.. إن أرادوا أن الشيخ يغوص في الغيب ويأتي بالمحار ولا يعرف هل أتى بلؤلؤ أم لا إن زعموا أن كلام الله الذي يأتي به الشيخ لا يعرف إن كان فيها لباب أم لا فهذا كفر صريح لأنه تشبيه للوحي الإلهي بأن منه ما يجوز أن يلقى مرة ثانية إلى البحر كما يرمي الغواص بقشور المحار التالفة التي لا نفع منها وقد نجد جوهرة وقد لا نجد..

وهذا المثال الذي ضربوه لما يجري على ألسنة شيوخهم ينطبق فقط على الإلقاء الشيطاني فالشياطين تلقي على أسماع أوليائها من الإنس الأمر مما يسمعونه من السماء يكون فيه شيء واحد صادق وتسعة وتسعون كذباً وهذا هو بالفعل حال شيوخ التصوف المتصلين بالجن والشياطين؛ قد يطلعهم الجن على شيء واحد صادق ولكن الجن يكذبون مع كل خبر صادق مئة كذبة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في تفسير قوله تعالى {وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا} (الجن:9) وفي قوله تعالى {لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من كل جانب* دحوراً ولهم عذاب واصب* إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب} (الصافات:8،9).

فشيوخ التصوف يحدثون بأحاديث الجن والشياطين فيكذبون مئة كذبة ويفترون آلاف الافتراءات على الله ورسالته، وقد يصدقون مرة واحدة. والمهم في هذا الصدد أن هؤلاء المشايخ بمثل هذا الأمر جعلوا المريد صنماً مع شيخه لا يستطيع أن يقاطعه أو أن يعترض عليه لأن الشيخ أصلاً مستمع لما يوحى إليه وليس مؤلفاً ولا ناقلاً كلام نفسه.

وجعلوا من واجب المريد أيضاً أن لا يسافر سفراً إلا بإذن الشيخ. قال عبدالكريم القشيري:

"ومن أحكام المريد إذا لم يجد من يتأدب به في موضعه أن يهاجر إلى من هو منصوب في وقته لإرشاد المريدين ثم يقيه إليه ولا يبرح عن سدته إلى وقت الإذن" (القشيرية ص184).

وبالطبع الإذن الذي يجب على المريد أن ينتظره ليس هو إذن الشيخ في زعمهم وإنما هو الإذن الإلهي فالشيخ يأمر المريد أن يبقى في مكانه ولا يتحول عنه إلا إذا جاءه الأمر الإلهي بأن يسافر من عند شيخه. وبالطبع ليس هذا أمراً إلهياً وإنما هو أوامر شيطانية يلتزم بها هؤلاء وهؤلاء..

ويفلسف القشيري هذا الأدب الصوفي، أعني عدم جواز سفر المريد وإلا بإذن شيخه، فيقول:

"ومن آداب المريد بل فرائض حاله أن يلازم موضع إرادته وأن لا يسافر قبل أن يقبله الطريق وقبل وصول القلب إلى الرب فإن السفر للمريد في غير وقته سم قاتل ولا يصل أحد منهم إلى ما كان يرجى له إذا سافر في غير وقته وإذا أراد الله بمريد خيراً أثبته في أول إرادته وإذا أراد الله بمريد محنة شرده في مطارح غربته هذا إذا كان المريد يصلح للوصول فأما إذا كان شاباً طريقته للخدمة في الظاهر بالنفس للفقراء وهو دونهم في هذه الطريقة رتبة فهو وأمثاله يكتفون بالترسم في الظاهر فينقطعون في الأسفار وغاية نصيبهم من هذه الطريقة حجات يحصلونها وزيارات لمواضع يرتحل إليها لبقاء شيوخ بظاهر سلام فيشاهدون الظواهر ويكتفون بما في هذا الباب من السير فهؤلاء الواجب لهم دوام السفر حتى لا تؤديهم الدعة إلى ارتكاب محظور فإن الشاب إذا وجد الراحة والدعة كان في معرض الفتنة إذا توسط المريد جميع الفقراء والأصحاب في بدايته فهو مضر له جداً وإن امتحن واحد بذلك فليكن سبيله احترام الشيخ والخدمة للأصحاب وترك الخلاف عليهم والقيام بما فيه راحة فقيره والجهد أن لا يستوحش منه قلب شيخ ويجب أن يكون في صحبته مع الفقراء أبداً خصمهم على نفسه ولا يكون خصم نفسه عليهم ويرى لكل واحد منهم عليه حقاً واجباً ولا يرى لنفسه واجباً على أحد" أ.هـ (القشيرية ص183).

وهكذا يجب أن يكون المريد أداة طيعة في يد شيخه يختار له من المراتب والمسالك ما يريد. بل يجب عليه أيضاً أن ينخلع عن حرفته وصنعته وأن ينقطع كل علائقه بالدنيا، وينقطع انقطاعاً كاملاً لشيخه..

والحق أن قضية الانقطاع الكامل عن الدنيا والإقبال التام على التصوف وملازمة الشيوخ كان هو الأمر في القرن الرابع وما بعده، وما زال هذا موجوداً في الإقطاعيات الصوفية الكثيرة التي تأتيها دخول دائمة وأوقاف دائمة للمريدين الذين يجب أن يسير فيه. ويقول القشيري أيضاً:

"وكل مريد بقي في قلبه شيء من عروض الدنيا مقدار وخطر فاسم الإرادة له مجاز وإذا بقي في قلبه اختيار فيما يخرج عنه من معلومه فيريد أن يخص به نوعاً من أنواع البر أو شخصاً دون شخص فهو متكلف في حاله وبالخطر أن يعود سريعاً إلى الدنيا لأن قصد المريد في حذف العلائق الخروج منها لا السعي في أعمال البر وقبيح بالمريد أن يخرج من معلومه من رأس ماله وقنيته ثم يكون أسير حرفة وينبغي أن يستوي عنده وجود ذلك وعدمه حتى لا ينافر لأجله فقيراً ولا يضايق به أحداً ولو مجوسياً" انتهى (القشيرية ص184).

ومعنى هذا أنه يجب على المريد الخروج من الحرف الدنيوية نهائياً بزعم أنه يضايق أهل الحرف والصناعات ويزاحمهم وهذا يضاد التصوف حتى ولو كان من يزاحمهم مجوسياً.. كما أنه يجب على المريد أن لا يفعل معروفاً مع شخص إلا بأمر شيخه.

وقال أيضاً "ومن شأن المريد قصر الأمل فإن الفقير ابن وقته فإذا كان له تدبير في المستقبل وتطلع لغير ما هو فيه من الوقت وأمل فيها يستأنفه لا يجيء منه شيء.. ومن شأن المريد أن لا يكون له معلوم وإن قل لا سيما بين الفقراء فإن ظلمة المعلوم تطفئ نور الوقت" (الإبريز ص208).

يعني أن المريد يجب عليه أن لا يكون له تدبير مالي، للمستقبل أبداً ولا راتب شهري معلوم يرجع إليه لأن هذا يطفئ نوره ويؤجل مكاشفاته..

وجعلوا كذلك من آداب المريد في مجلس الشيخ ما يأتي:

"من آداب المريد مع شيخه أن لا يجلس بحضرته متربعاً، ولا مظهراً رجلاً له. قال صاحب الرائية:

ولا يعقدن قدامه متربعاً                     ولا بادياً رجلاً فبادر إلى الستر

ولا يجوز له كذلك أن يلبس لباس الشيوخ إلا إذا انتهى من مقام التربية" أ.هـ

وهذه حقوق أعطيت للشيخ لم يجعلها الله لرسوله فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الصحابة أن لا يلبسوا لباسه.. أو يتشبهوا به في عمامته أو قلنسوته أو يجلسوا متربعين في حضرته صلى الله عليه وسلم..

بل كانوا يجلسون بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم متربعين ومضطجعين وكان أحياناً يضجع معهم ولم يكن له صلى الله عليه وسلم زي خاص ولا مجلس خاص، وهذا يدلك على ابتداع المتصوفة وبعدهم عن الدين. وجعلوا من آدابهم أيضاً ما قاله القشيري:

"ومن شروط المريد إذا زار شيخاً أن يدخل عليه بالحرمة وينظر إليه بالحشمة فإن أهل الشيخ لشيء من الخدمة عَدَّ ذلك من جزيل النعمة. (القشيرية ص184).

فجعلوا خدمة شيوخهم من جزيل النعمة ومن تفضل الشيخ على المريد والأمر على العكس لأن من يخدم غيره دون أجر هو المتفضل لقوله صلى الله عليه وسلم للذين خدموا إخوانهم في السفر [ذهب المفطرون بالأجر كله]:

"وقبول قلوب المشايخ للمريد أصدق شاهد لسعادته ومن رده قلب شيخ من الشيوخ فلا محالة يرى غِبَّ ذلك ولو بعد حين ومن خذل بترك حرمة الشيوخ فقد أظهر رقم شقاوته وذلك لا يخطئ".. أ.هـ

وهذا يعني أن غضب الشيخ الصوفي على المريد هو غضب الله. فليس له قبول أبداً.. وهذا من أعجب العجب..

7- كتمان لشيء من الأسرار عن الشيخ:

وحتى يتم أخذ المريد من نفسه والسيطرة الكاملة على كل قلبه وإحساسه وهواجسه فإن شيوخ التصوف قد فرضوا على المريد أن لا يحجب شيئاً من أسراره عن شيخه سواء كانت هذه الأسرار معاصي ارتكبها فإن الشيخ يتحملها عنه إذا أفضى بها إليه، وهذا نظير صكوك الغفران عند النصارى أو كانت في زعمهم مكاشفات وأنواراً وعلوماً إلهية (لدنية) فإن شيخه سيفرح بذلك ويطلب له المزيد.

يقول القشيري:

"وإذا التزم المريد استدامة الذكر وآثر الخلوة فإن وجد في خلوته ما لا يجده قلبه إما في النوم وإما في  اليقظة أو بين اليقظة والنوم من خطاب يسمع أو معنى يشاهده مما يكون نقصاً للعادة فينبغي أن لا يشتغل بذلك البتة ولا يسكن إليه ولا ينبغي أن ينتظر حصول أمثال ذلك فإن ذلك كله شواغل عن الحق سبحانه ولا بد له في هذه الأحوال في وصف ذلك لشيخه حتى يصير قلبه فارغاً عن ذلك ويجب على شيخه أن يحفظ عليه سره فيكتم عن غيره أمره ويصغر ذلك في عينه فإن ذلك كله اختبارات والمساكنة إليها مكر فليحذر المريد عن ذلك وعن ملاحظاتها وليجعل همته فوق ذلك واعلم أن أضر الأشياء بالمريد استئناسه بما يلقى إليه في سره من تقريبات الحق سبحانه له ومنه بأني خصصتك بهذا وأفردتك عن أشكالك فإنه لو قال يترك هذا فمن قريب سيختطف عن ذلك بما يبدو له من مكاشفات الحقيقة وشرح هذه الجملة بإثباته في الكتب متعزز.." أ.هـ (القشيرية ص183،184)

وهذا الذي يقرره القشيري هنا فيه كثير من التلبيس الذي لا بد من بيانه فالشاهد فيه أولاً هو أن المريد لا يجوز له كتمان ما يطالعه مما يسمونه بالأنوار أو المكاشفات أو السماع من الملك أو مما نقض للعادة ويمثلون لذلك بسطوح الأنوار في الغرفة المظلمة مثلاً أو رفع سقفها أو رؤيته لشيخه أمامه أو حضور الرسول عنده ونحو هذا مما يدعونه من الخرافات والتهيؤات الشيطانية وذلك أن الأذكار التي تعطي للمريد بأعدادها الرهيبة وطرق أدائها كأن يكون الإنسان جاثياً على ركبتيه مغمضاً إحدى عينيه أو متجهاً ببصره شمالاً أو يميناً، وكذلك الجو المحيط بذلك من أظلام الغرفة، والمكث ساعات طوال على ذلك مع أعداد تربو أحياناً على عشرات بل مئات الآلاف من المرات.. كل ذلك مع انتظار حدوث أمر غريب يجعل المريد يفقد السيطرة على نفسه وأعصابه فتتهيأ له أمور كثيرة أو يتسلط الشيطان عليه لما هو فيه من البدعة والبعد عن هدي النبوة المستنير فيتلاعب به الشيطان فيتهيأ له أحياناً بصورة شخصية أو بصورة مكذوبة غير صورة الرسول ويلقي في روعه أنه رسول الله، وأنه يأمره بكذا وكذا.. وأحياناً ما يتهيأ له أن السقف انشق وأن الظلام الدامس قد تحول إلى نور ساطع، وأن الملائكة قد هبطت عليه، وهو في هذه الحالة الشيطانية من قراءة الأذكار المبتدعة التي تشتمل غالباً على أسماء الشياطين وتخليط بضع آيات من القرآن، مقطعة عن مواضعها موضوعة في غير أماكنها فتنزل عليهم الشياطين لذلك وتعبث بعقولهم وأفئدتهم وهذا ما عناه القشيري من أن المريد إذا شرع في الذكر فلا بد أن يرى شيئاً من ذلك فعليه كما زعم أن لا ينظر إلى شيء من ذلك البتة لأن كما قال شواغل الحق وهو يريد أن يرى الله وأن يصلي إلى الله نفسه لا إلى هذه الأمور العارضة.. وعليه بعد رؤيته لهذه الأمور أن يحكيها لشيخه ولا يخفيها عنه..

فهذا أحمد بن المبارك يصف حال المريد مع شيخه وينقل كلام شيخه عبدالعزيز الدباغ لهم فيقول:

"وكان (رضي الله عنه) يقول: لا تكتموا عني شيئاً من الأمور التي تنزل بكم في الدين والدنيا وأخبرونا حتى بالمعاصي التي تقع لكم وإن لن تخبروني أخبركم فإنه لا خير في صحبة يستر معها شيء من أحوال المتصاحبين وكان رضي الله عنه يقول أما أنا فلا أكتم عنكم شيئاً من أموري ثم يشرح لنا رضي الله عنه حاله حتى بلغ ذلك ويذكر لنا جميع ما وقع له من العاديات وغيرها، ويقول لنا (رضي الله عنه) إن لم أخبركم ولم أطلعكم على أحوالي فإن الله يعاقبني ويحاسبني لأنكم تظنون بي الخير فاصبروا حتى أذكر لكم الأمور الباطنية التي لم تطلعوا عليها فمن شاء منكم بعد ذلك أن يبقى معي فليبق وحينئذ يحل لي أكل طعامه وقبول هديته ومن شاء أن يذهب فليذهب فإن سكوتي عن ذكر تلك الأمور غش لكم وما كان رضي الله عنه لأصحابه إلا رحمة محضة يشفع لهم في زلاتهم ويتكفل لهم بنوائبهم ويتحلل لهم ما يخشون عاقبته ويهتم لأمرهم أكثر مما يهتم لأموره. وقال لي رضي الله عنه ذات يوم الرجل الذي لا يشاطر صاحبه في سيئاته ما هو بصاحب له وقال إن لم تكن الصحبة إلا على الحسنات فما هي بصحبة. وبالجملة فما كان رضي الله عنه لأصحابه إلا رحمة مرسلة من الله عز وجل فعلى مثله يبكي الباكون ولو رمنا تفصيل أعيان الجزئيات الواقعة لنا معه ولغيرنا في هذا الباب لطال الكلام" أ.هـ (الإبريز ص212).

قلت وهذا الكلام معناه في النهاية إيقاف المريد عارياً أمام شيخه وأستاذه وإيهامه بأنه إن لم يعترف بما عنده من الأسرار فإن الشيخ بنفسه يطلع على ذلك ونقل في هذا بيت صاحب الرائية:

سوى الشيخ لا تكتمه سراً فإنه                  بساحة كشف السر يجري على بحر

ويقول القشيري أيضاً:

"يجب عليه حفظ سره حتى عن زره إلا عن شيخه ولو كتم نفساً من أنفاسه عن شيخ فقد خانه في حق صحبته ولو وقع له مخالفة فيما أشار عليه شيخه فيجب أن يقر بذلك بين يديه في الوقت ثم يستسلم لما يحكم عليه به شيخه عقوبة له على جنايته ومخالفته إما بسفر يكلفه أو أمر ما يراه".

أي وعليه أن يستسلم إذا خالف هذا الأدب فكتم شيئاً عن الشيخ أن يستسلم لحكم الشيخ فيما يحكم عليه به، ويكون راضياً بذلك. وإذا كان القشيري قد قال مثل هذا الكلام منذ القرن الخامس الهجري فإن الصوفية قد نسجوا على منواله وساروا على أقدامه..

وجاء من زاد في هذه الأمور ووسع فيها أكثر من ذلك تحمل الشيخ للحمالات والذنوب ولعل كل ما مضى يهون إلا أن يجعل الصوفية الشيخ في مرتبة لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإيمان المريد متعلق بشيخه بل جميع أموره الدنيوية والأخروية لا نجاح ولا فلاح له فيها إلا إذا آمن بشيخه وجعله كل شيء في حياته. وفي ذلك يقول صاحب كتاب الإبريز:

"وقد سمعت الشيخ (رضي الله عنه) يقول: الشيخ للمريد في درجة لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإيمانه متعلق به، وسائر أموره الدنيوية والدينية وأرباب البصائر يشاهدون ذلك عياناً وكنت أخرج معه كثيراً رضي الله عنه وأنا لا أعرف درجته فكان يقول لي: مثلك مثل من يظل يمشي على عالي أسوار المدينة وشرفاتها مع ضيق المحل الذي تجعل فيه رجلك وبعد محل السقوط فلم أفهم معنى هذا الكلام إلا بعد حين فكان بعد ذلك إذا جرى هذا الكلام على خاطري يحصل لي منه روع عظيم وخوف شديد وقلت له ذات يوم: إني أخاف من الله تعالى من أمور فعلتها فقال لي: ما هي؟ فذكرت له ما حصل. فقال لي (رضي الله عنه): لا تخف من هذه الأشياء ولكن أكبر الكبائر في حقك أن تمر عليك ساعة ولا أكون في خاطرك فهذه هي المعصية التي تضرك في دينك ودنياك!! وقلت له ذات مرة: يا سيدي إني بعيد من الخير. فقال رضي الله عنه: اطرح عنك هذا وانظر إلى منزلتك عندي فعليها تحمل وكنا معه رضي الله عنه على حالة قل أن يسمع بمثلها لا ينزل أمر مهم أو غير مهم إلا ذكرناه له فيتحمله عنا عياناً ويريح خاطرنا منه بمجرد ذكره" أ.هـ.

وقد بلغ هذا النص الغاية في القباحة والبعد عن الدين لأن الشيخ هنا يجعل نفسه مكان الله سبحانه وتعالى حيث يذكر لمريده أنه إذا مرت ساعة ولا يكون الشيخ في خاطر مريده كانت هذه معصية ضارة عليه في دينه ودنياه.. وهذا حق ما أوجبه الله تعالى لنفسه على عبيده بمثل هذا النحو بل رضي الله سبحانه من العباد أن يذكروه في أوقات مخصوصة وجوباً كالصلاة وعند أعمال محدودة كالطعام والشراب ونحو ذلك. أما أن تمضي ساعة ولا يذكر المرء فيها ربه ويكون لاهياً في عمل مباح غير مضيع لواجب فإن هذا لا ضرر فيه على دين المرء أو دنياه، ولكن هؤلاء المشايخ أنزلوا أنفسهم من مريديهم -أو من عبادهم- هؤلاء المساكين! الذين يضلونهم، منزلة الله، بل جعلوا حقوقهم على مريديهم أعظم من حقوق الله سبحانه وتعالى.

8- ترك العهد الصوفي كفر وردة:

وبعد فقد يظن أن المريد الذي يلقى مثل هذه الأهوال في طريق التصوف يمكنه أن ينفلت في النهاية فيما لو استيقظ فكره، أو صحا ضميره وهذا ظن بعيد ولكن من أجل هذه اليقظة المحتملة أيضاً قفل مشايخ التصوف الطريق نهائياً أمام المريد حتى لا يحاول النكال من ربقته؛ فقد جعلوا الخروج من عهد الشيخ خروجاً من الإسلام. والعهد الصوفي يؤخذ على المبتدئ والمريد في أول الطريق بأن يلتزم بالدين ويتوب مما كان عليه ويقول: تبت إلى الله على يد الشيخ فلان، وعاهدت الله أن ألتزم طريقته وأن لا أبوح بسره إلا بإذن من الشيخ وأن.. وأن..

وفي هذا الأمر يقل عبدالكريم القشيري مبيناً الوقت الذي يعطي في المريد العهد، وأنه يجب عليه التزام الطريق مهما حدث له من المشقات، يقول:

"وما لم يتجرد المريد عن كل علاقة لا يجوز لشيخه أن يلقنه شيئاً من الأذكار بل يجب أن يقدم التجربة له فإذا شهد قلبه للمريد بصحة العزم فحينئذ يشترط عليه أن يرضى بما يستقبله في هذه الطريقة من فنون تصاريف القضاء فيأخذ عليه العهد بأن لا ينصرف عن هذه الطريقة بما يستقبله من الضر والذل والفقر والأسقام والآلام وأن لا يجنح بقلبه إلى السهولة ويترخص عن هجوم الفاقات وحصول الضرورات ولا يؤثر الدعة ولا يستشعر الكسل فإن وقفة المريد شرّ من فترته والفرق بني الفترة والوقفة أن الفترة رجوع عن الإرادة وخروج منها والوقفة سكون عن السير باستحلاء حالات الكسل وكل مريد وقف في ابتداء إرادته لا يجيء منه شيء فإذا جربه شيخه فيأمر أن يذكر ذلك الاسم بلسانه ثم يأمره أن يسوي بقلبه مع لسانه ثم يقول له: اثبت على استدامة هذا الذكر كأنك مع ربك أبداً بقلبك ولا يجري على لسانك غير هذا الاسم ما أمكنك" أ.هـ (الرسالة القشيرية ص182).

وهكذا يكون العهد بعد التأكد من المريد تماماً، ويكون التزام المريد بالذكر المخصوص الذي يلقيه إليه الشيخ. ولا يجوز له أن يذكر باسم آخر إلا بإذن الشيخ له. ومعلوم ما في هذه الأمور من المخالفات الشرعية فالعهد لا يجوز إلا على الإسلام وعلى بيعة الإمام أو على فعل أمر من أمور الإسلام لا يحل به المسلم حراماً ولا يحرم حلالاً وطاعة الإمام تجب في المعروف فقط. أما في أن يخترع الشيخ للمريد أذكاراً خاصة ويعاهده على عدد لا مخصوص وأعمال مخصوصة فهذا لم يأت به الشرع الحكيم وإنما هذا من بدع الصوفية. ولا سيما أنهم يأمرونهم بأن يذكروا الله باسم واحد من أسمائه أو بمجرد ضمير كهو هو وهذه كلها من البدع التي لم يأمر بها الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم. ثم يقول القشيري أيضاً:

"ومن شأن المريد حفظ حدوده مع الله تعالى فإن نقض العهد في طريق الإشادة كالردة عن الدين لأهل الظاهر" أ.هـ (القشيرية ص186).

وبهذا يغلق الطريق نهائياً أمام المريد الذي قد يريد فكاكاً مما دخل فيه إذا اطلع على تهاويل التصوف وترهاته.

 

الفصل الرابع

الطرق الصوفية

تاريخ نشأة الطرق الصوفية:

يبدو أن أول صوفي وضع نظام الطرق الصوفية هو الصوفي الإيراني محمد أحمد الميهمي المتوفي سنة 430هـ والمعروف باسم أبي سعيد. فقد أقام في بلدته نظاماً للدراويش، وبنى خاناً بجوار منزله للصوفية، وجعل نظام تسلسل الطريق عن طريق الوراثية، ويبدو كذلك أنه من أوائل من كتب في طريقة التربية الصوفية وهو سابق على عبدالكريم القشيري صاحب الرسالة القشيرية والتي كتب فيها صاحبها أيضاً طائفة كبيرة من طرق التربية الصوفية والقشيري توفي سنة 465هـ وكان مولده سنة 376هـ وأما مولد أبي سعيد فقد كان في سنة 357هـ فهو أكبر من القشيري وأقدم. وقد قيل إنه اتصل بعبدالرحمن السلمي، صاحب كتاب الطبقات، وأخذ عنه الحرقة الأولى، واتصل كذلك بأبي العباس القصاب وأخذ عنه الحرقة الثانية. وقد انتشر بعد ذلك في القرنين الخامس والسادس الهجريين نظام الطرق الصوفية وانتقلت من إيران إلى المشرق العربي فظهرت الرفاعية والقادرية في العراق، والأحمدية والشاذلية في مصر، ثم ظهرت بعد ذلك الدسوقية في مصر أيضاً، ثم تتابع ظهور الطرق الجديدة وكذلك الطرق المتفرعة من طرق قديمة حتى أصبحت الطرق تعد بالآلاف.

وغالباً ما تسمى الطريقة باسم مؤسسها، وأحياناً تسمى باسم خاص (كالختمية) مثلاً (والزوامة) نسبة إلى الزم لأن ذكرهم (بالزوم) (وهي كلمة عامة مصرية معناه إخراج صوت معروف يخرج من الأنف والفم مقفول بعد الميم).

معنى الطريقة الصوفية:

الطريقة الصوفية تعني أولاً النسبة إلى شيخ يزعم لنفسه الترقي في ميادين التصوف والوصول إلى رتبة الشيخ المربي. ويدعي لنفسه بالطبع رتبة صوفية من مراتب الأولياء عند الصوفية كالقطب والغوث والوتد والبدل.. الخ.

ولا بد أن يكون من أهل الكرامات والمكاشفات، ويكون له بالطبع ذكر خاص به، يزعم كل واحد منهم أنه تلقاه من الغيب إما من الله رأساً، أو نزل منه سبحانه مكتوباً، أو من الرسول صلى الله عليه وسلم في اليقظة أو في المنام، أو من الخضر عليه السلام.. المهم لا بد أن يكون له ذكر خاص ينفرد به عن سائر الطرق، ولا بد أن يكون لهذا الذكر الخاص ميزة خاصة وفضل خاص أكبر من الموجود في القرآن والسنة، وأفضل مما عند الطرق الأخرى وهذا بالطبع لجلب (الزبائن) لهذا الطريق الخاص. ثم لا بد أن يكون لكل طريق مشاعر خاصة فلون العلم والخرقة لون مميز، وطريقة الذكر الصوفي مميزة، ونظام الخلوة مميز، وهكذا؛ والطرق الحديثة غالباً ما يتوارثها الأبناء عن الآباء وذلك أن الطريقة التي تستطيع جلب عدد كبير من المريدين والتابعين والأنصار تصبح بعد مدة يسيرة إقطاعية دينية عظيمة تفد الوفود إلى رئيسها (شيخها) من كل ناحية، وتأتيه الإتاوات والصدقات والهبات والبركات من كل حدب وصوب وحيثما حل الشيخ في مكان ذبحت الطيور والخرفان وأقيمت الموائد الحسان، ولذلك فإن أصحاب هذه الطرق يقاتلون اليوم عنها بالسيف والسنان.

وعامة الذين يؤسسون الطرق بل جميعهم يصلون نسبهم بالرسول صلى الله عليه وسلم ويجعلون أنفسهم من آل بيته.

نماذج من الطرق الصوفية:

 

الطريقة التجانية

1- تنسب الطريقة التجانية إلى أحمد بن محمد بن المختار التجاني المولود سنة 1150هـ 1737م ونسبته إلى بلدة تسمى (بني توجين) قرية من قرى البربر في المغرب، وينسب نفسه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كما عادة كل من أسس طريقة صوفية. سار أولاً في الطريقة (الخلوتية).

2- ثم أسس طريقة لنفسه سماها باسمه بعد أن استقر في مدينة فاس بالمغرب وبنى فيها زاوية لمريديه. ويقول صاحب كشف الحجاب عن هذه الزاوية "كانت خربة متهدمة من ملك أولاد أفومي وكانت فيها كرمة كبيرة وكانت تلك الخربة مهيبة لا يقدر أحد أن يدخلها وحده، وقد بلغني على لسان الثقة أنه كان يسمع فيها بعض الأحيان كأن جماعة يذكرون فيها وكان يقصدها غالب مجاذيب فاس" أ.هـ. ولم يترك التجاني هذا أي علم ينتفع به ولكن جمع له تلميذ من تلاميذه يسمى علي حرازم كتاباً سماه (جواهر المعاني وبلوغ الأماني في فيض سيدي أبي العباس التجاني).. والكتاب كله في فضل سيده وكراماته وأخلاقه وشمائله وأذكاره وأحواله وطريقته، وإشاراته القرآنية وعلومه اللدنية..

3- ولم يترك التجاني هذا بدعة قديمة للتصوف إلا ابتدعها ولا فضلاً مزعوماً ادعاه شيخ صوفي لنفسه إلا ادعاه هو لنفسه وزاد عليه. فقد ادعى أنه هو خاتم الأولياء جميعاً والغوث الأكبر في حياته وبعد مماته، وأن أرواح الأولياء منذ آدم إلى آخر ولي لا يأتيها الفتح والعلم الرباني إلا بوساطته هو، وأن قدمه على رقبة كل ولي لله تعالى من خلق آدم إلى النفخ في الصور، وأنه أول من يدخل الجنة هو وأصحابه وأتباعه، وأن الله شفعه في جميع الناس الذين يعيشون في قرنه الذي عاش فيه، وأن الرسول أعطاه ذكراً يسمى صلاة الفاتح يفضل أي ذكر قرئ في الأرض ستين ألف مرة بما في ذلك القرآن الكريم، وهاك بعض النصوص من كتب التجانية لكل هذه الأمور.

أ- إيمانهم بوحدة الوجود وأن كل الأديان حق:

قال أحمد بن حرازم، مؤلف جواهر المعاني، وهو أشهر كتاب عندهم كما مر آنفاً:

".. فكل عابد أو ساجد لغير الله في الظاهر فما عبد ولا سجد إلا لله تعالى لأنه هو المتجلي في تلك الألباس، وتلك المعبودات كلها تسجد لله تعالى وتعبده وتسبحه خائفة من سطوة جلاله سبحانه وتعالى، ولو أنها برزت لعبادة الخلق وبرزت لها بدون تجلية فيها لتحطمت في أسرع من طرفة العين لغيرته تعالى لنسبة الألوهية إلى غيره قال سبحانه وتعالى لكليمه موسى: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني} والإله في اللغة هو المعبود بحق وقوله {لا إله إلا أنا} يعني لا معبود غيري وإن عبد الأوثان من عبدها فما عبد غيري، ولا توجهوا بالخضوع والتذلل لغيري" (جواهر المعاني ص184،185 ج1).

وقال أيضاً:

".. إن جميع المخلوقات مراتب للحق يجب التسليم له في حكمه وفي كل ما أقام خلقه لا يعارض في شيء ثم حكم الشرع من وراء هذا يتصرف فيه ظاهراً لا باطناً لا يكون هذا إلا لمن عرف وحدة الوجود فيشاهد فيها الوصل والفصل، فإن وجود عين واحدة لا تجرؤ فيها على كثرة أجناسها وأنواعها ووحدتها لا تخرجها عن افتراق أشخاصها بالأحكام. والخواص وهي المعبر عنها عند العارفين أن الكثرة عين الوحدة والوحدة عين الكثرة فمن نظر إلى كثرة الوجود وافتراق أجزائه نظر عيناً واحدة على كثرته، ومن نظر إلى عين الوحدة نظرة متكثر بما لا غاية له من الكثرة، وهذا النظر للعارف فقط لا غيره من أصحاب الحجاب وهذا لمن عاين الوحدة ذوقاً لا رسماً وهذا خارجاً عن القال.." (جواهر المعاني ص92 ج2).

ب- تفضيلهم ما يسمونه بصلاة الفاتح على القرآن الكريم:

ومن أعظم جرائمهم أيضاً وأكبر مفترياتهم ابتداعهم وتفضيلهم ذكراً مبتدعاً سيء المعنى ركيك العبارة، على كل ذكر قرئ في الأرض، وجعلهم قراءته أفضل من قراءة القرآن الكريم ستين ألف مرة وهو لا يعدو ثلاثة أسطر وهذا الذكر المبتدع هو:

"اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، ناصر الحق بالحق، الهادي إلى صراطك المستقيم، وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم".. أ.هـ (أحزاب وأوراد التجاني تحقيق محمد الحافظ).

ولا يخفى على عالم بالعربية ركاكة لفظ هذه الصلاة وما فيها من المجاهيل فما هو الذي أغلق وفتحه الرسول.. وما هو الذي سبق؟! وكيف يكون هذان السطران أفضل من القرآن الكريم المعجز..؟ ولا عجب في هذا الكذب فقد زعموا أيضاً أنها نزلت من السماء. فقد قال الفوطي مؤلف كتاب (رماح حزب الرحيم): "ويجب أن يعتقد الذاكر أنها من كلام الله" (رماح حزب الرحيم ج2 ص139)، وقال مؤلف كتاب (الدرة الخريدة): "ويعتقد المصلي أنها في صحيفة من نور أنزلت بأقلام قدرة إلهية وليست من تأليف زيد ولا عمرو بل هي من كلامه سبحانه وتعالى" (الدرة الخريدة ج4 ص128)، وقال صاحب الجواهر أيضاً:

".. إنها لم تكن من تأليف البكري ولكنه توجه إلى الله مدة طويلة أن يمنحه صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيها ثواب جميع الصلوات وسر جميع الصلوات وطال طلبه مدة ثم أجاب الله دعوته فأتاه الملك بهذه الصلاة المكتوبة في صحيفة النور ثم قال الشيخ فلما تأملت هذه الصلاة وجدتها مكتوبة في صحيفة من النور ثم قال الشيخ فلما تأملت هذه الصلاة وجدتها لا تزنها عبادة جميع الجن والإنس والملائكة قال الشيخ وقد أخبرني صلى الله عليه وسلم عن ثواب الاسم الأعظم فقلت: إنها أكثر منه فقال صلى الله عليه وسلم بل هو أعظم منها ولا تقوم له عبادة" (الجواهر ص96) أ.هـ.

وقال في بيان فضلها:

"وأما فضل صلاة الفاتح لما أغلق الخ.. فقد سمعت شيخنا يقول كنت مشتغلاً بذكر صلاة الفاتح لما أغلق حين رجعت من الحج إلى تلمسان لما رأيت من فضلها وهو أن المرة الواحدة بستمائة ألف صلاة كما هو في وردة الجيوب. وقد ذكر صاحب الوردة أن صاحبها سيدي محمد البكري الصديقي نزيل مصر وكان قطباً. قال إن من ذكرها ولم يدخل الجنة فليقبض صاحبها عند الله، وبقيت أذكرها إلى أن رحلت من تلمسان إلى أبي سمعون فلما رأيت الصلاة التي فيها المرة الواحدة بسبعين ألف ختمة من دلائل الخيرات تركت الفاتح لما أغلق واشتغلت بها وهي (اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله صلاة تعدل جميع صلوات أهل محبتك وسلم على سيدنا محمد وعلى آله سلاماً يعدل سلامهم) ولما رأيت فيها من كثرة الفضل ثم أمرني بالرجوع صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الفاتح لما أغلق فلما أمرني بالرجوع إليها سألته صلى الله عليه وسلم عن فضلها فأخبرني أولاً بأن المرة الواحدة منها تعدل من القرآن ست مرات، ثم أخبرني ثانياً أن المرة الواحدة منها تعدل من كل تسبيح وقع في الكون ومن كل ذكر ومن كل دعاء كبير أو صغير ومن القرآن ستة آلاف مرة لأنه من الأذكار.." (جواهر المعاني ج1 ص94) أ.هـ.

وقلت: ولا يخفى ما في هذا من الكذب والتلفيق، ولا يخفى أيضاً أن تصديق مثل هذه الترهات تكذيب لله ولرسوله فقد قال تعالى {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} وقال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} ومستحيل أن يحجب الرسول مثل هذا الفضل عن أفضل أمته هم أصحابه الأطهار، ويؤثر بذلك مجموعة من خدم وعبيد الكفار والاستعمار عاشوا في شمال إفريقية على أكل أموال الناس بالباطل وخدمة الفرنسيين وتضليل المسلمين وصرفهم من التوحيد إلى الشرك ومن الصراط المستقيم إلى طرق الشياطين.

ولا غرو فقد فضل التجاني هذا نفسه على جميع الصحابة والتابعين وجميع الأمة أجمعين وادعى الولاية العظمى والغوثية وختم الأولياء (انظر الفصل الخاص بخاتم الأولياء).

ج- ادعاء التجاني أن أتباعه يدخلون الجنة مهما عصوا:

وادعى التجاني ما لم يعطه الله لرسوله من الشفاعة من أن من رآه دخل الجنة ولو كان كافراً، وأن جميع آبائه وأمهاته في الجنة، وجميع أتباعه.

قال صاحب الرماح:

".. وليس لأحد من الرجال أن يدخل أصحابه كافة الجنة بغير حساب ولا عقاب ولو عملوا من الذنوب ما عملوا وبلغوا من المعاصي ما بلغوا إلا أنا وحدي، ووراء ذلك ما ذكر لي فيهم وضمنه لهم صلى الله عليه وسلم أمر لا يحل ذكره ولا يرى ولا يعرف إلا في الآخرة.." (رماح حزب الرحيم ص143 ج2) أ.هـ.

وقال مؤلف الجواهر: "اطلعت على ما رسمه وخطه ونصه.. أسأل من فضل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضمن دخول الجنة بلا حساب ولا عقاب في أول الزمرة الأولى، أنا وكل أب وأم ولدوني من أبوي إلى أول أب وأم لي في الإسلام من جهة ومن جهة أمي، من كل ما تناسل منهم من وقتهم إلى أن يموت سيدنا عيسى بن مريم من جميع الذكور والإناث. وكل من أحسن إلي بإحسان حسي أو معنوي من مثقال ذرة فأكثر.. فكل من لم يعادني من جميع هؤلاء. أما من عاداني وأبغضني فلا، وكل من والاني واتخذني شيخاً أو أخذ عني ذكراً، وكل من خدمني أو قضى لي حاجة.. وآباؤهم وأمهاتهم وأولادهم وبناتهم وأزواجهم.. يضمن لي سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولجميع هؤلاء أن يموت كل حي منهم على الإيمان والإسلام.. ثم قال كل ما في هذا الكتاب ضمنته لك ضمانة لا تتخلف عنك وعنهم أبداً، إلى أن تكون أنت وجميع من ذكرت في جواري في عليين.

وضمنت لك جميع ما طلبته منا ضماناً لا يخلف عليك الوعد فيها والسلام.. ثم قال: وكل هذا واقع يقظة لا مناماً" (جواهر المعاني ج21 ص130،131).

قلت: لم أجد في حياتي كذباً أسمج، ولا وقاحة، ولا تقولاً على الله ورسالاته أكبر من ذلك.. فماذا كان عند هذا الوقح من دين وإسلام حتى يضمن الرسول له ذلك، وهذا الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول [والله إني لرسول الله لا أدري ما يفعل بي غداً] (رواه البخاري)، والذي يقول الله تبارك وتعالى له: {قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً* قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً} (الجن:21-22).

فيأتي هذا الكذب ليفتري على الله أمثال هذه الافتراءات ويأبى الله إلا أن يكذبه فيكون أتباعه وأولاده أفضل خدم للكفر والاستعمار.. وقال أيضاً مؤكداً هذه المزاعم: "وسألته صلى الله عليه وسلم لكل من أخذ عني ورداً أن تغفر لهم جميع ذنوبهم ما تقدم منها وما تأخر، تؤدي عنهم تبعاتهم من خزائن فضل الله لا من حسناتهم، وأن يدفع الله عنهم محاسبته على كل، وأن يكونوا آمنين من عذاب الله من الموت إلى دخول الجنة بلا حساب ولا عقاب في أول الزمرة الأولى، وأن يكونوا معي في عليين في جوار النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ضمنت لك هذا ضماناً لا ينقطع حتى تجاورني أنت وهم في عليين" (الجيش الكفيل بأخذ الثأر ص214،215) أ.هـ.

فانظر أي أخلاق يكون عليها الذين يدعون مجاورة النبي صلى الله عليه وسلم في عليين.

ولم يكتف التجاني بهذا أيضاً فقد زعم كذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يفارقه يومي الاثنين والجمعة من كل أسبوع، وأن مع الرسول سبعة أملاك وكل من رأى التجاني في هذين اليومين، تكتب الملائكة اسمه في رقعة من الذهب ويكون ناجياً أبداً ومن أهل السعادة حتى ولو كان كافراً عند مشاهدته للتجاني فإنه لا بد أن يموت على الإسلام، وأن هذا كرامة من الله له.

قال صاحب بغية المستفيد شرح منية المريد (هو محمد العربي السائع العمري التجاني وكتابه شرح لمنية المريد وهي من تأليف أحمد التجاني بن بابا الشنقيطي العلوي (التجانية تأليف علي بن محمد بن الدخيل الله ص76)): "وأما الكرامة الثالثة وهي دخول الجنة لمن رآه رضي الله عنه في اليومين الاثنين والجمعة، فهي من كراماته رضي الله عنه التي طارت بها الركبان وتواترت بها الأخبار في سائر الأقطار والبلدان، بأخبار من النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه الشريف فيما أخبر به سيدنا رضي الله عنه بعزة ربي، يوم الاثنين والجمعة لا أفارقك فيهما من الفجر إلى الغروب ومعي سبعة أملاك، وكل من يراك في اليومين يكتبون -يعني الأملاك السبعة- اسمه في رقعة من ذهب ويكتبونه من أجل الجنة وأنا شاهد على ذلك" (بغية المستفيد ص216).

وقال أيضاً: "ورأيت في كلام بعض من كان مشاراً إليه بالفتح من الأصحاب ما يشير إلى أن المختص برئيه في اليومين هو السعادة التي لا شقاوة بعدها يعني أنه لا يراه في هذين اليومين إلا من سبق في علم الله تعالى أن يكون سعيداً، فيدخل الكفار في هذا الخطاب، وينسحب عليهم الحكم في هذا المقام بفضل الملك الوهاب فيقال لا يراه في هذين اليومين إلا من يسبق في علم الله تعالى أنه يختم له بالسعادة كائناً من كان، فإذا رآه الكافر في أحد هذين اليومين ختم له بالإيمان وعليه فتخصص الرؤية المطلقة في كل يوم بمن كان مسلماً سواء كان من الأصحاب أو لا حسبما هو مصرح به في الجواهر وهذه المقيدة باليومين بما يشمل كل من رآه ولو كان كافراً" (بغية المستفيد ص275) أ.هـ.

وهذا الذي ادعاه التجاني لنفسه لم يحصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فمعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه آلاف الناس من الكفار في كل أيام الأسبوع ومع ذلك فقد ماتوا على الكفر والشرك بل كان هناك معه من الذين صحبوه، وجاهدوا وصلوا معه، منافقون مردوا على النفاق، بل كان منهم من قال الله له في شأنهم {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} (التوبة:80).

وكذلك كان من أصحابه أناس يعرفهم الرسول ويعرفونه ويوم القيامة يؤخذ بهم جهة النار ويطردون عن حوضه صلى الله عليه وسلم فيقول للملائكة أصحابي أصحابي فيقولون: ليسوا أصحابك إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك. (رواه البخاري ومسلم).

فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم هذا شأنه فيمن رآه، وهذا شأنه مع أصحابه فماذا يكون زعم التجاني إلا أنه كذب سمج وقح.. ووالله إني لا أرى الرد على أمثال هذه الترهات ولكننا مضطرون أحياناً أن نذكر بالآيات والأحاديث وموازين الدين وقواعد الشريعة لأن بعض الناس قد يسمعون بمثل هذه السخافات ولا يستطيعون التمييز بين النبي الصادق والدعي الكذاب وبين عقيدة الإسلام الطيبة وعقائد الزنادقة ولذلك فإننا نضطر أحياناً أن نقابل هذا الهراء الذي لا ينطلي حتى على الصبيان والمجانين بالآيات والأحاديث فاللهم معذرة أن نخاطب بكلامك الطيب وبكلام رسولك الصادق الأمين أمثال هؤلاء الكاذبين الزنادقة.

د- زعم التجانية رؤية الرسول في اليقظة والأخذ عنه:

ومن خرافات التجانية أيضاً وافتراءاتهم زعمهم رؤية النبي صلى الله عليه وسلم دائماً، وحضوره وحاشاه صلى الله عليه وسلم مجالس ذكرهم المبتدعة وهذه أقوالهم في ذلك:

1- قال في جواهر المعاني: "قال رضي الله عنه: أخبرني سيد الوجود يقظة لا مناماً قال لي: أنت من الآمنين، ومن رآك من الآمنين إن مات على الإيمان.." (جواهر المعاني ج1 ص129).

2- وقال أيضاً: ".. سأل سيد الوجود، وعلم الشهود، صلى الله عليه وسلم في كل نفس مشهود، عن نسبه وهل هو من الأبناء والأولاد، أو من الآل والأحفاد، فأجابه صلى الله عليه وسلم بقوله: (أنت ولدي حقاً) كررها ثلاثاً صلى الله عليه وسلم، وقال نسبك إلى الحسن بن علي صحيح. وهذا السؤال من سيدنا رضي الله عنه لسيد الوجود يقظة لا مناماً، وبشر صلى الله عليه وسلم بأمور عظام جسام صلى الله عليه وسلم وشرف وكرر ومجد وعظم" (جواهر المعاني ج2 ص228).

3- وقال أيضاً عن الصلاة المسماة بياقوتة الحقائق: "هي من إملاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من لفظه الشريف على شيخنا يقظة لا مناماً" (جواهر المعاني ج1 ص30،31).

4- وقال أيضاً فيما يرويه عن شيخه التجاني: "قال رأيته مرة صلى الله عليه وسلم، وسألته عن الحديث الوارد في سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام. قلت له: ورد عنك روايتان صحيحتان واحدة قلت فيها يمكث بعد نزوله أربعين، وقلت في الأخرى سبعاً.. ما الصحيحة منها؟ قال صلى الله عليه وسلم: رواية السبع" (جواهر المعاني ج1 ص50).

وهذا الذي يزعم التجاني أنه استفاد من الرسول في اليقظة. بشأن ترجيح (رواية سبعة أيام على أربعين يوماً) قد سرقه التجاني من كتاب الإبريز للدباغ فهناك قد زعم الدباغ أيضاً أنه استفاد هذا من الرسول.. وقد كان هذا الشأن التجاني دائماً.. كلما سمع أن أحداً سبقه من رجال التصوف في قول أو نحوه قال نحوه وزاد؛ كما سمع أو قرأ أن عبدالقادر الجيلاني قال عن نفسه قدماي هاتان على رقبة كل ولي لله.. فقال التجاني وأما أنا فأقول قدماي هاتان على رقبة كل ولي لله من خلق آدم إلى النفخ في الصور.. وسمع أو قرأ أن ابن عربي قال إنه خاتم الأولياء فقال بل أنا خاتم الأولياء وهكذا فقد ردد معظم الكذب الذي سبقه به شياطين التصوف القدامى وزاد عليهم.

ونعود فنقول إن التجانية لم يجعلوا رؤية الرسول في اليقظة خاصة بالتجاني بل جعلوها بكل من زعموا أنه بلغ درجة العرفان في زعمهم وهاك بعض نصوصهم في ذلك:

1- قال في رماح حزب الرحيم: "ولا يكمل العبد في مقام العرفان حتى يصير يجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة ومشافهة.. الخ" (الرماح ص199 ج1).

2- وقال في بغية المستفيد: ".. منهم من يرى روحه في اليقظة متشكلة بصورته الشريفة، ومنهم من يرى حقيقة ذاته الشريفة وكأنه معه في حياته صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء هم أهل المقام الأعلى في رؤيته صلى الله عليه وسلم" أ.هـ (بقية المستفيد ص79،80).

* وهذا هو الذي نبهنا عليه في أول الكتاب أن المفترق الأول بين دين الإسلام ودين التصوف هو الافتراق في التلقي بينما يتلقى المسلمون دينهم بعد وفاة الرسول من الكتاب والسنة وإجماع الأمة فقط هذا هو المعصوم ثم من اجتهاد الأئمة المعرض للصواب والخطأ، أقول بينما يفعل المسلمون ذلك، فإن المتصوفة يجعلون تلقيهم للدين من كل هب ودب ممن يزعم ملاقاة الرسول وهذا كذب بإجماع الأمة. أو ملاقاة الخضر وهذا كذب وافتراء بين فلم يتعبدنا الله بخضر أو بغيره أو ممن يزعم رؤية الملائكة وسماع دينهم أو ممن يزعم تلقي الدين من اللوح المحفوظ رأساً وممن يتجاوز كل ذلك فيقول حدثني قلبي عن ربي.. أو من يقول يأتيني كلام الله مكتوباً في ألواح من نور.. فكل مشايخ التصوف رسل وأنبياء ومشرعون ومتلقون للدين من طرق أخرى غير طريق المسلمين وبهذا تتأكد أن دين هؤلاء حتماً ليس بدين المسلمين.. وأنهم يفترقون عن المسلمين في الأصل الأصيل وهو مصدر الدين.

ولو فرضنا جدلاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم يمكن أن يعود بجسده الشريف أو روحه الطاهر صلى الله عليه وسلم ليلقى بعض المسلمين فإننا نجزم أن لقاءه هذا سيكون لتعزيز شريعته التي بثها في حياته لا لهدمها، فنتصور مثلاً في مثل التجاني أن يقول لا تكن أنت وأتباعك عبيداً للاستعمار الفرنسي ولا خدماً للكفار، وقوموا بنصرة الدين، وجاهدوا في سبيل الله وأما أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ليقول للتجاني أقطعتك الجنة وأتباعك ولو كانوا مجرمين فاسقين وكل من رآك دخل الجنة ولو كان كافراً، وأمر أتباعك أن يدعوك من دون الله ويشركوا بالله في كل شيء. يأتي بآخر فيقطعه قطعة من الجنة ويؤمنه من العذاب ويقول لا حرج عليك وعلى أتباعك واعمل مولداً لنفسك ومولداً لي تستباح فيه الحرمات وتهتك فيه الأعراض ولا حرج عليك من ذلك لأن كل ذنوب أصحابك أنا أغفرها لكم.. هذه هي المهمة التي بقيت لرسول الله في الأرض.. يا سبحان الله كم يكذب هؤلاء على الله وعلى رسوله وهم لا يستحون.

هـ- دعوة التجانية إلى الشرك الجلي:

والطريقة التجانية كغيرها من الطرق رأس مالها وقطب رحاها في الدين أن تدعو الناس إلى الشرك بالله فبدلاً من دعوة الناس إلى الصلاة الصحيحة، والصوم الصحيح المشروع والحج، والزكاة، والجهاد في سبيل الله قد استبدلوا كل ذلك بوسيلة واحدة وهي الاستغاثة بالمشايخ ودعوتهم من دون الله والالتجاء بهم إلى الله والاعتقاد أن الله لا يقبلهم إلا عن طريق هؤلاء الشيوخ الضالين بزعم أن هؤلاء المشايخ هم أبواب الله، ولا دخول على الله إلا من طريقهم، ولا قبول لتوبة تائب إلا برضاهم، وأي قربان أو زكاة لا تقبل إلا إذا كانت أيدي هؤلاء المشايخ أول من يلتقطها، وأول من يأكلها.. هذا هو دين الصوفية في نهايته إخراج الناس من عبادة الله عز وجل إلى عبادة هؤلاء المشايخ أحياءً وأمواتاً..

قال مؤلف رماح حزب الرحيم: "وأما كيفية التوسل به رضي الله عنه وبجده صلى الله عليه وسلم فهي أنك مهما أردت حاجة من حوائج الدنيا والآخرة فصل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاة الفاتح لما أغلق مائة، واهد ثوابها لرسول الله صلى الله عليه وسلم قضاء الحاجة التي تريدها ثم تقول: يا رب توسلت إليك بجاه القطب الكامل سيدنا أحمد بن محمد التجاني وجاهه عندك أن تعطيني كذا وكذا، وتسمي حاجتك بعينها عشراً" أ.هـ (الرماح ج1 ص165).

وهكذا لا يوجهون الناس في الملمات والمهمات إلا إلى التوجه إلى الرسول والتجاني.. وعلى الرغم من أن التوسل إلى الله بالنبي بعد موته بدعة منكرة لم يفعلها أحد من سلف الأمة المشهود لهم بالخير، فإن اقتران اسم الرسول صلى الله عليه وسلم باسم هذا الدعي الكذاب من أكبر الإثم والزور والجرأة على الله..

والعجيب في أمر التجانية أيضاً أنهم جعلوا التوسل بالأموات عند أتباعهم خاصاً بالرسول والتجاني فقط، وأنه من توسل منهم بغير الرسول والتجاني فإنه يخرج من الطريقة خروجاً نهائياً وينسلخ منها انسلاخاً كاملاً لا رجعة فيه كما ينسلخ جلد الشاة عن الشاة والبيضة عن الدجاجة؛ ومعلوم أن جلد الشاة إذا سلخ منها يستحيل إعادته إليها وأن بيضة الدجاجة إذا انفصلت عنها يتعزز إعادتها إليها.. فانظر كيف حكموا بأكبر من الردة عن الدين لمجرد أن واحداً منهم توسل بشيخ غير شيخهم.

قال مؤلف الدرة الخريدة: "ومن زار من الإخوان الأحمديين شيخاً من المشايخ حياً كان أو ميتاً بقصد التوسل به والاستمداد غير شيخنا أبي الفيض (شيخهم أبو الفاضل هو أحمد التجاني والفيض في زعمهم هو علم الغيب والخير الذي يفيضه على أتباعه).. فقد خرج عن طريقة الأحمدية ولا إذن عنده فيها، بل انسلخ منها انسلاخ الجلد عن النعاج وانفصل عنها انفصال البيض عن الدجاج.." أ.هـ (الدرة الخريدة).

فانظر كيف يكون الاستعباد والاستبداد وضرب طوق جهنمي عمن وقع في شباكهم أن لا يتصل بشيخ آخر مطلقاً ولا يعلق قلبه به.

و- تفضيل التجاني نفسه على جميع الأولياء:

كل شيخ صوفي صاحب طريق يؤثر عنه أنه يفضل نفسه على سائر الأولياء، وذلك حتى يستطيع جلب الناس لطريقته، ويتفانى فيه أتباعه من بعده تعصباً لشيخهم وترويجاً لطريقتهم، والتجاني لعله أكثرهم جرأة في هذا الصدد، فلم يترك فضلاً مزعوماً لأحد قبله إلا نسبه إلى نفسه، فقد ادعى أنه خاتم الأولياء تقليداً لمن سبقه من مشايخ التصوف (راجع الفصل الخاص بخاتم الأولياء) وادعى لنفسه أنه هو الذي يمد جميع الأولياء بالعلوم والمعارف منذ خلق آدم أي قبل أن يخلقه الله وإلى النفخ في الصور.. فهو الذي تنبع منه المعارف والعلوم والأسرار الإلهية -حسب زعمه- إلى الأولياء السابقين قبل وجوده وإلى جميع الأولياء اللاحقين إلى نهاية العالم.

1- وقال مؤلف بغية المستفيد: "قال رضي الله عنه إن الفيوض التي تفيض من ذات سيد الوجود صلى الله عليه وسلم تتلقاها ذوات الأنبياء، وكل ما فاض وبرز من ذوات الأنبياء تتلقاه ذاتي، ومني يتفرق على جميع الخلائق من نشأة العالم إلى النفخ في الصور.. وقال: لا يتلقى ولي فيضاً من الله تعالى إلا بوساطته رضي الله عنه من حيث لا يشعر به، ومدده الخاص به وإنما يتلقاه من النبي صلى الله عليه وسلم" أ.هـ (بغية المستفيد ص225).

2- وقال مؤلف الدرة الخريدة: ".. فسيدي أبو الفيض أصل جميع الوسائل المتقدمة والمتأخرة، وشيخ المشايخ، وبرزخ البرازخ، والمنبع الذي تنفجر منه العلوم والفيوض والمعارف والأسرار لجميع الأولياء والأقطاب والعارفين والأحباب.." أ.هـ (الدرة الخريدة ج1 ص26).

وقال في منية المريد:

لا شك أن شيخنا التجاني                   مم كل عارف صمداني

يعطي ويمنع ويسلب فمن                     كمثله من الورى في ذا الزمن

(بغية المستفيد ص226).

ولا يخفى أن هذا اعتقاد خرافي ثم هو شرك واضح لأنه رفع للمخلوق إلى مرتبة الخالق فالذي يهب المعارف والعلوم والفقه ويشرح القلوب هو الله سبحانه وتعالى {ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً}  فهو الذي يفهم سبحانه وتعالى وقال أيضاً سبحانه: {الرحمن* علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان} وقال تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله}. فالله هو الذي يري رسوله وكل ذلك بمدده هو سبحانه وتعالى وفضله {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} فشرح الصدر ونور الفؤاد منه سبحانه وتعالى وليس من التجاني ولا غيره ومن ظن هذا الظن في أنه لا يأتيه علم ولا مدد إلا عن طريق التجاني أو غيره من البشر فلا شك في كفره ومروقه من الدين.

ز- أذكارهم وبدعهم الخاصة:

هذه أخي المسلم هي أهم القواعد والقضايا التي تقوم عليها الطريقة التجانية إضافة إلى بدعهم الخاصة في الأذكار والعبادات، فقد ابتدعوا صلاة سموها (جوهرة الكمال) فيها سب للرسول واشترطوا لقراءتها أن يكون قارئها متطهراً بالطهارة المائية فقط، فلو فقد الماء أو لم يستطع استعماله فلا يجوز له قراءتها فرفعوها بذلك عن منزلة القرآن الكريم والصلاة. وهذه الصلاة المبتدعة هي:

"اللهم صل على عين الرحمة الربانية.. والياقوتة المتحققة الحائطة بمركز الفهوم والمعاني ونور الأكوان المتكونة الآدمي صاحب الحق الرباني البرق الأسطع بمزون الأرياح المائلة لكل متعرض من البحور والأواني ونورك اللامع الذي ملأت به كونك الحائط بأمكنة المكاني، اللهم صل وسلم على عين الحق التي تتجلى منها عروش الحقائق عين المعارف الأقوم صراطك التام الأسقم، اللهم صل على طلعة الحق بالحق الكنز الأعظم إفاضتك منك إليك إحاطة النور المطلسم صلى الله عليه وسلم، وعلى آله صلاة تعرفنا بها إياه" أ.هـ (أحزاب وأوراد التجاني ص13،14).

فهذه الصلاة إلى جوار ركاكة ألفاظها فيها معان سيئة كقوله (صراطك التام الأسقم).. (إحاطة النور المطلسم).. (ونور الأكوان المتكونة)..

وبمثل هذه المبتدعات صرفوا الناس عن الصلوات والطيبات الزاكيات التي نطق بها فم الرسول الطاهر صلى الله عليه وسلم وحرموا المسلمين الأجر الحقيقي واتباع الرسول إلى اتباع هؤلاء المبتدعين المارقين.

* هذه خلاصة وعجالة لهذه الطريقة التي انتشرت انتشاراً ذريعاً في شمال إفريقية وفي وسطها وغربها، وضمت تحت لوائها ملايين كثيرة من أبناء المسلمين. وهذا جانب يسير من واقعها الفعلي وإلا فقد جاء من بنى على هذا الواقع الفاسد، وزعم أنه صاحب الفيضة التجانية الذي بشر به التجاني، وأن أتباعه يدخلون جميعاً الجنة بغير حساب ولو كانوا كفاراً ولو أنهم لم يفعلوا شيئاً قط من الدين، أو استحلوا كل المحرمات لأن الله اختارهم لذواتهم فقط وهذا الشخص هو (الحاج إبراهيم السنغالي) والذي كان له شأن عظيم، وبسط دعوته تلك في أصقاع كبيرة من القارة الأفريقية.

 

الطريقة الرفاعية

تنسب الطريقة الرفاعية إلى أحمد الرفاعي بن سلطان علي، ويصل أتباعه نسبه إلى موسى الكاظم بن جعفر الصادق إلى علي بن أبي طالب. ولد أحمد الرفاعي في قرية (حسن) بالقرب من أم عبيدة بالعراق 512هـ وتوفي سنة 578هـ ودفن في قرية أم عبيدة.

ما نسب من كرامات للرفاعي:

1- أشهر ما يعرف عنه زعم أتباعه أنه لما حج عام 555هـ ووقف أمام قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، قال هذين البيتين:

في حالة البعد روحي كنت أرسلها                 تقبل الأرض عني وهي نائبتي

وهذه دولة الأشباح قد حضرت                      فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي

ويزعم أتباعه أن النبي خرج من قبره ومد له يده من بين حديد شباك القبر فقبلها الرفاعي.. (الطريقة الرفاعية ص133).

2- وينسبون من كراماته أيضاً أنه إذا كان ألقى الدرس سمعه الأصم والسميع، والقريب والبعيد، وأن الله أحيا له الميت، وأقام له المقعدين، وقلب له الأعيان، وصرفه في الخلق (الطريقة الرفاعية ص134). ويذكرون كذلك أن الله أبرد لأتباعه النيران، وأزال لهم فاعلية السموم.. وألان لهم الحديد، وأذل لهم السباع والأفاعي، وأخضع لهم طغاة الجن، وصرفهم في العوالم، وأطلعهم على عجائب الأسرار.

3- دعا الناس إليه وإلى طريقته بطرق شتى؛ من ذلك قوله: "إنكار العبد نعمة من موجبات السلب، أنا من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.. إن الله إذا وهب عبده نعمة ما استردها، شكر النعمة معرفة قدرها" (البرهان المؤيد ص28).

وقال أيضاً في بعض مواعظه ودروسه يمدح نفسه ويدعو إلى طريقته: "أي خاصة أي عامة فاض بحر الكرم (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد). أنا مأوى المنقطعين، أنا مأوى كل شاة عرجاء انقطعت في الطريق. أنا شيخ العواجز أن شيخ من لا شيخ له فلا يتشيخ الشيطان على رجل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، عهد مني بالنيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، عهداً عاماً إلى يوم القيامة، العرش قبلة الهمم، والكعبة قبلة الجباه، وأحمد قبلة القلوب. قال لي حبيبي أنت وجه لا يخزيه الله في أتباعه أبداً (سلام عليك بما صبرتم فنعم عقبى الدار) هات يا منشد الفتح في حضرة المنجي. قل كيف شئت مجلس مأتم ومجلس فرح (يولج الليل في النهار) (ألا إلى الله تسير الأمور) (وكفى بالله ولياً) عليكم بتقوى الله لا تخرجوا من ساحة التوحيد، ربنا الله لا شريك له نعم الولي ونعم النصير والحمد لله رب العالمين" (المجالس الرفاعية ص112).

ولا يخفى هنا زعمه أن الرسول خاطبه وكلمه (قال لي حبيبي أنت وجه لا يخزيه الله في أتباعه أبداً).

وقال أيضاً في مقام آخر:

"صحبتنا ترياق مجرب، والبعد سم قاتل، أي محجوب تزعم أنك اكتفيت عنا بعلمك، ما الفائدة من علم بلا عمل، ما الفائدة من عمل بلا إخلاص، الإخلاص على حافة طريق الخطر، من ينهض بك إلى العمل. من يداويك من سم الرياء، من يدلك على الطريق الأمين بعد الإخلاص (أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) هكذا أنبأنا العليم الخبير، تظن أنك من أهل الذكر، لو كنت منهم ما كنت محجوباً عنهم لو كنت من أهل الذكر ما حرمت ثمرات الفكر، صدك حجابك، قطعك عملك. قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم إني أعوذ بكم من علم لا ينفع)، لازم أبوابنا، أي محجوب فإن كل درجة وآونة تمضي لك في أبوابنا درجة وإنابة إلى الله تعالى، صحت إنابتنا إلى الله، قال تعالى: (واتبع سبل من أناب) أيها المتصوف لم هذه البطالة صر صوفياً حتى نقول لك أيها الصوفي" أ.هـ (البرهان المؤيد ص35).

وكان يقول أيضاً: "أيها البعيد عنا، الممقوت منا ما هذا يا مسكين، لو كان لنا فيك مقصد يشهد بحسن استعدادك وخالص حبك إلى الله وأهله اجتذبناك إلينا، وحسبناك إلينا. شئت وإلا.. لكن الحق يقال: حظك منعك، وعدم استعدادك قطعك، لو حسبناك منا ما تباعدت عنا، خذ مني يا أخي علم القلب، خذ مني علم الذوق، خذ مني علم الشوق. أين أنت مني يا أخا الحجاب اكشف لي قلبك.." أ.هـ (البرهان المؤيد ص33).

وقال أيضاً في هذا المعنى:

"أقامنا الله أئمة الدعوة بالنيابة عن نبيه صلى الله عليه وسلم من اقتدى بنا مسلم، ومن أناب إلى الله بنا غنم، الحق يقال نحن أهل بيت ما أراد سلبنا سالب إلا سلب، ولا نبح علينا كلب إلا جرب، ولا هم على ضربنا ضارب إلا ضرب، ولا تعالى علينا حائط إلا وخرب"!! (البرهان المؤيد ص31).

ومع هذه الأقوال التي كان يذكر نفسه فيها على هذا النحو فقد نقلت عنه أقوال تناقضها حيث يقول:

"كل الفقراء رجال هذه الطائفة خير مني، أنا أحميد اللاش، أنا لاش اللاش".. أ.هـ (البرهان المؤيد ص24).

بل يقول ما هو أبلغ من هذا أيضاً:

"أي سادة أنا لست بشيخ، لست بمقدم على هذا الجمع لست بواعظ، لست بمعلم، حشرت مع فرعون وهامان إن خطر لي أني شيخ على أحد من خلق الله برحمته فأكون كأحد المسلمين" أ.هـ (البرهان المؤيد ص23).

ويقول أيضاً في مجلس آخر:

"أيش أنا حتى أدعوك، ما مثلي إلا كمثل ناموسة على الحائط لا قدر لها، حشرت مع فرعون وهامان وقارون وأخذني ما أخذهم أن كان خطر لما في سري أني شيخ هذا الجمع، أو مقدمهم أو من يحكم عليهم، أو ثبت عندي أني فقير منهم، وكيف تدعوه نفسه إلى ذلك من هو لا شيء، ولا يصلح لشيء، ولا يعد بشيء" أ.هـ (البرهان المؤيد ص52).

ومع كل هذا التبري من الحول والطول فإن أحمد الرفاعي يناقض نفسه كثيراً حيث يزعم ضد ذلك تماماً فيقول:

"وعدني رسول كرمه أن يأخذ بيد مريدي وحُبي ومن تمسك بي وبذريتي وخلفائي في مشارق الأرض ومغاربها إلى يوم القيامة عند انقطاع الحيل، بهذا جرت بيعة الروح لا يخلف الله وعده، لا تصح المكالمة لمخلوق مع الخالق بعد النبيين والمرسلين الذين كلمهم سبحانه وحياً أو من وراء حجاب، وإنما وعد إحسانه ينجلي إلى قلوب أوليائه وأحبابه بالرؤيا المنامية، والواسطة المحمدية والإلهام الصحيح الذي لا يخالف ظاهر الشريعة الأحمدية بحال من الأحوال وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" أ.هـ (البرهان المؤيد ص82،83).

قلت: كيف لا يكون هذا الوعد المزعوم مخالفاً لظاهر الشريعة وقد أخبرنا سبحانه وتعالى أن خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام طلب ما هو دون هذا الطلب لذريته فلم يعطه الله تبارك وتعالى حيث يقول الله تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين}.

فإذا كان الله سبحانه وتعالى لم يرض أن يعطي إبراهيم عهداً بأن يكون كل ذريته صالحين أئمة في الدين من بعده فكيف يعطي الرفاعي مثل هذا العهد المزعوم فانظر قوله: "وعدني رسول كرمه أن يأخذ بيد مريدي ومحبي ومن تمسك به وبذريتي وخلفائه في مشارق الأرض ومغاربها إلى يوم القيامة"!!

ثم ما يدريه أن الله قد أعطاه هذا الوعد: يقول الرفاعي إنه بالإلهام والرؤيا المنامية، هل مثل هذا العهد يعطي بإلهام وبرؤيا منامية؟ وما يدريه أنها رؤيا شيطانية.. وإلهام شيطاني.. وكيف تكون غير ذلك والقرآن بضد ذلك.. بل كيف تكون غير ذلك والرجل يزعم أنه ليس بشيخ وأنه يموت ويحشر مع فرعون وهامان وقارون إن قال إنه شيخ على أحد من الناس فأي كلام من كلامه يصدق؟

من أقوال أحمد الرفاعي:

وقد نسب صاحب طبقات الصوفية عبدالوهاب الشعراني طائفة من الأقوال لأحمد الرفاعي فيها أمور كثيرة من الباطل ولم أقرأ في كتب الطريقة الرفاعية المؤلفة ما ينفي هذه الأقوال وهاك بعضاً من هذه الأقوال:

".. الكشف قوة جاذبية بخاصيتها نور عين البصيرة إلى فيض الغيب، فيتصل نورها به اتصال الشعاع بالزجاجة الصافية حال مقابلتها المنبع إلى فيضه، ثم يتقاذف نوره منعكساً بضوئه على صفاء القلب ثم يترقى ساطعاً إلى عالم الفصل فيتصل به اتصالاً معنوياً له أثر في استفاضة نور القلب على ساحة القلب، فيشرق نور العقل على إنسان عين السر، فيرى ما خفي عن الأبصار موضعه ودق عن الأفهام تصوره، واستتر عن الأغيار مرآه".. أ.هـ (طبقات الشعراني ص141،142).

ونقل عنه أيضاً أنه قال:

وكان يقول: إذا صلح القلب صار مهبط الوحي والأسرار والأنوار والملائكة، ويقول أيضاً: إذا صلح القلب أخبرك بما وراءك وأمامك ونبهك على أمر لم تكن تعلمها بشيء دونه".. أ.هـ (طبقات الشعراني ص141،142).

وهذه نصوص يزعم قائلها أن الصوفي يطلع على حقائق عينية وأسرار وقد بين سابقاً فساد هذا الاعتقاد.

وقال أيضاً: ".. إن العبد إذا تمكن من الأحوال بلغ محل القرب من الله تعالى وصارت همته خارقة للسبع السماوات، وصارت الأرضون كالخلخال برجله، وصار صفة من صفات الحق جل وعلا، لا يعجزه شيء وصار الحق تعالى يرضى لرضاه ويسخط لسخطه، قال: ويدل لما قلناه ما ورد في بعض الكتب الإلهية يقول الله عز وجل (يا بني آدم أطيعوني أطعكم، واختاروني أختركم، وارضوا عني أرض عنكم وأحبوني أحبكم وراقبوني أراقبكم وأجعلكم تقولون لشيء كن فيكون، يا بني آدم من حصلت له حصل له كل شيء ومن فته فاته كل شيء)" أ.هـ (طبقات الشعراني ص142).

ولا يخفى ما في هذا النص من الباطل لأن العبد مهما بلغ من منازل القرب مع الله يبقى عبداً محكوماً بسنن الله الكونية مفتقراً إلى الله عز وجل كما كان أحوال الرسل وأولياء الله الصادقين فلم تكن الأرض كالخلخال برجل أحدهم بل كانوا يجوعون، ويمرضون، ويتألمون، ويهزمون أحياناً، ويسبون ويشتمون، وقد يتوب لله على من يؤذيهم فيكونون مسلمين، كما فعل الله سبحانه بمن قتلوا أفضل أوليائه في أحد وقال رسول الله فيهم [كيف يفلح قوم شجو وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى الله عز وجل..] فأنزل الله سبحانه وتعالى قوله {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون} (رواه البخاري).

وأما ما نقله الشعراني هنا عن الرفاعي، وما زعمه أن هذا مكتوب في بعض الكتب الإلهية فما هذه الكتب الإلهية؟.. ولماذا نهتدي بغير هدي القرآن والسنة وقد نهينا عن ذلك، وهل أنزل الله في هذه الكتب الإلهية المزعومة: وأجعلكم تقولون للشيء كن فيكون.. وماذا بقي لله إذن إذا أصبح كل من أطاع الله إلهاً صغيراً يتصرف في الكون كما يتصرف الله.. ماذا بقي لله من دون صفاته.. لقد سلبوا منه كل صفاته وجعلوها لأنفسهم ولم يرضوا أن يكونوا عبيداً له سبحانه وتعالى كما أمرهم.

ومما يدلك على أن المتصوفة يريدون فعلاً الوصول إلى هذا، أعني سلب صفات الله عنه وإلباسها لأنفسهم حتى يكونوا عند الناس آلهة من دون الله، ما نقل هنا الشعراني أيضاً عن الرفاعي والله يعلم هل هذا النقل صحيح أم لا؟: "إذا أراد الله عز وجل أن يرقي العبد إلى مقامات الرجال يكلفه بأمر نفسه أولاً، فإذا أدب نفسه واستقامت معه كلفه بأهله، فإذا أحسن إليهم وأحسن عشرتهم، كلفهم بجيرانه وأهل محلته فإن هو أحسن إليهم وداراهم كلفه جهة من البلاد فإن هو داراهم وأحسن عشرتهم، وصلح سريرته مع الله كلفه ما بين السماء والأرض، فإن فيهم خلقاً لا يعلمه إلا الله تعالى، ثم لا يزال يرتفع من سماء إلى سماء حتى يصل إلى محل الغوث، ثم ترتفع صفته إلى أن يصير صفة من صفات الحق تبارك وتعالى، وأطلعه على غيبه حتى لا تنبت شجرة، ولا تخضر ورقة إلا بنظره وهناك يتكلم عن الله تعالى بكلام لا يسعه عقول الخلائق" (طبقات الشعراني ص143) أ.هـ.

قلت: فانظر كيف سيرتقي الصوفي إلى أن يكلفه الله أمر خلائق بين السماء والأرض. ولست أدري ماذا سيكلفه الله هناك.. ولكن صاحب هذا القول يزعم أنه سيكون صفة من صفات الحق والحق هنا يعني الله سبحانه وتعالى، يطلع على غيب الله فلا تنبت شجرة، ولا تخضر ورقة إلا بنظره.. باختصار يأخذ مكان الله سبحانه وتعالى، (راجع مراتب الأولياء في الفصل الخاص بذلك).

وهكذا يجعل الصوفية غوثهم المزعوم هو القائم في مقام الله يتصرف في هذا الكون أعلاه وأسفله فانظر الغاية التي يريد رجال التصوف أن يوصلوا الناس إليها إنها باختصار صرف الناس عن عبادة الواحد القهار إلى عبادة من يبولون ويتغوطون ويهرفون بما لا يعرفون، ويستمدون علومهم من الجن والشياطين، ويزعمون للناس أنها وحي من رب العالمين.

وعلى كل حال فتحقيقاً لهذه الأقوال أعني أن الولي قد يكلف بأمر الخلائق فإن الشعراني يزعم أيضاً أن الله قد كلف أحمد الرفاعي بالنظر في أمر الدواب والحيوانات.. ولذلك كان ينهي أصحابه عن قتل القمل فقد رأى بعض مريديه يقتل قملة فقال له: لا وأخذك الله شفيت غيظك بقتل قملة..

وكذلك زعموا أن الرفاعي كان إذا لقي الكلاب والخنازير بدأهن بالسلام وكان يقول لهن أحياناً: أنعموا صباحاً (طبقات الشعراني ص143).. أ.هـ.

وهكذا يظهر أثر التكليف الإلهي المزعوم برعايته الحيوانات فتكون النهاية عن قتل القمل، وإلقاء السلام على الخنازير والكلاب..

قلت: ليس عندي ما أقوله في هذا المقامإلا أن أقول إنا لله وإنا إليه راجعون. التحية التي جعلها الله خاصة بالمسلم فقط وحرم الرسول إلقاءها إلا على مسلم ونهى بدء اليهود والنصارى بها علماً أنهم آدميون وقد يهتدون في مستقبل أيامهم هذه التحية التي قال فيها {فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة} هانت على رجال التصوف فأعطوها هدية للكلاب والخنازير..

أرأيت إلى المستنقع الذي يريد رجال التصوف إغراق المسلمين فيه.. ومع هذا كله فقد زعم الشعراني أيضاً أن الشيخ الرفاعي كان إذا تجلى الحق تعالى عليه بالتعظيم يذوب الرفاعي حتى يكون بقعة ماء ثم يتداركه اللطف فيجمد شيئاً فشيئاً حتى يرد إلى جسمه المعتاد (طبقات الشعراني ص143).

الشعائر الخاصة للطريقة الرفاعية:

وللطريقة الرفاعية مشاعر خاصة كشأن كل الطرق الصوفية وإليك أهم هذه الشعائر والعقائد..

1- من أهم ما يميز الطريقة الرفاعية هو التتلمذ لكل شيخ، بنقل الشعراني أيضاً عن الرفاعي أنه قال:

"من تمشيخ عليكم فتتلمذوا له، فإن مد يده لكم لتقبلوها فقبلوا رجله.. ومن تقدم عليكم فقدموه وكونوا آخر شعرة في الذنب، فإن الضربة الأولى تقع في الرأس" (الطبقات الكبرى ص141).

2- تبنت الطريقة مذهب التفويض في الأسماء والصفات زاعمة أنه مذهب السلف، ولكن الرفاعيين مع ذلك يخالفون ذلك ويؤولون تأويل الأشاعرة فيزعمون أن الله لا يوصف بفوقية أو سفلية وليس في جهة من الجهات، ولا يثبتون ما أثبته الله لنفسه، وكذلك يقولون بوجوب القليد الفقهي.. (الطريقة الرفاعية ص42).

3- ويجعلون السماع والمواجيد والتواجد من الصراخ وغيره مما درج عليه أهل التصوف ديناً ويكفرون من يقول ببدعية ذلك أو يعيبه. قالوا "وإن من أنكر ذلك فقد كفر، لأنه عاب خيراً أمر الله به، ومن عاب ما أمر الله به فهو كافر" (الطريقة الرفاعية ص64،78).

4- أنكر أحمد الرفاعي ما قاله الحلاج ونفى أن يكون ولياً أو واصلاً حيث قال: "أي سادة تفرقت الطوائف شيعاً، وأحميد (يعني نفسه) بقي مع أهل الذل والانكسار والمسكنة والاضطرار، إياكم والكذب على الله (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً). ينقلون عن الحلاج أنه قال: أنا الحق. أخطأ بوهمه، لو كان على الحق ما قال أنا الحق، يذكرون له شعراً يوهم الوحدة كل ذلك ومثله باطل، ما رآه رجلاً واصلاً أبداً، ما أراه شرب، ما أراه حضر، ما أراه سمع إلا رنة وطنيناً، فأخذهم الوهم من حال إلى حال، وما زاد قرباً ولم يزدد خوفاً فهو ممكور. إياكم والقول بهذه الأقاويل إن هي إلا أباطيل".. أ.هـ (البرهان المؤيد ص26).

وهذه أقوال صريحة في رفض أقوال الحلاج الكفرية، والتمسك بالحق والحكم على قائلها بما حكم به أهل الإسلام جميعاً في عصره أنه كافر زنديق وأنه يستحق القتل والصلب الذي وقع له.

ويستطرد الرفاعي أيضاً مبيناً أن حال الأولياء الصادقين لا تكون كحال فرعون الذي قال أنا ربكم الأعلى.. وليست كذلك كحال نمرود الذي قال (أنا أحيي وأميت) فيقول:

"درج السلف على الحدود بلا تجاوز. بالله عليكم هل يتجاوز الحد إلا الجاهل وهل يدوس عنوة في الجب إلا الأعمى! ما هذا التطاول وذلك التطاول ساقط بالجوع. ساقط بالعطش. ساقط بالنوم. ساقط بالوجع. ساقط بالفاقة. ساقط بالهرم. ساقط بالعناء. أين هذا التطاول من صدمة صوت (لمن الملك اليوم). العبد متى تجاوز حده مع إخوانه يعد في الحضرة ناقصاً. التجاوز علم نقص ينشر على رأس صاحبه. يشهد عليه بالغفلة. يشهد عليه بالزهو. يشهد عليه بالحجاب. يتحدث القوم بالنعم لكن مع ملاحظة الحدود الشرعية. الحقوق الإلهية تطلبهم في كل قول وفعل. الولاية ليست بفرعونية. ولا بنمرودية قال فرعون أنا ربكم الأعلى. وقال قائد الأولياء وسيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم (لست بملك) نزع ثوب التعالي والإمرة والفوقية. كيف يتجرأ على ذلك العارفون: والله يقول {وامتازوا اليوم أيها المجرمون} وصف الافتقار إلى الله وصف المؤمنين. قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا أنتم الفقراء إلى الله} هذا الذي أقوله علم القوم. تعلموا هذا العلم. فإن جذبات الرحمن في هذا الزمان قلت. اصرفوا الشكوى إلى الله في كل أمر. العاقل لا يشكو لا إلى ملك ولا إلى سلطان. العاقل كل أعماله لله" أ.هـ (البرهان المؤيد ص26).

وهذا كلام جيد جيداً في رفض دعاوي الصوفية وشطحهم ولكن أتباعه اليوم يخالفون هذا تماماً فيترضون على ابن عربي ومن على شاكلته ويطبعون أقوال هؤلاء جنباً إلى جنب مع أقوال الرفاعي.. ويعتذرون عما قاله الحلاج وغيره أنه من الشطح ولا يصرحون بما صرح لنا في إبعاد قائل هذه الأقوال من الدين. وبذلك يتناقضون على عاداتهم في قولهم أحياناً في رفض الدعوى والشطح، وفي نشرهم لهذه الدعاوي وترضيهم على فاعليها.

5- ومن المشاعر الخاصة بالطريقة الرفاعية أيضاً الخلوة الأسبوعية السنوية وتبدأ عندهم في اليوم الحادي عشر من المحرم كل عام، ومن شروطها أن لا يأكل المريد طعاماً أخذ من ذي روح، ويذكر المريد في اليوم الأول لا إله إلا الله بعدد معلوم واليوم الثاني الله الله، والثالث وهاب وهاب، والرابع حي حي والخامس مجيد مجيد.. والسادس معطي معطي.. والسابع قدوس قدوس، وكل ذلك بعدد معلوم، وكذلك أن يقول المريد بعد كل صلاة من صلوات هذا الأسبوع (اللهم صل على سيدنا محمد النبي الأمي الطاهر الزكي وعلى آله وصحبه وسلم) يقول ذلك مائة مرة،وزعموا أن لهذه الخلوة فتوحات محمدية، وعنايات أحمدية لا تحصى وأن من فعلها شاهد من البراهين العظيمة وكأن له شأن عظيم (الطريقة الرفاعية ص115).

* ولا يخف أن هذه الخلوة في هذا الوقت المخصوص بدعة ضلالة وكل بدعة في النار كما قال صلى الله عليه وسلم وأنها تشريع جديد لم يأذن به الله ولا رسوله، وأن فيها مشابه لصيام النصارى الذين يصومون عن ذوات الأرواح، وأن فيها تقرباً من الرافضة حيث يخصص الحادي عشر من محرم من كل عام بذلك حيث تنتهي مشاعر الرافضة الخاصة ليدخل مشاعر الرفاعية ولعل ذلك السبب في قولهم إن الرفاعي تأتي منزلته بعد الأئمة الاثني عشر مباشرة (الطريقة الرفاعية ص127).

وأما تخصيصهم كل يوم بذكر خاص فهو بدعة، وأما ذكرهم الله بالاسم المفرد فقط الله، حي، مجيد فبدعة عظيمة ولم يرد ذكر الله بالاسم المفرد مطلقاً.. بل لا يذكر الله إلا بجملة مفيدة نحو (لا إله إلا الله) فهي جملة (وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله)، ونحو ذلك فكلها جمل تفيد معنى تعظيماً، فكل من ذكر الله باسم فرد من أسمائه فهو مبتدع، ولذلك لا يستغرب على هؤلاء المبتدعة أن يروا في خلواتهم هذه النيران الشيطانية التي يحسبونها أنواراً ملائكية رحمانية وما هي كذلك لأن الله لا يشرق نوره إلا في قلوب الصالحين المتبعين للحق من عباده.

6- ومن مشاعر الطريقة الخاصة أيضاً جواز المحاضرة وربط الروح بأرواح من شاء استحضار روحه من كافر ومسلم (الطريقة الرفاعية ص120) وكذلك من مشاعرهم ما يسمى بالاستفاضة وهي ربط قلب المريد بقلب الشيخ طلباً لإفاضة العلم الباطني إليه، وهذه بدعة صوفية معلومة. ففي التربية الصوفية يطلب من المريد أن يستحضر روح شيخه عند الذكر ويتمثله أمامه ويطلب من شيخه أن يربط روحه بروح الرسول الذي يزعمون أنه يفيض العلوم والأسرار على قلوب شيوخ الصوفية. والحق أن هذه العملية عملية شيطانية لأن المريد الذي يغيب عقله بالذكر المبتدع الذي يذكره آلاف المرات وعشرات الآلاف حتى يكل عقله ودماغه وهو في كل ذلك يحاول استحضار صورة شيخه أمامه، وقد يكون هذا في ظلام دامس فإن هذا هو الوقت المناسب ليدخل الشيطان إليه زاعماً أنه هو شيخه وأنه يراه الآن، وأنه يربط الآن قلبه بقلب الرسول ليفيض عليه العلوم والأسرار الإلهية، ويبدأ الشيطان يلقي في قلوب هؤلاء وساوسه الإبليسية فيوهم الواحد منهم أنه الآن صاعد إلى السماء، وأن هذا هو عرش الله، وهذا هو كرسيه هذه هي الأرض، وأن قد أصبحت الحبيب والعظيم وصاحب الهمة وما إلى ذلك من هذا النفح الشيطاني حتى يتصور المسكين فعلاً أنه وصل إلى مكان القرب من الله، وأن السماوات قد أصبحت طوع أمره، والأرض أصبحت كالخلخال برجله، وأنه يستطيع أن يقول للشيء كن فيكون.. وهكذا يكون المريد الذي دخل الخلوة، وذكر هذه الأذكار المبتدعة، وقطع نفسه بالظلام على هذا النحو يعود بنفس أخرى وحال أخرى غير الحال التي دخل بها.

وهذا سر قولهم إن لهذه الخلوة أسراراً وبراهين عظيمة، ولو علموا أنهم يربطون قلوبهم بالشياطين لعرفوا الحق المبين وأنهم نهوا عن سلوك الطرق المعوجة لأنه لا توصل إلا إلى الهاوية والضلال المبين.

7- وقد جعل الرفاعية الفضيلة العظمى والشرف الأسمى لهم على سائر الفرق ببركة الرفاعي فإن الله قد أبرد لأتباعه النيران، وأزال لهم فاعلية السموم، وألان لهم الحديد، وأذل لهم السباع والحيات والأفاعي، وأخضع لهم طغاة الجن (الطريقة الرفاعية ص134). ولذلك فإنهم في موالدهم ومؤتمراتهم العامة يأتون بمن يشعل النار ويدخلها إلى فمه، ومن ينفخ ناراً من فمه على هيئة التنين.. ومن يحمل الأفاعي ويلعب بها، ونحو ذلك من الشعبذات والخزعبلات التي لا يكاد يخلو منها قوم من أقوام أهل الشرك كالهنادك والفرس، وغيرهم (اقرأ الفصل الخاص بمناظرة ابن تيمية للبطائحية الرفاعية).

الرفاعية في طور جديد:

في النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري تزعم الطريقة الرفاعية رجل يسمى محمد مهدي الصيادي الرفاعي، الذي رفع نفسه إلى مرتبة الغوثية الكبرى، ودعا الناس إلى طريقته واقتفاء أثره، وزعم أنه سالك سبيل جده مؤسس الطريقة الرفاعية، ولكنه جاء بما لم يسبقه أحد من الدعاوي في علو منزلته، والحق أنني لم أجد أجرأ منه على مدح نفسه وكذبه فيما نسبه إلى الله ورسوله من تعظيم نفسه إلا أحمد التجاني وابن عربي، وإليك بعضاً من نصوصه في هذا الصدد..

1-  الدرة البيضاء:

ألف كراسة صغيرة سماها (الدرة البيضاء) ملأها بالجهل والغباء، وبدأها للأسف بقوله "أمرني بكتابتها وإذاعتها حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم" (المجموعة النادرة ص8) وزعم في هذه الرسالة أن الله خلق الرسول من نوره (المجموعة النادرة ص15) فأشرك بالله سبحانه وتعالى. وأن على المسلم أن يشفق على الخلق كلهم فخالف أمر الله القائل {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} ومن جملة مزاعمه في هذه الكراسة دعوة الناس إلى الاستمداد وطلب الإغاثة والإعانة من الأنبياء والأولياء (المجموعة النادرة ص18) فدعا بذلك إلى الشرك بالله سبحانه وتعالى، ودعا إلى العمل بأي رأي فقهي لأن اختلاف الأئمة رحمة (المجموعة النادرة ص23) ودافع عن ابن عربي واصفاً إياه بأنه العارف الشيخ محيي الدين ابن عربي طيب الله ثراه (المجموعة النادرة ص26). وزعم أن آل الرسول من أجزائه النورانية (المجموعة النادرة ص26) وبالتالي فهم أجزاء من الله حسب زعمه أن الرسول مخلوق من نور الله.. وقسم في هذه الرسالة الأولياء فجعل منهم المجاذيب وأهل الشطح والأميين.. وجعل نفسه في آخر هذه الكراسة أفضل الأولياء في زمنه على الإطلاق حيث يقول عن نفسه: "الاختصاص رحمة من الله تعالى للعبد لا بسعي ولا بعمل ولا برأي، ولا بِجَعْلٍ يختص الله برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم: هو عطاء رباني، ومنح صمداني، وفضل أسبغ في القدم، قبل أن تتعين النسم، والعناية قسم، فأهل الاختصاص جذبتهم يد المشيئة الربانية، بمحض الفضل والعناية الصمدانية، إلى أقصى المراتب العلية وهذا المنح الباهر، والفضل الوافر، هو اليوم حصتي، ومنصته منصتي، أقامني الله في هذه المنزلة إماماً، واختارني لرتبة هذه الخصوصية ختاماً، وكشف لي مخبآت الغيب باطلاع من كرمه، وجليل نعمه، ففهمت أسرار الرموز الفرقانية وسبرت خفايا دقائق البطون القرآنية، ولم تبرح تترقى همتي بكشف تلك الحجب اللطيفة، وبشق ديباجات هاتيك المحاضر الشريفة، فأنا اليوم ولربي الحمد والشكر، وله الإحسان والبر، كنز الفيوضات الطاهرة المحمدية، وسجل العلوم المقدسة النبوية، وهذه النوبة نوبتي، تتقلب في وراث منزلتي، وخدام قدمي إلى ما شاء الله، بهذا بشرت من صاحب الوعد الصادق، وقرأته في صحف الرموزات العلوية التي طفحت بدقائق الحقائق، سينشر علم ظهور حالي بعد هذا الخفاء في الأكوان ويبرز بروز الشمس من بطن ليل الطمس للعيان، وتعكف على بابي القلوب والأرواح، ويسري سر إرشادي في الجبال والأودية والبطاح ولم يمس شأن نهجي المبارك غبار دنيوي، ولم يرجع منه حرف إلى قصد نفساني بل كله لله" (المجموعة النادرة ص37) أ.هـ.

وبعد أن مدح نفسه بكل ما استطاع من نعوت يقول: "جاءت لي بذلك البشرى المحمدية الصحيحة والعناية النبوية الصريحة بوساطة روح سلطان الأولياء وزعيمهم وسيد منصتهم وكريمهم مولانا السيد أحمد الرفاعي الحسيني" أ.هـ منه بلفظه (المجموعة النادرة ص37).

2- برقمة البلبل.

وتكاد تكون كل الوسائل التي ألفها هذا الصياد الرفاعي على هذا النحو ولكن في رسالة أخرى سماها (برقمة البلبل) أتى فيها بما لم يسبقه به أحد من الكذب، ولا أظن أن لاحقاً يستطيع مجاراته أيضاً في مثل هذا الكذب السمج حيث يقول في أول رسالته هذه أنه كان في سنة 1252هـ في مكة المكرمة في بيت الله الحرام، وأنه سمع بلبلاً يتكلم مع بلبل آخر وعلى حد تعبيره (يبرقم) بلغة فهمها لأنه زعم أن رجلاً من رجال الغيب كان قد علمه لغة البلابل، فزعم أن أحد البلبلين كان يتكلم مع صديقه فأخبره أن أولاد آدم كلهم مكرمون، وجميعهم مرحومون وأنه لا يجوز أن نحتقر ذرة واحدة منهم، وأن منهم أيضاً أولياء عارفين، وأن من هؤلاء الأولياء قسم يتصرفون في العالم؛ ومن جملة ما يتصرفون فيه الطير فيقول البلبل لصديقه (ومنهم المتصرفون في وفيك وفي عالم الأكوان والنائبون بإذن الله عن نبي الرحمن) ثم يستطرد الصيادي الرفاعي في هذيانه الصوفي فيزعم أن أحد البلابل قال لصديقه: إن هذا الرجل الملتحف بكسائه الرث المستقبل الكعبة (يعني نفسه) هو من آل الرسول وقد فهم لغتنا وعرف ما قلناه وهو نائب الرسول الآن في هذا الوقت، وهو عالم الزمان وشيخ الأوان.. فقال البلبل الآخر إذن تعال نتبرك به ونقبل قدميه..

ويستطرد الصيادي الرفاعي قائلاً إن البلبلين جاءا إليه، وعكفا عليه، وسألاه الدعاء، وأنهما أخبراه بعد ذلك أنه إمام الدين، وسيد الأولياء وإن نوره لا يعدله نور، وإن مدده سيعم الأمصار والأقطار حيث تشب قلوب الحاسدين له بنار، وتنفلت عليه ألسنة الجاحدين (كذا..)..

ويستطرد الصيادي قائلاً بأن البلبلين أخبراه أن الله قد كتب صحيفة منزلته ووضعها فوق مقام إبراهيم فقام الصيادي من فوره وأخذ الصحيفة وفرح بما وجد فيها حسب زعمه من إطناب الله في الثناء عليه، ومدحه له وتبشيره إياه بظهور طريقته وعلو شأنه. يقول الصيادي هذا:

"وقد طبت بالله تعالى حين قرأت ما في الصحيفة المباركة بشأني، وبشأن ظهور أمر طريقي، وكدت أطير سروراً لما امتن الله تعالى علي به من إطناب في الألقاب فيها ما نصه بلفظه: هذا غريب الغرباء أبو البراهين، وأحد آل طه ويس. خلف الأئمة الهادين. بقية أعيان العترة الطاهرين، سيف الرسالة المسلول على أهل الضلالة. المجدد الأكمل. الأشعث الأغبر. سنجنجل الحكمة والفراسة المحمدية. رافع ألوية الشريعة الطاهرة الأحمدية. باني مباني أحكام الطريقة المرضية الرفاعية. شيخ الأئمة. نور المدد المصطفوي الذي سيتجلى به الظلمة. الرفاعي الثاني. الإمام الأوحد الرباني. طلسم البرهان المحمدي الذي لا يدافع. معنى ناطقة البيان النبوي الذي لا ينازع. بحر الفتح. هادم الدعوى والشطح. الفتى ابن الفتى. محمد مهدي بهاء الدين. باب النبي صلى الله عليه وسلم في العصر. وجه علي في الدهر. الفقير الغني. الضعيف القوي. الخفي الظاهر. العاجز القادر. شمس الإفاضة المصطفوية للذرات كلها من التحق بها سلم ومن أبغضه عن جحد أو حسد ندم ومن آذى نوابه وأحبابه لم يقم. ولو التفت عليه المحافل، وسارت لأمره الكتائب، وصفت له الصفوف، ومرت لديه من قناطير الذهب المقنطرة الألوف. هذه آيه الله المخبأة في دفتر الغيب ينتفع بقراءة فحواها، والاندماج في ظل معناها، كل من لله في عناية، يصل به الله ويقطع، ويعطي ويمنع، ويرفع ويضع، هذا الزاهد الواجد، الآبد الماجد، هذا بركة الله في الكون. هذا الممهد هذا الموطد. هذا القائم لله، ولإعلاء كلمة الله، ولخدمة رسول الله، لا لغرض من أغراض الأكوان، ولا لعلو، ولا لغلو، ولا لتقدم، ولا لترفع، ولا لعظمة نفسانية، بل هو بحر مطمطم رباني، وكنز مطلسم سبحاني، أفيض له مددنا بواسطه (كذا والصواب: بوساطة)، جده سر الوجود وبارقة النظم الأول في كيانتي النسقين الطموس والشهود (محمد) صلى الله عليه وسلم هذا سيد عشاق رسول الله، وسيد محابيب الله اليوم في ملك الله عليه سلام الله ورضوان الله. وهناك غبت عني، وأخذت مني، وذبت معنى، وترقرقت مهنى، وانطمست بوجودي وظهرت بمجدي" انتهى منه بلفظه (برقة البلبل من المجموعة النادرة ص77-79).

ولا يكتفي الصيادي بهذا الكذب الأبلج على الله سبحانه وتعالى فإن الله لم يخاطب أحداً بمثل هذا الخطاب المزعوم، فخطاب الله لصفوة أوليائه وهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لم يكن فيه عشر معشار هذا المدح بل كان عامته تأديباً وعتاباً؛ كمثل قوله لنوح: {يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسئلن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين} وذلك لمجرد قول نوح: {رب إن ابني من أهلي} وكذلك قوله لإبراهيم: {لا ينال عهدي الظالمين} عندما طلب إبراهيم أن يكون من ذريته أئمة.. وقوله لمحمد صلى الله عليه وسلم: {إنك لا تهدي من أحببت} وقوله سبحانه وتعالى: {ليس لك من الأمر شيء} وقوله: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} وقوله: {عبس وتولىّ} وقوله: {وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} هذا بعض من خطاب الله في قرآنه لرسله فانظر كيف يزعم هذا الصيادي أن الله كتب في صحيفة له "هذا أبو البراهين، هذا سيف الرسالة المسلول على أهل الضلالة.. هذا الإمام الأوحد الرباني.. باني مباني الطريقة المرضية الرفاعية.. هذا شمس الإفاضة المصطفوية للذرات كلها..".. الخ، هذا الكفر والضلال وهذا الكذب الصريح.. ومثل هذا لو كان يسمى باللغة تجوزاً مدحاً فإن أسقط الساقطين ينزه أن يمدح غيره بمثل هذا الكلام فلو أن شاعراً متملقاً كاذباً قام يمدح رجلاً بمثل هذه الأوصاف لاستحق السقوط واللعنة، ولرمي بالتزلف والجهالة والمبالغة الممقوتة، ورفع الإنسان الحقير عن مكانته. فكيف يسوغ أن ينسب مثل هذا الكلام الحقير الذي يقع في آخر سلم المدح الممجوج فينسب إلى رب العباد سبحانه وتعالى؟ أيليق أن ينسب مثل هذا التزلف الحقير لله جل وعلا..؟

ولا يكتفي الصيادي بالكذب المكشوف هذا على رب العالمين فيكمل بعد ذلك كذبه على سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم فيقول أنه بعد أن قرأ هذه الرسالة (الربانية) التي كانت فوق مقام إبراهيم انجلى له مظهر الرسول صلى الله عليه وسلم ثم ناداه قائلاً:

"قد ملأناك علماً وفهماً ومدداً وقدره بهاء وعرفاناً ونوراً وحظاً كبيراً، ورفعنا لك منبراً لا يسقط، ووهبناك ناطقة تتدرج كتائب مددها في الأكوان فلا تسكت إلى يوم الدين، أنت هو القبول عندنا، المؤيد بنورنا، المبارك بعلمنا، المنصور بمددنا، نوالي من والاك، ونعادي من عاداك، ونصون بعون الله من حاماك، يرفع علمك من أفلاذ بيتنا حبيب لنا فأعد عليه نظر حنانك، وعلمه رقرقة قلبك وناطقة لسانك، ولا توافق أهل البدعة، ولا تلايم أرباب الدعوى، ولا تجنح بالقلب ولا باللسان إلى القول بالوحدة المطلقة، ولا تتعمق بالكلام على الذات والصفات، ولا تعمل الفكر في المتشابهات، خذ ما أخذ أجدادك الآل الطاهرين، وسر سير الصحابة، واتبع مناهج السلف، ووافق إماماً ترتضيه من أئمة المذاهب المتبعة اليوم، فالأربعة على حق ولا تقلد غير نبيك، وتحقق بالحب لله ولكتابه ولرسوله، ولا تشق العصا، ولا تجمع القلوب عليك بل اجمعها على الله، وعلى شريعة نبيك، وعليك بمشرب جدك السيد أحمد الرفاعي، واثبت على طريقته فإنها الطريقة المحمدية الحقة..

واعلم أنك اليوم خاتمة الصديقين وشيخ الطريقة القويمة المحمدية ثم الأحمدية.. وأنت سيد الآل فمن دونهم وصل علي وسلم" أ.هـ منه بلفظه (البرقمة ص83).

ويزعم الصيادي أنه بعد أن سمع خطاب الرسول هذا غاب عن نفسه ستة أشهر كاملة، لا يصحو إلا أوقات الفروض فقط، وأنه شكر الله بعد ذلك إذ جاءته هذه النعمة الكبرى على يد طير صغير (برقمة البلبل ص82).. فانظر إلى هذا الإسناد العجيب "حدثنا الصيادي حدثنا البلبل قال الله تعالى.." فأين نضع هذا البلبل يا علماء الحديث وعلماء الأصول.. هل هو عدل ضابط، وهل الذي يحدث عن بلبل أيضاً يكون عدلاً ضابطاً.. وليتهم لم يقحموا اسم الله واسم رسوله في هذه الخرافات الممقوتة والمدح الكاذب لأنفسهم! وليتهم إذا أرادوا هذا العلو في الأرض وأكل أموال الناس بالباطل سلكوا غير هذا السبيل! فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.

الطريقة الرفاعية والتشيع:

تلتقي الطريقة الرفاعية مع التشيع في أمور كثيرة أهمها ما يلي:

1- جعل أحمد الرفاعي في المنزلة بعد الأئمة الاثني عشرة مباشرة:

بالرغم من أن الرفاعية ينسبون إمامهم أحمد الرفاعي إلى أنه من أولاد إبراهيم بن موسى الكاظمي بن جعفر الصادق بن محمد بن الباقر بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي رضي الله عنه (الطريقة الرفاعية ص129)، إلا أن الغريب حقاً أنهم يجعلون منزلته بعد منزلة الأئمة الاثني عشر مباشرة، وهذا لا شك مبني على قول الإمامية في أن الأئمة الاثني عشر هم وُرَّاثُ الدين، وأن إماميتهم بالنص، وجعل أحمد الرفاعي آتياً في المنزلة بعد الإمام الثاني عشر الذي يزعم الشيعة أنه ابن سنتين أو ثلاث أو خمس على خلاف بينهم وأنه دخل السرداب في سامراء سنة 206هـ وأنه مهدي آخر الزمان، وأنه سيخرج ليملأ الدنيا عدلاً.. لا شك أن قول الرفاعية في أحمد الرفاعي اعتراف منهم بهذه العقيدة التي يعتقد أهل السنة أنها من المفتريات والمكذوبات وأن الحسن العسكري لم ينجب أحداً، وأن هذا المهدي لا وجود له.

يقول الأستاذ محمد فهد الشقفة صاحب كتاب التصوف بين الحق والخلق: "لدى تصفحي مواضيع كتاب بوارق الحقائق للرواس وجدت نقاطاً تحتاج إلى بيان شاف -إن كان لها بيان شاف-.. وقد علقت عليه بملاحظات". ثم ذكر المؤلف من هذه الملاحظات ما يلي:

"الأولى -يذكر ناشر هذا الكتاب ومحققه في ذيل صحيفة 141-142 ناقلاً عن (روضة العرفان) لمؤلفها السيد محمود أبو الهدى خليفة الرواس قال فيها: (الأئمة الاثنا عشر) رضي الله تعالى عنهم أئمة آل بيت الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، تشمل إمامتهم كثيراً من المعاني اختلف فيها الفرق- ثم بعد أن يذكر رأيين لفرقتين من الشيعة الاثني عشرية من هؤلاء الأئمة، يقول: وأشرف المذاهب فيهم، مذهب أهل الحق من رجال الله العارفين فإنهم يقولون: إن الأئمة الاثني عشر، هم أئمة العترة فكل واحد منهم إمام لآل في زمانه، وصاحب مرتبة الغوثية المعبر عنها بالقطبية الكبرى، وهم : 1- سيدنا أمير المؤمنين (علي بن أبي طالب) كرم الله وجهه، 2- والإمام الجليل ولده أبو محمد(الحسن)، 3- والإمام الشهيد (الحسين)، 4- والإمام زين العابدين (علي)، 5- والإمام (محمد الباقر)، 6- والإمام (جعفر الصادق)، 7- والإمام (موسى الكاظم)، 8- والإمام (علي الرضا)، 9- والإمام محمد (الجواد)، 10- والإمام (علي الهادي)، 11- والإمام (الحسن العسكري)، 12- والإمام (محمد المهدي) المنتظر الحجة، رضي الله عنهم جميعاً.

الثانية- ويذكر أيضاً عن (روضة العرفان) بعد ما تقدم في ذيل الصحيفة 142 تحت عنوان (تحفة): أن بعض الأجلاء رأي الرسول عليه الصلاة والسلام في المنام وسأله عن الإمام السيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه، فقال له عليه الصلاة والسلام: هو ثالث عشر أئمة الهدي من أهل بيتي.

الثالثة- ويذكر الرواس في صحيفة 212 من هذا الكتاب (بوارق الحقائق) أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال له: تمسك بولدي (أحمد الرفاعي) تصل إلى الله فهو سيد أولياء أمتي بعد أولياء القرون الثلاثة وأعظمهم منزلة، ولا يجيء مثله إلى يوم القيامة غير سميك (المهدي) بن العسكري" أ.هـ (التصوف بين الحق والخلق ص196).

وهذه الملاحظات التي أوردها محمد فهد الشقفة نقلاً من كتاب بوارق الحقائق للرواس الرفاعي لا تحتاج إلى مزيد شرح وإيضاح أن العقيدة الرفاعية هي عين العقيدة الشيعية الإمامية حول الأئمة عموماً والإمام الغائب خصوصاً. وإن كان الصيادي قد زعم تارة أن أحمد الرفاعي يأتي في المنزلة بعد المهدي الغائب، وتارة يجعله مساوياً له..

2- إسناد الطريقة الرفاعية عن الإمام الغائب مهدي الشيعة المنتظر:

وقد جعل محمد الصيادي الرفاعي المتوفي سنة 1327هـ 1909م والذي يسمونه مجدد الطريقة الرفاعية، والرفاعي الثاني، أحد أسانيده المزعومة في الطريقة إلى المهدي الغائب منتظر الشيعة حيث يقول:

"لي أربعة أسانيد في المصافحة الأول عن ابن عمي السيد إبراهيم الرفاعي المفتي وسنده في المصافحة سنده في الإجازة إلى الإمام الأكبر سلطان الأولياء مولانا السيد أحمد الكبير الرفاعي رضي الله عنه وهو صافح جده يوم مد اليد والقصة أشهر من أن تذكر. والثاني عن ابن عمي وشيخي السيد عبدالله الراوي الرفاعي وسنده أيضاً سند إجازته وهو يتصل بالإمام الكبير الرفاعي رضي الله عنه وعنا به وهو قد صافح جده عليه الصلاة والسلام. والثالث عن حجة الله الإمام المهدي ابن الإمام العسكري رضوان الله وسلامه عليهما في طيبة الطيبة تجاه المرقد الأشرف المصطفوي وقال صافحت رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا لي بخير. قال شيخنا (رضي الله عنه) ثم دعا لي الإمام المهدي رضوان الله عليه بخير. قال والرابع عن الخضر عليه السلام صافحته سبعاً وثلاثين مرة آخر مرة منها في مقام الشيخ معروف الكرخي (رضي الله عنه) ببغداد عصر يوم جمعة فقال صافحت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لي صافحت كفي هذه سرادقات عرش ربي عز وجل" انتهى (المجموعة النادرة ص230،231).

وهذا اعتراف صريح لعقيدة الشيعة في الأئمة الاثني عشر، وبالإمام الغائب المزعوم. فأي صلة أكبر من هذا بين الطريقة الرفاعية والتشيع.

3- وحدة الشعار بين الرفاعية والشيعة:

وتلتقي الطريقة الرفاعية أيضاً في شعار واحد مع التشيع وهو السواد، ولبس العمامة السوداء.. يقول محمد مهدي الصيادي الرفاعي في كتاب قذلكة الحقيقة في أحكام الطريقة:

"المادة التاسعة عشرة في المائة الثالثة:

لبس العمامة السوداء، ولبس العمامة البيضاء وكلاهما سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا كان زي إمامنا في طريقتنا السيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه وعنا به العمامة السوداء فهي خرقته المباركة"!! (الطريقة الرفاعية ص126).

فاختيار اللون الأسود ليكون الخرقة والشعار لا شك أنه توافق ظاهر آخر مع الشيعة الذين جعلوا هذا اللون شعاراً لهم.

4- الخلوة الأسبوعية:

ومن مشاعر الطريقة الرفاعية الخاصة الخلوة الأسبوعية في كل عام، وابتداء دخلوها في اليوم الثاني من عاشوراء يعني الحادي عشر من محرم، وقد جعلوها شرطاً لكل من انتسب إلى هذه الطريقة، وطعامها خال من كل ذي روح (الطريقة الرفاعية ص115).

ولا شك أن هذا التوقيت السنوي ليس اختياره عبثاً، لأنه يأتي بعد المشاعر الخاصة للشيعة رأساً.

5- ادعاء الاختصاص بالرحمة:

يدعي الصياد وهو المؤسس الثاني للطريقة الرفاعية أنه مختص برحمة الله، ووارث رسول الله، والمختار من الله الذي كشف له الغيب، وعرف أسرار الرموز القرآنية، وباطن القرآن، وأنه كنز الفيوضات المحمدية، وأنه إمام الوقت، والإمامية تظل فيه وفي أعقابه إلى يوم القيامة.. وهذه الدعاوي جميعاً هي من دعاوي الشيعة في أئمتهم وهذه بعض نصوص عباراته في ذلك:

يقول الصيادي الرفاعي:

"فأهل الاختصاص جذبتهم يد المشيئة الربانية، بمحض الفضل والعناية الصمدانية، إلى أقصى المراتب العلية، وهذا المنح الباهر، والفضل الوافر، هو يوم حصتي، ومنصته منصتي، أقامني الله في هذه المنزلة إماماً، واختارني لرتبة هذه الخصوصية ختاماً، وكشف لي مخبآت الغيب باطلاع من كرمه، وجليل نعمه، ففهمت أسرار الرموز الفرقانية، وسبرت خفايا دقائق البطون القرآنية ولم تبرح تترقى همتي بكشف تلك الحجب اللطيفة، وبشق ديباجات هاتيك المحاضر الشريفة، فأنا اليوم ولربي الحمد والشكر وله الإحسان والبر، كنز الفيوضات الطاهرة المحمدية، وسجل العلوم المقدسة النبوية، وهذه النوبة نوبتي، تتقلب في ورّاث منزلتي، وخدام قدمي إلى ما شاء الله، بهذا بشرت من صاحب الوعد الصادق، وقرأته في صحف الرموزات العلوية التي طفحت بفائق الحقائق، سينشر علم ظهور حالي بعد هذا الخفاء في الأكوان، ويبرز بروز الشمس من بطن ليل الطمس للعيان، وتعكف على بابي القلوب والأرواح، ويسري سر إرشادي في الجبال والأودية والبطاح، ولم يمسس شأن نهجي المبارك غبار دنيوي، ولم يرجع منه حرف إلى قصد نفساني، بل كله لله، على منهاج رسول الله، عليه صلوات الله، لا يعبأ معناه بحال من أحوال هذه الدنيا الدنية، ولا يلتفت قائد حاله إلى مظاهرها الزائلة المطوية، وقد تفرغ رجال وراثتي حال النبي في الأمة، وتقوم بأطوار السادة القادة الأئمة، ومن رجالي وجه مولاي علي أمير المؤمنين، صهر النبي الأمين، الأسد البطين، ليث العرين، ولي هذا الخط الذي سيبرز، وكأني أراه على يد عبد يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله، من البيت الفاطمي، والفرع الأمدي، خزامي الفصيلة، خالدي القبيلة، يجدد المجد العلوي، ويرفع قواعد البيت الرفاعي، ويمهد فخار العنصر الصيادي، ينبلج شارق طالعه قرب متكين، فيقوم كما أنا حيرة للمفتونين، وجاذبة للموفقين، ويترعرع مجده في ساحة الظهور، فيرتقي إلى الشهباء، ثم إلى فروق، وبها تظهره لوامع بروق، وفي بحبوحة تلك الترقيات، وسمو هاتيك المنصات، فالمفتون قادح، والمأمون مادح ونور الله ساطع، وفي فضاء الوجودات لامع، وما النصر إلا من عند الله، يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله، ويقبل عليه من ارتضيناه وأعناه، وأسعفناه بمدد واجتذبناه، ولا يزال الأمر منبلج المظهر، ولذكر الله أكبر" أ.هـ منه بلفظه.

ولا يخفى على القارئ اللبيب كلمات هذا الصيادي أن وارثه سيجدد المجد العلوي، وأنه من البيت الفاطمي.. فكلها عبارات تنبئ عن المقصد والمعتقد.

* ولعلنا لا نستغرب بعد ذلك ممن ترجم لهذا الصيادي الرفاعي بعد موته فقال عنه:

"قام السيد أبو الهدىرحمه الله مدة حياته الكريمة بأعمال جليلة نافعة ومآثر حميدة طيبة تبقى شافعة له عند ربه يوم اللقاء، وأعماله كانت منصبة على تعمير الأضرحة لآل البيت الكرام" (المجموعة النادرة ص37،38).

الفصل الخامس

مناظرة شيخ الإسلام أحمد بن عبدالحليم بن تيمية

للبطائحية الرفاعية

بعد أن استكملنا بحمد الله الخطوط العريضة للطرق الصوفية قديماً وحديثاً نتبع هذا البيان بمناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية لمن عاصروه من الرفاعية البطائحية فقد زعم الرفاعية أن الله قد ألان لهم الحديد وأزال لهم فاعلية السموم والنيران، وأخضع لهم طغاة الجن، وما زالوا منذ ذلك اليوم يمخرقون بمثل هذا على الناس إلى يومنا هذا. وقد وقعت مناظرة بين شيخ الإسلام والرفاعية حول هذه الأمور التي يدعونها. فتحداهم شيخ الإسلام فيها وبين لهم أن ما يدعونه كذب وتمويه ودجل وليس من الولاية في شيء، وقد أثبت هذه المناظرة بكاملها بقلم الشيخ ابن تيمية لما فيها من القواعد العظيمة والجليلة، ولمناسبتها لما نحن في صددها من بيان الحق فيما عند الصوفية من الزيغ والباطل والله المستعان.

قال شيخ الإسلام قدس الله روحه:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله رب السماوات والأرضين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم النبيين، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم تسليماً دائماً إلى يوم الدين (مناظرة ابن تيمية لدجاجلة البطائحية).

(أما بعد) فقد كتبت ما حضرني ذكره في المشهد الكبير بقصر الإمارة والميدان بحضرة الخلق من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء العامة وغيرهم في أمر (البطائحية) يوم السبت تاسع جمادي الأولى سنة خمس (أي بعد السبعمائة) لتشوف الهمم إلى معرفة ذلك وحرص الناس على الإطلاع عليه. فإن من كان غائباً عن ذلك قد يسمع بعض أطراف الواقعة، ومن شهدها فقد رأى وسمع ما رأى وسمع، ومن الحاضرين من سمع ورأى ما لم يسمع غيره ويرى لانتشار هذه الواقعة العظيمة، ولما حصل بها من عز الدين، وظهور كلمته العليا، وقهر الناس على متابعة الكتاب والسنة، وظهور زيف من خرج عن ذلك من أهل البدع المضلة والأحوال الفاسدة والتلبيس على المسلمين.

وقد كتبت في غير هذا الموضع صفة حال هؤلاء (البطائحية) وطريقتهم وطريق (الشيخ أحمد بن الرفاعي) وحاله، وما وافقوا فيه المسلمين وما خالفوهم. ليتبين ما دخلوا فيه من دين الإسلام وما خرجوا فيه عن دين الإسلام، فإن ذلك يطول وصفه في هذا الموضع، وإنما كتبت هنا ما حضرني ذكره من حكاية هذه الواقعة المشهورة في مناظراتهم ومقابلتهم.

وذلك أني كنت أعلم من حالهم بما قد ذكرته في غير هذا الموضع -وهو أنهم وإن كانوا منتسبين إلى الإسلام، وطريقة الفقر والسلوك، ويوجد في بعضهم التعبد والتأله والوجد والمحبة والزهد والفقر والتواضع ولين الجانب والملاطفة في المخاطبة والمعاشرة والكشف والتصرف ونحو ذلك ما يوجد- فيوجد أيضاً في بعضهم من الشرك وغيره من أنواع الكفر، ومن الغلو والبدع في الإسلام والإعراض عن كثير ما جاء به الرسول، والاستخفاف بشريعة الإسلام، والكذب والتلبيس وإظهار المخارق الباطلة وأكل أموال الناس بالباطل، والصد عن سبيل الله ما يوجد..

وقد تقدمت لي معهم وقائع متعددة بينت فيها لمن خاطبته منهم ومن غيرهم بعض ما فيهم من حق وباطل، وأحوالهم التي يسمونها الإشارات، وتاب منهم جماعة، وأدب منهم جماعة من شيوخهم، وبينت صورة ما يظهرونه من المخاريق: مثل ملابسة النار والحيات، وإظهار الدم، واللاذن والزعفران وماء الورد والعسل والسكر وغير ذلك، وأن عامة ذلك عن حيل معروفة وأسباب مصنوعة، وأراد غير مرة منهم قوم إظهار ذلك فلما رأوا معارضتي لهم رجعوا ودخلوا على أن أسترهم فأجبتهم إلى ذلك بشرط التوبة، حتى قال لي شيخ منهم في مجلس عام فيه جماعة كثيرة ببعض البساتين لما عارضتهم بأني أدخل معكم النار بعد أن نغتسل بما يذهب الحيلة، ومن احترق كان مغلوباً، فلما رأوا الصدق أمسكوا عن ذلك.

وحكى ذلك الشيخ أنه كان مرة عند بعض أمراء التتر بالمشرق، وكان له صنم يعبده، قال: فقال: هذا الصنم يأكل من هذا الطعام كل يوم ويبقى أثر الأكل في الطعام بيناً يرى فيه!! فأنكرت ذلك، فقال لي إن كان يأكل أنت تموت؟ فقلت نعم، قال: فأقمت عنده إلى نصف النهار ولم يظهر في الطعام أثر! فاستعظم ذلك التتري وأقسم بأيمان مغلظة أنه كل يوم يرى فيه أثر الأكل، لكن اليوم بحضورك لم يظهر ذلك. فقلت لهذا الشيخ: أنا أبين لك سبب ذلك. ذلك التتري كافر مشرك، ولصنمه شيطان يغويه بما يظهره من الأثر في الطعام، وأنت كان معك من نور الإسلام وتأييد الله تعالى ما أوجب انصراف الشيطان عن أن يفعل ذلك بحضورك، وأنت وأمثالك بالنسبة إلى أهل الإسلام الخالص كالتتري بالنسبة لأمثالك. فالتتري وأمثاله سود، وأهل الإسلام المحض بيض، وأنتم بلق فيكم سواد وبياض. فأعجب هذا المثل من كان حاضراً!!!

وقلت لهم في مجلس آخر لما قالوا تريد أن تظهر هذه الإشارات؟ قلت: إن عملتموها بحضور من ليس من أهل الشأن: من الأعراب والفلاحين، أو الأتراك أو العامة أو جمهور المتفقهة والمتفرقة والمتصوفة لم يحسب لكم ذلك. فمن معه ذهب فليأت به إلى سوق الصرف إلى عند الجهابذة الذين يعرفون الذهب الخالص من المغشوش ومن الصفر، لا يذهب إلى عند أهل الجهل بذلك. فقالوا لي: لا نعمل هذا إلا أن تكون همتك معنا، فقلت: همتي ليست معكم، بل أنا معارض لكم مانع لكم، لأنكم تقصدون بذلك إبطال شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان لكم قدرة على إظهار ذلك فافعلوا. فانقلبوا صاغرين.

فلما كان قبل هذه الواقعة بمدة كان يدخل منهم جماعة مع شيخ لهم من شيوخ البر. مطوقين بأغلال الحديد في أعناقهم، وهو وأتباعه معروفون بأمور، وكان يحضر عندي مرات فأخاطبه بالتي هي أحسن؛ فلما ذكر الناس ما يظهرونه من الشعار المبتدع الذين يتميزون به عن المسلمين. ويتخذونه عبادة وديناً يوهمون به الناس أن هذا لله سر من أسرارهم، وأنه سيماء أهل الموهبة الإلهية السالكين طريقهم –أعني طريق ذلك الشيخ وأتباعه- خاطبته في ذلك بالمسجد الجامع، وقلت هذا بدعة لم يشرعها الله تعالى ولا رسوله، ولا فعل ذلك أحد من سلف هذه الأمة ولا من المشايخ الذين يقتدي بهم، ولا يجوز التعبد بذلك، وإلا التقرب به إلى الله تعالى لأن عبادة الله بما لم يشرعه ضلالة، ولباس الحديد على غير وجه التعبد قد كرهه من كرهه من العلماء للحديث المروي في ذلك وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على رجل خاتماً من حديد فقال: [مالي أرى عليك حلية أهل النار]. وقد وصف الله تعالى أهل النار بأن في أعناقهم الأغلال، فالتشبه بأهل النار من المنكرات. وقال بعض الناس قد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الرؤيا قال في آخره [أحب القيد وأكره الغل. القيد ثبات في الدين] فإذا كان مكروهاً في المنام فكيف في اليقظة؟!

فقلت له في ذلك المجلس ما تقدم من الكلام أو نحواً منه مع زيادة، وخوفته من عاقبة الإصرار على البدعة، وأن ذلك يوجب عقوبة فاعله، ونحو ذلك من الكلام الذي نسيت أكثره لبعد عهدي به. وذلك أن الأمور التي ليست مستحبة في الشرع لا يجوز التعبد بها باتفاق المسلمين، ولا التقرب بها إلى الله ولا اتخاذها طريقاً إلى الله وسبباً لأن يكون الرجل من أولياء الله وأحبائه، ولا اعتقاد أن الله يحبها أو يحب أصحابها كذلك، أو أن اتخاذها يزداد به الرجل خيراً عند الله وقربة إليه، ولا أن يجعل شعاراً للتائبين المريدين وجه الله الذين هم أفضل ممن ليس مثلهم.

فهذا أصل عظيم تجب معرفته والاعتناء به، وهو أن المباحات إنما تكون مباحة إذا جعلت مباحات، فأما إذا اتخذت واجبات أو مستحبات كان ذلك ديناً لم يشرعه الله، وجعل ما ليس من الواجبات والمستحبات منها بمنزلة جعل ما ليس من المحرمات منها، فلا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله؛ ولهذا عظم ذم الله في القرآن لمن شرع ديناً لم يأذن الله به، ولمن حرم ما لم يأذن الله بتحريمه فإذا كان هذا في المباحات فكيف بالمكروهات أو المحرمات؟ ولهذا كانت هذه الأمور لا تلزم بالنذر، فلو نذر الرجل فعل مباح أو مكروه أو محرم لم يجب عليه فعله كما يجب عليه إذا نذر طاعة الله أن يطيعه؛ بل عليه كفارة يمين إذا لم يفعل عند أحمد وغيره، وعند آخرين لا شيء عليه. فلا يصير بالنذر ما ليس بطاعة ولا عبادة طاعة وعبادة.

ونحو ذلك العهود التي تتخذ على الناس لالتزام طريقة شيخ معين كعهود أهل (الفتوة) و (رماة البندق) ونحو ذلك ليس على الرجل أن يلتزم من ذلك على وجه الدين والطاعة لله إلا ما كان ديناً وطاعة لله ورسوله في شرع الله؛ لكن قد يكون عليه كفارة عند الحنث في ذلك؛ ولهذا أمرت غير واحد أن يعدل عما أخذ عليه من العهد بالتزام طريقة مرجوحة أو مشتملة على أنواع من البدع إلى ما هو خير منها من طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم واتباع الكتاب والسنة؛ إذا كان المسلمون متفقين على أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد أو يقول عن عمل: إنه قربة وطاعة وبر وطريق إلى الله واجب أو مستحب إلا أن يكون مما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك يعلم بالأدلة المنصوبة على ذلك، وما علم باتفاق الأمة أنه ليس بواجب ولا مستحب ولا قربة لم يجز أن يعتقد أو يقال إنه قربة وطاعة.

فكذلك هم متفقون على أنه لا يجوز قصد التقرب به إلى الله، ولا التعبد به ولا اتخاذه ديناً ولا عمله من الحسنات، فلا يجوز جعله من الدين لا باعتقاد وقول، ولا بإرادة وعمل.

وبإهمال هذا الأصل غلط خلق كثير من العلماء والعباد يرون الشيء إذا لم يكن محرماً لا ينهى عنه، بل يقال إنه جائز ولا يفرقون بين اتخاذه ديناً وطاعة وبراً، وبين استعماله كما تستعمل المباحات المحضة، ومعلوم أن اتخاذه ديناً بالاعتقاد أو الاقتصاد أو بهما أو بالقول أو بالعمل أو بهما من أعظم المحرمات وأكبر السيئات، وهذا من البدع المنكرات التي هي أعظم من المعاصي التي يعلم أنها معاص وسيئات.

فصل

فلما نهيتهم عن ذلك أظهروا الموافقة والطاعة ومضت على ذلك مدة والناس يذكرون عنهم والإصرار على الابتداع في الدين، وإظهار ما يخالفشرعة المسلمين، ويطلبون الإيقاع بهم، وأنا أسلك مسلك الرفق والأناة، وأنتظر الرجوع والفيئة، وأؤخر الخطاب إلى أن يحضر (ذلك الشيخ) لمسجد الجامع. وكان قد كتب إلي كتاباً بعد كتاب فيه احتجاج واعتذار، وعتب وآثار، وهو كلام باطل لا تقوم به حجة، بل إما أحاديث موضوعة، أو إسرائيليات غير مشروعة، وحقيقة الأمر الصد عن سبيل الله وأكل أموال الناس بالباطل.

فقلت لهم: الجواب يكون بالخطاب. فإن جواب مثل هذا الكتاب لا يتم إلا بذلك وحضر عندنا منهم شخص فنزعنا الغل من عنقه.

وهؤلاء هم من أهل الأهواء الذين يتعبدون في كثير من الأمور بأهوائهم لا بما أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله}. ولهذا غالب وجدهم هوى مطلق لا يدرون من يعبدون، وفيهم شبه قوي من النصارى الذين قال الله تعالى فيهم: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل}، ولهذا كان السلف يسمون أهل البدع أهل الأهواء.

فحملهم هواهم على أن تجمع الأحزاب، ودخلوا إلى المسجد الجامع مستعدين للحراب، بالأحوال التي يعدونها للغلاب. فلما قضيت صلاة الجمعة أرسلت إلى شيخهم لنخاطبه بأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ونتفق على اتباع سبيله - فخرجوا من المسجد الجامع في جموعهم إلى قصر الإمارة، وكأنهم اتفقوا مع بعض الكبار على مطلوبهم، ثم رجعوا إلى مسجد الشاغور -على ما ذكر لي- وهم من الصياح والاضطراب، على أمر من أعجب العجاب. فأرسلت إليهم مرة ثانية لإقامة الحجة والمعذرة، وطلباً للبيان والتبصرة، ورجاء المنعة والتذكرة. فعمدوا إلى القصر مرة ثانية، وذكر لي أنهم قدموا من الناحية الغربية مظهرين الضجيج والعجيج والإزباد والإرعاد، واضطراب الرؤوس والأعضاء، والتقلب في نهر بردى وإظهار التوله الذي يخيلوا به على الردى، وإبراز ما يدعونه من الحال والمحال، الذي يسلمه إليهم من أضلوا من الجهال.

فلما رأى الأمير ذلك هاله ذلك المنظر، وسأل عنهم فقيل له هم مشتكون، فقال ليدخل بعضهم، فدخل شيخهم، وأظهر من الشكوى عليّ ودعوى الاعتداء مني عليهم كلاماً كثيراً لم يبلغني جميعه؛ لكن حدثني من كان حاضراً أن الأمير قال لهم: فهذا الذي يقوله من عنده أو يقوله عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: بل يقوله عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال: فأي شيء يقال له؟ قالوا: نحن لنا أحوال وطريق يسلم إلينا، قال: فنسمع كلامه فمن كان في الحق معه، قالوا: ولا بد من حضوره؟ قال: نعم، فكرروا ذلك فأمر بإخراجهم، فأرسل إلى بعض خواصه من أهل الصدق والدين ممن يعرف ضلالهم وعرفني بصورة الحال وأنه يريد كشف أمر هؤلاء.

فلما علمت ذلك ألقي في قلبي أن ذلك لأمر يريده الله من إظهار الدين، وكشف حال أهل النفاق المبتدعين، لانتشارهم في أقطار الأرضين، وما أحببت البغي عليهم والعدوان، ولا أن أسلك معهم إلا أبلغ ما يمكن من الإحسان، فأرسلت إليهم من عرفهم بصورة الحال، وأني إذا حضرت كان ذلك عليكم من الوبال، وكثر فيكم القيل والقال، وأن من قعد أو قام قدام رماح أهل الإيمان، فهو الذي أوقع نفسه في الهوان. فجاء الرسول وأخبر أنهم اجتمعوا بشيوخهم الكبار، الذين يعرفون حقيقة الأسرار، وأشاروا إليهم بموافقة ما أمروا به من اتباع الشريعة، والخروج عما ينكر عليهم من البدع الشنيعة. وقال شيخهم الذي يسيح بأقطار الأرض كبلاد الترك ومصر وغيرها: أحوالنا تظهر عند التتار لا تظهر عند شرح محمد بن عبدالله. وأنهم نزعوا الأغلال من الأعناق، وأجابوا إلى الوفاق.

ثم ذكر لي أنه جاءهم بعض أكابر غلمان المطاع وذكر أنه لا بد من حضورهم لموعد الاجتماع. فاستخرت الله تعالى تلك الليلة واستعنته، واستهديته، وسلكت سبيل عباد الله في مثل هذه المسالك، حتى ألقي في قلبي أن أدخل النار عند الحاجة إلى ذلك، وأنها تكون برداً وسلاماً على من اتبع ملة الخليل، وأنها تحرق أشباه الصابئة أهل الخروج عن هذا السبيل. وقد كان بقايا الصابئة أعداء إبراهيم الحنفاء بنواحي البطائح منضمين إلى من يضاهيهم من نصارى الدهماء.

وبين الصابئة ومن ضل من العباد المنتسبين إلى هذا الدين، لسبب يعرفه من عرف الحق المبين، فالغالية من القرامطة والقاطنية، كالنصيرية والإسماعيلية، يخرجون إلى مشابهة الصابئة الفلاسفة، ثم إلى الإشراك، ثم إلى جحود الحق تعالى. ومن شركهم الغلو في البشر والابتداع في العادات، والخروج عن الشريعة له نصيب من ذلك بحسب ما هو لائق، كالملحدين من أهل الاتحاد، والغالية من أصناف العباد.

فلما أصبحنا ذهبت إلى الميعاد، وما أحببت أن أستصحب أحداً للإسعاد، لكن ذهب أيضاً بعض من كان حاضراً من الأصحاب، والله هو المسبب لجميع الأسباب، وبلغني بعد ذلك أنهم طافوا على عدد من أكابر الأمراء، وقالوا أنواعاً مما جرت به عادتهم من التلبيس والافتراء، الذي استحوذوا به على أكثر أهل الأرض من الأكابر والرؤساء، مثل زعمهم أن لهم أحوالاً لا يقاومهم فيها أحد من الأولياء، وأن لهم طريقاً لا يعرفه أحد من العلماء. وأن شيخهم هو في المشايخ كالخليفة، وأنهم يتقدمون على الخلق بهذه الأخبار المنيفة. وأن المنكر عليهم هو آخذ بالشرع الظاهر، غير واصل إلى الحقائق والسرائر. وأن لهم طريقاً وله طريق. وهم الواصلون إلى كنه التحقيق وأشباه هذه الدعاوي ذات الزخرف والتزويق.

أنواع من تلبيسات الرفاعية:

وكانوا لفرط انتشارهم في البلاد، واستحواذهم على الملوك والأمراء والأجناد، لخفاء نور الإسلام، واستبدال أكثر الناس بالنور الظلام، وطموس آثار الرسول في أكثر الأمصار، ودروس حقيقة الإسلام في دولة التتار، لهم في القلوب موقع هائل، ولهم فيهم من الاعتقاد ما لا يزول بقول قائل.

قال المخبر: فغدا أولئك الأمراء الأكابر، وخاطبوا فيهم نائب السلطان بتعظيم أمرهم الباهر، وذكر لي أنواعاً من الخطاب، والله تعالى أعلم بحقيقة الصواب، والأمير مستشعر ظهور الحق عند التحقيق، فعاد الرسول، إلي مرة ثانية فبلغه أنّا في الطريق، وكان كثير من أهل الاتحاد مجدين في نصرهم بحسب مقدورهم، مجهزين لمن يعنيهم في حضورهم. فلما حضرت وجدت النفوس في غاية الشوق في هذا الاجتماع، متطلعين إلى ما سيكون طالبين للاطلاع. فذكر لي نائب السلطان وغيره من الأمراء بعض ما ذكروه من الأقوال المشتملة على الافتراء. وقال إنهم قالوا: إنك طلبت منهم الامتحان، وأن يحموا الأطواق ناراً ويلبسوها، فقلت هذا من البهتان.

وها أنا ذا أصف ما كان. قلت للأمير: نحن لا نستحل أن نأمر أحداً بأن يدخل ناراً، ولا تجوز طاعة من يأمر بدخول النار. وفي ذلك الحديث الصحيح. وهؤلاء يكذبون في ذلك، وهم كذابون مبتدعون قد أفسدوا من أمر دين المسلمين ودنياهم ما الله به عليم. وذكرت تلبيسهم على طوائف من الأمراء، وأنهم لبسوا على الأمير المعروف بالأيد مري، وعلى قفجق نائب السلطة وعلى غيرها، وقد لبسوا أيضاً على الملك العادل كتغا في ملكه، وفي حالة ولاية حماة، وعلى أمير السلاح أجل أمير بديار مصر، وضاق المجلس عن حكاية جميع تلبيسهم. فذكرت تلبيسهم على الأيد مري، وأنهم كانوا يرسلون من النساء من يستخبر عن أحوال بيته الباطنة، ثم يخبرونه بها على طريق المكاشفة، ووعدوه بالملك، وأنهم وعدوه أن يروه رجال الغيب. فصنعوا خشباً طوالاً وجعلوا عليها من يمشي كهيئة الذي يلعب بأكر الزجاج، فجعلوا يمشون على جبل المزة وذاك يرى من بعيد قوماً يطوفون على الجبل وهم يرتفعون على الأرض وأخذوا منه مالاً كثيراً ثم انكشف له أمرهم.

قلت للأمير: وولده هو الذي في حلقة الجيش يعلم ذلك، وهو ممن حدثني بهذه القصة. وأما قفجق فإنهم أدخلوا رجلاً في القبر يتكلم وأوهموه أن الموتى تتكلم، وأتوا به في مقابر باب الصغير إلى رجل زعموا أنه الرجل الشعراني الذي بجبل لبنان، ولم يقربوه منه بل من بعيد لتعود عليه بركته، وقالوا إنه طلب منه جملة من المال؛ فقال قفجق: الشيخ يكاشف وهو يعلم أن خزائني ليس فيها هذا كله، وتقرب قفجق منه وجذب الشعر فانقلع الجلد الذي ألصقوه على جلده من جلد الماعز.

فذكرت للأمير هذا؛ ولهذا قيل لي إنه لما انقضى المجلس وانكشف ما لهم للناس كتب أصحاب قفجق إليه كتاباً وهو نائب السلطنة بحماة يخبره صورة ما جرى.

وذكرت للأمير أنهم مبتدعون بأنواع من البدع، مثل الأغلال ونحوها، وأنّا نهيناهم عن البدع الخارجة عن الشريعة، فذكر الأمير حديث البدعة وسألني عنه، فذكرت حديث العرباض بن سارية، وحديث جابر بن عبدالله، وقد ذكرتهما بعد ذلك بالمجلس العام كما سأذكره.

 

 

ابن تيمية يتحداهم بدخول النار معهم:

قلت للأمير: أنا ما امتحنت هؤلاء، لكن هم يزعمون أن لهم أحوالاً يدخلون بها النار، وأن أهل الشريعة لا يقدرون على ذلك، ويقولون لنا: هذه الأحوال التي يعجز عنها أهل الشرع ليس لهم أن يعترضوا علينا، بل يسلم إلينا ما نحن عليه -سواء وافق الشرع أو خالفه- وأنا قد استخرت الله سبحانه أنهم إن دخلوا النار أدخل أنا وهم ومن احترق منا ومنهم فعليه لعنة الله، وكان مغلوباً، وذلك بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار.

فقال الأمير: ولم ذاك؟ قلت: لأنهم يطلون جسومهم بأدوية يصنعونها من دهن الضفادع، وباطن قشر النارنج، وحجر الطلق، وغير ذلك من الحيل المعروفة لهم، وأنا لا أطلي جلدي بشيء فإذا اغتسلت أنا وهم بالخل والماء الحار بطلت الحيلة وظهر الحق، فاستعظم الأمير هجومي على النار، وقال: أتفعل ذلك؟ فقلت له: نعم! قد استخرت الله في ذلك وألقي في قلبي أن أفعله، ونحن لا نرى هذا وأمثاله ابتداء فإن خوارق العادات إنما تكون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم المتبعين له باطناً وظاهراً لحجة أو حاجة، فالحجة لإقامة دين الله، والحاجة لما لا بد منه من النصر والرزق الذي به يقوم دين الله، وهؤلاء إذا أظهروا ما يسمونه إشارتهم وبراهينهم التي يزعمون أنها تبطل دين الله وشرعه وجب إلينا أن ننصر الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ونقوم في نصر دين الله وشريعته بما نقدر عليه من أرواحنا وجسومنا وأموالنا، فلنا حينئذ أن نعارض ما يظهرونه من هذه المخاريق بما يؤيدنا الله به من الآيات.

وليعلم أن هذا مثل معارضة موسى للسحرة لما أظهروا سحرهم أيد الله موسى بالعصا التي ابتلعت سحرهم. فجعل الأمير يخاطب من حضره من الأمراء على السماط بذلك، وفرح بذلك، وكأنهم كانوا قد أوهموه أن هؤلاء لهم حال لا يقدر أحد على رده، وسمعته يخاطب الأمير الكبير الذي قدم من مصر الحاج بهادر وأنا جالس بينهما على رأس السماط بالتركي ما فهمته منه إلا أنه قال: اليوم ترى حرباً عظيماً، ولعل ذلك كان جواباً لمن كان خاطبه فيهم على ما قيل.

وحضر شيوخهم الأكابر فجعلوا يطلبون من الأمير الإصلاح وإطفاء هذه القضية ويترفقون، فقال الأمير: إنما يكون الصلح بعد ظهور الحق، وقمنا إلى مقعد الأمير بزاوية القصر، أنا وهو وبهادر، فسمعته يذكر له أيوب الحمال بمصر والمولهين ونحو ذلك، فدل ذلك على أنه كان عند هذا الأمير لهم صورة معظمة، وأن لهم فيهم ظناً حسناً والله أعلم بحقيقة الحال؛ فإنه ذكر لي.

وكان الأمير أحب أن يشهد بهادر هذه الواقعة ليتبين له الحق؛ فإنه من أكابر الأمراء وأقدمهم وأعظمهم حرمة عنده، وقد قدم الآن وهو يحب تأليفه وإكرامه، فأمر ببساط يبسط في الميدان. وقد قدم البطائحية وهم جماعة كثيرون، وقد أظهروا أحوالهم الشيطانية من الإزباد والإرغاء وحركة الرؤوس والأعضاء، والظفر والحبو والتقلب، ونحو ذلك من الأصوات المنكرات، والحركات الخارجة عن العادات، المخالفة لما أمر به لقمان لابنه في قوله: {واقصد في مشيك واغضض من صوتك}.

فلما جلسنا وقد حضر خلق عظيم من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء والعامة وغيرهم، وحضر شيخهم الأول المشتكي، وشيخ آخر يسمي نفسه خليفة سيده أحمد، ويركب بعلمين، وهم يسمونه: عبدالله الكذاب، ولم أكن أعرف ذلك. وكان من مدة قد قدم علي منهم شيخ بصورة لطيفة وأظهر ما جرت به عادتهم من المسألة فأعطيته طلبته ولم أتفطن لكذبه حتى فارقني، فبقي في نفسي أن هذا خفي علي تلبيسه إلى أن غاب، وما يكاد يخفى علي تلبيس أحد، بل أدركه في أول الأمر فبقي ذلك في نفسي ولم أره قط إلى حين نظرته، ذكر لي أنه ذاك الذي كان اجتمع بي قديماً فتعجبت من حسن صنع الله أنه هتكه في أعظم مشهد يكون حيث كتم تلبيسه بيني وبينه.

الرفاعية البطائحية ينكلون عن دعاويهم ويقرون بما هم فيه من الباطل:

فلما حضروا تكلم منهم شيخ يقال له حاتم بكلام مضمونه طلب الصلح والعفو عن الماضي والتوبة، وإنا مجيبون إلى ما طلب من ترك هذه الأغلال وغيرها من البدع، ومتبعون للشريعة. (فقلت) أما التوبة فمقبولة. قال الله تعالى: {غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب} وقال تعالى: {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم* وأن عذابي هو العذاب الأليم}.

فأخذ شيخهم المشتكي ينتصر للبسهم الأطواق وذكر أن وهب بن منبه روى أنه كان في بني إسرائيل عابد وأنه جعل في عنقه طوقاً في حكاية من حكايات بني إسرائيل لا تثبت.

(فقلت) لهم: ليس لنا أن نتعبد في  ديننا بشيء من الإسرائيليات المخالفة لشرعنا، وقد روى الإمام أحمد في مسنده عن جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة من التوراة فقال: [أمتهوكون يا ابن الخطاب؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لو كان موسى حياً ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم] وفي مراسيل أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى مع بعض أصحابه شيئاً من كتب أهل الكتاب فقال: [كفى بقوم ضلالة أن يتبعوا كتاباً غير كتابهم أنزل إلى نبي غير نبيهم] وأنزل الله تعالى: {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم}.

فنحن لا يجوز لنا اتباع موسى ولا عيسى فيما علمنا أنه أنزل عليهما من عند الله إذا خالف شرعنا، وإنما علينا أن نتبع ما أنزل علينا من ربنا ونتبع الشرعة والمنهاج الذي بعث الله به إلينا رسولنا. كما قال تعالى: {فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً}. فكيف يجوز لنا أن نتبع عباد بني إسرائيل في حكاية لا تعلم صحتها؟! وما علينا من عباد بني إسرائيل؟! {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون} هات ما في القرآن وما في الأحاديث الصحاح كالبخاري ومسلم وذكرت هذا وشبهه بكيفية قوية.

فقال هذا الشيخ منهم يخاطب الأمير: نحن نريد أن تجمع لنا القضاة الأربعة والفقهاء ونحن قوم شافعية.

(فقلت) له هذا غير مستحب ولا مشروع عند أحد من علماء المسلمين؛ بل كلهم ينهى عن التعبد به ويعده بدعة، وهذا الشيخ كمال الدين بن الزملكاني مفتي الشافعية ودعوته وقلت: يا كمال الدين! ما تقول في هذا؟ فقال هذا بدعة غير مستحبة بل مكروهة. أو كما قال. وكان مع بعض الجماعة فتوى فيها خطوط طائفة من العلماء بذلك.

(وقلت) ليس لأحد الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ولا الخروج عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأشك هل تكلمت هنا في قصة موسى والخضر؛ فإني تكلمت بكلام بعد عهدي به.

فانتدب ذلك الشيخ (عبدالله) ورفع صوته. وقال: نحن لنا أحوال وأمور باطنة لا يوقف عليها، وذكر كلاماً لم أضبط لفظه: مثل المجالس والمدارس والباطن والظاهر؛ ومضمونه أن لنا الباطن ولغيره الظاهر، وأن لنا أمراً لا يقف (نسخه: لا يقدر) عليه أهل الظاهر فلا ينكرونه علينا، (فقلت ) له -ورفعت صوتي وغضبت- الباطن والظاهر والمجالس والمدارس، والشريعة والحقائق، كل هذا مردود إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ليس لأحد الخروج عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا من المشايخ والفقراء، ولا من الملوك والأمراء، ولا من العلماء والقضاة وغيرهم، بل جميع الخلق عليهم طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وذكرت هذا ونحوه.

فقال -رفع صوته-: نحن لنا الأحوال وكذا وكذا. وادعى الأحوال الخارقة كالنار وغيرها، واختصاصهم بها، وأنهم يستحقون تسليم الحال إليهم لأجلها.

ابن تيمية يتحدى البطائحية بالدخول في النار ومن احترق فعليه لعنة الله:

فقلت -ورفعت صوتي وغضبت- أنا أخاطب كل أحمدي من مشرق الأرض إلى مغربها أي شيء فعلوه في النار فأنا أصنع مثل ما تصنعون، ومن احترق فهو مغلوب، وربما قلت فعليه لعنة الله، ولكن بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار؛ فسألني الأمراء والناس عن ذلك؟ فقلت: إن لهم حيلاً في الاتصال بالنار يصنعونها من أشياء: من دهن الضفادع، وقشر النارنج، وحجر الطلق. فضج الناس بذلك، فأخذ يظهر القدرة على ذلك فقال: أنا وأنت نلف في بارية بعد أن تطلى جسومنا بالكبريت. (فقلت) فقم.

وأخذت أكرر عليه في القيام إلى ذلك، فمد يده يظهر خلع القميص، فقلت: لا! حتى تغتسل في الماء الحار والخل، فأظهر الوهم على عادتهم فقال: من كان يحب الأمير فليحضر خشباً أو قال حزمة حطب. فقلت هذا تطويل وتفريق للجمع؛ ولا يحصل به مقصود؛ بل قنديل يوقد وأدخل إصبعي وإصبعك فيه بعد الغسل؛ ومن احترقت إصبعه فعليه لعنة الله؛ أو قلت: فهو مغلوب. فلما قلت ذلك تغير وذل. وذكر لي أن وجهه أصفر.

ثم قلت لهم: ومع هذا فلو دخلتم النار وخرجتم منها سالمين حقيقة، ولو طرتم في الهواء، ومشيتم على الماء، ولو فعلتم ما فعلتم لم يكن في ذلك ما يدل على صحة ما تدعونه من مخالفة الشرع، ولا على إبطال الشرع، فإن الدجال الأكبر يقول للسماء أمطري فتمطر؛ وللأرض أنبتي فتنبت، وللخربة أخرجي كنوزك فتخرج كنوزها تتبعه، ويقتل رجلاً ثم يمشي بين شقيه، ثم يقول له قم فيقوم، ومع هذا فهو دجال كذاب ملعون، لعنه الله، ورفعت صوتي بذلك فكان لذلك وقع عظيم في القلوب.

وذكرت قول أبي يزيد البسطامي: لو رأيتم الرجل يطير في الهواء ويمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف وقوفه عند الأوامر والنواهي، وذكرت عن يونس بن عبدالأعلى أنه قال للشافعي أتدري ما قال صاحبنا يعني الليث بن سعد؟ قال: لو رأيت صاحب هوى يمشي على الماء فلا تغتر به. فقال الشافعي: لقد قصر الليث لو رأيت صاحب هوى يطير في الهواء فلا تغتر به؛ وتكلمت بهذا ونحوه بكلام بعد عهدي به. ومشايخهم يتضرعون عند الأمير في طلب الصلح وجعلت ألح عليه في إظهار ما ادعوه من النار مرة بعد مرة وهم لا يجيبون، وقد اجتمع عامة مشايخهم الذي في البلد والفقراء المولهون منهم، وهم عدد كثير، والناس يضجون في الميدان، ويتكلمون بأشياء لا أضبطها.

فذكر بعض الحاضرين أن الناس قالوا ما مضمونه: {فوقع الحق وبطل ما كانون يعملون*  فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين} وذكروا أيضاً أن هذا الشيخ يسمى عبدالله الكذاب. وأنه الذي قصدك مرة فأعطيته ثلاثين درهماً، فقلت: ظهر لي حين أخذ الدراهم وذهب أنه ملبس، وكان قد حكى حكاية عن نفسه مضمونها أنه أدخل النار في لحيته قدام صاحب حماة، ولما فارقني وقع في قلبي أن لحيته مدهونة، وأنه دخل الروم واستحوذ عليهم.

رجوع الرفاعية وإقرارهم العمل بالكتاب والسنة:

فلما ظهر للحاضرين عجزهم وكذبهم وتلبيسهم، وتبين للأمراء الذين كانوا يشدون منهم أنهم مبطلون رجعوا، وتخاطب الحاج بهادر ونائب السلطان وغيرهما بصورة الحال، وعرفوا حقيقة المحال؛ وقمنا إلى داخل ودخلنا، وقد طلبوا التوبة عما مضى، وسألني الأمير عما تطلب منهم، فقلت: متابعة الكتاب والسنة مثل أن (لا) يعتقد أنه لا يجب عليه اتباعهما، أو أنه يسوغ لأحد الخروج من حكمهما ونحو ذلك، لو أنه يجوز اتباع طريقة تخالف بعض حكمهما، ونحو ذلك من وجوه الخروج عن الكتاب والسنة التي توجب الكفر وقد توجب القتل دون الكفر، وقد توجب قتال الطائفة الممتنعة دون قتل الواحد المقدور علي.

فقالوا: نحن ملتزمون الكتاب والسنة؟ نحن نخلعها. فقلت: الأطواق وغير الأطواق، ليس المقصود شيئاً معيناً، وإنما المقصود أن يكون جميع  المسلمين تحت طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فقال الأمير: فأي شيء الذي يلزمهم من الكتاب والسنة؟ فقلت: حكم الكتاب والسنة كثير لا يمكن ذكره في هذا المجلس، لكن المقصود أن يلتزموا هذا التزاماً عاماً، من خرج عنه ضربت عنقه –وكرر ذلك وأشار بيده إلى ناحية الميدان- وكان المقصود أن يكون هذا حكماً عاماً في حق جميع الناس؛ فإن هذا مشهد عام مشهور قد توفرت الهمم عليه، فيتقرر عند المقاتلة، وأهل الديوان، والعلماء والعباد، وهؤلاء وولاة الأمور أنه من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه.

فظائع الرفاعية في الصلاة:

قلت: ومن ذلك الصلوات الخمس في مواقيتها كما أمر الله ورسوله؛ فإن من هؤلاء من لا يصلي، ومنهم من يتكلم في صلاته، حتى إنهم بالأمس بعد أن اشتكوا علي في عصر الجمعة جعل أحدهم يقول في صلب الصلاة: يا سيدي أحمد شيء لله. وهذا مع أنه مبطل للصلاة فهو شرك بالله ودعاء لغيره في حال مناجاته التي أمرنا أن نقول فيها: {إياك نعبد وإياك نستعين} وهذا قد فعل بالأمس بحضرة شيخهم فأمر قائل ذلك لما أنكر عليه المسلمون بالاستغفار على عادتهم في صغير الذنوب. ولم يأمره بإعادة الصلاة. وكذلك يصيحون في الصلاة صياحاً عظيماً وهذا منكر يبطل الصلاة.

فقال: هذا يغلب على أحدهم كما يغلب العطاس.

فقلت: العطاس من الله والله يحب العطاس ويكره التثاؤب ولا يملك أحدهم دفعه، وأما هذا الصياح فهو من الشيطان، وهو باختيارهم وتكلفهم، ويقدرون على دفعه، ولقد حدثني بعض الخبيرين بهم بعد المجلس أنهم يفعلون في الصلاة مالا تفعله اليهود والنصارى: مثل قول أحدهم أنا على بطن امرأة الإمام، وقول الآخر كذا وكذا من الإمام، ونحو ذلك من الأقوال الخبيثة وأنهم إذا أنكر عليهم المنكر ترك الصلاة يصلون بالنوبة، وأنا أعلم أنهم متولون للشياطين ليسوا مغلوبين على ذلك كما يغلب الرجل في بعض الأوقات على صيحة أو بكاء في الصلاة أو غيرها.

فلما أظهروا التزام الكتاب والسنة وجموعهم بالميدان بأصواتهم وحركاتهم الشيطانية يظهرون أحوالهم (قلت له) أهذا موافق للكتاب والسنة؟ فقال: هذا من الله حال يرد عليهم، فقلت: هذا من الشيطان الرجيم لم يأمر الله به ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أحبه الله ولا رسوله، فقال: ما في السماوات والأرض حركة ولا كذا ولا كذا إلا بمشيئته وإرادته، فقلت له: هذا من باب القضاء والقدر، وهكذا كل ما في العالم من كفر وفسوق وعصيان هم بمشيئته وإرادته وليس ذلك بحجة لأحد في فعله؛ بل ذلك مما زينه الشيطان وسخطه الرحمن.

فقال: فبأي شيء تبطل هذه الأحوال؟ فقلت: بهذه السياط الشرعية. فأعجب الأمير وضحك، وقال: أي والله! بالسياط الشرعية، تبطل هذه الأحوال الشيطانية، كما قد جرى مثل ذلك لغير واحد، ومن لم يجب إلى الدين بالسياط الشرعية فبالسيوف المحمدية. وأمسكت سيف الأمير وقلت: هذا نائب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلامه، وهذا السيف سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن خرج عن كتاب الله وسنة رسوله ضربناه بسيف الله، وأعاد الأمير هذا الكلام، وأخذ بعضهم يقول: فاليهود والنصارى يقرون ولا نقر نحن؟ فقلت: اليهود والنصارى يقرون بالجزية على دينهم المكتوم في دورهم، والمبتدع لا يقر على بدعته، فأفحموا لذلك.

و(حقيقة الأمر) أن من أظهر منكراً في دار الإسلام لم يقر على ذلك، فمن دعا إلى بدعة وأظهرها لا يقر، ولا يقر من أظهر الفجور، وكذلك أهل الذمة لا يقرون على إظهار منكرات دينهم، ومن سواهم فإن كان مسلماً أخذ بواجبات الإسلام وترك محرماته، وإن لم يكن مسلماً ولا ذمياً فهو إما مرتد، وإما مشرك، وإما زنديق ظاهر الزندقة.

وذكرت ذم المبتدعة فقلت: روى مسلم في صحيحه عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه أبي جعفر الباقر عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: [إن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة]. وفي السنن عن العرباض بن سارية، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: [أوصيكم بالسمع والطاعة فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة] وفي رواية [وكل ضلالة في النار].

فقال لي: البدعة مثل الزنا، وروى حديثاً في ذم الزنا، فقلت هذا حديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والزنا معصية، والبدعة شر من المعصية، كما قال سفيان الثوري: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ فإن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها. وكان قد قال بعضهم: نحن نتوب الناس، فقلت: مما ذا تتوبونهم؟ قال: من قطع الطريق، والسرقة، ونحو ذلك. فقلت: حالهم قبل تتويبكم خير من حالهم بعد تتويبكم؛ فإنهم كانوا فساقاً يعتقدون تحريم ما هم عليه، ويرجون رحمة الله، ويتوبون إليه، أو ينوون التوبة. فجعلتموهم بتتويبكم ضالين مشركين خارجين عن شريعة الإسلام، يحبون ما يبغضه الله ويبغضون ما يحبه الله، وبينت أن هذه البدع التي هم وغيرهم عليها شر من المعاصي.

قلت مخاطباً للأمير والحاضرين: أما المعاصي فمثل ما روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب أن رجلاً يدعى حماراً، وكان يشرب الخمر، وكان يُضحك النبي صلى الله عليه وسلم، وكان كلما أتي به النبي صلى الله عليه وسلم جلده الحد فلعنه رجل مرة. وقال: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله]. قلت: فهذا الرجل كثير الشرب للخمر ومع هذا فلما كان صحيح الاعتقاد يحب الله ورسوله شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فنهى عن لعنه.

وأما المبتدع فمثل ما أخرجا في الصحيحين عن علي بن أبي طالب وعن أبي سعيد الخدري وغيرهما -دخل حديث بعضهم في بعض- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم، فجاءه رجل ناتئ الجبين كث اللحية، محلوق الرأس، بين عينيه أثر السجود، وقال ما قال. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [يخرج من ضئضئي هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية؛ لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد] وفي رواية [لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل] وفي رواية [شر قتلى تحت أديم السماء خير قتلى من قتلوا].

(قلت): فهؤلاء مع كثرة صلاتهم وقيامهم وقراءتهم وما هم عليه من العبادة والزهادة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم، وقتلهم علي بن أبي طالب ومن معه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لخروجهم عن سنة النبي وشريعته، وأظن أني ذكرت قول الشافعي: لئن يبتلى العبد بكل ذنب ما خلى الشرك بالله خير من أن يبتلى بشيء من هذه الأهواء. فلما ظهر قبح البدع في الإسلام، وأنها أظلم من الزنا والسرقة وشرب الخمر وأنهم مبتدعون بدعاً منكرة فيكون حالهم أسوء من حال الزاني والسارق وشارب الخمر أخذ شيخهم عبدالله يقول: يا مولانا لا تتعرض لهذا الجانب العزيز -يعني أتباع أحمد بن الرفاعي- فقلت منكراً بكلام غليظ: ويحك؛ أي شيء هو الجانب العزيز، وجناب من خالفه أولى بالعز يا ذو الزرجنة (كذا بالأصل) تريدون أن تبطلوا دين الله ورسوله، فقال: يا مولانا يحرقك الفقراء بقلوبهم، وقلت: مثل ما أحرقني الرافضة لما قصدت الصعود إليهم وصار جميع الناس يخوفوني منهم ومن شرهم، ويقول أصحابهم إن لهم سراً مع الله فنصر الله وأعان عليهم. وكان الأمراء قد عرفوه بركة ما يسره الله في أمر غزو الرافضة في الجبل.

وقلت لهم: يا شبه الرافضة يا بيت الكذب، فإن فيهم من الغلو والشرك والمروق عن الشريعة ما شاركوا به الرافضة في بعض صفاتهم. وفيهم من الكذب ما قد يقاربون به الرافضة في ذلك، أو يساوونهم. أو يزيدون عليهم، فإنهم من أكذب الطوائف حتى قيل فيهم: لا تقولوا أكذب من اليهود على الله، ولكن قولوا أكذب من الأحمدية على شيخهم، وقلت لهم: أنا كافر بكم وبأحوالكم {فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون}.

ولما رددت عليهم الأحاديث المكذوبة أخذوا يطلبون مني كتباً صحيحة ليهتدوا بها فبذلت لهم ذلك، وأعيد الكلام: من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه، وأعاد الأمير هذا الكلام واستقر الكلام على ذلك. والحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.

 

الباب الخامس

الصلة بين التصوف والتشيع

1- أوائل المتصوفة وعلاقتهم بالتشيع:

يذكر الدكتور كامل مصطفى الشيبي في كتابه (الصلة بين التصوف والتشيع) أن أول من تسمى باسم الصوفي في الإسلام ثلاثة، هم جابر بن حيان، وأبو هاشم الكوفي، وعبدك الصوفي.

فأما جابر بن حيان فقد كان تلميذاً لجعفر الصادق أو عبده، والشيعة يرون أن جابراً هذا من كبارهم وأنه أحد الأبواب (الباب عند الشيعة هو المتكلم باسم الإمام) وأنه ألف كتباً في التشيع، وكان له مذهب خاص في الزهد ويذكر القفطي صاحب كتاب (إخْبارُ العلماء بأخبار العلماء) أن جابر بن حيان هذا كان مشرفاً على كثير من علوم الفلسفة ومتقلداً للعلم المعروف بعلم الباطن وهو مذهب المتصوفين من أهل الإسلام كالحارث المحاسبي، وسهل بن عبدالله التستري ونظرائهم، وقد كان جابر هذا بارعاً في الكيمياء ويقول عنه صاحب كتاب روضات الجنات (وأما البارع في هذه الصناعة على الإطلاق -علوم الطلسمات- فهو المقدم فيها الشيخ الآجل أبو موسى جابر بن حيان الصوفي منشئ كتاب المنتخب).

وأما الرجل الثاني الذي تسمى قديماً باسم الصوفي فهو أبو هاشم الكوفي وأنه أول من بنى خانقاه (دار خاصة للمنقطعين إلى التصوف) للصوفية في الرملة، وأنه كان يلبس لباساً طويلاً من الصوف كفعل الرهبان وكان يقول بالحلول والاتحاد مثل النصارى غير أن النصارى أضافوا الحلول والاتحاد إلى عيسى عليه السلام وأضافهما هو لنفسه ويقول الدكتور كامل الشيبي:

"ويظهر من كل ما دار حول أبي هاشم أن أخباره كانت قليلة وهي في اضطرابها تعدل الأخبار الواردة عن جابر بن حيان أو تزيد، ولكن أبا هاشم على كل حال كان معاصراً لجعفر الصادق أي معاصراً لجابر بن حيان ويسميه الشيعة مخترع الصوفية وينقلون عن الصادق أنه قال فيه (إنه فاسد العقيدة جداً، وهو ابتدع مذهباً يقال له التصوف وجعله مقراً لعقيدته الخبيثة) كل ذلك لينفوا أن يكون التصوف من اختراع شيعي وذلك أمر يدل على التنصل من مسؤولية لم تمحص نتائجها ولا أغراضها" أ.هـ (الصلة بين التصوف والتشيع).

* وأما عبدك الصوفي فيذكر الدكتور كامل الشيبي أيضاً أن الدكتور قاسم غني نقل عن ماسنيون أنه كان آخر شيوخ فرقة نصف شيعية ونصف صوفية تأسست في الكوفة، وظهرت كلمة (صوفية) في آثار المحاسبي والحافظ اسما لها، وأن (عبدك) هذا كان رجلاً منزوياً زاهداً توفي ببغداد سنة 210هـ وأنه أول من أطلق عليه اسم الصوفي وكان يطلق في ذلك الحين على بعض زهاد الكوفة من الشيعة، وعلى مجموعة من الثائرين في الإسكندرية، وأن (عبدك) هذا كان من كبار المشايخ وقدمائهم قبل بشر بن الحارث الحافي، والسري بن المغلّس السقطي، و(عبدك) هذا كان رأس فرقة من الزنادقة الذين زعموا أن الدنيا كلها حرام محرم لا يجوز الأخذ منها إلا القوت من حيث ذهب أئمة العدل، ولا تحل الدنيا إلا بأيام عادل، وإلا فهي حرام ومعاملة أهلها حرام. ولا يجوز الأخذ إلا مقدار القوت فقط.

ويضيف كامل الشيبي أن اسم (عبدك) هذا هو عبدالكريم وأن حفيده محمد بن عبدك كان مقدم الشيعة. وهكذا يبدو عبدك هذا جامعاً لاتجاهات عديدة مختلفة نابعة من التشيع الممتزج بالزهد الذي انتشر في الكوفة وأنه أول كوفي يطلق عليه اسم الصوفي.

ويعلق الدكتور كامل الشيبي على كل هذا قائلاً:

"أما بعد فإن نتيجة هذا كله أن كلمة (صوفي) التي قطع الباحثون المحدثون بصدورها عن الصوف قد صارت كذلك لأن الصوف قد عم زهاد الكوفة نفسها حيث ظهرت هذه الكلمة أولاً. وقد اشتق التصوف من الصوف. وقد رأينا أن لبس الصوف قد نبع من بيئة الكوفة التي عرف تمسكها بالتشيع ومعارضتها وحربها بالسيف أو بالقول أو بالقلب لمن نكل بالأئمة العلويين. وذلك -إذا صح- يقطع بأن التصوف في أصوله الأولى كان متصلاً بالتشيع" (الصلة بين التصوف والتشيع ص272).

 

2- أوجه التلاقي بين التصوف والتشيع:

المطلع على حقيقة مذاهب الصوفية، وعلى حقيقة مذاهب التشيع يجد أن المذهبين ينبعان من أصل واحد تقريباً ويهدفان في النهاية إلى غاية واحدة ويشتركان في عامة العقائد والشرائع التي ينتحلها كل منهم. وإليك التفصيل لهذا الإجمال.

أ-ادعاء العلوم الخاصة:

أول شيء يحب الشيعة أن ينفردوا به عن سائر فرق المسلمين أن عندهم علوماً خاصة ليست مبذولة لعموم الناس وهم ينسبون هذه العلوم تارة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه بزعم أن عنده أسرار الدين، وأنه وصي الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كتم عنده ما لم يطلع عليه باقي المسلمين، وتارة يزعمون أن عندهم علوم الأئمة أولاد علي من فاطمة وأن هؤلاء الأئمة يعلمون الغيب كله ولا يخطئون ولا ينسون، ولا يستطيع أحد أن يفهم الإسلام إلا من طريق الأئمة، فأسرار القرآن وحقيقة الدين عند الأئمة وحدهم، وتارة يزعمون أن عندهم قرآناً خاصاً يسمونه قرآن فاطمة وأنه يعدل هذا القرآن الذي بأيدي المسلمين ثلاث مرات (الدين بين السائل والمجيب للحاج ميرزا الحائري الإحقاقي ص89)، وليس فيه حرف من القرآن الذي بأيدي المسلمين اليوم. وأخرى يزعمون أن عندهم الجفر، وهو جلد قد كتب فيه كل العلوم.

وهكذا يزعمون لأنفسهم علوماً في الدين ليست عند أحد إلا عندهم فقط، ومرة أخرى يزعمون أن عندهم التفسير الحق لآيات القرآن بل يقولون إن الله بعث محمداً بالتنزيل (يعني حروف القرآن) وبعث علياً بالتأويل - (يعنون التفسير) (فرق الشيعة ص38).

ولقد درج المتصوفة أنفسهم على هذا المنوال نفسه فأعظم ما يلوح به المتصوفة ويتفاخرون به على الناس أن لديهم علوماً لدنية لا يطلع عليها إلا هم ولا يصل إليها إلا من سار على طريقهم بل إنهم احتقروا ما عند عامة المسلمين بل والرسل أنفسهم بجوار ما زعموا لأنفسهم من العلم كما قال كبيرهم أبو يزيد البسطامي: "خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله" وقال أيضاً: "أخذتم علمكم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت يقول أحدكم: حدثنا فلان عن فلان وأين فلان قالوا مات، وأما أحدنا فيقول: قلبي عن ربي". وهكذا زعم المتصوفة أنهم أصحاب الكشف والعلوم اللدنية وأن من سار خلفهم تلقى عنهم واستفاد منهم، بل إنهم يزعمون ربط قلب المريد بقلب الشيخ ليتلقى العلم اللدني من الشيخ، ثم إن الشيخ أيضاً يربط قلب المريد بالرسول ليتلقى العلوم اللدنية من عند الرسول صلى الله عليه وسلم.

وجعل المتصوفة كذلك مصدر علومهم الخاصة التأويل الباطني للقرآن والحديث حيث يزعمون تارة أنهم تلقوا هذا التأويل من الله، وتارة يزعمون أنه من الملك، وأخرى أنه بالإلهام وكذلك ينسبون علومه الباطنية إلى معرفة أسرار الحروف المقطعة في المصحف، والتلقي عن الخضر عليه السلام، بل والزعم بأن تلقيهم يكون أحياناً عن اللوح المحفوظ بالسماء، وهذا عين ما ادعته الشيعة أيضاً في أئمتهم حيث زعموا لهم أنهم يعلمون الغيب وأنه لا تسقط ورقة إلا يعلمونها، ولا يحدث حدث في الأبد أو الأزل إلا هم على علم منه. وهذا عما ادعته المتصوفة لأنفسهم وأئمتهم.

وهكذا تتطابق عقيدة التشيع مع معتقد المتصوفة في قضية العلم الباطني حتى لكأنهما شيء واحد.

ب- الإمامة الشيعية والولاية الصوفية:

ما زعمه الشيعة في أئمتهم هو عين ما ادعاه المتصوفة فيمن سموهم بالأولياء أيضاً. فقد بني مذهب الرفض على أن الأئمة أناس مختارون من قبل الله سبحانه وتعالى لقيادة الأمة بعد الرسول، وأنهم لذلك يملكون علوماً خاصة لدنية، وهم لذلك لا يخطئون ولا ينسون ولهم منزلتهم من الله التي استحقوها استحقاقاً ووهباً واختصاصاً واجتباءً ثم غلوا في هؤلاء الأئمة فجعلوهم آلهة أرباباً بكل ما تحمله الكلمة من معان فهم متصرفون في كل ذرات الكون، وهم يدخلون الجنة من شاءوا ويدخلون النار من شاءوا، ومن الرافضة من جعل روح الله حالة فيهم كما قالت الإسماعيلية والنصيرية، ومنهم من جعل منزلتهم فوق منازل الأنبياء والرسل والملائكة جميعاً وقال: "إن لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل وأنهم يتحكمون في قرارات هذا الكون" (الخميني في الحكومة الإسلامية ص54).

* وهذه العقائد نفسها هي التي أخذها المتصوفة وأطلقوها على من سموهم بالأولياء فكما خلع الرافضة صفات الألوهية والربوبية على الأئمة خلع المتصوفة صفات الربوبية والألوهية على الأولياء المزعومين. فجعلوهم أيضاً متصرفين في الكون أعلاه وأسفله ويعلمون الغيب كله، ولا يغرب عنهم صغير من أمر العالم أو كبير، وأن مقامهم لا يبلغه الأنبياء والملائكة، وأنهم نواب الله في مملكته والمتصرفون في شأن خلقه، وأنهم يدخلون الجنة من شاءوا ويخرجون من النار من شاءوا.

* وإذا كان الرافضة قد جعلوا بعد مقام الإمامة مقامات أقل من ذلك كالنقباء وهم وكلاء الإمام.. وهذه الفكرة نفسها قد أخذها المتصوفة وجعلوا مقام الولي الأعظم وسموه القطب الغوث، ثم يليه الأقطاب الثلاثة ثم يليه الأبدال السبعة ثم النجباء السبعون وهكذا.. مقتبسين كل ذلك من الترتيب الشيعي للولاة والأئمة.. وهكذا يتطابق الفكر والعقيدة الرافضية في الإمامة مع العقيدة الصوفية في الولاية.

 

يقول ابن خلدون في المقدمة:-

"ثم إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف وفيما وراء الحس توغلوا في ذلك، فذهب الكثير منهم إلى الحلول وفيما وراء الحس، توغلوا في ذلك، فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة.. وملأوا الصحف منه مثل الهروي في كتاب المقامات له، وغيره، وتبعهم ابن العربي وابن سبعين وتلميذهما، ثم ابن العفيف وابن الفارض، والنجم الإسرائيلي في قصائدهم، وكان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضاً بالحلول وإلهية الأئمة مذهباً لم يعرف لأولهم فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم، وظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب،ومعناه رأس العارفين يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله، ثم يورث مقامه لآخر من أهل العرفان وقد أشار إلى ذلك ابن سينا في كتاب الإشارات في فصول التصوف منها فقال: "جل جناب الحق أن يكون شرعه لكل وارد، أو يطلع عليه إلا الواحد بعد الواحد" وهكذا كلام لا تقوم عليه حجة عقلية ولا دليل شرعي، وإنما هو نوع من أنواع الخطابة، وهو بعينه ما تقوله الرافضة في توارث الأئمة عندهم، فانظر كيف سرقت طباع هؤلاء القوم هذا الرأي من الرافضة ودانوا به، ثم قالوا بترتيب وجود الأبدال بعد هذا القطب، كما قال الشيعة في النقباء، حتى إنهم لما أسندوا لباس خرقة التصوف ليجلوه أصلاً لطريقتهم ونحلتهم رفعوه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو من هذا المعنى أيضاً، وإلا فعلي رضي الله عنه، لم يختص بين الصحابة بنحلة ولا طريقة في لباس ولا رجال، بل كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أزهد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثرهم عبادة ولم يختص أحد منهم في الدين بشيء يؤثر عنه على الخصوص بل كان الصحابة كلهم أسوة في الدين والزهد والمجاهدة.

تشهد بذلك سيرهم وأخبارهم. نعم إن الشيعة يخيلون بما ينقلون من اختصاص علي بالفضائل دون سواه من الصحابة ذهاباً مع عقائد التشيع المعروفة لهم، والذي يظهر أن المتصوفة بالعراق لما ظهرت الإسماعيلية من الشيعة وظهر كلامهم في الإمامة وما يرجع إليها مما هو معروف، فاقتبسوا من ذلك الموازنة بين الظاهر والباطن وجعلوا الإمامة السباق والخلق في الانقياد إلى الشرع، وأفردوه بذلك أن لا يقع اختلاف كما تقرر في الشرع (يشير ابن خلدون رحمه الله بذلك إلى ما هو معروف عن الرافضة في إثباتهم الإمامة أنه لا بد من إمام معصوم يليه إمام معصوم وهكذا السياسة الدين والدنيا بعد الرسول حتى لا يقع خلاف بين الناس، ولا يكون مرد أمرهم إلى الاجتهاد الذي لا يخلو من الخطأ.. ومعلوم فساد هذا القول لأنه ما معصوم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وهؤلاء الأئمة الذين قال الشيعة بعصمتهم قد وقع منهم، ما ينكره الشيعة أصلاً أو يقولون فعلوه تقية وخوفاً)، ثم جعلوا القطب لتعليم المعرفة بالله لأنه رأس العارفين، وأفردوه بذلك تشبيهاً بالإمام في الظاهر، وأن يكون على وزانه في الباطن.

وسموه قطباً لمدار المعرفة عليه، وجعلوا الأبدال كالنقباء (الأبدال عند المتصوفة، والنقباء عند الشيعة. انظر الفصل الخامس بالولاية) مبالغة في التشبيه. فتأمل ذلك. يشهد بذلك كلام هؤلاء المتصوفة في أمر الفاطمي، وما شحنوا به كتبهم في ذلك مما ليس لسلف المتصوفة فيه كلام بنفي أو إثبات وإنما مأخوذ من كلام الشيعة والرافضة ومذاهبهم في كتبهم والله يهدي إلى الحق" (مقدمة ابن خلدون ص875-877).

وهكذا يقرر ابن خلدون تطابق التصوف مع التشيع في القول بالعلوم الباطنية، ومراتب الولاية، والقول بالحلول والاتحاد.

ويقول الدكتور كامل الشيبي في كتابه (الصلة بين التصوف والتشيع):

"وقد دخلت في التصوف فكرة إسماعيلية صريحة أخرى هي فكرة النقباء التي دارت -في الإسماعيلية- حول رجال عددهم اثنا عشر يسمون الحجج يبثون الدعوة في غيبة الإمام أو في حضرته وهم مقدسون وعددهم ثابت ويسندهم تكوين العالم الطبيعي كما يسند عدد الأئمة السبعة في السلسلة الواحدة، وقد بين لنا المقريزي أن هؤلاء الحجج متفرقون في جميع الأرض، عليهم تقوم. ويضيف أن عدد هؤلاء الحجج أبداً اثنا عشر رجلاً" (خطط المقريزي ص489). وهكذا يشارك الحجة الإمام في العلم والدعوة والسند الإلهي ومن هنا نفذت الصوفية إلى منازل القطب والأبدال. وهذا ابن عربي يذكر، في الفتوحات، عن الصوفية ما ذكره المقريزي عن الإسماعيلية فيقول في النقباء: "وهم اثنا عشر نقيباً في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون على عدد بروج الفلك الاثني عشر" (الفتوحات المكية 2/9). وهذه الإشارة تكفي للدلالة على أخذ المتصوفة فكرة هذه المنازل المقدسة عن الإسماعيلية. ويجب أن نشير هنا إلى أن ابن تيمية قد تنبه إلى أن هذه المصطلحات ليست مأثورة عن النبي فكأنه يشير إلى أن الصوفية قد أخذوها عن الإسماعيلية الذين قالوا بها أول من قال. وقد تنبه ابن خلدون أيضاً إلى أخذ المتصوفة -وبخاصة ابن عربي- عن الإسماعيلية القول (بالقطب) وكذلك ابن قصي وعبدالحق بن سبعين وابن أبي واصل: تلميذه" (الصلة بين التصوف والتشيع ص209).

ج- القول بأن للدين ظاهراً وباطناً:

اتفقت أيضاً كلمة التصوف مع التشيع في أن للدين ظاهراً وباطناً، فالظاهر هو المتبادل من خلال النصوص والذي يفهمه العامة من ذلك، وأما الباطن فهو عندهم العلم الحقيقي المراد من النص وهذا لا يفهمه ولا يعلمه إلا الأئمة والأولياء.. فقوله تعالى مثلاً: {وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة} أي أخرجوا زكاة أموالكم المفروضة حسب المقادير والنصاب الشرعي والشروط الشرعية لذلك.

ولكن الشيعة والمتصوفة زعموا أن ظاهر القرآن والحديث الذي يفهم منه العوام ما يفهمون لا يلزم الأئمة والأولياء لأن الأئمة والأولياء تتنزل عليهم المعاني المقصودة والمرادة من ذلك.. بل قال الشيعة: إن محمداً جاء بالتنزيل وعلياً جاء بالتأويل. وزعموا أن الأئمة من بعده هم الذين يعلمون معاني القرآن الحقيقية، وللقرآن عندهم باطن وظاهر، فالظاهر للعامة، والباطن للخاصة، ولذلك (فأقيموا الصلاة) عندهم مثلاً يعني بايعوا الإمام المعصوم، (وآتوا الزكاة)، أي أخلصوا وانقادوا للإمام.. وهكذا تصبح الألفاظ والعبارات القرآنية لا مدلول لها.

ويمكن تفسيرها حسب الأهواء والأمزجة، لتوافق العقائد الباطنية التي يدعو بها هؤلاء وهؤلاء، وقد سمى المتصوفة تفسيرهم الباطن هذا للنصوص القرآنية (بالحقيقة) وسموا التفسير الظاهري (بالشريعة) وقالوا الحقيقة للأولياء، والشريعة للعامة..

وتصرفوا بعد هذا التقسيم في نصوص القرآن والحديث حسب أهوائهم، وأدخلوا في الدين ما شاءوا من مزاعمهم وافتراءاتهم. وأفقدوا النصوص الشرعية جلالها واحترامها، لأنهم أبعدوها بهذا التأويل عن المعاني الحقيقية التي سيقت من أجلها تماماً، فما علاقة مثلاً تفسير {التين} أن يكون هو الرسول، و{الزيتون} أن يكون هو علي بن أبي طالب {وطور سينين} أن يكون هو الحسن، و{هذا البلد الأمين} أن يكون الحسين، وهكذا وما علاقة قوله تعالى:

{مرج البحرين يلتقيان} أن يكون بالبحرين علياً وفاطمة و{يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} الحسن والحسين؟!.

وقد كتب الدكتور كامل الشيبي فصلاً مطولاً حول هذا المعنى في كتابه (الصلة بين التصوف والتشيع) من هذا قوله:

"وقد أورد لنا الخوانساري أمثلة من هذه التأويلات كتأويل الوضوء بموالاة الإمام، والتيمم بالأخذ من المأذون عند غيبة الإمام الذي هو الحجة، والصلاة هي الناطق الذي هو الرسول بدليل قوله تعالى إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والاحتلام بإفشاء السر إلى غريب دون قصد، والغسل بتجديد العهد، والزكاة بتزكية النفس بمعرفة ما هم عليه من الدين، والكعبة بالنبي، والباب بعلي، والميقات والتلبية بإجابة المدعو، والطواف بالبيت سبعاً بموالاة الأئمة السبعة، والجنة براحة الأبدان عن التكاليف، والنار بمشقتها بمزاولة التكاليف (روضات الجنات ص731)، وتلك أحكام تعود بنا إلى الغلو الذي عرفناه أنه قرر أن الدين طاعة رجل وأن الصلاة والزكاة وغيرهما إنما هي كنايات عن رجال. ثم إن الإسماعيلية تجعل النقباء إلهيين أيضاً وإن كانوا من غير الأئمة وتسندهم بأن عددهم اثنا عشر رجلاً في كل زمان كما أن عدد الأئمة السبعة وأنهم مع كل إمام قائمون متفرقون في جميع الأرض عليهم تقوم (خطط المقريزي 2/231،233)، ثم يعين المقريزي مركز هؤلاء النقباء أو الحجج بأن مقامهم هو مقام الفاهم المطلع على أسرار المعاني وينص على أن ظهور أمر الإمام (إنما هو ظهور أمره ونهيه على لسان أوليائه) (خطط المقريزي 2/231،233). ويذكر أبو يعقوب السجستاني أن ميراث النبي من العلم يتحول إلى الوصي ومنه إلى الإمام ومن الإمام إلى الحجة (كشف المحجوب في شرح قصيدة الجرجاني ص65).

ثم تتضح المسألة أكثر باطلاعنا على النص الذي يورده المقريزي أيضاً من أن "الإمام إنما وجوده في العالم الروحاني إذا صرنا بالرياضة في المعارف إليه" (خطط المقريزي 2/233). المعنى الذي يعبر عنه السجستاني الإسماعيلي بقوله: "إن هذه العلوم لا تصل إلى مستحقيها بالرياضة ولو كان حبشياً أو سندياً" (كشف المحجوب ص92). وبذلك تتضح لنا فكرة السلوك الإسماعيلي الذي يتيح للمريد أن يصل إلى حقيقة التأويل عن طريق الرياضة العقلية التي بلغ بها النقيب أو الحجة ما بلغه الإمام من علم. ويوضح جولد تسيهر ذلك بأن "الحقائق لا توجد إلا في المعاني الباطنة. أما المعاني الظاهرة فهي حجب مضطربة وأقنعة متناقضة. ومريدو الاندماج في الفرقة الإسماعيلية تزاح عنهم هذه الحجب والأقنعة بالقدر الذي يناسب استعداداتهم، ويتدرجون في هذا المضمار حتى تتهيأ لهم القدرة على مواجهة الحقائق وهي سافرة" (العقيدة والشريعة في الإسلام ص216). ولا بد أننا لاحظنا موازاة هذه المعاني للمثل والمبادئ الصوفية. وقد لاحظ ذلك جولد تسيهر فأورد لنا قصيدة لجلال الدين الرومي الشاعر الصوفي يفصح بها عن فكرتي الجانبين المعبرة عن حقيقة واحدة بقوله: "اعلم أن آيات القرآن سهلة يسيره، ولكنها على سهولتها تخفي وراء ظاهرها معنى خفياً مستتراً. ويتصل بهذا المعنى الخفي ثالث يحير ذوي الأفهام الثاقبة ويعييها والمعنى الرابع ما من أحد يحيط به سوى الله واسع الكفاية من لا شبيه له. وهكذا نصل إلى معان سبعة الواحد تلو الآخر، ولذا لا تتقيد يا بني بفهم المعنى الظاهري كما لم تر الشياطين في آدم إلا أنه مخلوق من الطين. فالمعنى الظاهري في القرآن شبيه بجسد آدم، فما نراه منه هو هيئته الظاهرة وليس روحه الخفية المستترة" (العقيدة والشريعة في الإسلام ص216)، وهذا السلوك يصف الإنسان بالعلم الإلهي إلى حد أن الإسماعيلية رآوه -كالمتصوفة- "أن الأنبياء النطقاء أصحاب الشرائع إنما هم لسياسة العامة وأن الفلاسفة أنبياء حكمة الخاصة" (خطط المقريزي 2/223)، وذلك أن الفاطميين كانوا "يتدرجون في دعوتهم فإذا تمكن المدعو من التعاليم الأولى أحالوه على ما تقرر في كتب الفلسفة من علم الطبيعيات وما بعد الطبيعة والعلم الإلهي وغير ذلك من أقسام العلوم الفلسفية، حتى إذا تمكن المدعو من معرفة ذلك كشف الداعي قناعه وقال: إن ما ذكر من الحدوث والأصول رموز إلى معاني المبادئ وتقلب الجواهر.." (خطط المقريزي 2/232)  والظاهر أن هذه الدرجات متأخرة جدت في بدء دولة الفاطميين وليست من أوائل عقائد الإسماعيلية. ويورد عبدالله عنان المراتب التسع في دار الحكمة التي أسسها الحاكم بأمر الله الفاطمي، ويذكر أن الطالب يلقن تعاليم الثنوية في المرتبة السابعة، وفي الثامنة تنقض كل صفات الألوهية والنبوة ويعلم الطالب أن الرسل الحقيقيين هم رسل العمل الذين يعنون بالشؤون الدنيوية كالنظم السياسية وإنشاء الحكومات المثلى، وفي التاسعة والأخيرة يدخل إلى حظيرة الأسرار ويعلم أن كل التعاليم الدينية أوهام محضة وأنه يجب ألا يتبع منها إلا ما هو لازم لحفظ النظام.. "وأن إبراهيم وموسى والمسيح وغيرهم من الأنبياء ليسوا إلا رجالاً مستنيرين تفقهوا في المسائل الفلسفية" (الجمعيات السرية في الإسلام ص42). والواقع أن هذه النظرة المادية إلى المذهب الإسماعيلي تسلبه كل ما فيه من غنوصية وروحانية، فليس الأمر كذلك وإلا ما قامت له خلافة ولا حدثت في دولتهم طاعة، بل لقد وجدنا الفاطميين أخلص من غيرهم في عقيدتهم وأسرع إلى بذل النفس، ولا يكون البذل إلا بالعاطفة الفياضة والإيمان الذي لا يتزعزع، وكذلك يرى الأستاذ محمد كرد علي أن "العقل عندهم هو حقيقة معبودهم" (الإسلام والحضارة العربية، دار الكتب 1936، 2/63)، ولكن أي عمل؟ إنه العقل الإلهي لا المادي وهذا ما يورده (فيليب حتي) من أن "المريد يتدرج بتأن وهدوء في مراق بطيئة دقيقة حتى يعلو ذروة العقائد الباطنية الخفية بعد أن يكون قد أقسم على الكتمان، ومن هذه التعاليم والعقائد الباطنية فكرة نشوء الكون متجلياً عن الجوهر الإلهي وتناسخ الأرواح وحلول الألوهية في إسماعيل وانتظار رجعته مهدياً. والمراتب التي يتدرج فيها المريد سبع وقد تكون تسعاً، وهي تذكرنا بدرجات الماسونية اليوم" (تاريخ العرب 2/533). ومع تناول الباحثين لهذه الدرجات بالبحث على أنها قضية مسلمة فإن آدم متز يشكك في كل ما يقال عن درجات الإسماعيلية إلا ما يذكره ابن النديم من أنه "كان عندهم سبع درجات من الأتباع خلافاً لما ذكره أخو محسن من درجات تسع" (الحضارة العربية في القرن الرابع 2/51). والمهم في الأمر أن كلاً من هذه الدرجات له كتاب خاص يلقى على الواصلين إليها، وكل كتاب يسمى البلاغ. والبلاغ السابع هو الذي فيه نتيجة المذهب والكشف الأكبر ويقول ابن النديم: "إنه قرأه فوجد فيه أمراً عظيماً من إباحة المحظورات والوضع من الشرائع وأصحابها" (الفهرست ص282). وما دام الوضع من الشرائع وإباحة المحظورات مقصورة على الدرجة السابعة فإنها تعني -إن صح قول ابن النديم- أن المريد قد بلغ درجة الحلول وأن العقل الأول قد اتصل به فلم يعد ثمة مجال لإفهامه لماذا حرم كذا وأحل كذا لأنه صار بنفسه للتشريع، وتلك عقيدة وجدناها من قبل عند فرق الغلاة وليست هي جديدة على الإسماعيلية. ومن أهم ما يرد في هذا المقام تقرير محمد بن سرخ النيسابوري الإسماعيلي (المتوفي في القرن الخامس) "أن ذلك اليوم هو يوم قوة العقل ودولته، فيه يتعلق بالنفس آثار القائم الذي يعيد للعقل إشراقه، وتعود إلى النفوس الفيوض الإلهية التي حجبت عنها من قبل" (شرح قصيدة ابن الهيثم الجرجاني، طهران 1955). وهذه المكانة في الإسماعيلية تقابلها في التصوف درجة المحو والاتحاد بحيث يقول الصوفي في صراحة: أنا الله، وقد رأينا أنها آتية من الغلاة أولاً ثم نظمتها الإسماعيلية وأصلتها وأسست فأخذتها الصوفية جاهزة، وقد رأينا في رسائل جابر بن حيان الإسماعيلي قوله: "إن حدّ علم الباطن أنه العلم بعلل السنن وأغراضها الخاصة اللائقة بالعقول الإلهية" وقد وجدنا هذا التفاوت في العلم -من قبل- في هذه الرسائل أيضاً ووجدنا أن طبقات الناس الإلهيين تعد خمساً وخمسين طبقة للواصلين لا سبعاً ولا تسعاً كما قال الفاطميون بعدئذ. وتبدأ هذه الدرجات بالنبي الإمام فالحجاب فالبسيط فالسابق فالتالي فالأساس.. حتى تنتهي بالناسك فالحياة فالناهي فذي الأمر الذي إذا ظهر فلا بدل منه إذ كان كل واحد منهم مندوباً لأمر لا يخالطه فيه غيره" (الصلة بين التصوف والتشيع لكامل الشيبي ص205-209) أ.هـ منه بلفظه.

ويقول أيضاً الدكتور أبوالعلاء العفيفي:

"وترجع المقابلة بين الشريعة والحقيقة -في أصل نشأتها- إلى المقابلة بين ظاهر الشرع وباطنه. ولم يكن المسلمون في أول عهدهم بالإسلام ليقروا هذه التفرقة أو يكفروا فيها. ولكنها بدأت بالشيعة الذين قالوا إن لكل شيء ظاهراً وباطناً، وإن للقرآن ظاهراً وباطناً، بل لكل آية فيه وكل كلمة ظاهر وباطن. وينكشف الباطن للخواص من عباد الله الذين اختصهم بهذا الفضل وكشف لهم عن أسرار القرآن. ولهذا كانت لهم طريقتهم الخاصة في تأويل القرآن وتفسيره. ويتألف من مجموع التأويلات الباطنية لنصوص القرآن ورسوم الدين وما ينكشف للسالكين من معاني الغيب عن طرق أخرى مما أطلق عليه الشيعة اسم (علم الباطن) الذي ورثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب -في زعمهم- وورثه علي أهل العلم الباطن الذين سموا أنفسهم بالورثة.

وقد اتبع الصوفية طريقة التأويل هذه واستعملوا فيها أساليب ومصطلحات الشيعة إلى حد كبير. ومما سبق تدرك مبلغ الصلة الوثيقة بين التصوف والتشيع الباطني" (التصوف والصورة الروحية في الإسلام).

د- تقديس القبور وزيارة المشاهد:

تقديس القبور وزيارة المشاهد تقديس شيعي في نشأته، فالشيعة هم أول من بنى المشاهد على القبور والمساجد عليها في الإسلام بعد أن جاء النبي صلى الله عليه وسلم بهدم ذلك حتى لا تكون ذريعة إلى الشرك كما قال صلى الله عليه وسلم: [لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد] (متفق عليه).

وفي صحيح مسلم أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أرسل أبا الهياج الأسدي إلى اليمن وقال له: ألا أبعثك على ما بعثني به رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا تدع قبراً مشرفاً (أي ظاهراً بارزاً عالياً عن الأرض) إلا سويته ولا تمثالاً إلا طمسته.

ولكن الشيعة تتبعوا قبور من مات قديماً ممن يعظمونهم من آل البيت كعلي بن أبي طالب والحسين ومن سموهم بالأئمة من أهل البيت وراحوا يبنون على قبورهم.. ويجعلونها مشاهد ومزارات، وجعلوا ذلك أيضاً وسيلة للتكسب والعيش.. كما جاء في رسائل إخوان الصفا أن من الشيعة من جعل التشيع مكسباً، مثل الفاتحة والقصاص، وجعلوا شعارهم لزوم المشاهد وزيارة القبور (رسائل إخوان الصفا ج4 ص199).

وكان هذا البناء وإظهار هذه الشعائر منذ بداية القرن الثالث الهجري، ولكن بعض خلفاء بني العباس شرعوا يهدمون ما افتروه وبنوه من هذه القبور. كما ذكر ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية أن الخليفة العباسي المتوكل أمر في سنة 236هـ بهدم القبر المنسوب إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما وما حوله من المنازل والدور ونودي في الناس أن من وجد هنا بعد ثلاثة أيام ذهب به إلى المطبق، فلم يبق هناك بشر، واتخذ ذلك الموضع مزرعة تحرث وتستغل (البداية والنهاية ص315 ج1).. وكان هذا القبر مزاراً لفرقة الإسماعيلية من الشيعة الذين كانوا يزورون هذا القبر ثم يذهبون إلى (سلمية) (قرية من قرى سوريا كانت وما زالت مأوى للفرق الباطنية. وهي قاعدة الإسماعيلية في هذا الوقت)، لزيارة أئمتهم هناك (العبر ج3 ص361).

وجاء الصوفية فنسجوا على هذا المنوال فجعلوا أهم مشاعرهم زيارة القبور وبناء الأضرحة، والطواف بها والتبرك بأحجارها، والاستغاثة بالأموات، فقد جعلوا قبر معروف الكرخي، وهو رائد من رواد التصوف، مكاناً لزيارتهم وقالوا: قبر معروف ترياق مجرب (طبقات الصوفية للسلمي ص85).

بل جعل المتصوفة جل همهم بناء هذه القبور وتعظيمها ودعوة الناس إليها، وجعلوا أعظم مشاعرهم الطواف بها، والتبرك بها ودعاءها من دون الله عز وجل.. بل لا يوجد شيخ متبع إلا وبنى لنفسه قبة كبيرة ومقاماً.. وهكذا أعادوا من جديد شرك الجاهلية الأولى.

هـ- العمل على هدم الدولة الإسلامية:

الحلاج والتشيع:

قال الدكتور كامل الشيبي: لم يكن أمر الصلة بين الحلاج والتشيع مقصوراً على التداخل بين كلامه وكلام الأئمة، وإنما كان مطلقاً على مذاهب التشيع كلها، وقد استخدمها كلها في بناء مذهبه الحلولي الجديد الذي يشير إلى ظهور حركة غلو جديدة في مطلع القرن الرابع الهجري. والحلاج هو القائل:

"ما تمذهبت بمذهب أحد من الأئمة جملة وإنما أخذت من كل مذهب أصبعه وأشده وأنا الآن على ذلك" وستجد.. أن الحلاج كان صورة من أبي الخطاب الزعيم الغالي الذي قتل في الكوفة سنة 138هـ، وأما علاقته بالاثني عشرية فتنعكس مما رواه الطوسي من أن  الحلاج صار إلى قم البلد الشيعي القديم، وكانت قرابة أبو الحسن النوبختي الشيعي تستدعيه ويستدعي أبو الحسن أيضاً ويقول:

"أنا رسول الإمام ووكيله" أ.هـ (الصلة بين التصوف والتشيع ص368).

وقال أيضاً:

"وكانت إحدى التهم التي قتل الحلاج من أجلها تتضمن إنكار الحلاج للحج إلى مكة بالذات، ودعوته إلى الحج القائم على النية الخالصة والتوجه القلبي. وكان من أهم ما أخذ على الحلاج أنه يقول ببديل للحج يمكن إتمامه في بيت المسلم دون حاجة إلى تجشم مصاعب السفر والطواف حول الكعبة. وقد تطرق القاضي التنوخي إلى ذلك فذكر أن (هذا شيء معروف عند الحلاجية وقد اعترف لي (به) رجل منهم يقال: إنه عالم لهم) (الصلة بين التصوف والتشيع ص369) وقد برر هذا (العالم) ذلك بأن (هذا رواه الحلاج عن أهل البيت صلوات الله عليهم) (الصلة بين التصوف والتشيع ص396) (وصلوات الله عليهم) هذه من لوازم الإسماعيلية بالذات إلى ما عرف عنهم من أخذ بالتأويل على أوسع الحدود، وذلك يبين حداً آخر لاتصال الحلاج بالإسماعيلية.

وقد كان مصداق هذا الاتصال منبعثاً من أنه (أغار القرامطة على مكة ونهبوها بعد موت الحلاج بتسع سنوات واختطفوا الحجر الأسود منها)، وحققوا مذهب الحلاج، ولعله كان مذهباً من مذاهبهم أسرع هو بالتعبير عنه من عند نفسه. أ.هـ.

وقد ذكر القاضي التنوخي أن الحلاج أرسل إلى بعض دعاته يقول: "وقد آن الآن أذانك للدول الغراء الفاطمية الزهراء المحفوفة بأهل الأرض والسماء وأذن للفئة الظاهرة وقوة ضعفها في الخروج إلى خراسان ليكشف الحق قناعه ويبسط العدل باعه" (نشوار المحاضرة ص86).

الحلاج داعية الإسماعيلية في المشرق:

قال الدكتور الشيبي أيضاً:

"ويذكر الخطيب البغدادي وابن كثير أن أهل فارس كانوا يكاتبون الحلاج بأبي عبدالله الزاهد.. هذه الكتبة أطلعت على الداعية الإسماعيلي المشهور أبي عبدالله الشيعي الذي ساعد على قيام دولة العبيديين قبل تحولها إلى مصر. فكأن الإسماعيليين كانوا يعتمدون على داعيتين يحملان كنية واحدة أحدهما بالمشرق وهو الحلاج، والآخر بالمغرب وهو أبو عبدالله الشيعي الذي يروي الإسماعيلية أنفسهم سبق صوفيته على إسماعيليته) (ص73).

شهادة العمار الحنبلي أن الحلاج قرمطي:

ذكر العمار الحنبلي أن الحلاج رحل إلى بغداد سنة 301هـ "مشهوراً على جمل وعلق مصلوباً ونودي عليه: هذا أحد القرامطة فاعرفوه".

وعلى الرغم من أن الحلاج قد قتل سنة 309هـ فإن الدعوة الفاطمية التي حمل لواءها قد استفحل خطرها وشرها؛ فقد استطاع أبو طاهر الجنابي القرمطي الإسماعيلي حليف الدولة الفاطمية والداعي إليها أن يدخل البصرة سنة 311هـ، والكوفة بعد ذلك بعامين. وكذلك استطاع القرامطة دخول مكة بعد مقتل الحلاج بتسع سنوات فقط، وقتل المسلمين حول الكعبة، وانتزاع الحجر الأسود، وكانوا بقيادة أبو سعيد القرمطي، وكان أبو سعيد هذا زميلاً للحلاج الحسين بن منصور (تذكرة الأولياء ج2 ص109).

ولذلك قال ابن النديم إن الحلاج كان يظهر مذاهب الشيعة للملوك، ومذاهب الصوفية للعامة، ويدعي أن الألوهية قد حلت فيه (الفهرست لابن النديم ص269).

ومع ذلك رأينا من يقـول من شيوخ التصوف، وهو محمـد بن حفيف المتوفي سنة 371هـ: "الحسين بن منصور عالم رباني"!!.

ووجدنا كذلك من يجعل العبارات الباطنية التي أطلقها الحلاج على أنها نهاية علوم التصوف كقوله: "في القرآن علم كل شيء، وعلم القرآن في الأحرف التي في أوائل السور وعلم الأحرف في لام ألف".

الحلول عند الحلاج الصوفي وعند أبي الخطاب الشيعي:

وقضية الحلول تكاد تكون متطابقة عند الحلاج الصوفي وغلاة الشيعة، فقد كان الحلاج يقول في دعائه: "يا إله الآلهة ويا رب الأرباب، ويا من لا تأخذه سنة ولا نوم رد إلي نفسي لئلا يفتن بي عبادك، يا من هوأنا، وأنا هو لا فرق بين إنيتي وهويتك، إلا الحدث والقدم" (طبقات الصوفية).

والحلاج هو الذي وجد عنده ورقة مكتوب فيها "من الرحمن الرحيم إلى فلان ابن فلان".. إذا قارنا ذلك بمذهب أبي الخطاب الرافضي الذي زعم أن الله خلق روح علي وأولاده وتوجه إليهم أمر العالم فخلقوا هم السماوات والأرض. ومن هنا قلنا في الركوع سبحان ربي العظيم، وفي السجود: سبحان ربي الأعلى لأنه لا إله إلا علي وأولاده، وأما الإله الأعظم فهو الذي فوض إليهم العالم (اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص57).

لا شك أن مثل هذا الكلام وكلام الحلاج ينبعثان من مصدر واحد ويصدران عن عقيدة واحدة، ويهدفان بالتالي إلى هدف واحد هو تحويل المسلمين عن عقيدتهم الحقة وتضليل سعيهم، وإذهاب دولتهم، وتمزيق وحدتهم وجماعتهم.

ومما مضى يتبين لنا أن منهج الصوفية وغلاة الشيعة في القرن الثالث كان منهجاً واحداً وعقيدة واحدة، فالحلاج كان زميلاً وصاحباً لكبار رجال التصوف المشهورين في القرن الثالث كالجنيد البغدادي والشبلي.

فالجنيد نفسه قد أرسل إليه عندما حكم عليه بالقتل والصلب يقول: "أنك أفشيت أسرار الربوبية فأذاقك طعم الحديد"! وأما الشبلي فيقول: "كنت أنا والحسن بن منصور (الحلاج) شيئاً واحداً غير أنه تكلم وسكت أنا" فالصوفية كانوا مع غلاة الشيعة شيئاً واحداً عقيدة وهدفاً.. عقيدة في الحلول، وإنما اختلفوا فيمن حلت فيه روح لله، وهدفاً واحداً في العمل على إسقاط دولة الإسلام، وتمزيق وحدة المسلمين، وتشتيت الأمة، عقائد ومللاً وغلاة.

و-الطرق الصوفية والتشيع:

كانت الطرق الصوفية هي البداية العظيمة التي دخل عن طريقها الفكر الشيعي والمذهب الشيعي إلى العالم الإسلامي السنّي. وستقرأ فيما يلي إن شاء الله تعالى عن طريقتين مشهورتين تأسست الأولى في منتصف القرن السابع الهجري وما زال لها أتباع إلى اليوم وهي الطريقة البكتاشية، وتأسست الثانية في منتصف القرن السادس الهجري وما زال لها أتباع إلى اليوم وهي الطريقة الرفاعية.

والطريقة الأولى أعني البكتاشية شيعية قلباً وقالباً ومع ذلك نشأت في تركية عاصمة الخلافة الإسلامية واستطاعت التسلل حتى وصلت إلى الجيش الجديد (الانكشارية) بل وإلى بيت السلطان العثماني نفسه وأسهمت إسهاماً فعالاً في تحويل العقيدة السنية.

وسيعجب القارئ عندما يطلع على حقيقة هذه الطريقة كيف وجدت مكاناً ورداداً عند أهل السنة والجماعة ولكن عجبه سيزول عندما يعرف كيف التدرج بالمريد إلى ذلك المعتقد الباطني.

الطريقة البكتاشية:

الطريقة البكتاشية طريقة صوفية شيعية الحقيقة والمنشأ، ولكنها مع ذلك تربت وترعرعت في بلاد أهل السنة في تركية ومصر.

* تنسب هذه الطريقة إلى خنكار الحاج محمد بكتاش الخراساني النيسابوري -المولود في نيسابور سنة 646هـ - 1248م وينسب خنكار هذا نفسه إلى أنه من أولاد إبراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

ويقال إنه تلقى العلم عن الشيخ لقمان الخراساني ولا يعرف من لقمان هذا،.. ولكن يقال إنه هو الذي أمره أن يسافر إلى تركية لنشر طريقته الصوفية، فسافر أولاً إلى النجف في العراق، ثم حج البيت وزار وسافر بعد ذلك إلى تركية، وكان هذا في زمان السلطان أورخان العثماني المتوفي سنة 761هـ.

* ويذكر أحمد سري البكتاش (دده بابا) شيخ مشايخ الطريقة البكتاشية في مصر الحالي.. في كتابه (الرسالة الأحمدية في تاريخ الطريقة البكتاشية) أن خنكار هذا نزل في قرية (صوليجية فترة أويوك) والتي قسمت بعد ذلك بناحية الحاج بكتاش وما زالت تحمل هذا الاسم إلى اليوم. وأنه استضاف هناك رجل يسمى الشيخ إدريس وزوجته (فاطمة قوتلو ملك) وأنهما أنفقا أموالهما في سبيل نشر دعوة الشيخ خنكار الخراساني ولكن جاء وفد من خراسان لزيارة الشيخ خنكار فلم تجد المرأة ما تضيفهم به إلا أن باعت ثيابها.. واشترت طعاماً لضيوف الشيخ خنكار الخراسانيين. ولما كان من عادة المرأة فاطمة هذه أن ترحب بضيوف الشيخ فإنها لم تخرج إليهم لأنها لا تملك ثياباً.. فعلم الشيخ خنكار بهذا من الغيب فمد يده فأخرج صرة ملابس لها، ثم مد يده أيضاً تحت البساط الذي يجلس عليه فأخرج كيسين من الذهب وأعطاهما للمرأة التي جاءت وقبلت يدي الشيخ ورحبت بضيوفه، وآمنت بكراماته (الرسالة الأحمدية ص11 ولا يخفى ما في هذه القصة من الخدعة فخنكار هذا لم يخلق ثياباً. وإنما جاء بذلك الوفد الخراساني الذي تجرد بعد ذلك للدعوة الصوفية في تركية، وصنع الشيخ هذا على أنها كرامة ليسهل ذلك له طريق دعوته في أوساط العامة).

وكانت هذه القصة هي البداية لنشر الطريقة البكتاشية وكذلك مجيء هذا الوفد الخراساني الذي راح يروج للشيخ خنكار الذي كان قد مهد الطريق للدعوة الصوفية ولهذه الطريقة الشيعية الباطنية.

ثم انتحل الشيخ خنكار كرامة أخرى فادعى (أن فاطمة قوتلو) هذه زوجة الشيخ إدريس قد حملت عندما شربت قطرات من دم الشيخ.. وذلك أن فاطمة هذه لم تحمل من زوجها إدريس التركي مدة عشرين عاماً فلما جاء خنكار الخراساني وكانت تصب الماء له ليتوضأ فوقعت قطرات من دمه في الطشت فشربتها المرأة فحملت وتكرر حملها فولدت حبيباً، ومحموداً، وخضراً.

وهؤلاء الأولاد أصروا على أن أباهم هو الشيخ خنكار.. فيما يذكر أحمد سري شيخ مشايخ الطريقة البكتاشية في مصر أن الشيخ خنكار هو أبوهم الروحي فقط وأن أمهم حملت من شربها دم الشيخ وأن الشيخ خنكار لم يتزوج قط طيلة حياته.

* أسس الشيخ خنكار أول (تكية) صوفية للطريقة وابتدأ الأتباع والرواد يكثرون، ويسكنون في هذه القرية التي لم تكن إلا سبعة بيوت فقط ثم اكتشفوا جبلاً من جبال الملح. سموه جبل ملح الحاج بكتاش، واشتهر هذا الملح حتى كان يمون ويزود مطابخ السلطان العثماني الذي كان يحصل منه على مليونين (أقة) (الأقة وزن يكبر من الكيلو بقليل) كل عام..

ولما ذاع صيت الشيخ خنكار بكتاش ووصل الأمر إلى السلطان أورخان العثماني المتوفي سنة 761هـ عمد هذا السلطان إلى الشيخ خنكار ليعلم أولاد الأسرى من أهل الذمة، وممن لا أب لهم.. ينشئهم على طريقة  الدارسين البكتاشية.

وكانت هذه الفرصة الذهبية لانتشار الطريقة وذلك أن هذا الجيش الذي عرف بعد ذلك بالجيش الإنكشاري -أي الجيش الجديد- وهو الذي كان عماد الحروب التركية بعد ذلك، ثم كان هو الجيش المتسلط على مرافق الحياة كافة في تركية.. وهكذا استطاعت الطريقة البكتاشية أن تنتشر وأقيمت المقامات على قبور من مات من مشايخها، وبعض هذه القبور غطيت بالذهب الخالص. تنافس السلاطين العثمانيون في بناء التكايا والزوايا والقبور البكتاشية.

مر على الطريقة البكتاشية أيام مد وجزر في تركية فبينما ناصرها بعض السلاطين، عارضها آخرون مفضلين طريقة أخرى غيرها فقد أمر السلطان محمود الثاني بإلغاء الإنكشارية بعد أن عاثت في الأرض فساداً، وأغلق كذلك الزوايا البكتاشية ولكن السلطان عبد المجيد المتوفي سنة 1255هـ عاد وأمر بفتح الزوايا البكتاشية مرة أخرى.

* وفي سنة 1925م صدر مرسوم الحكومة التركية بإلغاء جميع الطرق الصوفية ومن ضمنها الطريقة البكتاشية، وكان آخر مشايخها هو صالح نيازي الذي سافر إلى ألبانية وانتخبه الدراويش البكتاشيون ليكون (رده بابا) وهي أعلى منزلة في الطريقة أي شيخ مشايخ الطريقة. وبعد اغتيال صالح نيازي هذا سنة 1942م تولى بعده ابنه عباس دده بابا الذي قتل نفسه سنة 1949م بعد دخول البلاشفة إلى ألبانية. ومنذ ذلك الوقت انتقل المركز الرئيسي للطريقة ليتحول إلى مصر وتكون القاهرة هي المقر الحالي والأخير لهذه الطريقة.. فكيف دخلت هذه الطريقة إلى مصر وكيف استقرت فيها ثم أصبحت هي مكانها الرئيسي بعد تركية وألبانية؟.

 

 

الطريقة البكتاشية تنتشر في مصر:

* استطاع مؤسس الطريقة البكتاشية وهو خنكار محمد بكتاش أن يربي مجموعة من المريدين وكان منهم (أبدال موسى سلطان) الذي كان خليفة بعده، وربى أبدال هذا رجلاً يسمى (قبوغوسز) وهذا القبوغوسز لا يعرف من أبوه ولا أمه، وإنما تسمى بغيبي (الرسالة الأحمدية ص34)، واستطاع هذا الرجل أن يرتحل مع مجموعة من الدراويش من تركية إلى مصر واختار لمن يصحبه في هذه الرحلة دراويش من النوع الذين يطيعون في كل صغيرة وكبيرة حتى إنه كان يقول لهم عن الشجرة الباسقة الطويلة.. هذه شجرة قثاء فيقولون نعم هي قثاء (الرسالة الأحمدية ص38). ولما دخل بهم مصر. أمرهم أن يضع كل منهم على عينه قطعة قطن؛ فلما سألهم الشرط والجنود عن ذلك قالوا: إننا نغمض عين الظاهر، وننظر بعين الباطن.. والناس على دين ملوكهم.. وكان قد علم قبوغوسز أن الأمير يشتكي من وجع عينه!! وأراد الملك أن يختبرهم فعمل لهم وليمة كبرى ووضع لهم ملاعق طويلة جداً وأحضر وجهاء الناس ليأكلوا، وأمرهم ألا يأكلوا إلا بهذه الملاعق، فعجز الجميع عن الأكل إلا قبوغوسز ودراويشه فإنهم تناولوا الملاعق الطويلة، وكان كل منهم يطعم من أمامه وهكذا. وسر بهم الأمير الذي أعطاهم مكاناً يبنون فيه (تكية) أي زاوية ورباطاً لهم. ومنذ ذلك الوقت وهو سنة 800هـ بدأ انتشار الطريقة البكتاشية في مصر في بداية القرن التاسع الهجري وسمى قبوغوسز نفسه عبدالله المغاوري، وسموا أول تكية لهم تكية القصر العيني.. وظل هذا الحال قائماً في مصر إلى سنة 1242هـ - 1826م حتى جاء السلطان محمود الثاني العثماني فأمر بإلغاء الإنكشارية والطريقة البكتاشية، وأعطيت أملاكهم للطريقة القادرية.. ولكن في عهد السلطان عبد المجيد عادت الطريقة البكتاشية مرة ثانية إلى مصر بعد أن سمح لهم هذا السلطان بالعمل والنشاط وذلك منذ عام 1525م حيث حصل الشيخ علي الساعاتي على لقب (دده بابا) أي شيخ المشايخ، فجمع الدراويش حوله مرة ثانية وبنى تكية جديدة في باب اللوق، وأخذ يعطي العهود ويقيم حلقات الذكر.

وفي سنة 1276هـ – 1859م صدرت أوامر الحكومة المصرية بتخصيص المغاره التي دفن فيها عبدالله المغاوري (قبوغوسز) للطريقة البكتاشية، فبنوا تكية عظيمة هناك بعد أن طردوا الرعاة والبدو الذين يلجأون إليها بأغنامهم وإبلهم وبنوا قبة عظيمة لمؤسس طريقتهم في مصر. وأصبحت هذه التكية فيما بعد قبلة الشعب المصري حيث يؤمونها لزيارة (ولي الله المغاوري)!! الذي تخصص (بتحبيل النسوان) وشفاء الأمراض وتلبية الحاجات فكانت تقصده كل امرأة لا تلد، وكانت المرأة تدخل في المغارة ضمن كهوف مظلمة طويلة.. وبقيت تكية المغاوري هذه تابعة للمركز الرئيسي للطريقة في تركية، ثم أصبحت تابعة للمركز الرئيسي في ألبانية، ثم بعد أن قتل صالح نيازي بابا نفسه سنة 1949، اجتمع أتباع الطريقة واختاروا أحمد سري شيخ تكية قبوغوسز (عبدالله المغاوري) شيخاً لمشايخ علوم الطريقة وكان ذلك في  30 يناير سنة 1949م (الرسالة الأحمدية ص31) ومنذ ذلك الوقت أصبحت مصر هي المقر الرئيسي لهذه الطريقة، وأصبح أحمد سري (دده بابا) هو شيخ مشايخها. وفي يناير سنة 1957م أمرت الحكومة المصرية بإخلاء تكية المقطم لوقوعها ضمن المناطق العسكرية، وأعطت الحكومة أرباب الطريقة مكاناً آخر في ضاحية المعادي. حيث أسس المقر الجديد على غرار التكايا البكتاشية ثم نشط البكتاشيون، وجددوا التكايا القديمة التي لهم.

* هذه لمحة سريعة عن تاريخ هذه الطريقة التي نشأت وترعرعت في أوساط أهل السنة في تركية ومصر، وسيعجب القارئ أشد العجب عندما يعلم أن هذه الطريقة شيعية خالصة في المعتقد والأذكار والمشاعر، وأنها لا تمت إلى أهل السنة بصلة مطلقاً.. سيعجب كيف خفي مثل ذلك على علماء الإسلام ورجال السنة في تركية ومصر، ولكن يزول العجب عندما نعلم أن الظاهر الصوفي كان دائماً خداعاً يخفي تحته ما يخفي من العقائد الباطنية.

أصول الطريقة البكتاشية:

الطريقة البكتاشية مزيج كامل من عقيدة وحدة الوجود، وعبادة المشايخ وتأليههم، وعقيدة الشيعة في الأئمة.

يقول أحمد سري (دده بابا) شيخ مشايخ الطريقة:

"الطريقة العلية البكتاشية هي طريقة أهل البيت الطاهر رضوان الله عليهم أجمعين" (الرسالة الأحمدية ص67) ويقول أيضاً:

"وجميع الصوفية على اختلاف طرقهم يقدسون النبي وأهل بيته ويغالون في هذه المحبة لدرجة اتهامهم بالباطنية والاثني عشرية" (الرسالة الأحمدية ص68).

ويقول أيضاً:

"والطريقة العلية البكتاشية قد انحدرت أصولها من سيدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وعن أولاده وأحفاده إلى أن وصلت إلى مشايخنا الكرام يداً بيد، وكابر عن كابر، وعنهم أخذنا مبادئ هذه الطريقة الجليلة" (الرسالة الأحمدية ص69).

مراتب الطريقة البكتاشية:

وقد قسم أرباب هذه الطريقة المنتسبين إلى طريقهم على النحو التالي حسب درجاتهم:

1- العاشق: وهو الذي يحب الطريق ويعتنق مبادئها وتسيطر عليه الروح البكتاشية، وله رغبة في الانضمام إلى الطريقة، ويكثر من الحضور إلى التكية ويسمع ما يدور بها. ويرشحه الشيخ ليكون في المنزلة التالي وهي درجة الطالب.

2- الطالب: وهو الذي يعلن رغبته في الانضمام ويرشحه الشيخ لذلك ليتقبل الإقرار، ويعطي العهد. وتقام له حفلة بذلك.

3- المحب: وهو الطالب الذي انتسب إلى هذه الطريقة بعد حفلة الإقرار والبيعة.

4- الدرويش: الذي يتبحر في آداب الطريقة وعلومها ويلم بأركانها ومبادئها. ويهب نفسه للخدمة العامة فيها.

5- البابا: وهي درجة المشيخة ولا يصل إليها الدرويش إلا بعد مدة طويلة حيث يكون قد عرف الرموز الصوفية وأحاط بها..

6- الددة: وهو الخليفة، ولا يمنح هذه المنزلة إلا شيخ المشايخ ويكون هذا رئيساً لفرع من فروع الطريقة في مصر.

7- الددة بابا: شيخ المشايخ وينتخب من بين الخلفاء وهو المدير العام لشئون الطريقة في العالم وهو الذي يعين البابوات وله حق عزل المشايخ..

التكية البكتاشية:

التكية البكتاشية في الغالب عبارة عن ضيعة كبيرة بها قصر فخم وقبور مزخرفة مبنية، ويقيم بها الدراويش أبداً منقطعين للخدمة، وقد تضم التكية آلاف المواشي والأنعام من البقر والغنم، وتأتيها الإتاوات والأرزاق من منتسبي التكية في القطر. إذ لا يجوز للزائر الدخول إليها إلا وهو يحمل شيئاً ما يقدمه قرباناً.. ونستطيع أن نقول إنها مملكة أو إمارة خاصة.. ولذلك فالمنتسب إلى هذه الطريقة لا بد أن يكون خادماً في هذه المملكة الخاصة لأسياده المشايخ الذين يتربعون على عرش الولاية البكتاشية. يقول أحد سري (دد بابا): "والمنتسب إلى الطريقة العلية تنتظره واجبات كثيرة يؤديها في منزله وفي التكية عند زيارته لها. فالواجبات المنزلية هي إقامة الصلوات في أوقاتها وتلاوة الأوراد والأذكار المأذون بتلاوتها وحفظ الأدعية المأثورة، وفي التكية يكلف بالخدمة مع الدراويش ثم يخصص لخدمة مثل سقاية القهوة أو خدمة الضيوف أو إعداد الطعام وتجهيز المائدة وغسل الأواني أو خدمة الحديقة، فإذا حذق التعاليم كلفه الشيخ بخدمة أرقى فيعين نقيباً أو دليلاً أو ميدانجياً. وهكذا.." أ.هـ (الرسالة الأحمدية ص72).

 

العهد ودخول الطريقة:

لتعميد المريد أو الطالب نظام خاص في الطريق البكتاشي فعند دخوله إلى ميدان التكية يقرأ الدليل أبياتاً معينة من الشعر ثم يقول:

اللهم صل على جمال محمد، وكمال علي والحسن والحسين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ثم يقول:

جئت بباب الحق بالشوق سائلاً 

مقراً به محمداً وحيدراً (حيدر هو علي بن أبي طالب)

وطالب بالسر والفيض منهما

ومن الزهراء وشبير (وشبير المقصود علي بن أبي طالب أيضاً ويعنون بهذا القصير) شبراً

ثم يقرأ الشيخ على الطالب آية البيعة:

{إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً} (الفتح:10).

ثم يقول الطالب أبياتاً من الشعر يعلن بها دخول الطريق ومن هذه الأبيات:

وبالحب أسلمت الحشا خادماً لآل العبا (آل العبا يعنون بهم أهل الكساء وهم علي وفاطمة والحسن والحسين والعباس، وبعد دخول الطالب وإقامة الحفل على هذا النحو يسلم الطالب خدمة ما في التكية كأن يكون ساقياً للقهوة أو فلاحاً، أو خادماً للضيوف أو طباخاً.. الخ)

وملاذي هو الحاج بكتاش قطب الأوليا!!

آداب الطريقة البكتاشية:

1- آداب زيارة التكية:

فرض أرباب الطريقة على المريد أن يغتسل قبل زيارة التكية وأن يأخذ معه هدية ولا بد ولو كان ملحاً. فإذا وصل الباب سمى ولا يجوز له أن يطأ العتبة برجله لأنها مقدسة ثم يلتحق بالخدمة التي تطلب منه، وفي وقت المجلس يجلس حسب مرتبته، ولكل شخص مرتبة خاصة، والمراتب بالأقدمية.

* ثم يذهب المريد بعد دخول التكية والاستراحة فيها إلى القبر الموجود في التكية، ولزيارة القبرة آداب خاصة منها السلام المخصوص، ثم العودة بظهره إلى خارج الضريح.

والشيخ في العادة لا يجلس مع المريدين، ولا يزار إلا إذا صدر الإذن بذلك من الشيخ، ولا يزوره المريد إلا بصحبة الدرويش المختص، وعلى المريد أن يخلع حذاءه ويدخل مطأطئ الرأس ويقف على بعد خطوات من الشيخ ويقرأ:

وجهك مشكاة وللهدى منارة

وجهك لصورة الحق إشارة!!

وجهك الحج والعمرة والزيارة

وجهك للطائعين قبلة الإمارة

وجهك القرآن الموجز العبارة (الرسالة الأحمدية ص74)!!

ولا يخفى أن هذا هو عين الفكر الباطني في جعل الدين هو طاعة رجل كما تقول الإسماعيلية "الدين طاعة رجل"، وهذه العبودية الكاملة هي عين ما تهدف إليه هذه الطريقة حيث تجعل معاني الحج والعمرة والزيارة والقرآن بل والله سبحانه وتعالى هو هذا الشيخ الصوفي الباطني.

وبعد ذلك يتقدم المريد فيقبل يد الشيخ ثم يعود بظهره بضع خطوات ولا يجلس حتى يأذن له الشيخ بالجلوس وعند الوقوف أمام الشيخ لا بد من مراعاة ما يلي:

1- أن يضع إبهام القدم اليمنى فوق اليسرى.

2- وضع اليدين على الصدر فوق السرة!!.

الأوراد البكتاشية:

والناظر في الأوراد البكتاشية يرى كيف أسست هذه الأوراد على عقيدة الشيعة الإمامية الاثني عشرية، فالورد البكتاشي يبدأ بذكر لله ثم للرسول ثم لعلي ثم لفاطمة ثم للحسن ثم للحسين ثم لعلي زين العابدين ثم الباقر، وهكذا إلى الإمام الثاني عشر عند الشيعة ثم الإعلان أن الذاكر بهذا الذكر متول للشيعة، بريء من جميع أهل السنة، ثم بعد ذلك ورد خاص في لعن الصديق أبي بكر رضي الله عنه، وكل من رضي وتابع له، ثم في النهاية إشهاد الله أن الخلفاء بعد الرسول هم الأئمة الأثنا عشر دون غيرهم. وإليك بعض نصوص هذه الأوراد البكتاشية.

1- اللهم صل وسلم وزد وبارك على السيد المطهر، والإمام المظفر والشجاع الغضنفر إلى شبير وشبر -قاسم طوبى وسقر- (شبير: هو لقب يطلقونه على علي لأنه كان قصيراً دون الربعة. ومعنى أنه قاسم طوبي وسقر أن له الجنة والنار وهو يدخل من يشاء كيف يشاء فالقسمة إليه).

2- اللهم صل وسلم وزد وبارك على السيدة الجليلة الجميلة الكريمة النبيلة المكروبة العليلة ذات الأحزان الطويلة!! في المدة القليلة المعصومة المظلومة، الرضية الحليمة، العفيفة السليمة، المدفونة سراً، والمغصوبة جهراً، المجهولة قدراً، والمخفية قبراً، سيدة النساء الأنسية، الحوراء البتول العذراء، أم الأئمة النقباء النجباء فاطمة التقية الزهراء عليها السلام.

ولا يخفى ما في هذا الكلام من الدس والطعن واتهام الصحابة رضوان الله عليهم بظلم فاطمة رضي الله عنها وغصبها، وادعاء العصمة المطلقة لها.

3- اللهم صل وسلم وزد وبارك على السيد  المجتبى والإمام المرتجى سبط المصطفى وابن المرتضى علم الهدى.. الشفيع ابن الشفيع المقتول بالسم النقيع - المدفون بأرض البقيع.. الإمام المؤتمن.. والمسموم الممتحن.. الإمام بالحق أبي محمد الحسن.. (الرسالة الأحمدية ص83).

ولا يخفى ما في هذا أيضاً من الدس وأن الحسن بن علي رضي الله عنه مات مسموماً.

4- وأما في الصلاة على الحسين فيقول الورد البكتاشي:

اللهم صل وسلم وزد وبارك على السيد الزاهد والإمام العابد الراكع الساجد.. قتيل الكافر الجاحد.. الإمام بالحق عبدالله الحسين..

5- وهكذا تستمر هذه الأوراد على هذا النحو ذاكرة إماماً من أئمة الشيعة الاثني عشرية إلى أن يأتي الورد الخاص بمهدي الشيعة المنتظر الذي يسمونه محمد بن الحسن العسكري فيقول الورد بالنص:

 اللهم صل وزد وبارك على صاحب الدعوة النبوية، والصولة الحيدرية، والعصمة الفاطمية، والحلم الحسينية والشجاعة الحسينية، والعبادة السجادية، والمآثر الباقرية، والآثار الجعفرية، والعلوم الكاظمية، والحجج الرضوية، والجود التقوية والنقاوة والنقوبة والهيبة العسكرية، والغيبة الإلهية، القائم بالحق والداعي إلى الصدق المطلق، كلمة الله، وأمان الله، وحجة الله، القائم لأمر الله، المقسط لدين الله، الذابّ عن حرم الله، إمام السر والعلن، دافع الكرب والمحن، صاحب الجود والمنن، الإمام بالحق أبي القاسم محمد بن الحسن، صاحب العصر والزمان، وخليفة الرحمن، ومظهر الإيمان وقاطع البرهان وسيد الإنس والجان، المولى الولي، وسمي النبي والوصي، والصراط السوي، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، الصلاة والسلام عليك يا وصي الحسن، والخلف الصالح، يا إمام زماننا، أيها القائم المنتظر المهدي، يا ابن رسول الله، يا ابن أمير المؤمنين، يا إمام المسلمين، يا حجة الله على خلقه، يا سيدنا ومولانا إنا توجهنا واستشفعنا وتوسلنا بك إلى الله، وقدمناك بين يدي حاجتنا في الدنيا والآخرة يا وجيهاً عند الله اشفع لنا عند الله بحقك وبحق جدك وبحق آبائك الطاهرين (الرسالة الأحمدية ص88،89).

6- وأما في ورد التولي والتبري فإنهم يقولون:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. وما توفيقي واعتصامي إلا بالله. إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً. والصلاة والسلام على رسولنا محمد الذي أرسله بالهدى. قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى. وعلى آله وأصحابه وأزواجه الهدى. يا سادتي ويا موالي إني توجهت بكم أنتم أئمتي وعدتي ليوم فقري وفاقتي وحاجتي إلى الله. وتوسلت بكم إلى الله واستشفعت بكم إلى الله. وبحبكم وبقربكم أرجو النجاة من الله. تكونوا عند الله. رجائي يا سادتي يا أولياء الله. صلى الله عليكم أجمعين. اللهم إن هؤلاء أئمتنا وساداتنا وقاداتنا وكبراؤنا وشفعاؤنا بهم نتولى ومن أعدائهم نتبرأ في الدنيا والآخرة. والعن من ظلمهم. وانصر شيعتهم واغضب على من جحدهم. وعجل فرجهم. وأهلك عدوهم من الجن والإنس أجمعين من الأولين والآخرين إلى يوم الدين. اللهم ارزقنا في الدنيا زيارتهم وفي الآخرة شفاعتهم. وزدنا محبتهم. واحشرنا معهم. وفي زمرتهم. وتحت لوائهم. بمنك  وكرمك يا أكرم الأكرمين.. ويا أرحم الراحمين. والحمد لله رب العالمين. اللهم صل على محمد وآل محمد.

ولا يخفى أيضاً ما في هذا الورد من التبري من أهل السنة جميعاً بادعاء أنهم ظلموا أهل البيت وجحدوهم حقهم. وفي الورد الذي يلي هذا القول:

"اللهم العن أول ظالم ظلم حق محمد وآل محمد وآخر تابع له على ذلك" (الأحمدية ص90)، ولا يخفى أنهم يعنون بذلك الصديق أبا بكر رضي الله عنه وكل مسلم رضي بولايته إلى يوم القيامة!!

وفي ختام الأوراد على المريد البكتاشي والسالك أن يشهد هذه الشهادة ويقول:

"وأشهد أن الأئمة الأبرار. والخلفاء الأخيار. بعد الرسول المختار: على قامع الكفار. ومن بعده سيد أولاده الحسن بن علي. ثم أخوه السبط التابع لمرضات الله الحسين. ثم العابد علي ثم الباقر محمد. ثم الصادق جعفر. ثم الكاظم موسى. ثم الرضا علي ثم التقي محمد. ثم النقي علي. ثم الذكي العسكري الحسن. ثم الحجة الخلف الصالح القائم، المنتظر المهدي المرجى، الذي ببقائه بقيت الدنيا، وبيمنه رزق الورى، وبوجوده ثبتت الأرض والسماء، به يملأ  الأرض قسطاً وعدلاً، بعدما ملئت ظلماً وجوراً، وأشهد أن أقوالهم حجة وامتثالهم فريضة، وطاعتهم مفروضة، ومودتهم لازمة مقضية، والاقتداء بهم منجية، ومخالفتهم مردية، وهم سادات أهل الجنة أجمعين، وشفاء يوم الدين، وأئمة أهل الأرض على اليقين وأفضل الأوصياء المرضيين" (الرسالة الأحمدية ص92).

ولا شك بعد ذلك أن هذه عقيدة شيعية كاملة حملتها هذه الأوراد، والعجيب حقاً أن هذه العقيدة الشيعية قد انتشرت في تركية الدولة السنية، وفي مصر كذلك، واستمرت هذه العقيدة الباطنية تنتشر وتنمو طيلة هذه القرون الطويلة من أواسط القرن الثامن تقريباً إلى يومنا هذا في القرن الخامس عشر الهجري وكل ذلك تحت جناح التصوف.. فأي تلازم أبلغ بعد ذلك وأي تطابق بين التصوف والتشيع.. وهل كان التصوف إلا المعبرة التي عبر عن طريقها الفكر الشيعي الباطني إلى ديار الإسلام.. بل هل كان التصوف إلا المعبرة التي عبرت بها كل الفلسفات وكل أشكال الإلحاد والزندقة والتخريف إلى العالم الإسلامي؟!!.

دور الفرس في  التشيع والتصوف:

لقد كان للفرس والجنس الإيراني الدور المميز الخاص في التصوف والتشيع. فأئمة التصوف ورواده الأول بلا استثناء قد كانوا من الفرس والموالي ولم يكن منهم عربي قط. وقد ارتبط التشيع أيضاً قديماً باسم الفرس حتى إنه لا يكاد يذكر التشيع إلا ويقترن ذكره بذكر الفرس.. وقد كان لذلك أسبابه الخفية بلا شك. وقد كتب الدكتور كامل الشيبي في كتابه (الصلة بين التصوف والتشيع) فصلاً خاصاً بذلك حيث يقول:

أثر الشعب الإيراني في التشيع والتصوف:

"ويهمنا في هذا المجال أن نورد رأياً لبراون رواه الباحث الإيراني المعاصر الدكتور قاسم غني -ومر بنا أصله- مؤداه أن (الإيرانيين -بعد رضوخهم لسيف العرب إثر حروب القادسية وجلولاء وحلوان ونهاوند- بذلوا استقلالهم وشوكتهم عن يد وهم صاغرون، وسواء أشاءوا أم أبوا دخلوا الإسلام بحكم غريزة المحافظة، غير أن العرب -الذين نظر إليهم الإيرانيون بعين الاحتقار من قديم- لم يستطيعوا مع غلبتهم أن يحملوا الإيرانيين على مشاركتهم طراز التفكير والعقيدة والسلفية والمنطق والآمال والمطالب الروحية، لأن التباين -شكلاً ومعنى- كان عظيماً في العنصر وطريقة المعيشة والأوضاع الاجتماعية. وعلى ذلك فإن انتهاء الصراع بهزيمة إيران أوجد انفعالات روحية وتأثرات معنوية في الإيرانيين على شكل صراع فكري ظهر في التاريخ الأدبي والمذهبي والاجتماعي والسياسي، وأثر العرب في الإسلام، وكان التشيع وكذلك التصوف من أهم ردود الفعل التي أورثها هذا الصراع الفكري) (تاريخ تصوف در إسلام 3 -ترجمة-). وقد أوضح الدكتور قاسم غني هذه الفكرة وبين جوهرها بقوله: (ويجب أن نبين هنا أن رد الفعل هذا لم يأت عن عمد واختيار وإرادة على خطة مرسومة يراد بها الانتقام بل كان أكثره متأنياً بحكم الانفعال النفسي وتحت تأثير العواطف والأحاسيس الخفية التي يعرفها علم  النفس، أي أن ذلك قد حدث غالباً دون أن يجد له الناس علة واقعية ودون أن يحللوه، ولكن ذهنهم كان مسوقاً إلى هذا العمل بهذه الطريقة) (تاريخ تصوف در إسلام 3-ترجمة) ولقد نطق إيراني معاصر -في صراحة وجلاء- بهذه الحقيقة واعترف بأن التصوف قد ظهر في إيران (في عصر تسلط على وطننا فيه عدو قوي، فلما لم يجد الإيرانيون قدرة على المخالفة والمبارزة سلكوا سبيل الهزيمة واتخذوا القوى الغيبية معتقداً لهم وألقوا سلاحهم في ميدان تنازع البقاء... وعلى هذا فقد كان التصوف حينئذ ضرورة من الضرورات وليس اليوم كالأمس، ويجب ألا نحمل الأفكار الصوفية محمل الجد) (تصوف للبرفسور عباس مهرين: المقدمة -ترجمة-  الواقع أن هذه المعاني متضمنة في صورة واضحة في عبارة ابن حزم الواردة في كتابه -الفصل- طبع مصر 1321م 2/115. وقد عبر عنها براون وغيره بألفاظهم).

على أن هذا كله لا يقدح في أن التصوف قد ظهر في سائر الأقطار الإسلامية حينئذ، ولكن الواضح أيضاً أن التطور لم يخالط الزهد إلا في خراسان وعلى يد الفرس في البصرة والكوفة بل حتى في الشام حين دخلها إبراهيم بن أدهم وصحبه. وينبغي أن نذكر الدور الذي قام به الفرس من إدخالهم مثلهم الدينية في التشيع الغالي الأول حين نصروا المختار، وعاضدوا حركة الغلو العجلية، وانضموا إلى حركة أبي هاشم حتى أدى بهم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق