الاثنين، 24 أغسطس 2015

 الرد على الصوفيى الفلاسفة=
المبحث الثالث
التوفيق بين الفلسفة والدين عند بعض فلاسفة الإسلام

 حاول الفلاسفة الإسلاميون التوفيق بين الدّين والفلسفة، وذلك لاعتقادهم أنّ الدّين والفلسفة يساند كلّ منهما الآخر في كلّ المسائل الجوهريّة.وإنْ بدا بينهما تعارض فإنّـه ليس حقيقيًا، وإنّما نشأ نتيجة لسوء فهم كليهما، و نودّ أن نشير هنا إلى أنّ عملية التوفيـق بين الدين والفلسفة لم يبتدعها الفلاسفة الإسلاميون، بل سبقهم إليها فلاسفة ينتسبون إلـى الديانتين اليهودية والنصرانية. ومن هؤلاء: فيلون اليهودي 20) ق.م- 50 م) الذي افتـتن بالفلسـفة اليونانيـة، وجعل هدفه في الحياة التوفيق بين الكتاب المقدّس عند اليهود والفلسفة اليونانية، وخاصة فلسفة أفلاطون.([7]) ومنهم:كليمنتس الأسكندري النصراني(70- 150م) الذي زعم أنّ الفلسفة في ذاتها ليست شراً، وأن المعرفة نوعان، الأولى: عن طريق الوحي، وبـدأت فـي العهـد القديم، واكتملت في العهد الجديد، والثانية:عن طريق العقل الطبيعي، وهي التي جاء بها فلاسفة اليونان.([8]) ومنهم:أوريجنس254 –185 م وهو أوّل نصراني يرسم الحدود بين العقـل والوحي، وحاول جاهداً أن يؤيد العقيدة المسيحية ببيان اتفاقها مع الفلسفة اليونانية ، فكان بذلك واضع الأساس لفلسفة العصور الوسطى.([9])

وأمّا بالنسبة للفلاسفة الإسلاميين: فلقد احتلت ظاهرة التوفيق بين الفلسفة والدين مكانة هامة بالنسبة لفلاسفة المشرق غير أنّها كانت أكثر أهمية بالنسبة لفلاسفة المغرب، ولعل هذا يظهر بالخصوص في أنّ فلاسفة المشرق لم يفرد منهم أحد هذه المسألة بكتاب خاص في حين أننا نجد من فلاسفة المغرب كابن طفيل الذي أفرد لهذا الموضوع كتابـاً خاصاً هو قصته المشهورة "حي بن يقظان" كما خصص ابن رشـد لـنفس الموضـوع كتابين هما:(فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال والكشف عن منـاهج الأدلة في عقائد الملة) ويضاف إلى هذا ما أورده في كتابه(تهافت التهافت) وفي بعـض شروحه لكتب أرسطو. ولقد أ دّت محاولات الجمع بين الشرائع السماوية السابقة وبين الفلسفة من جانب هؤلاء إلى زيادة تحريف للدين والعقيدة التي جاء بها رسل الله تعالى، وكانت سبباً قويـاً في تسرب الإلحاد إلى أتباعها. وفلاسفة الإسلام شغلوا بهذا التوفيق، وقد بدأه الكندي، لأنّه أولّ الفلاسفة وتبعه غيره من فلاسفة المشرق كالفارابي وابن سينا وغيرهمـا، وكـذلك فلاسفة المغرب اهتموا بهذا الموضوع ً اهتماما ً كبيرا وفي مقدمتهم ابن طفيل وابن رشد . لقد بدأت عملية التوفيق بين الدين الإسلامي والفلسفة مع حركة النقل والترجمـة للكتب الفلسفية اليونانية، فقد ترجمت كتب كثيرة من المنطق والفلسـفة مـن السـريانية واليونانية والفارسية إلى اللغة العربية، وكان أكثرها لأرسطو، وكـان لترجمتهـا إلـى العربية الأثر الأكبر في زعزعة عقائد بعض أهل البدع، وإدخال الفكر الدخيل في حيـاة المسلمين الفكرية.

 ومن الفلاسفة الذين حاولوا التوفيق بين الفلسفة والدين:

1 - الكندي:

        هو أبو يوسف يعقوب بن اسحق سمي بالكندي نسبه إلي بلدته كندة مـن بنـي كهلان ببلاد اليمن، وهو فيلسوف العرب وأول من فلسف منهم آخذ بمـذهب المشـاءين وتأثر بفلسفة أرسطو مصطبغة بالأفلاطونية المحدثة، ولد ونشأ بالكوفة وكان أبوه أميـراً عليها، درس وتعلّم في البصرة، ثم بغداد علوم الدين واللغة والأدب بدأ حياتـه العقليـة متكلما ً، وشارك المعتزلة في بحوثهم المتعلقة بالعدل والتوحيد والاستطاعة والنبوة، ولـه فيها رسائل يذكرها القفطي في(أخبار الحكماء)، وابن أبي أصيبعة في(طبقات الأطباء)، وكان عالماً في الطب والفلسفة والمنطق والفلك والرياضيات والجغرافيـا والموسـيقي، ولكنّ أكثر علمه في الفلسفة، كانت وفاته سنة 252 هـ. وهو أوّل فيلسوف حاول التوفيق بين الفلسفة والدين، وجمع في بعض تصـانيفه بين أصول الشرع وأصول المعقولات، وأتخذ من التأويل منهجا للتوفيـق بـين الـوحي والعقل وقد مهد الكندي بمصنفاته ونظرياته مجال البحث لمن جاء بعده مـن الفلاسـفة والعلماء. وأحرز مكانة عند الخلفاء العباسين- المأمون والمعتصم والمتوكل- من أشـهر مؤلفاته في الفلسفة كتب الفلسفة الأولي، الفلسفة الداخلة، المسائل المنطقية، البحـث فـي تعليم الفلسفة، مسائل في المنطق .

    أكدّ الكندي في رسالته إلى المعتصم بالله وحدة الغاية بين عمل الفلسفة وما يأتي عن طريق الأنبياء والرسل؛ فقال: لأنّ في علم الأشياء بحقائقها: علـم الربوبية، وعلـم الوحدانية، وعلم الفضيلة، وجملة علم كل نافع، والسبيل إليه، والبعـد عـن كـل ضـار، والاحتراس منه واقتناء هذه جميعا هو الذي أتت به الرسل الصادقة عن الله جل ثنـاؤه؛ فإن الرسل الصادقة إنما أتت بالإقرار بربوبية الله وحده، وبلـزوم الله وحـده، وبلـزوم الفضائل المرتضاة عنده. المجردة والكلية؛ لأنها موجهة إلى الخاصة. ولذا هاجم الكندي خصوم وأعداء الفلسفة، ودافع عن الفلسفة دفاعاً شـديدا ً فيقول:"إنّ عداء هؤلاء للفلسفة إمّا لضيق فطنهم عن أساليب الحق، وإمّا لدرانة الحسد المتمكن من نفوسهم البهيمية، أو هو ناشئ عن سوء قصد منهم، إنّهم غربـاء عـن الحق، وإن تتوجوا بتيجان الحق من غير استحقاق...إنّهم يعادون الفلسفة دفاعـاً عـن كراسيهم المزورة التي نصبوها من غير استحقاق، بل للترؤس والتجارة بالدين، وهم عدماء الدين،..ويحق أن يتعرى من الدين من عاند قنية علم الأشياء بحقائقها وسماها كفراً.([10]) وهكذا يعتقد الكندي بوجود الاتفاق بين الفلسفة والدين ويجمع بينهما على أهداف وحقائق واحدة، ويرى أنّ غرض الفيلسوف في عمله إصابة الحق وفي عمله العمـل بالحقّ، وأنّ الفلسفة أشرف صناعة، ودراستها واجبة على من أقرها ومـن أنكرهـا، وهي تسير في ركاب الدين خادمة له.[11]))

-2  الفارابي:

هو أبو نصر محمَّد بن محمَّد طرخان أوزلغ الفارابي الفارسي الأصل، ويُعرف بالمعلم الثاني .ولد في مقاطعة فاراب من بلاد الترك سنة 259 هـ، ونشـأ فـي بلدتـه، وحصل فيها على مبادئ العلوم، رحل إلى إيران فتعلّم اللغة الفارسية، وانتقلت به الأسفار إلى أن وصل إلى بغداد، فتعلّم فيها اللغة العربية، ولما دخلها كان بها أبو بشر متى بـن يونس الفيلسوف المشهور، فحضر حلقة درس الرياضيات، والطـب، والفلسـفة، رحل إلى مدينة حرّان، وفيها يوحنا بن حيلان الفيلسوف النصراني، فاستفاد منه، وأخـذ عنه .كان يحسن اللغة اليونانية، وأكثر اللغات الشرقية المعروفة في عصره. تناول جميع كتب أرسطو، ومهر باستخراج معانيها، والوقوف على أغراضه فيها، وكان مـن أكبـر فلاسفة المسلمين، ولـم يكن منهم من بلغ رتبته في فنونه، وأبو علي بن سينا انتفع مـن تصانيفه وتتلمذ عليها. له مؤلفات كثيرة، بلغت أكثر من مئة مؤلف منها، الفصوص، آراء أصول المدينة الفاضلة، إحصاء الإيقاعات، المدخل إلـى صـناعة الموسـيقى، والآداب الملوكية، مبادئ الموجودات، إبطال أحكام النجوم، أغراض ما بعد الطبيعـة، السياسـة المدنية، جوامع السياسة، النواميس، الخطابة، حركة الفلك سرمدية، فيلسـوف العـرب، كتاب التعليقات، إحصاء العلوم، رسالة في العقل وغيرها.([12])

        يرى الفارابي أنّ الدين الإسلامي لا يناقض الفلسفة اليونانية، وإن كانت هناك فروق ومتناقضات ففي الظواهر لا في البواطن، ويكفي لإزالة الفروق أن نعمد إلـى التأويل الفلسفي ونطلب الحقيقة المجردة من وراء الرموز والاسـتعارات المختلفـة. فالدين والفلسفة يصدران عن أصل واحد هو العقل الفعال،([13]) ومن ثـمّ فـلا فـرق بينهما، ولا خلاف بين الحكماء والأنبياء وبين أرسطو ورسول الإسلام صلى الله عليه وسلم. وحاول أن يثبت أن لا خلاف بين الفلسفة اليونانية، وبـين عقائـد الشـريعة الإسلامية، وعنده أنّ الفلسفة والدين أمران متفقان، لأنّ كلا منهما حـق، والحـق لا يخالف الحق.([14])

        وكذلك آمن الفارابي بوحدة الحقيقة مما حدا به إلى التوفيق بـين الحكيمـين أفلاطون وأرسطو كخطوة أولى في سبيل التوفيق بين الوحي والعقل، على أساس أنّ كلا من النبي والفيلسوف يستمد الحقيقة من العقـل الفعـال واهـب الصـور، وأنّ الاختلاف بينهما إ نّما هو اختلاف في طريقة الوصول، وكيفية عرض هذه الحقـائق؛ ذلك أنّ النّبي بحكم ما عنده من قوة المخيلة يتصل اتصالاً مباشـراً بالعقـل الفعـال؛ فتفيض عليه الصور والحقائق بدون عناء، وتعرض هذه الحقائق في قالـب مبسـط ومشخص ً تقريبا للأذهان؛ لأنها موجهة إلى عامة الناس وجمهـورهم فـي حـين أن الفيلسوف بحكم ما عنده من القوة العاقلة، وبتدخل من العقل الفعال يدرك الحقائق في صورها. لذلك نجد عند الفارابي"أن النبي والفيلسوف يرتشـفان مـن معـين واحـد ويستمدان علمهما من مصدر رفيع، والحقيقة النبوية و الحقيقة الفلسـفية همـا علـى السواء نتيجة من نتائج الوحي، وأثر من آثار الفيض الإلهي على الإنسان".([15])

      بل يذهب الفارابي إلى أبعد مـن ذلـك حـين يقـدر أن موضـوعات الـدين وموضوعات الفلسفة واحدة، يقول فـي كتابـه)تحصـيل السـعادة (فالملـة محاكيـة للفلسفة...وهما تشتملان على موضوعات بأعيانها، وكلاهما تعطي المبـادئ القصـوى للموجودات، وتعطيان الغاية القصوى التي لأجلهـا كـون الإنسـان، وهـي السـعادة القصوى، والغاية القصوى، وكل ما بين الدين والفلسفة من فرق عنـد الفـارابي هـو أن الفلسفة تعطينا الأدلة والبراهين العقلية والدين يعطينا الأدلة والبراهين الإقناعية.([16])

      مما سبق يتبين أنّ الفارابي يرى أنّ الدين والفلسفة يرميان إلى تحقيق السعادة عن طريق الاعتقاد الحق، وعمل الخير وأن موضوعاتهما واحدة، والمعـارف كلهـا صادرة عن واجب الوجود بواسطة العقل الفعال وحياً كانت تلـك المعرفـة أم غيـر وحي، فلا فرق بين الفلسفة والدين من جهة غايتهما، ولا من جهة مصادرهما.

3 - ابن سينا:

        هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا، ينتمي إلى الطائفة الإسماعيلية ذكر يحي بن أحمد الكاشي قول ابن سينا عن نفسه فقال:" وكان أبي ممن أجاب داعي المصريين ويعدّ من الإسماعيلية، وقد سمع منهم ذكر النفس والعقل على الوجه الذي يقولونه ويعرفونه هم وكذلك أخي، وكانوا ربّما تذاكروا ذلك وأنا أسمع وأدرك ما يقولونه ولا تقبله نفسي وابتدءوا يدعونني إليه".([17]) كان ابن سينا عالماً وفيلسوفاً وطبيباً وشاعراً ولُقِّب بالشيخ الرئيس والمعلم الثالث بعد أرسطو والفارابي، كما عرف بأمير الأطباء وأرسطو الإسلام،ولد ابن سينا في قرية (أفشنة) الفارسية في صفر من سنة 370 هـ. ثم انتقل به أهله إلى بخارى، وفيها تعمّق في العلوم المتنوعة من فقه وفلسفة وطب، وبقي في تلك المدينة حتى بلوغه العشرين. ثم انتقل إلى خوارزم، حيث مكث نحواً من عشر سنوات(392-402 هـ)، ومنها إلى جرجان، فإلى الرّي. وبعد ذلك رحل إلى همذان وبقي فيها تسع سنوات، ومن ثم دخل في خدمة علاء الدولة بأصفهان. وهكذا أمضى حياته متنقلاً حتى وفاته في همذان، في شهر شعبان سنة 428هـ.

ومن أساتذته: أبو بكر أحمد بن محمد البرقي الخوارزمي، وقد تلقى على يديه علوم اللغة، ودرس الفقه على يد أستاذه إسماعيل الزاهد، وعلوم الفلسفة والمنطق على أبي عبد الله الناتلي، وتتلمذ ابن سينا على كتب الفيلسوف أبي نصر الفارابي، وكتب الفيلسوف اليوناني أرسطو.

أمّا مؤلفاته فكثيرة، ومنها: 1- الشفاء في أربعة أقسام هي: المنطق، الرياضيات، الطبيعيات، الإلهيات. 2- النجاة 3- الإشارات والتنبيهات. 4- القانون في الطب. 4-منطق المشرفين. 5- رسالة في ماهية العشق. 6- أسباب حدوث الحروف.

7- مجموعة من الرسائل منها: رسالة في الحدود، رسالة في أقسام العلوم العقلية، رسالة في إثبات النبوات. 8- رسالة حي بن يقظان. 9-رسالة أضحوية في أمر المعاد.

         وقد كفّر جمع من أهل العلم ابن سينا، بل حكم عليه بعضهم بالزندقة والإلحاد، ومن هؤلاء: أبو حامد الغزالي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن قيم الجوزية، لقوله بعدة عقائد فاسدة منها: قدم العالم، وعدم علم الله تعالى بالجزئيات، وإنكاره البعث الجسماني.([18])

وأمّا أصل فلسفته: فيقول ابن تيمية: "وابن سينا تكلم في أشياء من الإلهيات والنبوات والمعاد والشرائع لم يتكلم فيها سلفه ولا وصلت إليها عقولهم ولا بلغتها علومهم، فإنّه استفادها من المسلمين، وإن كان إنّما أخذ عن الملاحدة المنتسبين إلى المسلمين كالإسماعيلية، وكان أهل بيته من أهل دعوتهم من أتباع الحاكم العبيدي، الذي كان هو أهل بيته وأتباعه معروفين عند المسلمين بالإلحاد، أحسن ما يظهرونه دين الرفض، وهم في الباطن يبطنون الكفر المحض".)[19]) ويقول: "وابن سينا لمّا عرف شيئاً من دين المسلمين وكان قد تلقى ما تلقّاه عن الملاحدة، وعمّن هو خير منهم من المعتزلة والرافضة، أراد أن يجمع بين ما عرفه بعقله من هؤلاء، وبين ما أخذه من سلفه، فتكلم في الفلسفة بكلام مركّب من كلام سلفه ومما أحدثه، مثل كلامه في النبوات وأسرار الآيات والمنامات، بل وكلامه في بعض الطبيعيات والمنطقيات...فابن سينا أصلح تلك الفلسفة الفاسدة بعض إصلاح،حتى راجت على من لم يعرف دين الإسلام من الطلبة النظار، وصاروا يظهر لهم بعض ما فيها من التناقض".([20])

        ويقول عبد الرحمن بن خلدون:" ثمّ كان بعده- أرسطو- في الإسلام من أخذ بتلك المذاهب واتبع فيها رأيه حذو النعل بالنعل إلا في القليل، وذلك أن كتب أولئك المتقدمين.. تصفّحها كثير من أهل الملة(الإسلام) وأخذ من مذاهبهم من أضله الله من منتحلي العلوم، وجادلوا عنها واختلفوا في مسائل من تفاريعها، وكان من أشهرهم:أبو نصر الفارابي وأبو علي ابن سينا".)[21])

       يرى ابن سينا ما رآه أستاذه الفارابي من قبل من أنّ الفلسفة متآخية مع الدين ومؤدية إلى ما يؤدي إليه، فنجده في مجموع رسائله)في الحكمـة والطبيعيـات).( ([22] يقول:"ومبادئ هذه الأقسام التي للفلسفة النظرية مستفادة من أرباب الملة الإلهية على سبيل التنبيه، ومتصرف على تحصيلها بالكمال بالقوة العقلية على سبيل الحجة". وفي رسـالته )في أقسام العلوم العقلية ) بعد أن تكلم عن أقسام الحكمة يقول:" فقـد دللـت على أقسام الحكمة أي الفلسفة، وظهر أنه ليس شيء منها يشتمل على مـا يخـالف الشرع، فإنّ الذين يدعونها ثم يزيغون عن منهاج الشرع إنّما يضـلون مـن تلقـاء أنفسهم، ومن عجزهم وتقصيرهم، لا أنّ الصناعة نفسها توجبه فإنّها بريئة منهم.( ([23]

 4 - ابن رشد:

     هو محمدُ بن أحمدَ بن محمد القرطبي، يعرف بالحفيد تميزاً عـن جـدِّه الفقيه الذي يحمل اللقب ذاتهُ. ولد بقرطبةَ سنة 520 هجريَّة 1126 ميلاديَّة، ونشأ بها ودرس الفقهَ والأصولَ وعلمَ الكلامِ، وكان ينشد التوفيق بين الفلسفة والـدين، وعُنِـىَ بكلامِ أرسطو وترجمه إلى العربيَّة وزاد عليه .كان طبيباً وفيلسوفاً يميل إلى علـوم الفلاسفة، فكانت له الإمامةُ.يقال عنه أنه ما ترك الاشتغال بالعلم سوى ليلتـين: ليلـة موتِ أبيه وليلة عرسِه.تُوفى بمراكش سنة 595 هجريَّة 1198 ميلاديَّة.)[24])

       لقد استفاد ابن رشد من محاولة الفلاسفة الذين سبقوه في التوفيق بين الفلسـفة والدين أمثال ابن سينا والفارابي وابن طفيل، وكان توفيق ابن رشد يقصد به البرهنـة على أنّ طبيعة الدين تتلاءم مع طبيعة الفلسفة، ومعنى ذلك أنه كان يهدف إلى إظهار العلاقة القوية بين الدين والفلسفة، أو الحكمة والشريعة-علـى حـد تعبيـره- وقـد خصص لهذه الغاية كتابيه:) فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة مـن الاتصـال) و)الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة) ذلـك بالإضـافة إلـى معالجاتـه لهـذا الموضوع في كتابه )تهافت التهافت) في مناسبات مختلفة ومواضع متعددة .فابتداءً يقرّ بكون الفلسفة تفحص عن كل ما جاء في الشرع، ً معترفا بأنّها قد تدرك ما تبحث عنه، وقد لا تدركه، الأمر الذي يعـول فيه على الشرع.)[25])

     وقد صنّف ً كتابا لموضوع التوفيق (سماه فصل المقال فيما بين الحكمة والشـريعة من الاتصال) ومما قال فيه: "الفلسفة والمنطق والشريعة، هل أوجـب الشـرع الفلسفة؟ فإنّ الغرض من هذا القول أن نفحص على جهة النظر الشرعي هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع أم محظور أم مأمور به، إما على جهة النـدب، وإما على جهة الوجوب ".ويرى ابن رشد أنّ العلاقة بين الدين والفلسـفة نابعـة مـن الشرع ذاته، حيث يرى أنّ الشرع قد حث على دراسة الفلسفة، عن طريق دعوته إلى النظر العقلي في الموجودات، وأنّ النظر الصحيح لا يمكن أن يؤدي إلى مخالفة مـا ورد به الشرع، بل يقطع بذلك قطعاً. )[26])

         يقول ابن رشد:"إذا كانت هذه الشريعة حقاً داعيةً إلى النظر المؤدي إلـى معرفة الحقّ، فإنّا معشر المسلمين نعلم على القطع  أنّه لا يؤدي النظر البرهاني إلـى مخالفة ما ورد به الشرع، فإنّ الحقّ لا يضاد الحقّ بل يوافقه ويشهد له….وإنّ النظـر في كتب القدماء واجب بالشرع، إذ كان مغزاهم في كتبهم ومقصدهم هو المقصـد الـذي حثنا الشرع عليه، وأنّ من نهى عن النظر فيها من كان أهلاً للنظر فيها وهـو الـذي جمع أمرين أحدهما ذكاء الفطرة والثاني العدالة الشرعية والفضيلة الخلقية -فقد صـد الناس عن الباب الذي دعا الشرع منه الناس إلى معرفة الله و باب النظر المؤدي إلى معرفته حق المعرفة".([27]) وقال أيضا:"إنّ الحكمة هي صاحبة الشريعة، والأخت الرضيعة فالإذاية ممن ينسب إليها أشدّ الإذاية مع ما يقع بينهما من العداوة والبغضاء والمشـاجرة، وهمـا المصطحبتان بالطبع، المتحابتان بالجوهر والغريزة".([28]) والحق أنّ ابن رشد أخذ يوافق بين الفلسفة والنصوص الشرعية، بضروب شتى من التأويل المتكلف. ومن المعلوم أنّ موقفه من الفلسفة ومحاولته التوفيق بينهـا وبـين الشريعة الإسلامية قد سببت له ً كثيرا من المتاعب والمحن.
هل يمكن التوفيق بين الفلسفة والإسلام؟

      يعتبر التوفيق بين الفلسفة اليونانية من جهة وبين الإسلام من جهة أخرى تعبيرا قوياً عن قبول فلاسفة الإسلام للفلسفة اليونانية وإيمانهم بها، فمحاولة الفلاسفة الإسلاميين دفع التعارض بين الدين والفلسفة يدلّ على تمسّكهم بالفلسفة تمسكاً يزيد عـن تمسـكهم بالإسلام، وعن قوة منزلتها في نفوسهم، ولو لم يكونوا من المؤمنين بها لضحّوا بـالرأي الفلسفي الذي يتعارض مع مبادئ الإسلام، ولم يلجئوا إلى ردم الهوة السـحيقة بينهمـا، ومحاولة التوفيق بين الحق والباطل، على حساب الدين وتحريف نصوصه الشرعية.([29]) إنّ المحاولة الفكرية التي قام بها الفلاسفة الإسلاميون من أجل التوفيق بين قضايا العقيدة الإسلامية والفكر اليوناني الذي انتهى إليهم كانت محاولة تنمّ عن سذاجة كبيـرة، وجهل بطبيعة الفلسفة الإغريقية، وعناصرها الوثنية العميقة، وعدم استقامتها على نظـام فكري واحد، وأساس منهجي واحد، مما يخالف العقيدة الإسلامية ومنابعهـا الأصـيلة".

 1- الفلسفة الإغريقية نشأت في وسط وثني مشحون بالأساطير، فلقد استمدت جذورها مـن الوثنية ومن هذه الأساطير، ولم تخل من العناصر الوثنية والأسطورية قط، فكـان مـن السذاجة والعبث محاولة التوفيق بينها وبين التصور الإسلامي القائم على أساس التوحيـد المطلق العميق التجريد.)[30])

2- إنّ هذه الفلسفة صارت لا تعبّر عن فلسفة إسلامية حقـة  ([31]).ذلـك أنّ التراث الفكري المتمثل فيما كتبه الفارابي وابن سينا وابن رشد وأضرابهم، قليل الصـلة بالإسلام كعقيدة وتصوّر روحي له خصائصه ومميزاته، إذ على الرغم من كل الجهـود التوفيقية التي بذلها هؤلاء المتفلسفة من أجل تقريب الفلسفة اليونانية، أو الشـرقية التـي آمنوا بها واستسلموا لقيادها، تلك الجهود التي تمثل عنصر الطرافة والجدة في التـراث الفلسفي نقول:رغم تلك الجهود بقيت هذه الفلسفة غريبة عن التصور الإسلامي، بعيـدة عن هذا الدين، رغم ما اتشحت به من رداء مستورد، لقد نظر هؤلاء إلى الإسـلام مـن خلال الفلسفة اليونانية، كما يقول المفكر الهندي محمد إقبال:" ولو أنهـم عكسـوا الآيـة لانتهت جهودهم بفكر أفضل وتراث أقرب إلى روح الإسـلام وعقيدتـه فـي الوجـود والإنسان".([32])

3- يقول الدكتور راجح الكردي في كتابه ):نظرية المعرفة بين القرآن والسـنة):" إنّ قضية التوفيق في حد ذاتها قضية لا يحتملها الدين، وليست من منهجه، لأنّه جاء ومهمته الأساسية تغيير كل التصورات والعقائد البشرية التي شكلها الناس بمنهج العقل والتقليـد والهوى، بعيداً عن دائرة الدين. فلا يمكن أن يجعل الدين الحق في خلـيط مـن عقائـده الربانية والفلسفة البشرية، لأنّ حقائق الدين هي الحقائق البديلة فهـي الحـق وغيرهـا الباطل، والحق أحق أن يتبع.  ولا يفهم من هذا أن حقائق الدين تتعارض معها العقـول، ولكن العقل السليم إنما هو مخلوق لله، وقد جعل الله في منهجه ما يستطيع هذا العقـل أن يفهمه ويتجاوب معه ويسلم بوجوده من خلال قوانين العقل في عالم الشهادة .وأن يسـلم بما بعد ذلك للدين نفسه، لأنّ العقل والدين كلاهما من الله سبحانه وأن يسلم بما بعد ذلك للدين نفسه لأنّ العقل والدين كلاهما من الله سبحانه.

4- إذا كان الإسلام ناسـخاً للـديانات السابقة، وهي في أصلها من عند الله أفلا ينسخ الفلسفات البشرية التي شـكلتها مـدارس بعيدة عن هدى الله ومنهجه".

     ويقول الدكتور طه عبد الرحمن في كتابه) فقه الفلسفة-الفلسفة والترجمـة) إذا بطل أن يكون التوفيق بين الفلسفة والشريعة الذي جاء به الفلاسفة المتأغرقون تجديـدا مقبولا في الفلسفة كما هو مقبول ذلكم التجديد الذي أتى به بعض علماء المسلمين بشأنه، وجب إذن أن يكون تلفيقا مردودا أو ً ابتداعا مذموماً، وبيان ذلك من الوجوه الآتية:-

أ- إنّ حفظ الفلسفة على مقتضاها اليوناني، مجتمعا إلى حفظ الشريعة علـى مقتضـاها الإسلامي، هو كالجمع بين نقيضين كلاهما جلي وحقيقي، إذ ما يثبت في حـق الأولـى، ينتفي عن الثانية، والعكس بالعكس، ولا أدلّ على ذلك من تمسك الأولى بالانفصال عـن المعرفة التي لا تستند إلى العقل النظري، وتشبث الثانية بالاتصال بالمعرفة المستندة إلى العقل الديني كما يتجلى في نصوص الوحي، فلا يكون الجمع بينهما من الوصـل فـي شيء، إذ هو أشبه ما يكون بحشد لمتباينات يحتفظ كل منها باستقلاله، ولا يَقـوى علـى الارتباط مع غيره في الحشد الذي دخل فيه.

ب- إنّ محاولة توفيق الفلسفة اليونانية مع الشريعة الإسلامية، هو كالجمع بين نقيضـين أحدهما جلي، والآخر خفي؛ إذ تَلبَس فيه بعض معاني وأحكام الشريعة رداء المقـولات والتصديقات الفلسفية اليونانية الوثنية.

ج- إنّ حفظ الفلسفة على مقتضى اليونان، مجتمعا إلـى تأويـل الشـريعة علـى هـذا المقتضى، هو كالجمع بين نقيضين أحدهما حقيقي والآخر مجازي، إذ تصـير المعـاني والأحكام الشرعية التي يكون ظاهرها ً مخالفا للمقتضى اليوناني مجرد مجازات أو مثالات ينبغي صرفها إلى معان غير المعاني الموضوعة إزاء ألفاظها، وهذا الصرف المجـازي لا يمكن قبوله .مع العلم بأنّ ما يتعبد به أهل الشريعة هو الظاهر، ولـيس هـذا البـديل بوجهه المجازي، وبما أنّ ظاهر الفلسفة وظاهر الشريعة متناقضان، فحمل الشريعة على المجاز يوجب أن تكون معانيها المجازية عند هؤلاء نقائض لمعانيهـا الحقيقيـة، حتـى تحصل موافقتها للمعاني الحقيقية للفلسفة.([33])
أسباب اهتمام المسلمين بالفلسفة اليونانية وتأثرهم بها:-

الأول: دخول الفلسفة اليونانية عن طريق الروايات التي نسبت كذباً وزوراً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد دخلت هذه الفلسفة - بالروايات- عن طريق المسلمين الذين كانوا من أهل الكتاب، ومن تأثر بهم من المسلمين؛ فمن هذه الفلسفة التي شكلت بعد ذلك عقائد عند المسلمين، ولدخول المرويات اليهودية والنصرانية-وهي نسخة من الفلسـفة اليونانية .

الثاني: المكائد المدبرة للمسلمين من قبل أهل الكتاب لنسف عقائـد الإسـلام وتمريـر عقائدهم المحرفة المنسوخة من فلسفة اليونان والإغريق، بمعنى أنّ هناك كيد من قبل أهل الكتاب لتمرير عقائدهم، وهذا واضح من الاسـتقراء التـاريخي، ويؤيـده قولـه جـل وعلا:(كُلَّمَا أَوْقَدُوا ً نَارا لِّلحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّـهُ لاَ يُحِـبُّ الْمُفسدين) المائدة .64

الثالث: الانبهار بما عند أهل الكتاب: قد انبهر المسلمون بما عند أهل الكتاب منذ فتـرة متقدمة جداً، وقد لمع هذا الانبهار في فترة جمع الروايات، مما دخل الكم الهائل منها في كتب السنة عند المسلمين.

الرابع: محاولة الدفاع عن عقائد المسلمين ضد العقائد الوافدة سواء مباشرة من خـلال أطروحات اليهود والنصارى العقائدية، أو من خلال الروايات المدسوسة، ولمّا كانت في حقيقتها هي صدى للفلسفة اليونانية لزم أن يستخدم نفس المنهج في الردّ علـيهم، إلا أنّ هذا العمل كرّس في الوقت نفسه الانبهار والتأثر بالفلسفة اليونانية إلى حد الأخذ بكثير من مفاسدها وضلالاتها.
المبحث الرابع: موقف أئمة وعلماء الإسلام من الفلسفة:

        إنّه من خلال الترجمة والنقل من اللاّتينية والهندية والصينية والفارسية، عـرف علماء الإسلام الفلسفة، وشكّل دخول الفلسفة اليونانية إلى الفكر الإسلامي، حـدثاً فكريـاً هائلا، جُوبِهَ بردود فعل متفاوتة من علماء المسلمين. لأنّ تلـك الفلسـفة حملـت آراء ونظريات متعارضة مع الفكر الإسلامي، لاسيّما في مجال العقيدة، مع أنّها رفدت الفكر الإسلامي بمنهج جديد حول طرق الاستدلال والبرهان.

       ولقد هاجم علماء وأئمة الإسلام الفلسفة اليونانية كما هاجموا ما يسمى بالفلسفة الإسلامية، وذهبوا إلى تحريم الاشتغال بها وتعلمها وتعليمها، وحكموا بضلال أو بكفـر وإلحاد رؤسائها أمثال: الفارابي وابن سينا، ومن سلك نهجهم. ومن هؤلاء العلماء: الإمـام الشافعي، وأبو حامد الغزالي، وابن الصلاح، وابن الجوزي، وابن تيمية، وتلميـذه ابـن القيم، والذهبي والإمام النووي، والسـيوطي، وعبـد الـرحمن بـن خلـدون وغيـرهم كثير .ونذكر هنا نماذج من تلك المواقف.

1- يقول الإمام الشافعي: ما جهل الناس، ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب إلى لسان أرسطاطاليس.([34])

2 - وقال الإمام الذهبي:"ذم علماء السلف النظر في علم الأوائل فإن علم الكلام مولـد من علم الحكماء الدهرية فمن رام الجمع بين علم الأنبياء عليهم السلام وبين علم الفلاسفة بذكائه لابد وأن يخالف هؤلاء وهؤلاء ومن كف ومشى خلف ما جاءت به الرسل مـن إطلاق ما أطلقوا ولم يتحذلق ولا عمق فإنهم صلوات الله عليهم أطلقوا وما عمقـوا فقـد سلك طريق السلف الصالح وسلم له دينه ويقينه نسأل الله السلامة في الدين.([35])

3 - أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي:ألّف الغزالي كتابين في مهاجمة الفلسفة والفلاسـفة،وهما: مقاصـد الفلاسـفة،وتهافت الفلاسفة، أبان في(مقاصد الفلاسفة) آراءهم وكلامهم، وقد حكى الغزالي قصـة هذا الكتاب في مقدمته،حيث يقول:"أما بعد فإنّي التمست كلاماً شافياً فـي الكشـف عـن تهافت الفلاسفة، وتناقض آرائهم، ومكامن تلبيسهم وإغوائهم، ولا مطمع في إسـعافك إلا بعد تعريفك مذهبهم وإعلامك معتقده...من غير تطويل بذكر ما يجري الحشو والزوائد الخارجة عن المقاص...وأورده على سبيل الاقتصاص والحكاية، مقروناً بما اعتقدوه أدلة لهم، ومقصود الكتاب حكاية مقاصد الفلاسفة" ([36]).ثمّ يذكر الغزالي أوجه الانحراف والزلل والمخالفة من الفلاسفة للدين فيقول:"إنّ مجموع ما غلطوا فيه يرجع إلى عشرين أصلاً، يجب تكفيرهم في ثلاثة من ها، وتبعيـدهم في سبعة عشر، ولإبطال مذهبهم في هذه المسائل العشرين، صنفنا كتـاب التهافـت.([37]) حيث يرى الغزالي في(تهافت الفلاسفة) أنّ الفلسفة ابتعدت كثيرا عـن حقيقـة الـنص الشرعي، فوقع الفلاسفة الإسلاميون في مغالطات جوهرية لعقائد الإسلام، وأخذ أبو حامد الغزالي يتتبع هذه المغالطات ويرد عليها واحدة واحدة، بداية قدم العالم وحقيقة الألوهية، وعلم الله تعالى، وانتهاء بالنفس الإنسانية، والبعث وحشر الأجساد.

أما المسائل الثلاث التي خالفوا فيها كافة المسلمين وهي:-

أ- إن الأجساد لا تحشر، وإنما الثواب والعقاب يكـون فقـط الأرواح المجـردة مـن

الجسمية، فالثواب والعقاب إذن روحاني لا جسماني.

ب- إن الله تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات.

ج-القول بقدم العالم ووجوده مع الباري أزلاً.

4- ابن الصلاح الشهر زوري تقي الدين عثمان بن عبد الـرحمن، ذهب رحمه الله إلى أنّ: الفلسفة أس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة، ومن تفلسف عميت بصيرته عـن محاسـن الشـريعة المطهرة المؤيدة بالحجج الظاهرة والبراهين الباهرة، ومن تلبس بها تعليماً ً وتعلما قارنـه الخذلان والحرمان واستحوذ عليه الشيطان، وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة، ومدخل الشر شر، وليس الاشتغال به مما أباحه الشارع، ولا استباحه أحد مـن الصـحابة والتـابعين والأئمة والمجتهدين والسلف الصالح، والواجب على السلطان أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء الفلاسفة، ويخرجهم من المدارس، ويبعدهم ويعاقب على الاشتغال بفنهم، ويعرض من ظهر عنه اعتقاد عقائد الفلاسفة على السيف أو الإسلام.([38])

 5- الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي الحنبلي المتوفى سنة 597 هـ: كشف ابن الجوزي عن تلبيس عدو الله إبليس عل ى الفلاسفة مـن جهـة أنّهـم انفـردوا بـآرائهم ومعقولاتهم، وتكلموا بمقتضى الظنون من غير التفا ت إلى ما جاء به الأنبياء.  يقول فـي كتابه)تلبيس إبليس):"وقد لبس إبليس على أقوام من أهل ملّتنا فدخل عليهم من باب قـوة ذكائهم وفطنتهم، فأراهم أنّ الصواب اتباع الفلاسفة لكونهم حكماء قد صدرت منهم أفعال وأقوال دلت على نهاية الذكاء وكمال الفطنة". وذهب ابن الجوزي إلى أنّ اليهود والنصارى أعذر منهم لكـونهم متمسـكين بشرائع دلّت عليها المعجزات، والمبتدعة في الدين أعذر منهم لأنهم يدعون النظـر فـي الأدلة، وهؤلاء لا مستند لكفرهم إلا علمهم بأنّ الفلاسفة كانوا حكماء أتراهم ما علموا أنّ الأنبياء كانوا حكماء وزيادة " ويبين ابن الجوزي ما يؤدي إليه مذهب الفلاسفة من ضلال فيقول:"وقد رأينا من المتفلسفة من أمتنا جماعة لم يكسبهم التفلسف إلا التحير فـلا هـم يعملون بمقتضاه، ولا بمقتضى الإسلام، بل فيهم من يصوم رمضان ويصلي، ثم يأخذ في الاعتراض على الخالق، وعلى النبوات، ويتكلم في إنكار بعث الأجساد".([39])

6 - وذهب الإمام النووي: إلى تكفير الفلاسفة لقولهم بقدم العالم، وإنكارهم صفات الباري عز وجل[40]).)

7- الإمام ابن تيمية([41]) يعد ابن تيمية من أكثر العلماء نكيراً على الفلاسفة، وقد بـدا هذا واضحاً في مؤلفاته، ولا سيما: الردّ على المنطقيين، ونصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان، وكتاب نقض المنطق " وقد اتجه في هذه المؤلفات كلها إلى تحـريم الاشتغال بالفلسفة والمنطق، بل حكم على الفارابي وابن سينا بالكفر والزندقة والإلحـاد، ويسميهم ملحدة الفلاسفة لاعتقاداتهم الدخيلة على الإسلام، ومنها: زعمهـم بـأنّ العقـول العشرة قديمة أزلية، وأن العقل رب كل ما سوى الرب، وأن العقل الفعال مبدع لما تحت فلك القمر، وقد ذكر هذا الاعتقاد عنهم ثم قال:" وهذا أيضاً كفر لم يصل إليه أحد مـن كفار أهل الكتاب ومشركي العرب.([42]) ومنها: قولهم بأنّ الله لا يعلم الجزئيات، ومنهـا إنكارهم البعث والحشر الجسماني. ومنها:قولهم بقدم العالم، وإنكار صفات الرب وأسمائه ووصفه بالنقائص. وعن ابن سينا يقول ابن تيمية: "وابن سينا تكلم في أشياء من الإلهيات والنبـوات والمعاد، والشرائع، ولم يتكلم فيها سلفه، ولا وصلت إليها عقولهم ولا بلغتها علومهم، فإنّه استفادها من المسلمين، وإن كان إنما أخـذ عـن الملحـدة المنتسـبين إلـى المسـلمين كالإسماعيلية، وكان أهل بيته من أهل دعوتهم من أتباع الحاكم العبيدي".)[43]) الذي كان هو وأهل بيته وأتباعه معروفين عند المسلمين بالإلحاد، أحسن ما يظهرونه دين الرفض، وهم في الباطن يبطنون الكفر المحض، وقد صنف المسلمون في كشـف أسـرارهم وهتـك أستارهم كتباً كباراً وصغاراً.)[44]) 

       ويضيف:"إنّ ابن سينا أخبر عن نفسه أن أهل بيته) أباه وأخاه) كـانوا مـن هؤلاء الملاحدة، وأنه اشتغل بالفلسفة بسبب ذلك، فإنّه يسمعهم يذكرون العقل والنفس".([45])

       وأيضاً: "وابن سينا لما عرف شيئاً من دين المسلمين وكان قد تلقى ما تلقاه عن الملاحدة وعمن هو خير منهم من المعتزلة والرافضة أراد أن يجمع بين ما عرفه بعقله من هؤلاء وبين ما أخذه من سلفه، فتكلم في الفلسفة بكلام مركب من كلام سلفه ومما أحدثه..وابـن سينا أصلح تلك الفلسفة الفاسدة بعض إصلاح، حتى راجت على من لـم يعـرف ديـن الإسلام من الطلبة النظار، وصار يظهر لهم بعض ما فيها من التناقض".)[46](

8 - وقد سلك ابن قيم الجوزية  سلك مسلك أستاذه ابن تيمية في عدائه للفلسفة، وتحريم الاشـتغال بها، والحكم على أساطينها بالضلال والإلحاد، وخاصة الفارابي وابن سينا.

فعن الفارابي يقول ابن القيم:"ثم وسع الفارابي الكلام في صـناعة المنطـق، وبسـطها وشرح فلسفة أرسطو وهذبها، وبالغ في ذلك، وكان على طريقة سـلفه:مـن الكفر بالله تعالى، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر".([47]) وعن ابن سـينا يقول:" إنّ ابن سينا من ملاحدة الفلاسفة المنتسبين إلى الملل".([48]) ويقول:"كان ابن سينا، كما أخبر عن نفسه قال: أنا وأبي من أهل دعـوة الحـاكم، فكـان مـن القرامطة الباطنية، الذين لا يؤمنون بمبدأ ولا معاد، ولا رب خالق، ولا رسول مبعـوث جاء من عند الله تعالى".([49]). وابن سينا قرّب مذهب سلفه الملاحدة من ديـن الإسـلام بجهده، وغاية ما أمكنه أن قرّبه من أقوال الجهمية الغالين في التجهم".([50])

      ووصم ابـن القـيم الفلاسـفة الإسـلاميين بالكفر، ونسـبهم إلـى الزندقـة والإلحاد..فقال ولعلّ الجاهل يقول: إنّا تحاملنا عليهم في نسبة الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله...وليس هذا من جهله بمقالات القوم، وجهله بحقائق الإسلام ببعيد [51]).)

9- ابن خلدون: تحدث رحمه الله عن أتباع أرسطو من الفلاسفة الإسلاميين فقال:"ثم كان من بعده في الإسلام من أخذ بتلك المذاهب واتبع فيها راية حذو النعـل بالنعـل إلا فـي القليل، وذلك أنّ كتب أولئك المتقدمين لما ترجمها الخلفاء من بني العباس مـن اللسـان اليوناني إلى اللسان العربي، تصفحها كثير من أهل الملة وأخذ من مذهبهم من أضله الله تعالى من منتحلي العلوم، وجادلوا عنها، واختلفوا في مسائل من تفاريعها، وكـان مـن أشهرهم أبو نصر الفارابي وأبو علي بن سينا".([52]). ويضيف :"وضررها فـي الـدين كثير فوجب أن يصدع بشأنها ويكشف عن المعتقد الحق فيها وذلك أنّ قوماً من عقـلاء النوع الإنساني زعموا أنّ الوجود كله، الحسي منه وما وراء الحسي تدرك ذواته وأحواله بأسبابها، وعلل بالأنظار الفكرية والأقيسة العقلية، وأن تصحيح العقائد الإيمانية من قبـل النظر لا من جهة السمع فإنّها بعض من مدارك العقل، وهؤلاء يسمون فلاسفة".([53])

 10- الحافظ ابن كثير:"أبو نصر الفارابي التركي الفيلسوف وكان مـن أعلـم النـاس بالموسيقى بحيث كان يتوسل به وبصناعته إلى الناس في الحاضرين من المسـتمعين إن شاء حرك ما يبكي أو يضحك أو ينوم وكان حاذقاً في الفلسفة ومن كتبه تفقه ابن سـينا، وكان يقول بالمعاد الروحاني لا الجسماني، ويخصص بالمعاد الأرواح العالمة لا الجاهلة، وله مذاهب في ذلك يخالف المسلمين والفلاسفة من سلفه الأقدمين، فعليه إن كـان مـات على ذلك لعنه ربّ العالمين..ولم أر الحافظ ابن عساكر ذكـره فـي تاريخـه لنتنـه وقباحته".([54])

11- قال أبو عبد الله الـذهبي: كان ابن سينا آية فـي الـذكاء، وهـو رأس الفلاسـفة الإسلاميين الذين مشوا خلف العقول، وخالفوا الرسول صلى الله عليه وسلم.([55]) وقال  في شأن الفارابي:"له تصانيف مشهورة من ابتغى الهدى منها ضلّ وحار، منها تخرج ابـن سينا، نسأل الله التوفيق".([56]) وقال: من ابتغى الهدى فكتب الفلاسفة أمثال الفارابي أضله الله تعالى".([57])
المبحث الخامس:أسباب رفض المسلمين الفلسفة اليونانية:

      قد يظنّ أنّ المسلمين رفضوا الفلسفة اليونانية لمجرد اشتغال الأمم الكافرة بهـا وهذا ظنّ خاطئ لأنّه يستلزم أن يرفض المسلمون كل ما أتى من غيـرهم مـن علـوم صحيحة كالطب والحساب والهندسة ونحوها.وإنّما رفض المسلمون الفلسـفة اليونانيـة لأسباب شرعية وعقلية، نذكر منها:-

أولا:الأسباب الشرعية لرفض الفلسفة اليونانية([58])

1- إنّه لم يؤثر عن الصحابة والتابعين الاشتغال بالفلسفة، ثم إنّ الشريعة الإسلامية ليست موقوفة على شيء يتعلم من غير المسلمين أصلاً، ([59]) وإن كانت طريقاً صحيحاً، فكيـف إذا كانت فاسدة أو متضمنة للفساد، بل متضمنة الكفر والإلحاد .

2- إنّ الفلسفة نشأت في بيئة وثنية، كان أصحابها أهل شرك وإلحاد، بل ما عند مشركي العرب من الكفر والشـرك خيـر ممـا عنـد الفلاسـفة ([60]) .قـال ابـن تيميـة فـي الفلاسفة: "وضلالهم في الإلهيات ظاهر لأكثر الناس، ولهذا كفرهم فيها نظـار المسـلمين قاطبة".([61])  ولهذا كان أبو القاسم السهيلي وغيره يقول:"نعوذ بالله من قياس فلسفي وخيال صوفي".[62]))

 3- قصور البرهان الفلسفي عن الوصول بالإنسان إلى اليقين، وذلك عند تطبيقه فـي الإلهيات، يقول الغزالي:"لهم نوع من الظلم في هذا العلم، وهو أ نّهم يجمعون للبرهـان شروطاً يعلم أنها تورث اليقين لا محالة، لكنهم عند الانتهاء إلى المقاصد الدينيــة مـا أمكنهم الوفاء بتلك الشروط، بل تساهلوا غاية التساهل".([63])

 4- لقد سببت الفلسفة اليونانية التفرق والاختلاف والتنابذ، وما زال أهلها والمشتغلون بها على هذه الحال، بل لا تكاد تجد اثنين منهم يتفقان على مسألة، حتى فـي البديهيات أو اليقينيات[64]).) وقد صدق الملك النصراني على قبرص -زمن الدولة العباسية لمّا طلب منه العباسي المأمون كتب الفلاسفة- عندما قال: فما دخلت هذه العلوم على دولة شرعية إلاّ أفسدتها، وأوقعت بين علمائها.)[65])

 5- يلزم عن الاشتغال بالفلسفة عدة لوازم فاسدة، تناقض العلم والإيمان، وتفضي إلـى أنواع من الجهل والكفر والضلال.)[66]) ومن ذلك:-

أ -القول بقدم العالم، وذلك لأن الإله لا يسبق العالم في الوجود الزمني، وإن كان يسـبقه في الوجود الفكري، مثلما تسبق المقدمة النتيجة في الوجود الفكري)[67])وهذا مما أنكـره الغزالي على الفلاسفة وكفرهم به في كتابه: تهافت الفلاسفة.)[68])

ب- إنكار هم الصفـات الثبوتيـة لله تعالـى، بل يصفونه بالسلوب المحض، أو بمـا لا يتضمن إلا السلب، ولهذا قالوا:الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، لأنّه لو صدر عنه اثنـان لكان ذلك ً مخالفا للوحدة، وبهذا نفوا أن يكون الله فاعلاً مختاراً فنفـوا الصفات عـن الله تعالى هروباً من تشبيهه بالنفوس الفلكية أو الإنسانية، ثم شبهوه بالجمادات.([69])

ج - إنكار علم الله تعالى بالجزئيات، وهذا هو المشهور عنهم، وهو مما أنكـره علـيهم العلماء، ومنهم الغزالي في بعض كتبه.([70]) وذلك لأنّ هذه الجزئيات في تغير، فلو تعلـق علم الله تعالى بها للزمه التغير بتغير المعلوم، فيلزم من ذلك التغير في ذات الله تعـالى، وهو الواحد الأحد.([71]) وهذا تكذيب للقرآن الكريم و لصريح العقل، وفيه فتح لباب الزندقة،والخروج على الشريعة جملة وتفصيلاً، وأعظم منه إساءة الظن برب العـالمين .ومـن المعلوم أن من يعتقد عدم علم الله بالجزيئات فقد أضاف إلى إليه تعالى معرفـة ناقصـة بالعالم، وأبطل عنايته وتدبيره بأفراد المخلوقات والموجودات.

د- إنكار الوحي والنبوة ومعجزات الأنبياء:لمّا رأى الفلاسفة اشتراك النفوس في كثيـر من الأحوال عادة، جعلوا ذلك أمراً عاماً وكلياً وملزماً لكل النفوس، ورأوا لبعض النفوس قوة حدسية، وتأثيراً في بعض الأمور، وأموراً متخيلة، فلما بلغهـم مـن أمـر الأنبيـاء كالمعجزات ونزول الوحي ورؤية الملائكة وغير ذلك، جعلوا ما يحدث للأنبياء على نحو ما يكون لتلك النفوس، فليست النبوة هبة الله، ومنته على بعض عباده، بـل هـي أمـر مكتسب تستعد له النفوس بأنواع الرياضات، والمجاهدة.([72])

هـ- إنكارهم عالم الغيب مثل: الحشر والنشر، والصراط والميزان، والجنة وما فيها من نعيم مقيم، والنّار وما فيها من عذاب وشقاء مقيم، حيث يعدونها رموزا وأخيلـة، بغرض تفهيم العوام وتقريب الأمر الروحي إلى الأذهان بضرب الأمثلة من المحسوسات.
 ثانيا:الأسباب العقلية لرفض الفلسفة اليونانية:

1- الفلسفة اليونانية تجريدية، لا صلة لها بالواقع، فهي تبحث في عالم الكليـات، وهـذا العالم ليس له وجود في الخارج، بل وجوده في الذهن، فالفلسفة تتجاهـل البحـث فـي الجزئيات والأعيان المشخصة  ([73]).

2- أننا نرى ً كثيرا من العلوم -كالهندسة والطب والفلك – تتقدم تقدما ً كبيـرا دون أن يكون كبار الباحثين فيها ممن تخرجوا على الفلسفة اليونانية،([74]) يقول ابن تيمية :"إننا لا نجد أحداً من أهل الأرض حقق علماً من العلوم وصار ً إماما فيه بفضل الفلسفة، لا مـن العلوم الدينية ولا غيرها، فالأطباء والمهندسون وغيرهم يحققون ما يحققون من علـومهم بغير صناعة الفلسفة، وقد صنف في الإسلام علوم النحو والعروض والفقه وأصوله وغير ذلك، وليس في أئمة هذه الفنون من كان يلتفت إلى الفلسـفة، بل عامتهم كانـوا قبـل أن تُعرَف الفلسفة اليونانية.([75]) وإخفاق الفلسفة راجع لجهلهم بالدين والوحي الإلهي الـذي يمدنا بحقائق عالم الغيب التي تريح العقل عنت ومؤنة تكلف البحث فيها، وتبعـده عـن الخرافات والأساطير.

3- إنّ هذه الفلسفة كان لها أكبر الأثر في تخلف اليونان عن ركب المدنية، حيث انزوت بالفكر والجهود العلمية نحو عالم الميتافيزيقا-عالم ما وراء الطبيعة -معرضةً عن الحياة المدنية، والعلوم التطبيقية الواقعية. يقول الأستاذ علي أبو لبن:"يكاد يتفق مؤرخو الفلسفة على أن العلم لم ينهض في مطلع العصر الأوربي الحديث إلا بعد الثورة المزدوجة على السلطة العلميـة ممثلـة في المنطق الأرسطي، والسلطة الدينية ممثلة في رجال الكنيسة".([76])

4- طرق هؤلاء الفلاسفة فيها فسـاد كثير من جهة المقاصد والوسائل:أمّا المقاصد:فإنّ الحاصل منها بعد التعب والمشقة خير قليل، فهي "كلحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل".([77]) "وأما الوسائل: فطريقها كثير المقـدمات، طويلـة المسالك، يتكلفون فيها العبارات البعيدة والطرق الوعرة، وليس فيها مـن فائـدة سـوى تضييع الأزمان وإتعاب الأذهان، وكثرة الهذيان، ودعوى التحقيق بالكذب والبهتان".)[78])






الفصل الأول
منهج الفلاسفة في إثبات وجود الله تعالى
المبحث الأول
تصور الفلاسفة للوجود

     إنّ الدارس لمؤلفات الفارابي وابن سينا يلحظ بكل وضوح أنّ هذين الفيلسوفين مـن أصحاب مذهب ثنائية الوجود، فكلاهما نظر إلى الوجود نظرة واحدة. ونعني بمذهب ثنائيـة الوجود أن أصحاب هذا المذهب يعتمدون على النظر العقلي المنطقي في تقسيم الوجود إلـى نوعين اثنين: واجب الوجود، وممكن الوجود.([79])

    وواجب الوجود عند أصحاب هذا المذهب ينقسم بدوره إلى ضربين اثنين:الواجـب بغيره، والواجب بذاته، والملاحظ أنّ كتابات ابن سينا أكثر توضيحاً وبسطاً لفكرة الوجود هذه من كتابات الفارابي التي جاءت موجزة مجملة .وننقل من نصوص مؤلفاتهمـا مـا يوضـح تصورهما للوجود. يقول الفارابي:"إنّ الموجودات على ضربين، أحدهما: إذا اعتبر ذاته لم يجب وجوده، ويسمى ممكن الوجود .والثاني:إذا اعتبر ذاته وجب وجوده، ويسمى واجب الوجود.  وإذا كان ممكن الوجود إذا فرضناه غير موجود لم يلزم منه محال، ولا غنى بوجوده عـن علـة، وإذا وجب صار واجب الوجود بغيره. فيلزم من هذا أنّه كان مما لم يزل ممكن الوجـود بذاتـه، واجب الوجود بغيره"[80]).)

     ويقول ابن سينا:"إنّ واجب الوجود هو الموجود الذي متى فـرض غيـر موجـود عرض منه محال، وإنّ ممكن الوجود هو الذي متى فرض غير موجود أو موجود لم يعرض منه محال. والواجب الوجود هو الضروري الوجود، والممكن الوجود هو الذي لا ضرورة فيه بوجه، أي لا في وجوده ولا عدمه".)[81]( لقد وضح من خلال ما نقلناه عن الفارابي وابن سينا أنهما ينظران إلى الوجود نظرة ثنائيـة، كما أشرنا من قبل.وقلنا:إنهما قسما الوجود إلى ضربين اثنين: واجـب الوجـود، وممكـن الوجود. وإنهما قسما الواجب الوجود نفسه إلى نوعين، أحدهما: الواجـب بذاتـه، وثانيهمـا الواجب بغيره . وإذا أردنا أن نعرف ما المراد عندهما من كل قسم، فلابد من العودة إلى النصـوص السابقة التي نقلناها عن الفارابي وابن سينا، وكذلك إلى نصوص أخرى وردت في مؤلفاتهما.

1- فالواجب بذاتـه: المراد به ماله الوجود من ذاته لا من غيره، ووجوده مخالف لوجـود غيره، وهو واحد، وهو واجب الوجود لذاته، وهو عند الفارابي وابن سينا: الله عـز وجـل . يقول ابن سينا:" ونحن نعرف في الأول أنه واجب الوجود بذاته، معرفة أوليـة مـن غيـر اكتساب، فإنا نقسّم الوجود إلى الواجب والممكن، ثمّ نعرف أنّ واجب الوجود بذاته يجـب أن يكون واحداً حتى يكون نوع وجوده مخالفا لنوع وجـود آخر، ونعرف وحدانيته بواسطة لازم يلزمه، ألا وهو أنه واجب الوجود".([82])

2- أما الواجب بغيره: فهو الممكن إذا فرض موجوداً باقترانه بشرط علته، فوجوبه إذاً مـن غيره لا من ذاته، وإلا صار واجب الوجود لذاته.([83])

3- وأما الممكن الوجود: فهو كما عرفه الفارابي الماهية المعلولة، والماهية المعلولة هي ما:"لا يمتنع في ذاتها وجودها، وإلا لم توجد، ولا يجب وجودها بذاتها، وإلا لم تكـن معلولـة. فهي في حد ذاتها ممكنة الوجود، وتجب بشرط مبدئها، وتمتنع بشرط لا مبدئها، فهي في حـد ذاتها هالكة، ومن الجهة المنسوبة إلى مبدئها واجبة ضرورة".([84])

     ويعرّفه ابن سـينا فيقـول: كلّ ما يكون لوجوده سبب فهو ممكن الوجود. والممكـن الوجود، هو أن يكون جائزاً أن يكون وأن لا يكون .فأمّا وجوده بعد العدم فهو ضروري. فإنّه ليس بجائز وجوده إلا بعد العدم".([85]) "والممكن الوجود هو الواجب بغيره، إذا وجب وجـوده، وهو في نفس الوقت الممكن الوجود بذاته، ولكن باعتبار ذاته لم يجب وجوده".([86]) وهـو عنـد الفلاسفة الإسلاميين الضروري القديم الأزلي.([87])
المناقشة: -

         إنّ تقسيم الوجود إلى الواجب والممكن كما ذهب إليه الفارابي وابن سينا وأتباعهما من الفلاسفة الإسلاميين هو تقسيم مبتدع في الفلسفة، إذ لم يعرفه قدماء الفلاسفة كأرسطو وأتباعه. حيث يرى ابن رشـد ومعـه ابن تيميـة أنّ أ وّل من نقله إلى الفلسفة إنّما هو ابـن سـينا الذي ركّب كلامه من كلام المتكلمين، وخاصة المعتزلة، وكلام سلفه من الفلاسفة.([88]) ولكـن يمكننا القول إنّ الفارابي أستاذ ابن سينا ذهب إلى هذا التقسيم كما رأينا من خلال النصـوص التي نقلناها عنه، والفارابي كما هو معلوم أسبق ً زمانا من ابن سينا، و لعلّ شهرة التلميذ طغت على شهرة أستاذه، بالإضافة إلى أنّ ابن سينا كان أكثر ً بيانا ً وتفصيلا ً وبسطا من الفارابي في هذا الجانب، لعل هذا هو ما دفع ابن رشد وابن تيمية إلى أن يقولا إنّ ابن سينا أول من أحدث هذا التقسيم في الفلسفة.
      ويرى ابن تيمية أنّ غرض ابن سينا من هذا التقسـيم القول بأنّ الفلك ممكن الوجود مع قدمه، وهـو بذلـك مخالف لعامة الفلاسفة، كما هو مناقض لنفسه، إذ ذكر في كتابه:(المنطق).([89]) أنّ الممكن لا يكون إلا حادثاً، وهذا موافق لمـا ذ كـره أرسطو وأتباعه من أنّ الممكن لا يكون موجوداً، و إن ّما يمكن وجوده وعدمه، وما يمكن وجوده وعدمه فهو حادث.([90]) ويلزم من قول ابن سـينا:"بأنّ الممكن هـو الموجـود القديم الأزلي" أن لا يكون للحوادث فاعل، وأن هذه الحوادث الممكنة حصلت بعد عدمها من غير واجب ولا فاعـل.)[91]( وأيضا لا يمكن لهذا الممكن الذي يزعمونه أن يقبل العدم بحال فلا يكـون ممكناً، لأن الممكن لا يكـون ممكنا إن لم يكـن ً معدوما في الماضي أو المستقبل.)[92]) وذلك لأن الممكن بنفسه هو الذي يمكن أن يوجد ويمكن أن لا يوجد وهذا يعقل فيما يكون معدوماً، ويمكن أن يوجد ويمكن أن لا يوجد فيستمر عدمه، وما لم يـزل ً موجـودا بغيره لا يمكن أن يقال فيه :إنّـه ممكـن الوجود والعدم، ولا يقال فيه:إنه يقبل الوجود والعدم.)[93]) وقد اعترض الفيلسوف ابن رشد على تفريق ابن سينا بين نوعين من الممكنات، وهو الممكن باعتبار ذاته، والممكن في ذاته، واعتبر هذا التفريق في غاية السقوط، لأن الممكن في ذاته وفي جوهره ليس يمكن أن يعود ضروريا من قبل فاعله، إلا إذا انقلبت طبيعة الممكن إلى طبيعة الضروري، وعلى هذا فإن كلام ابن سينا في الممكن مضطرب غاية الاضطراب.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق