الأربعاء، 19 أغسطس 2015

الرد على الصوفية3==========

الفصل السادس

طريقة المتصوفة

في الإعراب عن عقيدتهم الباطنية

مع بداية القرن الثالث الهجري ابتدأ المتصوفة بالتصريح بشيء من علومهم الباطنة فأنكر بعضهم على بعض، فهذا الجنيد يقول للشبلي: "نحن حبرنا هذا العلم تحبيراً، ثم خبأناه في السراديب، فجئت أنت فأظهرته على رؤوس الملأ" فرد عليه الشبلي بقوله: "أنا أقول وأنا أسمع فهل في الدارين غيري" (التعرف على مذهب التصوف ص145).

وقول الشبلي هذا هو بدايات القول بوحدة الوجود.

ثم ابتدأت جماعة من المتصوفة تصرح بشيء من هذا العلم الباطن الذي لم يكن في حقيقته إلا القول بالحلول، الفناء في ذات الله الذي تقول به العقيدة الهندية البرهمية، والقول بوحدة الوجود، وكان هذا في نهاية القرن الثالث الهجري وبداية القرن الرابع. وهذه طائفة من هذه الأقوال التي ظهرت على أفواه القوم، وكانت تخفي تحتها العقيدة الباطنة التي زعموا أنها في منتهى الكمال والرقي في سلم التعبد الإسلامي.

أ- ذكر أبو نصر السراج الطوسي صاحب كتاب اللمع في التصوف، وهو الكتاب الذي نشره الدكتور عبدالحليم محمود وطه عبدالباقي سرور أن أبا حمزة الصوفي دخل دار الحارث المحاسبي فثغت (ثغاء الشاه: صوتها) شاة الحارث، فشهق أبو حمزة شهقة وقال: "لبيك يا سيدي"!! فأنكر عليه الحارث المحاسبي، فقال له أبو حمزة: إن إنكارك علي يشبه أحوال المريدين المبتدئين" (اللمع في التصوف ص495) أي الذين لم يصلوا بعد إلى التحقق من وحدة الوجود.

ب- وهذا أبو الحسين النوري يسمع كلباً يعوي فيقول: "لبيك وسعديك" (اللمع ص492).

ج- وهذا الشبلي أيضاً يقول لأحد زواره عند خروجه: "أنا معكم حيثما كنتم، أنتم في رعايتي وفي كلاءتي".

د- وكان من أجرأ هؤلاء الذين صرحوا بهذا العلم الباطن الحلاج وقبل أن أستشهد بشيء من أقواله أحب أن أقدم هذه المقدمة عنه:

نشأ الحلاج في أواخر القرن الثالث الهجري، وهو من أهل بيضاء فارس، ونشأ بواسط بالعراق، وصحب الجنيد الذي يعتبر سيد الطائفة الصوفية، وأبا الحسين النوري والفوطي، وقد قتل ببغداد، وصلب يوم الثلاثاء السادس من ذي القعدة سنة تسع وثلاث مئة وعموم المتصوفة راضون عنه، وإن كان قد رده بعضهم بعد قتله خوفاً على أنفسهم، ولكن ذكر الأقدمون منهم أقواله في كتبهم دون ذكر اسمه، بأن يقولوا مثلاً: قال أحد الكبراء (وهذا صنيع أبي بكر محمد الكلاباذي الذي ألف الموسوعة الصوفية الثانية بعد اللمع، وهو كتابه (التعرف على مذهب أهل التصوف) وكذلك صنيع السراج الطوسي صاحب الموسوعة الصوفية الأولى (اللمع) وقد استشهد بكلام الحلاج في أكثر من خمسين موضعاً من كتابه مصدراً القول بقوله: قال بعضهم، أو قال القائل) (انظر مقدمة كتاب الحلاج ص11) ولم يستطيعوا التصريح باسمه، وهذا صنيع أكبر رجلين كتبا في التصوف في القرن الرابع، وهما أبو بكر محمد الكلاباذي المتوفي سنة 380هـ وأبو نصر السراج الطوسي المتوفي سنة 378هـ،وقد بالغت طائفة منهم بالثناء عليه حتى قال عنه محمد بن خفيف: "الحسين بن منصور عالم رباني" (طبقات الصوفية ص308).

وفي القرن الخامس وما يليه ابتدأ المتصوفة يصرحون باسمه، ويذكرون مقالاته، ويشهدون بفضله وسعته، فقد أشاد به أبو حامد الغزالي، وابن عربي، وعبدالغني النابلسي وكل المتصوفة منذ القرن الخامس. وأما في العصر الحديث فقد كتب فيه طه عبدالباقي سرور كتاباً بعنوان: (الحلاج شهيد التصوف الإسلامي) وقد جعله في هذا الكتاب ثائراً على الفساد، ومصلحاً إجتماعياً، وداعية إسلامياً إلى الله سبحانه وتعالى.

وبعد هذه المقدمة أعود إلى سياق البحث، وهو أن أجرأ الناس في إظهار العقيدة الباطنية للفكر الصوفي كان الحسين بن منصور الحلاج، وهذه الجرأة هي التي أدت بعد ذلك إلى القتل والصلب، ولقد كان هناك من المتصوفة من هم على عقيدته ولكنهم كتموا. يقول الشبلي:

"كنت أنا والحسين بن منصور شيئاً واحداً، إلا أنه أظهر وكتمت" (الحلاج لطه عبدالباقي سرور)، ومن أبرز ما صرح به الحلاج عن المعتقد الباطن للتصوف ما أنقله بنصه عن كتاب الطواسين للحلاج (نشر لويس ماسنيون) قال الحلاج (طاسين الأزل والالتباس).

"ما صحت الدعاوي لأحد إلا إبليس وأحمد، غير أن إبليس سقط عن العين، وأحمد كشف له عن عين العين، قيل لإبليس: اسجد، ولأحمد: انظر. هذا ما سجد وأحمد ما نظر، ما التفت يميناً ولا شمالاً، {ما زاغ البصر وما طغى} أما إبليس فإنه دعا لكنها ما رجع عن حوله، وأحمد ادعى ورجع عن حوله بقوله: [بك أحول وبك أصول] وبقوله: [يا مقلب القلوب] وقوله: [لا أحصي ثناء عليك].

وما كان في أهل السماء موحد مثل إبليس، حيث إبليس تغير عليه العين، وهجر الألحاظ في السير، وعبد المعبود على التجريد، ولُعن حين وصل إلى التفريد، وطُلب حين طلب المزيد.

فقال له: (اسجد) قال: "لا غير" قال له: (وإن عليك لعنتي) قال: "لا غير"، مالي إلى غيرك سبيل، وإني محب ذليل، قال له: (استكبرت) قال: لو كان لي معك لحظة لكان يليق بي التكبر والتجبر، وأنا الذي عرفتك في الأزل (أنا خير منه) لأن لي قدمة في الخدمة، وليس في الكونين أعرف مني بك، ولي فيك إرادة، إرادتك في سابقة، إن سجدت لغيرك، فإن لم أسجد لا بد من الرجوع إلى الأصل، لأنك خلقتني من النار، والنار ترجع إلى النار، ولك التقدير والاختيار، تيقنت أن القرب والبعد واحد!!" ثم يستطرد الحلاج قائلاً:

"التقى موسى وإبليس على عقبة الطور، فقال له: يا إبليس ما منعك عن السجود؟ قال: منعني الدعوة بمعبود واحد، ولو سجدت له لكنت مثلك، فإنك نوديت مرة واحدة.. انظر إلى الجبل.. فنظرت، ونوديت أنا ألف مرة أن أسجد فما سجدت لدعواي بمعناي، فقال: تركت الأمر؟ قال: كان ذلك ابتلاء لا أمراً، فقال له: لا جرم قد غير صورتك. قال: يا موسى ذا وذا تلبيس، والحال لا يعول عليه فإنه يحول، لكن المعرفة صحيحة كما كانت وما تغيرت وإن الشخص قد تغير.

فقال موسى: الآن تذكره؟ فقال: يا موسى الفكرة تذكر، أنا مذكور وهو مذكور، ذكره ذكري، وذكري ذكره، وهل يكون الذاكرون إلا معاً.

خدمتي الآن أصفى، ووقتي أخلى، وذكري أجلى، لأني كنت أخدمه في القدم لحظي، والآن أخدمه لحظِّه".

ثم استطرد بعد ذلك قائلاً: "وفي أقوال عزازيل (زعم المتصوفة أن إبليس كان يسمى عزازيل قبل أن يطرد من رحمة الله) أحدها أنه كان في السماء داعياً وفي الأرض داعياً: في السماء دعي الملائكة بربهم المحاسن، وفي الأرض دعا الإنس بربهم القبائح، لأن الأشياء تعرف بأضدادها".

وفي هذه الصياغة الطويلة لمعصية إبليس تستطيع الآن أن تلم بملامح العقيدة الصوفية الباطنية، ونستطيع أن نلخصها على النحو التالي:

1- أعبد الناس في كلام الحلاج هو إبليس والرسول صلى الله عليه وسلم، وانظر كيف ينظمها عدو الله في سلك واحد، ثم يستدل على ذلك بأن إبليس أمر بالسجود فلم يسجد، والذي منعه من ذلك هو مشيئة الرب فيه وجبر الرب له. وتحققه أن لا موجود إلا هو، وأن القرب والبعد من الرب واحد، لأنه ليس على الحقيقة إلا الله، وأن إبليس قد كان داعياً للملائكة إلى المحاسن، بإقامة الله له، وفي الأرض إنما هو داع إلى القبائح، وما هو في الحقيقة إلى قائم بمراد الرب ومشيئته.

وأما الرسول صلى الله عليه وسلم -وحاشاه- فقد أصبح أعبد الناس عند الحلاج -وهذا من التلبيس- لأن الله أمره في السماء أن ينظر إليه، فما نظر، واستدل على ذلك بقوله تعالى: {ما زاغ البصر وما طغى} والآية في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى جبريل على صورته التي خلقه الله عليها، وأن البصر ما زاغ ولا طغى، وهو ينظر إلى جبريل (فانظر كيف حول الحلاج الآية عن معناها، وأن المقصود بها هو: ما زاغ البصر أي ما نظر إلى الله، لأنه ليست هناك ذات مستقلة لله تبارك وتعالى في زعم الصوفية، بل ذاته هي ذات موجوداته. انظر هذا في كلام النابلسي الآتي).

وأما الدليل الآخر الذي ساقه الحلاج، فهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: [اللهم بك أصول وبك أجول وبك أقول] (هو جزء محرف من حديث رواه أبو داود في (سننه 2632) عن أنس بن مالك، ولفظه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قال: [اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أجول، وبك أصول، وبك أقاتل] وصحح إسناده أستاذنا الألباني في (تخريج الكلم الطيب ص75) كما رواه ببعض اختصار الترمذي (2/278) وحسنه، وأحمد (6/16)) والمعنى الذي هو مراد الرسول صلى الله عليه وسلم هو معنى لا حول ولا قوة إلا بالله، فلا يستطيع أحد أن يفعل خيراً، أو يوفق إلى خير إلا بحول الله وقوته ولكن الحلاج قلب هذا المعنى إلى عقيدته الخبيثة في الرب جل وعلا، وجعل معناها أن الرسول قال ذلك لأنه كان متحققاً أنه هو هو، أي أنه هو الله!!.

وأما موسى في نظر الحلاج فلم يكن على معرفة بحقيقة الرب، ولذلك قال له: (رب أرني أنظر إليك).

ولقد كان من الجرأة بمكان أن يظهر الحلاج دعوته وعقيدته على هذا النحو من الصراحة والوضوح، ولقد كان يعاصره عدد كبير من المتصوفة في العراق وإيران والشام، ولكنهم قنعوا بالإشارات والرموز إلى عقيدتهم، ولم يقنع هو إلا بالتصريح، وقد سمى هو هذا المقام الذي وصل إليه مقام الفتوة، وفي ذلك يقول:

"تناظرت مع إبليس وفرعون في الفتوة (الفتوة التي عناها الحلاج هنا هي الجرأة في إظهار معتقده، وأستاذه في ذلك كما يقول إبليس وفرعون!!)، فقال إبليس: إن سجدت سقط عني اسم  الفتوة، وقال فرعون: إن آمنت برسوله سقطت من منزلة الفتوة، وقلت أنا أيضاً: إن رجعت عن دعواي وقولي سقطت من بساط الفتوة!! وقال إبليس:أنا خير منه، حين لم ير غيره غيراً، وقال فرعون :(ما علمت لكم من إله غيري) حين لم يعرف في قومه من يميز بين الحق والباطل!! وقلت أنا: إن لم تعرفوه فاعرفوا آثاره، وأنا ذلك الأثر، وأنا الحق لأني ما زلت أبداً بالحق حقاً!! فصاحبي وأستاذي إبليس وفرعون، وإبليس هدد بالنار وما رجع عن دعواه، وفرعون أغرق في اليم وما رجع عن دعواه، ولم يقر بالواسطة أبداً، وإن قتلت أو صلبت أو قطعت يداي ورجلاي، ما رجعت عن دعواي" (الطواسين ص52).

وهذا الذي وصل الحلاج إليه قد كان عقيدة لكثير من معاصريه، ولكنهم لم يستطيعوا التصريح به بنفس الوضوح والصراحة التي صرح بها الحلاج، يقول الشبلي: "كنت والحسين بن منصور شيئاً واحداً إلا أنه أظهر وكتمت" وقد مرّ بك هذا القول.

ولقد حاول الحلاج أن ينقل عموم المتصوفة إلى موقفه، ولذلك لم يفتأ يحركهم نحو هذه الغاية، ففي الرسالة القشيرية أنه لقي إبراهيم الخواص فقال له الحلاج: ماذا صنعت في هذه الأسفار، وقطع هذه المفاوز؟ قال: بقيت في التوكل أصحح نفسي عليه. فقال الحلاج: أفنيت عمرك في عمران باطنك، فأين الفناء في التوحيد!!

ويدخل الحلاج مسجد بغداد، ويرى الجنيد يتكلم على المنبر والجنيد سيد الطائفة في وقته فيقول له: يا أبا القاسم إن الله لا يرضى من العالم بالعلم حتى يجده في العلم، فإن كنت في العلم فالزم مكانك، وإلا فانزل، فنزل الجنيد ولم يتكلم على الناس شهراً (أخبار الحلاج طبع ماسنيون).

وهذا القول من الحلاج للجنيد إنكار شديد عليه، وأمر له بأن يظهر ما يعتقده، وبأن يتحقق ظاهراً فيما تحقق فيه باطناً. وهذا معنى قوله: "فإن كنت في العلم فالزم مكانك" أي إن كنت قد وصلت إلى حقيقة معتقد التصوف فالزم هذا المكان، وأظهر ما تعتقد. والحلاج هنا لم ينكر على الجنيد معصية شرعية ظاهرة، ولكنه أنكر عليه إظهاره من علوم الشريعة للعامة ما يخالف ما وصل إليه من عقيدة التصوف، ولذلك احتجب عن الناس شهراً لا يكلمهم، ولم يستطع الجنيد أن يظهر ما أظهر الحلاج، لأنه كان يعلم نهاية الإفصاح عن حقيقة المعتقد.

ولذلك روى أبو عبدالرحمن السلمي في طبقاته في ترجمة الشبلي أن الجنيد قال للشبلي "لو رددت أمرك إلى الله لاسترحت" فقال الشبلي: "يا أبا القاسم لو ردّ الله أمرك إليك لاسترحت" فقال الجنيد: "سيوف الشبلي تقطر دماً!!" (الطبقات ص343).

والمعنى الذي عناه الجنيد في كلامه للشبلي أنه إذا استسلم لأمر الله، واسترسل معه كما يقولون: التصوف الاسترسال مع الله (يعني المتصوفة بهذا القول أن لا يكون لك اختيار وفعل، بل تترك مشيئة الرب تسيرك، وهذا معناه هدم الإرادة البشرية وترك الوسائل كلها) أي ترك الاختيار معه لاسترحت وهدأت.

فرد الشبلي عليه بعكس العبارة وبالمعنى نفسه!! ومعنى عبارة الشبلي أن الله قد جبر العبد وأقامه بما هو فيه، ولم يردّ أمره إليه، بل جعل أمر العبد إليه هو، ولو رد أمر العبد إلى نفسه لاستراح، واختار ما يحلو له. وكانت عبارة الشبلي للدلالة على المعنى أصرح من عبارة الجنيد، ولذلك قال الجنيد رداً على ذلك: سيوف الشبلي تقطر دماً. أي أنه بهذا التصريح عن معتقده سيعرض نفسه للقتل!!

ومما يدل على ذلك أن الحلاج عندما أحضر للقتل والصلب جمعت المتصوفة، وأرغموا على النيل من الحلاج وسبه، وكان ممن أحضروا لذلك الشبلي، وضعوا المنديل في رقبته، وسحبوه إلى الحسين بن منصور الحلاج ليلعنه فتأبى من ذلك، فأمره الجند بأن يذهب بنفسه أو يرسل من يلعن الحلاج، فأرسل امرأة متصوفة، وأمرها أن تقول للحلاج: إن الله قد ائتمنك على سر من أسراره فأذعته؛ فأذاقك طعم الحديد!! (ماسنيون. وانظر نشرات الصوفية).

وهذه الروايات كلها تدل على أن أفراد الطائفة في القرن الثالث الهجري كانوا على علم باطني واحد قد تفاوتوا في إظهاره وإعلانه!!

(طريق الوصول إلى العلم الباطن):

ولقد ظن كثير من الناس أن هذا العلم الباطني كان نتيجة للصلاح والتقوى، والمداومة على التسبيح والذكر، فداوم على هذا وسار في طريقهم زماناً عله يظفر بما يظفرون به، ولكنه لم يصل إلى شيء، من هؤلاء من يحدثنا عنه أبو حامد الغزالي في كتابه الإحياء يقول (ج4 ص358): "حكي أن شاهداً عظيم القدر من أعيان أهل (بسطام) كان لا يفارق مجلس أبي يزيد البسطامي فقال يوماً: أنا منذ ثلاثين سنة أصوم الدهر ولا أفطر، وأقوم ولا أنام، ولا أجد في قلبي من هذا العلم الذي تذكر شيئاً، وأنا أصدق به وأحبه!

فقال أبو يزيد: ولو صمت ثلاثمائة سنة، وقمت ليلها ما وجدت من هذا ذرة!! قال: ولم؟ قال: لأنك محجوب بنفسك. قال: فلهذا دواء؟ قال: نعم. قال: قل لي حتى أعمله. قال: لا تقبله. قال: فاذكره لي حتى أعمل. قال: اذهب إلى المزين فاحلق رأسك ولحيتك، وانزع هذا اللباس، واتزر بعباءة، وعلق في عنقك مخلاة مملوءة جوزاً، واجمع الصبيان حولك، وقل.. كل من صفعني صفعة أعطيته جوزة، وادخل السوق، وطف الأسواق كلها عند الشهود وعند من يعرفك، وأنت على ذلك!!

فقال الرجل: سبحان الله، تقول لي مثل هذا؟ فقال أبو يزيد: قولك.. "سبحان الله" شرك!! قال: وكيف؟ قال: لأنك عظمت نفسك، فسبحتها، وما سبحت ربك. فقال: هذا لا أفعله، ولكن دلني على غيره. فقال ابتدئ بهذا قبل كل شيء. فقال: لا أطيقه. فقال: قد قلت لك.. إنك لا تقبل..!."

والعجيب أن أبا حامد الغزالي يعقب على هذه القصة بقوله: فهذا الذي ذكره أبو يزيد هو جزاء من اعتل بنظره إلى نفسه.

فهذا الرجل الصالح الذي صام دهره وأقام ليله، يرجو الوصول إلى علوم القوم، وما جاءه خاطر، ولا مرّ به هاتف، تعجب من هذا وشكا إلى أبي يزيد، فقال له: لن تصل إلى شيء لأنك محجوب بنفسك. ومعنى ذلك أنه يرى أنه القائم بالعبادة فيرى نفسه عابداً لله، وعقيدة الصوفية تعتقد أن الله قد أقامك فيها، وأنه اختارها لك، وتلك إرادته، ولا إرادة لك معه، وبالمقابل لا بد أن تعتقد أن الله قد أقام العصاة في معاصيهم، والكفرة في كفرهم، وإبليس في إغوائه (كما مرّ بنا في كلام الحلاج)، وكذلك أيضاً قال أبو يزيد لذلك الرجل عندما قال: سبحان الله: سبحان الله شرك. ثم قال له: كيف؟ قال: لأنك نزهت نفسك عن فعل السوء، ولم تنزه الله الذي يفعل السوء ويريده، ويقيم الناس فيه، فقد عظم الرجل نفسه في عقيدة أبي يزيد وطائفته عندما امتنع عن عمل يقوم الله به ويريده ويحبه!!

ولهذا أمر أبو يزيد البسطامي ذلك الرجل ليصل إلى هذه الحقيقة الصوفية أن يفعل بنفسه ذلك الفعل المرعب، وبهذه الوسيلة التي تعتبر مجاهدة في عرف التصوف سيتحقق يقيناً بهذا العلم الباطني، وهو أن الكون على هذا النحو مراد لله سبحانه، ولذلك قالوا: "أقام العباد فيما أراد"!!

ولا شك أن الخطأ في فهم قضية القضاء والقدر قد جرت البلايا والفتن على كثير من الناس، والعياذ بالله، والسبب في ذلك أنهم لم يستطيعوا أن يفرقوا بين علم الله الأزلي سبحانه وتعالى، وما سطره من مقادير الكون وفق هذا العلم، وأنه سبحانه يعلم ما سيكون كيف يكون، وبين الاختيار والمشيئة للعبد التي جعلها الرب تبارك وتعالى أساساً ومناطاً للتكليف والحساب. فللعبد مشيئة خاصة يوقع بها الفعل الذي يريده، ولكنه لا يوقعه جبراً على الله ورغماً عنه "وسيأتي لقضية القضاء والقدر رسالة مستقلة إن شاء الله أرجو عون الله في إتمامها".

فالطاعة بتوفيقه وهدايته، والمعصية بإذنه سبحانه ومشيئته، إذ لا يقع في ملكه إلا ما شاء، وهو سبحانه وتعالى القادر على منع الكافر من الكفر، والفاجر من الفجور، ولكنه الابتلاء والاختيار والتكليف: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً} (يونس:99)، وقد جعل سبحانه وتعالى الهداية حقاً عليه لمن جاهد في سبيلها، قال تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} وقال: {فأما من أعطى واتقى* وصدق بالحسنى* فسنيسره لليسرى} وجعل سبحانه وتعالى الضلال أيضاً ثمرة للسعي في طريقه، والحيدة عن هدى الله. قال تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} وقال تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة}.

وقال عز وجل: {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين} وقال تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} إلى آخر الآيات التي تدل على أن الرب تبارك وتعالى لا يعجل الشر ابتداء، ولكنه يعاقب به جزاء، وسبحانه وتعالى أن يبدأ الإنسان بالشر، تعالى ربنا عن ذلك علواً كبيراً.

فهؤلاء لم يفهموا هذه العقيدة الشرعية التي بينها الله في كتابه أتم البيان، وشرحها رسوله صلى الله عليه وسلم غاية الشرح. ظنوا -وخابت ظنونهم- أن الشر والمعاصي والفجور مرادة الله تبارك وتعالى إرادة حب وقبول ورضى، فقالوا ما قالوا، ولم يعلموا أنها مرادة لله أن تقع في ملكه فقط، فليست تفعل من فاعليها رغماً عن الله سبحانه وتعالى، وعجزاً عن دفعها ومنعها، وحاشاه ربنا سبحانه وتعالى عن ذلك، ولكنها إرادة وقوع، ومشيئة إذن وسماح، ووراء ذلك كله العقوبة لأهلها في الدنيا والآخرة، والمذمة واللعنة والطرد والإبعاد لأهلها، وحاشا الله أن ينسب هذا إليه [والشر ليس إليك] (هو جزء من حديث رواه مسلم في (صحيحه-6/57-59  بشرح النووي) وأبو داود (760) وأحمد وغيرهم، وأوله: [وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً..] وهو من أدعية استفتاح الصلاة المأثور عنه صلى الله عليه وسلم).

أقول إن هؤلاء المتصوفة لما لم يفهموا هذه الحقيقة الشرعية، رأوا أن فعل الكفرة والفجرة موافق للرب في إرادته ومحبته، وكذلك قال الحلاج عن إبليس وفرعون: إنهما عرفا الحقيقة، وأنهما قائمان بأمر الله في ذلك، ولهذا ما سجد إبليس، وما آمن فرعون إلا بأنه هو الله، ولهذا أيضاً ما رجع هو عن قوله.

والعجيب بعد هذا كله أن المتصوفة الذين جرهم سوء الفهم لقضية القضاء والقدر إلى هذه العقيدة الباطلة، والمعتقد السيء، زعموا أنهم وصلوا إلى هذا الفهم عن طريق الكشف والعلم اللدني والفيض الرحماني (العلم  اللدني نسبة في زعمهم إلى قوله تعالى عن الخضر: {وعلمناه من لدنا علما} وهو بمعنى الفيض عندهم، ويعنون بكل ذلك انفتاح علم الغيب وحقائق الدنيا والآخرة عليهم!!)، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي أوحى إليهم بهذا.

وبعد أن قدس المتصوفة الأقدمون علمهم الباطن على هذا النحو، وأظهره بعضهم بذلك الوضوح، وجعلوا علم الشريعة المنزلة على رسوله صلى الله عليه وسلم علماً خاصاً بالعوام، وجعلوا علمهم الباطني علماً خاصاً بالخواص يتلقى رأساً عن الله بطريق انكشاف حجاب الغفلة -في زعمهم- لم يكتف المتأخرون منهم بهذا التقسيم، بل غالوا إلى أن جعلوا علوم الشريعة مرحلة فقط لعلمه الباطني، وجزموا بأن من وقف عند علم الشريعة، وتقيد بظاهره فقط فلا ينجو من الآخرة، بل هو غافل عن دين محمد، شأنه شأن الكافرين.

يقول الشيخ عبدالغني النابلسي (وهو كما ترجم له صاحب "الأعلام" من كبار العلماء المتأخرين، له مصنفات كثيرة جداً في علوم الشريعة والتصوف والأدب، ولد ونشأ في دمشق، وتوفي بها سنة 1143هـ، يقول فيكتابه: "الفتح الرباني والفيض الرحماني ص133"): "فكل من اشتغل بالعلوم الظاهرة، ولم يعتقد أن وراء ما هو ساع في تعلمه من الفقه والحديث والتفسير حقائق وعلوماً باطنة، رمزها الشارع تحت ما أظهر من هذه الرسوم هي مقصودة له، لأنها المنجية عند الله تعالى، فهو غافل عن الله تعالى، جاهل بدين محمد صلى الله عليه وسلم، داخل تحت قوله تعالى: {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخر هم غافلون}" أ.هـ.

وقد ساغ في كلام الشيخ كما ترى أن يستدل بالآية السابقة على أن علوم الشريعة من الفقه والحديث والتفسير، العلم بها كالعلم بظاهر الحياة الدنيا. والغفلة بها عن العلم الباطني كالغفلة بعلوم الدنيا وزخرفها عن حقائق الآخرة!!.

(الذنب عند النابلسي):

لقد كتب الشيخ عبدالغني النابلسي هذا الكلام في كتابه الفتح الرباني، وقد قال في مقدمته: إنه يكتب كتابه هذا مترجماً عن الإلقاء الرحماني له مباشرة، وبغير وساطة، فهو وحي أو إلهام أو كشف حسب ما يدعيه، قال النابلسي في تعريف الذنب حسب العلم الباطني:

"اعلم أن الذنب له حقيقة متى علمت علم سره، ومتى علم سره علم جهره، وله حال ومقام، وله أقسام، وأنا أتكلم لك الآن في ذلك بحسب الوارد ترجمة عن الإلقاء الرحماني".

فالنابلسي عندما قرر في (ص133 من كتابه الفتح الرباني) أن علوم الشريعة لا تنجي وحدها من عذاب الآخرة، بل لا بد أن يدخل المتعلم إلى الحقائق والعلوم الباطنية التي ذكرت في الشريعة بالرمز فقط، ولم ينص عليها نصاً؛ وذلك لينجو من عذاب الله يوم القيامة، عندما قرر النابلسي كل ذلك فإنما قرره ترجمة عن الإلقاء الرحماني في زعمه، ولم يقرر ذلك إجتهاداً ورأياً!!

ولعلك أخي القارئ تحب أن تقف على نماذج من هذا الإلقاء الرحماني على الشيخ عبدالغني النابلسي، لتعلم الحقيقة الباطنة التي أرادها الله، وأرادها رسوله صلى الله عليه وسلم -في زعم القوم- والتي تكلم الله ورسوله عنها بطريق الرمز في زعمهم، والتي فهمها وعقلها، بل نزل الفيض الرحماني والفتح الرباني بها على الشيخ عبدالغني النابلسي!!

يقول الشيخ في بيان حقيقة الذنب:

"وأما الذنب بحسب باطن الأمر الإلهي المسمى الحقيقة فهو: الموافقة للرب سبحانه وتعالى في شيء مما أراد بنفسه من نفسه بعد وصول التبليغ عن نفسه بنفسه إلى نفسه، ويرجع ذلك إلى تعيين وجود العبد" أ.هـ.

(ونفسه) هذه التي تكررت في العبارة خمس مرات هي مضمون وحدة الوجود، فالله نفسه هو المريد، وما أراد شيئاً بغيره، وإنما أراد بنفسه، والمبلّغ عنه هو الرسول، وهو الله نفسه في زعمهم، والمبلغ إليهم هم البشر، وهم الله نفسه أيضاً -في زعمهم- تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

وحتى لا يظن القارئ أن تفسيري هذا تجن على الرجل أنقل نص عبارة الشيخ النابلسي في تفسيره للفقرة السابقة. يقول: "ما ثم إلا ذات وصفات، وصفات صفات، وهي الأفعال، ومنفعلات وهي العالم فالأول هو المعبود، والثاني الموصل إليه وهو الوساطة، والثالث هو العابد، والرابع هو العائق والمانع، والأول مرتبة الله تعالى، والثاني مرتبة محمد صلى الله عليه وسلم، والثالث مرتبة المؤمنين، والرابع مرتبة الشيطان، وهذه الأربعة في الحقيقة شيء واحد، لكنه تنزل وتفصل، فظهرت له هذه الأطوار وتعددت وجوداته" (الفتح ص51).

فهذا شرح واضح لوحدة الوجود التي ينقلها الشيخ عبدالغني النابلسي عن شيخه الأكبر ابن عربي، فليس في الوجود عندهم إلا الله، وهذه الموجودات المشاهدة جميعها صفاته، تعددت وتنوعت لتعرب عن الصفات الكثيرة التي يتصف بها الرب في زعمهم، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وهو حسبنا ونعم الوكيل.

فالمعبود والرسول والمؤمنون والشياطين كلهم بنص النابلسي شيء واحد، ولذلك فالذنب عند النابلسي هو "الموافقة للرب سبحانه" وهذا راجع بنص كلامه إلى "تعين وجود العبد". ويشرح النابلسي "تعين الوجود" هذا بقوله:

فمن تعين عنده وجوده مع الله تعالى ظاهراً أو باطناً فقد أفحش، وبغى وقال ما لم يعلم (كذا!!) وذلك لأن التعينات في الوجود الحادث إنما هي لبيان امتياز المحضرات الصفاتية، لتنفصل مجملاتها، وتبين كمالاتها، وليست المغايرة أمراً مقصوراً، وإنما لزمت من ظهور حقائق بعض الصفات كالغفور والحليم والمنتقم بوساطة تحقق الذنب.

قال الجنيد: ما انتفعت بشيء كانتفاعي بأبيات سمعتها، وأنا مار ببعض الطرقات منها:

وإن قلت: ما ذنبي إليـــــك؟     أجبتني: وجودك ذنب لا يقاس به ذنب

(الفتح ص49)

فالذنب عند النابلسي بمقتضى كلامه السابق هو أن يظن العبد أن له وجوداً مستقلاً عن وجود الله!! ومن ظن ذلك فقد أفحش وبغى، وقال ما لم يعلم، واستدل على ذلك ببيت الشعر الذي سمعه الجنيد.

ويبالغ النابلسي أكثر من ذلك، فيزعم أن حال الذنب هو القرب من الله، وليس البعد منه. ولذلك يقول بالنص:

"فالمذنب في حال ذنبه أقرب إلى الله منه في حال طاعته"!!

(الفرق بين الصديق والزنديق):

وقد أوضح النابلسي هذه العقيدة الباطنية أكثر من ذلك عندما عقد فصلاً مطولاً قارن فيه بين الزنديق والصديق، وكانت خلاصة هذا الفصل أن الزنديق من يرى أن كفره وفسقه صادر منه فقط، وأنه مستقل بهذا الكفر. وأما الصديق فهو من يرى أن كل أفعال العباد صادرة من الله سبحانه -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- وأن المؤمن والكافر والفاسق والبار ما هم جميعاً إلا مظاهر مختلفة لحقيقة الرب الموجود وحده، واستدل على ذلك بقوله تعالى: {ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت} (الملك:3)، فالمؤمن عنده والكافر من خلق الله، ولا فرق بين هذا وذاك، ومن عرف هذه الحقيقة فهو الصديق، ومن جهلها وظن أن الكافر يصنع كفره، ويخلق فعله، ويستقل بأمر نفسه فهو الزنديق!!.

ويحسن أن أنقل كلامه في هذه المسألة بنصه حتى تتضح صورة هذه العقيدة الباطنية وضوحاً لا شك فيه. يقول الشيخ النابلسي:

"واعلم أن الأديان كلها التي في العالم بالنسبة إلى المتدينين بها من الخلق تنقسم إلى قسمين: دين واحد حق وهو الإسلام، وأديان جميعها باطلة، وهي ما عدا دين الإسلام.

وأما بالنسبة إلى الخالق سبحانه وتعالى فجميع الأديان الباطلة والصحيحة مخلوقة له تعالى، وهو خالقها، وقد قال تعالى: {وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون} (آل عمران:83)، أي انقادوا إليه طائعين في حق المؤمنين، ومكروهين، لأنه لا خالق غيره، في حق الكافرين.

فمن نظر إلى ما يظهر من كلا الفريقين، وقال: إن جميع ذلك صواب وحق فهو الزنديق، ومن لم ينظر إلى ما يظهر من كلا الفريقين، وإنما نظر إلى يد الله العليا التي فوق أيديهم جميعاً، واعتقد أن جميع ما يصدر منها صواب وحق فهو الصديق، والفرق بينهما دقيق. لا يدرك إلا بعناية من الله تعالى وتوفيقه.

فربما يظهر الصديق في حلية الزنديق، وربما يظهر الزنديق في حلية الصديق، وموقع النظر واحد، وهو الخلق. فمن نظر إلى الخلق وقال: إنهم كلهم على الصواب: فإما أن ينظر إليهم من حيث صدورهم عن الصانع القديم، ويقول ذلك فهو الصديق. وإما أن ينظر إليهم من حيث ذواتهم ويقول ذلك فهو الزنديق.

وسبب ذلك أن من نظر إليهم من حيث صدورهم عن الصانع القديم، فحكم بالتساوي بينهم، لأن الله تعالى يقول: {ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت} (الملك:3)، (انظر كيف قطع النابلسي هذا المقطع من الآية عن موضعه، فبدل معناه، وموضعه هكذا: {الذي خلق سبع سماوات طباقا، ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت، فارجع البصر هل ترى من فطور} والتفاوت المقصود هنا هو التفاوت في خلق السماوات والأرض، لا في فعل البشر، لأن كل عاقل يعلم أن فعل البشر متفاوت، فكم بين الإيمان والكفر من تفاوت!!) {والله خالق كل شيء} (الرعد:18)، فلا يكلف إلى الفرق والتمييز حينئذ، وهو صادق في حكمه بذلك التساوي، لأنه مأمور بالإيمان بذلك.

وأما من نظر إليهم من حيث ذواتهم، وما هم عليه من الأحوال، فحكمه بالتساوي بينهم خطأ محض وجهل. قال تعالى: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين* ما لكم كيف تحكمون} (القلم:35و36) وقال تعالى: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} (ص:28). وإنما يكلف إلى الفرق والتمييز حينئذ، وهو كاذب في حكمه بالتساوي بينهم، قد يشتبه كلام الصديق بالزنديق، والقصد هو الفارق، ويعرف ذلك من كلام آخر في موضع آخر كقول الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي (رضي الله عنه) من أبيات الفتوحات المكية:

عقد البرية في الإله عقائداً                     وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه

ومراده جميع ما اعتقدوه من حيث صدور ذلك عن الصانع القديم، فإن جميع ذلك آثار دالة عليه تعالى، لا من حيث صدور ذلك عن المعتقدين لأنها من حيث هم دالة عليهم لا عليه، وعقيدة أهل الاختصاص فيها الغفلة عن الآثار، والنظر إلى المؤثر، يعلم ذلك في مواضع شتى في كلامه" (الفتح ص85-86).

وبهذا النقل المطول عن الشيخ النابلسي تتضح أمامنا الآن صورة العقيدة الباطنية التي سعى القوم إلى غرسها وبنائها، وأنها التحقق -في زعمهم- من أن الموجودات ما هي إلا مظاهر لحقيقة واحدة هي الله، وأن الأفعال لا تتفاضل ولا تتناقض إلا بالنظر إلى الخلق، وأما بالنظر إلى الله الفاعل الحقيقي - في زعمهم- فإنما هي شيء واحد يدل على ذات واحدة.

وبهذه العقيدة هدموا جميع الأديان، وأبطلوا جميع الشرائع واستحلوا كل المحرمات، وهذا الذي أقرره هنا لا أقرره أيضاً استنباطاً واجتهاداً، وتحميلاً لألفاظ القوم ما لا تحتمل، فقد مر بك بيت الشعر المنسوب إلى ابن عربي:

عقد البرية في الإله عقائداً                     وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه

وقد فسره ابن عربي بأن من اعتقد بأن هناك ديناً واحداً حقاً، وبقية الأديان باطلة فقد فاته خير كثير، لأنه آمن بجزء من الحقيقة، ولم ير الحقيقة كاملة، وهي أن كل هذه الأديان التي ظنها باطلة هي مرادة لله تبارك وتعالى، بل هو خالقها وبارئها.

وأصرح من هذا كله ما وصل إليه الشيخ النابلسي، وهو أن مقام الزهد المشهور في التصوف  ما هو إلا مرحلة في الطريق الصوفي، وأما المرحلة النهائية في فهو ترك الزهد، والاستمتاع بالمقسوم على أتم وجه، وفي ذلك يقول النص:

"وأما بالنظر إلى غير الله تعالى فهو اشتغال الروحانية بما يرد عليها من أسئلة الأكوان السائرة للكون الحق، والستر هو الكفر، وأصحاب هذا الاشتغال المذكور هم الزهاد الذين يزهدون في الأشياء، فإنهم لولا ملاحظتهم للأشياء وادعاؤهم بثبوتها ما زهدوا فيها، فقد استتر الحق عنهم بزهدهم في الأشياء، فكفروا كفراً خفياً، ولو عقلوا لما زهدوا في شيء، لأن الذي ليس لهم عدم، فكيف يزهدون في العدم وهو غير مقدور، والذي لهم لا بد أن يصيبهم، فلو زهدوا فيه، لما أمكنهم وعاندوا الأقدار فهم مشغولون بزهدهم عن الله تعالى، فمتى يتفرغون له تعالى؟ ولله در القائل:

تجرد عن مقام الـزهد فلبي                      فأنت الحق وحدك في شهودي

أأزهد في سواك، وليس شيء                   أراه سواك يا سر الوجــود"

(الفتح الرباني ص134).

فانظر كيف نسب الكفر الخفي إلى الزهاد، لأنهم اشتغلوا بزهدهم في الأشياء، لأن الذي ليس لهم عدم، أي أن ما قدر لهم لا بد أن يكون. ولذلك يقول: "والذي لهم لا بد أن يصيبهم، فلو زهدوا فيه لما أمكنهم".

ولذلك رآهم النابلسي معارضين للأقدار، مشغولين بزهدهم عن الله تبارك وتعالى..

أحب أن أكرر هنا أن النابلسي ليس رجلاً مغموراً جاهلاً، بل هو مقدم عند القوم، مستشهد بأقواله عند الجميع وبعضهم يعتذر عن مثل مقالاته هذه بأنه من الشطح، والشطح مغفور لهؤلاء، لأن ذلك من غلبة وجدهم وحبهم لمولاهم.

وأقول: إذا كان ثم شطح مغفور عند الله، معذور صاحبه، فهو أن تصدر كلمة أو جملة في غلبة حال كما يقولون. أما أن يؤلف رجل مئتي كتاب، كلها على هذا النحو، وذلك يستغرق آلاف الساعات والأيام، فكيف يكون التأليف والتحقيق شطحاً وسكراً؟ فافهم أخي المسلم هذه الحقيقة فإنها سهم قاتل لهذا الباطل.

وبعد هذا الاستطراد أعود إلى السياق الأصلي، وهو أن القوم في نهاية مطافهم وصلوا إلى هدم الأديان، والتسوية بين الكفر والإيمان، بل وجعل مرتبة الزهد التي هي بداية للطريق الصوفي، ومرحلة من مراحله شركاً خفياً بالله، لأن ذلك غيبة بالزهد عن الله تعالى.

ولعل ظاناً يظن أن هذه العقيدة الباطنية التي وصل إليها كانت عقيدة نظرية فقط، ولم يكن لها واقع عملي في حياة القوم، وهذا الظن ساذج ومريض، بل إن القوم قد مارسوا هذه العقيدة الباطنية ممارسة واقعية، وقد جاءت ممارستهم الواقعية لهذه العقيدة شيئاً صارخاً لا يكاد العقل يصدق به. ولكن ماذا نفعل والحقيقة قد أصبحت أكبر من الخيال.

 

الفصل السابع

الحقيقة المحمدية في الفكر الصوفي

يستحيل علينا أن نفهم ما يريده المتصوفة بقولهم (الحقيقة المحمدية) إلا بمعرفة عقيدتهم في الله. فالنظرية الصوفية الفلسفية قد وصلت في نهاية القرن الثالث إلى القول بأن الله هو هذا الوجود القائم المتجدد المتغير فهو السماوات والأرض والعرش والكرسي والملائكة والإنسان والحيوان والنبات وهو الأزل والأبد -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- وإن كانت عباراتهم تختلف أحياناً فمرة يقولون: هو الروح الساري في الموجودات ويشبهون هذا السريان بأنه كرائحة الورد في الورد. ووجود الروح في الجسم الحي. وتارة يقولون نفس وجود الموجودات هو وجود الله فليس عناك اثنان في الوجود خالق ومخلوق بل المخلوق هو عين الخالق، والخالق هو نفس المخلوق، اعتقد بذلك ونشره في الناس كبار الصوفية من أهل الزندقة والإلحاد كابن عربي، والحلاج، والجيلي، وابن سبعين، ومن على شاكلتهم، وهؤلاء الصوفية أنكروا في كتبهم على من يشهد بأن الله سبحانه وتعالى هو الإله القائم بنفسه المستوي على عرشه البائن من خلقه والذي هو معتقد المسلمين في ربهم سبحانه وتعالى. وقد كان هذا المعتقد أيضاً هو معتقد بعض من نسب إلى التصوف ولذلك شدد ابن عربي عليهم النكير أيضاً وخطّأهم ونسبهم إلى القصور وعدم الفهم (اقرأ كتاب ابن عربي التجليات الذي يزعم فيه أنه التقى برجال التصوف السابقين في البرزخ وناقشهم في عقائدهم هذه في التوحيد وبين لهم خطأهم وعرفهم في النهاية أن لا موجود إلا الله، وأن الله والعبد شيء واحد، وأنهم أقروا جميعاً بذلك وكل ذلك في كتاب التجليات). والمهم أن هؤلاء المتصوفة الذين نقلوا عقيدة وحدة الوجود عن الفلسفة الأفلاطونية واعتقدوها وجعلوها هي الحقيقة الصوفية وسر الأسرار وهي معتقد أهل الإسلام في زعمهم، نقلوا ما قاله هؤلاء الفلاسفة في نظرياتهم في بدء الخلق فقد قال الفلاسفة الأقدمون "إن أول شيء بدأ في الخلق هو الهباء (أي الذرات) وإن أول موجود وجد هو العقل الأول وسموه (العقل الفعال)، وأنه عن هذا العقل الأول نشأ العالم العلوي السماوات والكواكب ثم العالم السفلي.. الخ.

هذه النظرية الفلسفية القديمة جاء ابن عربي ونقلها هي نفسها إلى الفكر الصوفي ولكنه استبدل بدلاً من العقل الفعال عند الفلاسفة ما أسماه هو الحقيقة المحمدية فزعم أن أول الخلق كان هباء، -كلام الفلاسفة نفسه- وأن أول موجود هو "الحقيقة المحمدية" التي زعم ابن عربي أنها أول الموجودات وعلى حد تعبيره أول التعينات -أي أول عين تشكلت وتصورت من الذرات- يتطاول ابن عربي ويقول إن هذه (الحقيقة المحمدية) هي التي استوت على العرش الإلهي. فيجعل ما حدثنا الله سبحانه وتعالى به عن نفسه من أنه خالق الخلق، وأنه المستوي على العرش.. يلوي ابن عربي كل ذلك ويلبس على المسلمين وينقل لهم كلام الفلاسفة الملحدين في أسلوب جديد بغطاء إسلامي وآيات قرآنية فيقول إن ذات محمد هي أول ذات تكونت من الهباء وهي التي استوت على العرش الإلهي. ومن نور هذه الذات خلق الله الخلق جميعاً بعد ذلك فالملائكة والسماوات والأرض كل ذلك قد خلق من نور الذات الأولى وهي الذات المحمدية عند ابن عربي، والعقل الفعال في الفكر الفلسفي، وهكذا استطاع ابن عربي أن ينقل ترهات الفلاسفة وتخيلاتهم المريضة إلى دنيا المسلمين وعقائدهم بل جعل هذه العقيدة الإلحادية هي العقيدة الأساسية التي قام الفكر الصوفي كله بعد ذلك عليها، فإذا علمنا ماذا يعنيه المتصوفة المتفلسفون بوحدة الوجود وأن الله عندهم ليس ذاتاً يراها المؤمنون في الآخرة وتستوي على العرش، وإنما هو نفس الوجود بكل درجاته وتناقضاته، فالله عندهم هو عين وجود المَلَك والشيطان والإنس والجان، والحيوان والنبات، أقول إذا علمنا بعد ذلك ماذا يريد المتصوفة من قولهم بالحقيقة المحمدية المستوية على العرش وجعل النبي محمداً صلى الله عليه وسلم هو المخلوق الأول قبل الأكوان جميعاً وهو الذي استوى على العرش ومن نور النبي صلى الله عليه وسلم خلق الله جميع الأكوان بعد ذلك السماوات والأرض والملائكة والإنس والجن وسائر المخلوقات. فأصبحت الحقيقة المحمدية -في زعمه- الصورة الكاملة المتجسدة للذات الإلهية التي لا ترى بذاتها، ولا تنفصل عن هذا الوجود.. فالنبي محمد صلى الله عليه وسلم عند ابن عربي ومشايخ التصوف الذين جاؤوا من بعده هو الله المتجلي على العرش. أو -قل- هو صورة الله المصغرة وهو الذي منه استمدت كل الموجودات وجوداتها وانفلقت عنه كل الأنوار وكل الأكوان وكل الموجودات.. وهو يعني أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو البذرة الأولى لكل موجود فكأنه بذرة لشجرة كان منها بعد ذلك الساق والفروع والأوراق والثمار والأشواك، فهكذا بدأ الوجود بمحمد صلى الله عليه وسلم ثم خلق من نوره العرش والكرسي والسماوات والأرض وآدم وذريته وتفرع الخلق وتدرج بعد ذلك من المخلوقات التي خلقت من نور النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فالموجودات كلها في عقيدة التصوف شيء واحد متفرع عن أصل واحد أو قل شجرة متفرعة عن بذرة واحدة. وإليك الآن نصوص عبارات هؤلاء الملاحدة الكافرين في هذه العقيدة الكفرية الزندقية:

قال القاشاني شارح فصوص الحكم لابن عربي: "إن محمداً أول التعينات التي عين به الذات الأحدية قبل كل تعين فظهر به ما لا نهاية من التعينات، فهو يشمل جمع التعينات. فهو واحد فرد في الوجود لا نظير له: إذ لا يتعين من يساويه في المرتبة، وليس فوقه إلا الذات الأحدية المطلقة المنزهة عن كل تعين وصفة واسم ورسم وحدّ ونعت، فله الفردية المطلقة، ومن هذا يعلم أن الاسم الأعظم لا يكون إلا له دون غيره من الأنبياء، ومن فرديته يعلم سر قوله: (كنت نبياً وآدم بين الماء والطين) كونه خاتم النبيين وأول الأولين وآخر الآخرين، ومن أوليته وجمعيته سر قوله: (أوتيت جوامع الكلم) وكونه أفضل الأنبياء فإنهم في التصاعد وسعة الاستعداد والمرتبة ينتهون إلى التعين الأول ولا يبلغونه، والتعين الأول هو محمد الذي يرجع إليه جميع التعينات فهو البرزخ بين الذات الأحدية وبين سائر الموجودات" (شرح القاشاني على الفصوص ص 266،267).

ومعنى أول التعينات أي أول موجود معين له ذات وجسمه وقبله لم يكن هناك أي ذات لا عرش ولا كرسي ولا سماوات ولا أرض. وقول القاشاني شارح الفصوص (وليس فوقه إلا الذات الأحدية المطلقة المنزهة عن كل تعين وصفة واسم ورسم وحد ونعت.. الخ) يعني أنه ليس فوق مرتبة الرسول شيء إلا الذات الإلهية التي لا توصف بأي صفة بتاتاً لأن ذات الله عنده مطلقة عن كل قيد -في زعمه- منزهة عن أن تكون ذاتاً معينة محدودة مثلاً كأن يقول لله وجه أو يد أو ساق، أو استوى على العرش، أو يأتي يوم القيامة لأن الذات الإلهية في العقيدة الصوفية هي المطلقة عن كل هذه القيود لأنها كل الموجودات. ويشرح ابن عربي نفسه عقيدته هذه بقوله: "بدء الخلق الهباء وأول موجود فيه الحقيقة المحمدية الرحمانية الموصوفة بالاستواء على العرش الرحماني وهو العرش الإلهي" (الفتوحات المكية ج1 ص152).

فالخلق في زعمه بدأ بالهباء أي الذرات وأول موجود وجد بذات قائمة محدودة هي ذات الرسول التي سماها الحقيقة المحمدية الرحمانية الموصوفة بالاستواء على العرش الرحماني وهو العرش الإلهي.

وجاء بعد ابن عربي من شرح هذه العقيدة واستفاض فيها، قال أحمد بن مبارك السلجماسي في كتابه الأبريز فيما يرويه عن شيخه عبدالعزيز الدباغ: "(وسمعته) رضي الله عنه يقول في قوله وانفلقت الأنوار أن أول ما خلق الله تعالى نور سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ثم خلق منه القلم والحجب السبعين وملائكتها ثم خلق اللوح ثم قبل كماله وانعقاده خلق العرش والأرواح والجنة والبرزخ أما العرش فإنه خلقه تعالى من نور وخلق ذلك النور من النور المكرم نور نبينا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم وخلقه أي العرش ياقوتة عظيمة لا يقاس قدرها وعظمها وخلق في وسط هذه الياقوتة جوهرة فصار مجموع الياقوتة والجوهرة كبيضة بياضها هو الياقوتة وصفارها هو الجوهرة ثم إن الله تعالى أمد تلك الجوهرة وسقاها بنوره صلى الله عليه وسلم فجعل يخرق الياقوتة ويسقي الجوهرة فسقاها مرة ثم مرة ثم مرة إلى أن انتهى إلى سبع مرات فسالت الجوهرة بإذن الله تعالى فرجعت ماء ونزلت إلى أسفل الياقوتة التي هي العرش ثم إن النور المكرم الذي خلق العرش إلى الجوهرة التي سالت ماء لم يرجع فخلق الله منه ملائكة ثمانية وهم حملة العرش فخلقهم من صفائه وخلق من ثقله الريح وله قوة وجهد عظيم فأمرها تعالى أن تنزل تحت الماء فسكنت تحته فحملته ثم جعلت تخدم وجعل البرد يقوى في الماء فأراد الماء أن يرجع إلى أصله ويجمد فلم تدعه الرياح بل جعلت تكسر شقوقه التي تجمد وجعلت تلك الشقوق تتعفن ويدخلها الثقل والنتونة وشقوق تزيد على شقوق ثم جعلت تكبر وتتسع وذهبت إلى جهات سبع وأماكن سبع فخلق الله منه الأرضين السبع ودخل الماء بينها والبحور وجعل الضباب يتصاعد من الماء لقوة جهد الريح ثم جعل يتراكم فخلق الله منه السماوات السبع ثم جعلت الريح تخدم خدمة عظيمة على عادتها أولاً وآخراً فجعلت النار تزيد في الهواء من قوة حرق الريح للماء والهواء وكلما زندت نار أخذتها الملائكة وذهبت بها إلى محل جهنم اليوم فذلك أصل جهنم فالشقوق التي تكونت منها الأرضون تركوها على حالها والضباب التي تكونت منه السماوات تركوه على حاله والنار التي زندت في الهواء أخذوها ونقلوها إلى محل آخر لأنهم لو تركوها لأكلت الشقوق التي منها الأرضون السبع والضباب الذي منه السماوات السبع بل وتأكل الماء وتشربه بالكلية لقوة جهد الريح ثم إن الله تعالى خلق ملائكة الأرضين من نوره صلى الله عليه وسلم وأمرهم أن يعبدوه عليها وخلق ملائكة السماوات من نوره صلى الله عليه وسلم وأمرهم أن يعبدوه عليها، وأما الأرواح والجنة إلا مواضع منها فإنها أيضاً خلقت من نور وخلق ذلك النور من نوره صلى الله عليه وسلم، وأما البرزخ فنصفه الأعلى من نوره صلى الله عليه وسلم فخرج من هذا أن القلم واللوح ونصف البرزخ والحجب السبعين وجميع ملائكتها وجميع ملائكة السماوات والأرضين كلها خلقت من نوره صلى الله عليه وسلم بلا وساطة وأن العرش والماء والجنة والأرواح خلقت من نور خلق من نوره صلى الله عليه وسلم ثم بعد هذا فلهذه المخلوقات أيضاً سقي من نوره صلى الله عليه وسلم أما القلم فإنه سقي سبع مرات سقياً عظيماً وهو أعظم المخلوقات بحيث إنه لو كشف نوره لجرم الأرض لتدكدكت وصارت رميماً وكذا الماء فإنه سقي سبع مرات ولكن ليس كسقي القلم وأما الحجب السبعون فإنها في سقي دائم وأما العرش فإنه سقي مرتين مرة في بدء خلقه ومرة عند تمام خلقه لتستمسك ذاته وكذا الجنة فإنها سقيت مرتين مرة في بدء خلقها ومرة بعد تمام خلقها لتستمسك ذاتها وأما الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وكذا سائر المؤمنين من الأمم السابقة ومن هذه الأمة فإنهم سقوا ثماني مرات الأولى في عالم الأرواح حين خلق الله نور الأرواح جملة فسقاه الثانية حين جعل يصور منه الأرواح فعند تصور كل روح سقاها بنوره صلى الله عليه وسلم. الثالثة يوم ألست بربكم فإن كل من أجاب لله تعالى من أرواح المؤمنين والأنبياء عليهم الصلاة والسلام سقي من نوره صلى الله عليه وسلم لكن منهم من سقي كثيراً ومنهم من سقي قليلاً فمن هنا وقع التفاوت بين المؤمنين حتى كان منهم أولياء وغيرهم. وأما أرواح الكفار فإنها كرهت شرب ذلك النور وامتنعت منه فلما رأت ما وقع للأرواح التي شربت منه من السعادة الأبدية والإرتقاآت السرمدية ندمت وطلبت سقيا فسقيت من الظلام والعياذ بالله. الرابعة عند تصويره في بطن أمه وتركيب مفاصله وشق بصره فإن ذاته تسقى من النور الكريم لتلين مفاصله وتنفتح أسماعها وأبصارها ولولا ذلك ما لانت مفاصلها. الخامسة عند خروجه من بطن أمه فإنه يسقى من النور الكريم ليلهم الأكل من فمه ولولا ذلك ما أكل من فمه أبداً. السادسة عند التقامه ثدي أمه في أول وضعه فإنه يسقى من النور الكريم أيضاً. السابعة عند نفخ الروح فيه فإنه لولا سقي الذات بالنور الكريم ما دخلت فيها الروح أبداً مع ذلك فلا تدخل فيها إلا بكلفة عظيمة وتعب يحصل للملائكة معها ولولا أمر الله لها ومعرفتها به ما قدر ملك على إدخالها بالذات". انتهى. منه بلفظه (الأبريز ص224،225).

وهذا الهذيان الكامل، والتخريف الكامل شرح لعقيدة الصوفية فيما يسمونه بالحقيقة المحمدية، وأنها الذات الأولى التي انطلقت منها بعد ذلك كل الذوات والكائنات والموجودات.

ويستطرد أحمد مبارك شارحاً عقيدة الصوفية فيما يسمونه بالحقيقة المحمدية فيقول أيضاً:

"(وسمعته) رضي الله عنه يقول مرة أخرى إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وإن سقوا من نوره لم يشربوه بتمامه بل كل واحد يشرب منه ما يناسبه وكتب له فإن النور المكرم ذو ألوان كثيرة وأحوال عديدة وأقسام كثيرة فكل واحد شرب لوناً خاصاً ونوعاً خاصاً، قال رضي الله عنه: فسيدنا عيسى صلى الله عليه وسلم شرب من النور المكرم فحصل له مقام الغربة، وهو مقام يحمل صاحبه على السياحة، وعدم القرار في موضع واحد. وسيدنا إبراهيم صلى الله عليه وسلم شرب من النور المكرم فحصل له مقام الرحمة والتواضع مع المشاهدة الكاملة؛ فتراه إذا تكلم مع أحد يخاطبه بلين، ويكلمه بتواضع عظيم، فيظن المتكلم أنه يتواضع له وهو إنما يتواضع لله عز وجل لقوة مشاهدته. وسيدنا موسى صلى الله عليه وسلم شرب من النور المكرم فحصل له مقام مشاهدة الحق سبحانه في نعمه وخيراته وعطاياه التي لا يقدر قدرها. وهكذا سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والملائكة الكرام والله أعلم" (الأبريز ص226).

ويقول كذلك:

"(وسمعته) -أي شيخه عبدالعزيز الدباغ- رضي الله عنه يقول إني لم أزل أتعجب من الوالي الذي يقول إنه يملأ الكون وذلك لأن للكون باباً منه يقع الدخول إليه وهو النبي صلى الله عليه وسلم ولا يطيق مخلوق من المخلوقات أي يحمل نوره صلى الله عليه وسلم ومن عجز عن الباب فكيف يطيق غيره اللهم إلا أن يكون دخل من غير باب؛ يعني فيكون فتحه شيطانياً ظلمانياً، وهذا لا يملأ بيته فضلاً عن داره فضلاً عن شيء آخر. قال رضي الله عنه واعلم أن أنوار المكونات كلها من عرش وفرش وسماوات وأرضين وجنات وحجب وما فوقها وما تحتها إذا جمعت كلها وجدت بعضاً من نور النبي صلى الله عليه وسلم وأن مجموع نوره صلى الله عليه وسلم لو وضع على العرش لذاب ولو وضع على الحجب السبعين التي فوق العرش لتهافتت ولو جمعت المخلوقات كلها ووضع عليه ذلك النور العظيم لتهافتت وتساقطت وإذا كان هذا شأن نوره صلى الله عليه وسلم فكيف يقول من يقول إنه يملأ الكون، فأين تكون ذاته إذا بلغت المدينة المنورة، وقربت من القبر الشريف. أم كيف تكون إذا تصاعدت نحو البرزخ وقربت من الموضع الذي فيه النور العظيم  القائم بالروح الشريفة؟ أفتكون ذاته حاملة له والمخلوقات بجملتها عاجزة عنه أم يتخطى ذلك الموضع فلم يملأ الكون؟ والغرض أن الموضع المذكور آخذ من القبر الشريف إلى قبة البرزخ تحت العرش ولعله أراد بالكون ما بين السماء والأرض ما عدا موضع البرزخ الذي فيه نور المعظم فقلت ولعله أنه يملؤه من حيث النور أي يملؤه بنوره لا بذاته كالشمس التي سطعت على السماوات والأرض. فقال رضي الله عنه وما مراده إلا أنه يملؤه بنوره ولا يريد أنه يملؤه بذاته. ولكن أين نوره من نور المصطفى صلى الله عليه وسلم فإن ذلك النور من النور المكرم بمنزلة الفتيلة في وسط النهار وقت الظهيرة. وهل يصح أن يقال إن تلك الفتيلة كسفت نور الشمس؟ فقلت ونور الشمس من النور المكرم بمنزلة الفتيلة فما باله ملأ الأكوان؟ فقال رضي الله عنه: لم يملأ الأكوان بمعنى أن النور المكرم ذهب بسببه واضمحل فكيف ونور الشمس إنما هو من نور أرواح المؤمنين الذي هو من نوره صلى الله عليه وسلم وإنما سبب ذلك أنا حجبنا عن مشاهدة النور المكرم كما حجبنا عن مشاهدة أنوار الأولياء فلو كشف الحجاب لكانت له أنوار من النور المكرم بمنزلة الفتائل وسط النهار ولم يظهر للشمس ولا لغيرها نوراً إلا كما يظهر للفتائل وسط النهار" (الأبريز ص230). أ.هـ

ويقول أيضاً في شرح قول الشاذلي (اللهم صل على من منه انشقت الأسرار وانفلقت الأنوار).

"* (الباب السابع في تفسيره رضي الله عنه لبعض ما أشكل علينا من كلام الأشياخ رضي الله عنهم) فمن ذلك أنه شرح لنا رضي الله عنه بعض الألفاظ من صلاة القطب الكامل الوارث الواصل مولانا عبدالسلام بن مشيش رضي الله عنه فسمعته رضي الله عنه يقول في شرح قوله (اللهم صل على من منه انشقت الأسرار) حاكياً عن سيد محمد بن عبدالكريم البصراوي رضي الله عنه أن الله تعالى لما أراد إخراج بركات الأرض وأسرارها مثل ما فيها من العيون والآبار والأنهار والأشجار والثمار والأزهار أرسل سبعين ألف ملك إلى سبعين ألف ملك إلى سبعين ألف ملك ثلاث سبعينات من الألوف فنزلوا يطوفون في الأرض؛ فالسبعون الأولى يذكرون اسم النبي صلى الله عليه وسلم ومرادنا بالاسم الاسم العالي ما يأتي في شرح وتنزلت علوم آدم. والسبعون الثانية يذكرون قربه صلى الله عليه وسلم من ربه عز وجل ومنزلته صلى الله عليه وسلم منه. والسبعون الثالثة تصلي عليه صلى الله عليه وسلم ونوره صلى الله عليه وسلم مع الطوائف الثلاث فتكونت الكائنات ببركة ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم وحضوره بينها ومشاهدتها قربه صلى الله عليه وسلم من ربه عز وجل قال وذكروه على الأرض فاستقرت وعلى السماوات فاستقلت وعلى مفاصل ذات ابن آدم فلانت بإذن الله تعالى وعلى مواضع عينيه ففتحت بالأنوار التي فيها فهذا معنى قوله منه انشقت الأسرار. فقلت: فهذا معنى دلائل الخيرات وبالاسم الذي وضعته على الليل فأظلم وعلى النهار فاستنار وعلى السماوات فاستقلت وعلى الأرض فاستقرت وعلى الجبال فرست وعلى البحار ففجرت وعلى العيون فنبعت وعلى السحاب فأمطرت. فقال رضي الله عنه: نعم ذلك الاسم هو اسم نبينا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم فببركته تكونت الكائنات والله أعلم. قلت وقد سبق كلام سيدي أحمد بن عبدالله الغوث رضي الله عنه وقوله لمريده يا ولدي لولا نور سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ما ظهر سر من أسرار الأرض؛ فلولا هو ما تفجرت عين من العيون ولا جرى نهر من الأنهار، وإن نوره صلى الله عليه وسلم يا ولدي يفوح في شهر مارس ثلاث مرات على سائر الحبوب فيقع لها الإثمار ببركته صلى الله عليه وسلم ولولا نوره صلى الله عليه وسلم ما أثمرت، ويا ولدي إن أقل الناس إيماناً من يرى إيمانه على ذاته مثل الجبل وأعظم منه فأحرى غيره، وأن الذات تكل أحياناً عن حمل الإيمان فتريد أن ترميه فيفوح نور النبي صلى الله عليه وسلم عليها فيكون معيناً لها على حمل الإيمان فتستحيله وتستطيبه" (الأبريز ص 222). أهـ.

وصلاة ابن مشيش هذه يقول فيها:

"اللهم صل على من منه انشقت الأسرار، وانفلقت الأنوار، وفيه ارتقت الحقائق وتنزلت علوم آدم بأعجز الخلائق، وله تضاءلت الفهوم فلم يدركه سابق ولا لاحق، فرياض الملكوت بزهر جماله مونقة، ووحياض الجبروت بفيض أنواره متدفقة، ولا شيء إلا هو به منوط، إذ لولا الواسطة لذهب كما قيل الموسوط" (أذكار الطريقة الشاذلية).

 والحق أن هذه العبارات في وصف (الحقيقة المحمدية) حسب المفهوم الصوفي الفلسفي، قد يختلف بعضها عن بعض قليلاً ولكنها جميعها مجمعة على شيء واحد وهو أن الرسول هو أول موجود فمنهم من يقول نور الرسول هو أول موجود، ومنهم من يقول بل وأيضاً ذاته النورانية المستوية على العرش، وأن وجوده البشري في وقته إنما كان مجرد تعيين جديد، وتجسد جديد لذات الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعض الصوفية أيضاً يجعل عين الرسول وذاته هي عين الله وذاته، وأنه ليس هناك حقيقة إلهية غير الحقيقة المحمدية ومن ذهب إلى ذلك عبدالكريم الجيلي وغيره، وبعضهم يفرق بين الذات الإلهية التي ليس لها تعين ذاتي ووجود منفصل عن الخلائق بل هي كل الموجودات بل هي في زعمهم الروح الخفي الساري في الموجودات. وأن هذه الذات الإلهية خلقت النبي محمداً أولاً قبل المخلوقات جميعاً ثم خلقت المخلوقات بعد ذلك من نور ذات الرسول، وأن ذات الرسول هي المستوية على العرش الرحماني كما قال ابن عربي. ومنهم ولا سيما المتأخرون يجعل ذات الرسول والحقيقة المحمدية هي عين الحقيقة الإلهية، ويجعلون الرسول بصورته البشرية صورة كاملة أو هو أكمل صورة للحقيقة الإلهية. ويجعلون كذلك الصورة البشرية المحمدية هي إحدى الصور الممكنة للرسول، ويعتقدون أنه يتشكل كثيراً في أي صورة يشاء وهذا نص عبارة عبدالكريم الجيلي في ذلك قال في الباب الستين:

"اعلم حفظك الله أن الإنسان الكامل هو القطب الذي تدور عليه أفلاك الوجود من أوله إلى آخره، وهو واحد منذ كان الوجود إلى أبد الآبدين، ثم له تنوع في ملابس ويظهر في كنائس (الإنسان الكامل للجيلي)، فيسمى به باعتبار لباس، ولا يسمى به باعتبار لباس آخر، فاسمه الأصلي الذي هو له محمد، وكنيته أبو القاسم، ووصفه عبدالله، ولقبه شمس الدين، ثم له باعتبار ملابس أخر أسام، وله في كل زمان اسم ما يليق بلباسه في ذلك الزمان، فقد اجتمعت به صلى الله عليه وسلم وهو في صورة شيخي الشيخ شرف الدين اسماعيل الجبرتي، ولست أعلم أنه النبي صلى الله عليه وسلم، وكنت أعلم أنه الشيخ، وهذا من جملة مشاهد شاهدته فيها بزبيد سنة ست وتسعين وسبعمائة، وسر هذا الأمر تمكنه صلى الله عليه وسلم من التصور بكل صورة، فالأديب إذا رآه في الصورة المحمدية التي كان عليها في حياته فإنه يسميه باسمه، وإذا رآه في صورة ما من الصور وعلم أنه محمد، فلا يسميه تلك الصورة، ثم لا يوقع ذلك الاسم إلا على الحقيقة المحمدية. ألا تراه صلى الله عليه وسلم لما ظهر في صورة الشبلي رضي الله عنه قال الشبلي لتلميذه أشهد أني رسول الله وكان التلميذ صاحب كشف فعرفه، فقال: أشهد أنك رسول الله، وهذا أمر منكور، وهو كما يرى النائم فلاناً في صورة فلان وأقل مراتب الكشف أن يسوغ به في اليقظة ما يسوغ به في النوم ولكن بين الكشف والنوم فرقاً، وهو أن الصورة التي يرى فيها محمد صلى الله عليه وسلم في النوم لا يوقع اسمها في اليقظة على الحقيقة المحمدية، لأن عالم المثال يقع في التعبير فيه فيعبر عن الحقيقة المحمدية إلى حقيقة تلك الصورة في اليقظة، بخلاف الكشف فإنه إذا كشف لك عن الحقيقة المحمدية أنها متجلية في صورة من صور الآدميين، فيلزمك إيقاع اسم تلك الصورة على الحقيقة المحمدية، ويجب عليك أن تتأدب مع صاحب تلك الصورة تأدبك مع محمد صلى الله عليه وسلم، لما أعطاك الكشف أن محمداً متصور بتلك الصورة، فلا يجوز لك بعد شهود محمد صلى الله عليه وسلم فيها أن تعاملها بما كنت تعاملها به من قبل، ثم إياك أن تتوهم شيئاً في قولي من مذهب التناسخ، حاشا الله وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك مرادي، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم له من التمكين في التصور بكل صورة حتى يتجلى في هذه الصورة، وقد جرت سنته صلى الله عليه وسلم أنه لا يزال يتصور في كل زمان بصورة أكملهم ليعلي شأنهم ويقيم مَيَلانَهُم فهم خلفاؤه في الظاهر وهو في الباطن حقيقتهم". أ.هـ

وأظن أنه قد وضح الآن حقيقة المعتقد الصوفي الفلسفي في النبي صلى الله عليه وسلم وحتى تتضح الصورة أمامنا أكثر من ذلك نجمل ما قدمناه فيما يلي، فنقول.. معتقد المتصوفة في النبي محمد صلى الله عليه وسلم على ثلاث درجات:

1- من يقولون بوحدة الوجود، وأن الله هو ذات الموجودات فيجعلون الرسول هو المخلوق الأول ومنه وعنه صدرت الموجودات جميعاً وهو الإله المستوي على العرش وهذا هو معتقد ابن عربي ومن على شاكلته.

2- من يقولون إن نور الرسول هو أول موجود فعلاً ومنه انشقت الأنوار وخلق الخلق جميعاً لكن لا يقولون بأن ذات الرسول مستوية على العرش.

3- من يقولون بأن نور الرسول أول موجود وهو أكرم الخلق ومن أجله خلق الله الكون جميعاً دون أن يصرحوا بأن العوالم قد خلقت من نوره، وإنما يقولون خلقت لأجله.

هذا وبالرغم من أن الصوفية على هذه الدرجات الثلاث في الاعتقاد في النبي محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم متفقون ومجمعون تقريباً إلا ما شذ منهم أن ذات الرسول الذات التي منها تفيض كل العلوم وتنزل كل الرسالات، فالرسل لا ينزل عليهم الوحي إلا من الرسول ويعبرون عن ذلك بقولهم إن الرسل جميعاً والأولياء أيضاً لا تفيض ولا تنزل عليهم العلوم الإلهية إلا من ذات الرسول في الأزل والأبد أي قبل أن يوجد الرسول بذاته الترابية في الأرض، وبعد أن وجد ثم بعد أن خرجت ما يسمونه بذاته الترابية من هذه الأرض.. وهذا بالطبع هو حاصل اعتقادهم في أن الرسول أول موجود وأن العوالم من نوره، أو أن الكون خلق لأجله.

وكذلك مفهوم المتصوفة -المعتدلين- منهم يعتقدون أن الرسول يعلم الغيب كله، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماوات.

ولا شك أن المتصوفة الذين يعتقدون في مثل هذه العقائد في الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتأثروا فقط بالفلاسفة في نظريتهم في الخلق وقولهم بالهباء، والعقل الأول أو العقل الفعال.. بل إنهم تأثروا أيضاً بما قاله النصارى في عيسى، ولا شك أن نظرية النصرانية في المسيح متأثرة بقول الفلاسفة أيضاً في العقل الفعال. ولقد استطاع المتصوفة نقل هذه النظرية بالرغم من غموضها الفلسفي، وصعوبة التدليل عليها بدليل منطقي يقبله العقل. وبمجافاة هذه النظرية عن عقيدة الإسلام الواضحة السهلة، أقول بالرغم من كل ذلك فإن المتصوفة استطاعوا أن يجعلوا هذه العقيدة هي عقيدة العوام والكثرة من المسلمين وذلك بصياغتها لعبارات سهلة، وفي شعر سلس يجري على الألسنة سريعاً كقولهم مثلاً: (لولاك ما خلقت الأفلاك)!!.. وكنت مرة أخطب في الحرم النبوي في نحو سنة 1381هـ الموافقة 1960م تقريباً مبيناً العقيدة الواجبة في الرسول صلى الله عليه وسلم فقام إلي أحد الحجاج من كبار السن وقال لي: أليس يقول الله تعالى (لولاك ما خلقت الأفلاك) فقلت: له ليست هذه بآية من القرآن، ولا بحديث أيضاً واعتقادها شرك بالله!!  فانظر كيف جرى هذا المعتقد على ألسنة الناس بكلام مسجوع يظنه العامي قرآناً وما هو بقرآن.

فكيف إذا كان شعراً من أمثال شعر البوصيري الذي سارت به الركبان كقوله:

وإن من جودك الدنيا وضرتها          ومن علومك علم اللوح والقلم

وقوله:

وكل آي أتى الرسل الكرام بها         فإنما اتصلت من نوره بهم

وهذا البيت يعبر عن معتقد الصوفية في أن علم الرسل كله من الرسول محمد مأخوذ من ذاته الأولى قبل أن تخلق ذاته الترابية كما يقولون. والبيت الأول يجعل الدنيا والآخرة نفحة من نفحات الرسول، وما سطره القلم ووعاه اللوح المحفوظ جزء وبعض من علوم الرسول صلى الله عليه وسلم..

وكذلك وصفوا مثل هذه العقيدة في أذكار تقرأ صباحاً ومساءً لا أقول عشرات المرات بل يوجبون قراءتها أحياناً على مريديهم آلاف المرات؛ نحو قولهم في صلاة ابن مشيش :

"اللهم صل على من منه انشقت الأسرار وانفلقت الأنوار وفيه ارتفعت الحقائق وتنزلت علوم آدم فأعجز الخلائق وله تضاءلت الفهوم فلم يدركه منا سابق ولا لاحق فرياض الملكوت بزهر جماله مونقة وحياض الجبروت بفيض أنواره متدفقة ولا شيء إلا وهو به منوط إذ لولا الواسطة لذهب كما قيل الموسوط صلاة تليق بك إليه كما هو أهله اللهم إنه سرك الجامع الدال عليك وحجابك الأعظم القائم لك بين يديك اللهم ألحقني بنسبه وحققني بحسبه وعرفني إياه معرفة أسلم بها من موارد الجهل وأكرع بها من موارد الفضل واحملني على سبيله إلى حضرتك حملاً محفوفاً بنصرتك واقذف بي على الباطل فأدمغه، وزج بي في بحار الأحدية وانشلني من أوحال التوحيد". أ.هـ

وكذلك لقولهم في مناجاة الرسول: "يا أول خلق الله يا نور عرش الله" ومثل هذه الكلمات كان وما زال المؤذنون في أماكن شتى من العالم الإسلامي يقولونها في المآذن قبل الآذان وبخاصة آذان الفجر.. فالعامي يفهم معنى عاماً من هذه الكلمات وأما الصوفي المتمرس القارئ أو المريد المترقي في سلم التصوف فإنه يظل يأخذ من هذه العقيدة حتى يتشربها أخيراً وتنطبعفي نفسه ويظن -حقاً- أن الرسول هو أول موجود أو متعين ومنه انفلقت أنوار الوجود فكان العرش والكرسي والسماوات والأرض الملائكة والجن والإنس وأن الله ما خلق هذا الخلق إلا من أجله وحتى يستوي هو أي الرسول على عرش الكون ويكون كما قال ابن عربي قبة الكون..!!

ولو أن المسلمين يقرأون القرآن ويفهمونه، ويتعلمون أحاديث الرسول ويدرسون سيرته كما استشرت وانتشرت مثل هذه العقيدة الباطلة في أوساطهم لنجحوا في البعد عن البدع ولكن الصوفية كانوا قد أحكموا الطوق على المسلمين فزعموا أن القرآن كله أسرار وأن أسراره في الفاتحة، وأن سر الفاتحة في البسملة وسر البسملة في الباء وسر الباء في النقطة!!!

ومن هذا الذي يستطيع أن يفتح نقطة الباء حتى يعلم أسرار القرآن، وكذلك جعلوا قراءة الحديث تبركاً فقط دون محاولة فهم لأن من حاول الفهم لا بد أن يكون مجتهداً ولا اجتهاد بعد الأئمة الأربعة. وجعل المتصوفة قراءة السير لا تعدو أن تكون ترديداً لمنظومات ملئوها بالكفر والشرك والغلو والتغزل في عيون الرسول الكحلية، وخدوده الوردية، وقوامه الممشوق.. هكذا والله.. وأما سيرته وجهاده وحياته ومعاناته صلى الله عليه وسلم فإنهم شغلوا الناس عن كل ذلك بهذه الترهات والخرافات، ولذلك ضاعت حقيقة الرسول صلى الله عليه وسلم من أوساط عامة المسلمين إلا من رحم الله، وحل مكانها هذه العقيدة الصوفية الكفرية.

المعتقد الواجب في الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وسائر الرسل:

من المعلوم أن الإيمان بالرسل من أركان الإيمان الستة كما جاء في حديث جبريل لما سأل النبي عن الإيمان قال: [أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقضاء والقدر خيره وشره من الله تعالى] (متفق عليه)، وقد وصف الله الرسل في القرآن بأنهم بشر اختارهم لدعوة الناس إليه وأنهم كانوا يأكلون الطعام وكانوا يعالجون المعاش والسعي في الأرض كبقية البشر، ولم يكن أحد منهم يعلم من الغيب، أو يتصرف في الأكوان كما يشاء، أو يأتيه الطعام من الغيب وقتما يشاء إلا آية واحدة جعلها الله لعبده عيسى بعد تهديد ووعيد من الله بأن من يكفر بعد تنزل هذه الآية فإنه يعذبه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين كما قال تعالى: {إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين* قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين* قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين* قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين} (المائدة:112-115).

وهكذا لم تكن هذه الآية والكرامة إلا علامة على الرسالة وصدق عيسى فيما دعا قومه إليه وأنه عبدالله ورسوله، لقد كانت سيرة الرسل وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم مبينة أنهم بشر قاسوا ما قاساه البشر من الآلام والأسقام والأوجاع والفتن والبلايا وتضرعوا إلى ربهم ودعوه، وخافوه، وأحبوه كذلك وطلبوا نصرته وعونه سبحانه وتعالى، وكان خاتمهم وخيرهم محمداً صلى الله عليه وسلم أكمل الرسل في تحقيق عبودية الله سبحانه وتعالى على نفسه فقد قام من الليل حتى تفطرت قدماه، وأوذي بالله أشد الأذى، وأخرجه كفار مكة منها، وعاداه المنافقون في المدينة عداء شديداً فسبوه أقذع السباب، ورموا زوجته بأشنع فرية، وقال قائلهم: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل..!!.. وعاش صلى الله عليه وسلم على الكفاف، وقالت عائشة رضي الله عنها "كان يأتي الهلال والهلال والهلال ثلاثة أهلة في شهرين ولا يوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار..!! قيل لها فما كان طعامكم؟ قالت الأسودان التمر والماء" (رواه البخاري)، وربط رسول الله الحجر بل الحجرين على بطنه.. وجاع مع أصحابه وصبر معهم.. وكان في المرض يتألم ويوعك كما يوعك رجلان من المسلمين.. وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم لا تخفى فأموره أغلبها من المعلوم من الدين ضرورة.. وأشهر ذلك أنه لم يطلب من أحد أن يعظمه أو يعطيه حقاً لله فيسجد له أو يركع له، أو يقوم على رأسه أو يقوم لمقدمه كما قال أنس "كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحبونه وكانوا لا يقومون له لما يعلمون من شدة كراهته لذلك" ومعلوم كذلك أن الرسل لا يعلمون الغيب كما قال تعالى: {قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون} (اقرأ الفصل الخاص بذلك في باب الكشف الصوفي)، وكذلك لم تكن كل دعواتهم تستجاب لهم فقد دعا نوح وشفع في ابنه قائلاً: {رب إن ابني من أهلي} فقيل له {يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين} ودعا إبراهيم لأبيه فلم يستجب له، وجاء في صحيح البخاري أن إبراهيم يلقى أباه آزر يوم القيامة وقد سربل بسربال من قطران وقد علت وجه آزر غبرة وقترة فيقول له إبراهيم: يا أبت ألم أقل لك لا تعصني. فيقول له آزر: يا بني الآن لا أعصيك. فينادي إبراهيم ربه قائلاً: ربي لقد وعدتني ألا تخزني يوم يبعثون، وأي خزي أكبر من أبي الأبعد، فيقال له يا إبراهيم إني حرمت الجنة على الكافرين.. وانظر تحت قدميك فينظر تحت قدميه فإذا هو بزيخٍ متلطخ بالدماء -والزيخ هو ذكر الضبع- فيؤخذ من قوائمه ويلقى في النار، وكذلك امرأة نوح وامرأة لوط كانتا كافرتين ولم ينفعهما القرب من الأنبياء، وأما النبي محمد صلى الله عليه وسلم فقد شفع في أبي طالب فلم يستجب الله له إلا بأن أخرجه من مكانه في النار إلى مكان آخر في ضحضاح من النار يغلي منه رأسه، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم [استأذنت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي، واستأذنت أن أستغفر لها فلم يأذن لي] وقال صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة [لا أغني عنك من الله شيئاً سليني من مالي ما شئت]..!!

وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم [لن يدخل أحدكم الجنة بعمله] قالوا ولا أنت يا رسول الله. قال [ولا أنا ما لم يتغمدني الله برحمة منه وفضل] وكل هذه الأحاديث مما أخرجه أهل الصحيحين وما تضمنته هو من المعلوم في الإسلام ضرورة فإن الآيات القرآنية التي وصفت حال الرسل وافتقارهم إلى ربهم، ومعاتبته إياهم على مجرد فعلهم لخلاف الأولى كثير، كقوله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً* إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً} (الإسراء:73-75) وكذلك قوله تعالى: {ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً} (النساء:113) وكذلك قوله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} وقوله تعالى: {عبس وتولى* أن جاءه الأعمى} وقوله تعالى: {وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه}.

وأما الآيات التي يبين الله تعالى فيها فضله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم فكثيرة جداً يصعب حصرها وسردها في هذه المقام ومنها قوله تعالى: {ألم يجدك يتيماً فآوى* ووجدك ضالاً فهدى} فكيف يقول تعالى {ووجدك ضالاً فهدى} وتقول صوفية وجد محمد قبل الخلق جميعاً ومن نوره استمد جميع الأنبياء علومهم!؟ ويقول تعالى أيضاً: {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا} (الشورى).

والمهم أن من قرأ القرآن وعلم شيئاً من الإسلام ودرس سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم حصل العلم الضروري الذي لا يدافع بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو عبدالله ورسوله وأنه وجد يوم وجد على الأرض بشراً كالبشر لا علم له بشيء مما كان في الملأ الأعلى كما قال تعالى: {قل هو نبؤا عظيم* أنتم عنه معرضون* ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون* إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين* إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين* فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} (ص:67 وما بعدها)، فالرسول أمره الله أن يقول هنا: {ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون} والملأ الأعلى هم الملائكة عندما أمرهم الله بالسجود لآدم فسجدوا إلا إبليس فكان بينه وبين الرب سبحانه وتعالى ما كان مما قصه على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ومما لم يكن عن الرسول قبل بعثته وقبل نزول هذا الوحي أو في علم منه.. بل إن رسول الله عندما جاءه جبريل بالوحي ظنه شيطاناً وجاء أهله ترتعد فرائصه، وهو يقول زملوني وقال للسيدة خديجة رضي الله عنها: لقد خشيت على نفسي!!  

وظن أن الذي أتاه في غار حراء شيطان من الذين ينزلون على الكهان والسحرة فلو كان جبريل مخلوقاً من نور الرسول كما زعمت المتصوفة لقال الرسول لجبريل عندما نزل إليه أهلاً بمن خلقه الله من نوري. ولم يكن شأن الرسول أمام جبريل كما كان حيث يأمره بأن يقرأ ما في يده من آيات ما أنا بقارئ.. فيضمه جبريل حتى تكاد أنفاس الرسول تنقطع ثم يرسله ويقول له مرة ثانية اقرأ ويفعل ذلك ثلاث مرات، وما كان ذلك إلا لإشعار الرسول أن ما يراه وما يسمعه ليس خيالاً ولا رؤيا منامية وإنما هو حق.. أقول لا شك أن من قرأ سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلم شيئاً يسيراً من عقيدة الإسلام استحال عليه الإيمان بما آمن به الصوفية في شأن الرسول، ولكن هؤلاء لأنهم تركوا الكتاب والسنة وراءهم ظهرياً وتركوا العقول أيضاً وراءهم وألقوها واتبعوا ما كتبه شياطين الإنس من الفلاسفة مما توهموه بعقولهم في قولهم بالهباء والهيولي والعقل الأول، والعلة، وواجب الوجود الذي لا يوصف بصفة ثبوتية وإنما يوصف بالصفة وضدها.. كالوجود والعدم، والحياة والموت، والفوق والتحت، وغير ذلك من هذه الأوهام والخرافات، والمتناقضات.

أقول: عندما آمن فلاسفة التصوف بهذه الخرافات الإغريقية وتركوا الإسلام والعقل فإنهم خرجوا على الناس بهذه الخرافات وأدخلوا في الدين الإسلامي هذه الخزعبلات. والعجيب أنهم استطاعوا بفنهم الشيطاني أن يجعلوا عقيدتهم هذه وما سموه (بالحقيقة المحمدية) عقيدة العامة والدهماء من المسلمين الذين أحسنوا الظن برجال التصوف الذين لبسوا لهم مسوح الرهبان وأضمروا لهم عقائد الشيطان، وخرجوا على الناس بجلود الضأن، وقد أخفوا عنهم قلوب الذئاب..

وقد تذرع المتصوفة لنشر عقيدتهم فيما سموه (بالحقيقة المحمدية) أيضاً بحديث موضوع وهو (كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث) وذكره الشوكاني في الأحاديث الموضوعة ص326، وحديث آخر (كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد) ذكرها الحاكم وقال الصنعاني هو موضوع وكذا قال ابن تيمية. وعلى فرض صحة هذا الحديث الأخير فإنه لا شاهد فيه على عقائد الصوفية وإنما يعني أن الرسول قد قدر الله كونه نبياً عندما خلق آدم. ولا شك أن الله قد قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كما جاء في الحديث [إن أول شيء خلقه الله تعالى القلم وأمره أن يكتب كل شيء يكون] (رواه أبو يعلى والبيهقي وصححه الألباني وأخرجه في الصحيحة برقم133). وبهذا يتضح لك أن ما ذكره الصوفية في عقائدهم عن (الحقيقة المحمدية) ما هو إلا هذيان وأقوال فلاسفة وكهان، وليس هو في شيء من دين الإسلام.

وصلى الله على عبده محمد إمام أهل الإيمان .

 

الفصل الثامن

الخضر عليه السلام في الفكر الصوفي

قصة الخضر عليه السلام التي وردت في القرآن في سورة الكهف، ووردت في السنة في البخاري وغيره، حرّف المتصوفة معانيها وأهدافها ومراميها وجعلوها عموداً من أعمدة العقيدة الصوفية، فقد جعلوا هذه القصة دليلاً على أن هناك ظاهراً شرعياً، وحقيقة صوفية تخالف الظاهر، وجعلوا إنكار علماء الشريعة على علماء الحقيقة أمراً مستغرباً (فقد أنكر موسى من قبل على الخضر وكان كل منها على شريعة خاصة) وجعل الصوفية الخضر مصدراً للوحي والإلهام والعقائد والتشريع. ونسبوا طائفة كبيرة من علومهم التي ابتدعوها إلى الخضر، وليس منهم صغير أو كبير دخل في طريقهم إلا ادعى لقيا الخضر والأخذ عنه.

ولما كان لهذه القصة هذا الدور العظيم في الفكر الصوفي فقد أحببت أن أجلي هذا الأمر وأوقف الإخوة القراء على حقيقة الأمر ولنبدأ أولاً بالقصة في القرآن والسنة:

الخضر في القرآن الكريم:

قال تعالى: {وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقباً* فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سرباً* فلما جاوزا قال لفتاه ءاتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً* قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجباً* قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصاً* فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً* قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشداً* قال إنك لن تستطيع معي صبراً* وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً* قال ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً* قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً* فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً* قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً* قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً* فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله قال أقتلت نفساً زكية بغير نفس لقد جئت شيئاً نكراً* قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً* قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني ذكراً* فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجراً* قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً* أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً* وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً* فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً منه زكاة وأقرب رحماً* وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحاً فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبراً}.

الخضر في السنة:

وقبل أن نتعرض لبعض ما جاء في هذه الآيات الكريمة بالشرح والتفسير نستعرض ما رواه الإمام البخاري رضي الله عنه في شأن هذه القصة. قال الإمام البخاري:

باب حديث الخضر مع موسى عليهما السلام:

1- حدثنا عمرو بن محمد حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثني أبي عن صالح عن أبي شهاب أن عبيدالله بن عبدالله أخبره ]عن ابن عباس أنه تمارى هو والحر بن قيس الفزاري في صاحب موسى، قال ابن عباس: هو خضر، فمر بهما أبي بن كعب، فدعاه ابن عباس فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيّه، هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه؟ قال نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل جاءه رجل فقال: هل تعلم أحداً أعلم منك؟ قال: لا. فأوحى الله إلى موسى بل عبدنا خضر، فسأل موسى السبيل إليه، فجعل له الحوت آية، وقيل له إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه، فكان يتبع الحوت في البحر، فقال لموسى فتاه: أرأيت إذا أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره. فقال موسى: ذلك ما كنا نبغي، فارتدا على آثارهما قصصاً فوجداً خضراً، فكان من شأنهم الذي قص الله في كتابه[.

2- حدثنا علي بن عبدالله حدثنا سفيان حدثنا عمرو بن دينار قال أخبرني سعيد بن جبير قال قلت لابن عباس إن نوفاً البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بن إسرائيل، إنما هو موسى آخر. فقال كذب عدو الله، حدثنا أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال أنا. فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه فقال له: بلى، لي عبد بمجمع البحرين هو أعلم منك. قال أي رب ومن لي به؟ -وربما قال سفيان؟ أي ربّ وكيف لي به؟ -قال تأخذ حوتاً فتجعله في مكتل، حيثما فقدت الحوت فهو ثم وربما قال: فهو ثمه- وأخذ حوتاً فجعله في مكتل ثم انطلق هو وفتاه يوشع بن نون حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما، فرقد موسى واضطرب الحوت فخرج فسقط في البحر، فاتخذ سبيله في البحر سرباً، فأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار مثل الطاق -فقال هكذا مثل الطاق- فانطلقا يمشيان بقية ليلتهما ويومهما، حتى إذا من الغد قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً. ولم يجد موسى النصب حتى جاوز حيث أمره الله، قال له فتاه أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، واتخذ سبيله في البحر عجباً، فكان للحوت سرباً ولهما عجباً، قال له موسى ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصاً -رجعا يقصان آثارهما- حتى انتهيا إلى الصخر، فإذا رجل مسجّى بثوب، فسلم موسى فرد عليه فقال: وأنّى بأرضك السلام، قال أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشداً. قال يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علّمك الله لا أعلمه. قال هل أتبعك؟ قال: إنك لن تستطيع معي صبراً، وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً -إلى قوله- إمراً. فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت سفينة كلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول. فلما ركبا في السفينة جاء عصفور فوقع على حرف السفينة، فنقر في البحر نقرة أو نقرتين، قال له الخضر يا موسى، ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر. إذا أخذ الفأس فنزع لوحاً، قال فلم يفجأ موسى إلا وقد قلع لوحاً بالقدّوم، فقال له موسى: ما صنعت؟ قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئاً إمراً. قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً؟ قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً. فكانت الأولى من موسى نسياناً، فلما خرجا من البحر مروا بغلام يلعب مع الصبيان، فأخذ الخضر برأسه فقلعه بيده هكذا -وأومأ سفيان بأطراف أصابعه كأنه يقطف شيئاً- فقال له موسى: أقتلت نفساً زكية بغير نفس لقد جئت شيئاً نكراً. قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً؟ قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما، فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض مائلاً -أومأ بيده هكذا، وأشار سفيان كأنه يمسح شيئاً إلى فوق، فلم أسمع سفيان يذكر (مائلاً) إلا مرة- قال: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا، عمدت إلى حائطهم، لو شئت لاتخذت عليه أجراً. قال هذا فراق بيني وبينك، سأنبئك بتأويل ما تستطع عليه صبراً، قال النبي صلى الله عليه وسلم :]وددنا لو أن موسى كان صبر فقص الله علينا من خبرهما]. قال سفيان: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [يرحم الله موسى لو كان صبر يقص علينا من أمرهما]. وقرأ ابن عباس: أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً. وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين. ثم قال لي سفيان: سمعته منه مرتين وحفظته منه. قيل لسفيان قبل أن تسمعه عن عمرو أو تحفظه من إنسان؟ فقال ممن أتحفظه؟ ورواه أحد عن عمرو غيري؟ سمعته منه مرتين أو ثلاثاً وحفظته منه.

3- حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني أخبرنا ابن المبارك عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء] قال الحموي قال محمد بن يوسف بن مطر الفربري حدثنا علي بن خشرم عن سفيان بطوله..

فقه القصة كما وردت في الكتاب والسنة:

ومن هذا العرض الكامل لنصوص القصة في القرآن وفي صحيح البخاري نستخلص الفوائد التالية:

1- أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يؤدب نبيه موسى صلى الله عليه وسلم الذي قال جواباً عن سؤال (لا أعلم على الأرض أعلم مني)!! إن كان يجب أن يرد علم ذلك إلى الله سبحانه وتعالى، فأراه الله جل وعلا أن هناك عبداً لا يعلمه موسى هو على علم من علم الله لا يعلمه موسى وكان من أجل ذلك هذا اللقاء بين موسى والخضر.

2- أن الخضر بعد أن تم لقاؤه بموسى أخبره أن علم الخضر وعلم موسى بجوار علم الله سبحانه لا شيء وأنهما لم ينقصا من علم الله إلا كما شرب العصفور من ماء النهر.

3- أن الشريعة التي كان عليها الخضر لم تكن في حقيقتها مخالفة للشريعة التي عليها موسى، وإنما كان يخفى على موسى فقط الخلفية التي من أجلها فعل الخضر ما فعله، ولذلك فإن الخضر عندما بين لموسى الأسباب التي دفعته إلى خرق السفينة، وقتل الغلام، وبناء الجدار لم يستنكر موسى شيئاً من ذلك لأن هذا كله سائغ في الشريعة، فإتلاف بعض المال لاستنقاذ بعضه جائز فلو وكلت مثلاً رجلاً على عمل لك ثم جاء لصوص أو ظلمه قطاع طريق ليستولوا على المال كله ولم يجد هذا الوكيل وسيلة لدفعهم إلا بأن يدفع لهم بعض المال ويتركوا بعضه لما كان ملوماً شرعاً، ولا يلام ممن وكله بل يستحسن فعله، وما فعله الخضر بالنسبة إلى السفينة لا يعدو ذلك فهو إنما أفسد السفينة فساداً جزئياً لتظهر لأعوان ذلك الملك الظالم أنها غير صالحة فيتركوها وبذلك تسلم من الغصب، ولا شك أن ما فعله الخضر في حقيقته إحسان لأصحاب السفينة لأن الله أطلعه على شيء من المستقبل في أن ذلك الملك الظالم سيصادر السفن لأمر ما كما هو حال كثير من الرؤساء والملوك الظلمة يصادرون وسائل النقل أحياناً إما لمصالحهم أو لمصلحة عامة..

فما فعله الخضر بالنسبة إلى السفينة موافق للشرع الإلهي تماماً في كل دين وملة وليس مخالفاً للتشريع، وإنكار موسى في أول الأمر ناشئ من أنه لم يعرف الخلفية الغيبية التي كان الله قد أطلع عليها الخضر بوحي من عنده.

وأما قتل الغلام فهو  كذلك سائغ في الشريعة إذا كان هذا الغلام سيكون ظالماً لوالديه، مجبراً لهما على الكفر وكان هذا مما علمه الله مستقبلاً، وأطلع عليه الخضر، فكان قتله أيضاً سائغاً، وقد جاءت الشريعة بقتل الصائل المعتدي. حقاً إن الشريعة لا تأمر بقتل الصائل إلا إذا باشر العدوان، والطفل هنا لم يباشر العدوان بعد، ولكن القتل هنا بأمر الله سبحانه وتعالى الذي يعلم ما سيكون، وقد كان هذا منه سبحانه وتعالى رحمة بعبدين من عباده صالحين أراد الله جل وعلا أن لا يتعرضا لفتنة هذا الولد العاق فيتألما ألمين، الألم الأول أنه ولدهما وعقوق الأولاد شديد على قلوب الآباء، والثاني أنهما قد يبلغان الكفر ويتعبان في التمسك بالإيمان وهذا عذاب آخر، فجمع الله سبحانه وتعالى لهما عذاباً واحداً فقط وهو فقد الولد، وفيه خير لهما ولا شك لأن صبرهما، أيضاً على فقده فيه خير لهما. فلما علم الله ذلك، وأطلع الخضر عليه، ونفذ هذا بأمر الله كان ذلك كله موافقاً للشريعة التي عليها موسى وعليها محمد صلى الله عليه وسلم وعليها سائر الأنبياء.

ولذلك لما قيل لابن عباس على هذه الحادثة: أيجوز أن نقتل الأولاد؟.. قال: إذا علمت منهم ما علم الخضر فافعل.. أي إن ذلك سائغ في الشريعة ولكن أين من يطلعه الله على الغيب كما أطلع الخضر عليه السلام.

وأما مسألة بناء جدار لقوم بخلاء لم يبذلوا القرى (بكسر القاف) والضيافة الواجبة، فإن ذلك من باب مقابلة الإساءة بالإحسان، وهذا خلق من أخلاق الشريعة الإسلامية والمسيحية واليهودية ففي القرآن {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} وفي الإنجيل (أحسنوا إلى من أساء إليكم وباركوا لأعينكم)، وقال تعالى فيما أوحاه لموسى {وقولوا للناس حسناً}، وما فعله الخضر هو من باب الإحسان إلى قوم قدموا الإساءة.

ثم إن إحسانه لهذين الغلامين لم يتأت منهما إساءة وكان أبوهما رجلاً صالحاً وهم في قرية ظالمة بخيلة ولو هدم جدار بيتهم لانكشف كنزهم ولاستولى عليه هؤلاء القوم البخلاء، فلا شك أن ما فعله الخضر من بناء الجدار هو عين ما تأمر به كل شرائع الأنبياء التي أمرت بالفضل والإحسان، ورعاية اليتامى وحفظ حقوقهم..

فأي شيء يستغرب مما فعله الخضر، وأي حقيقة اطلع عليها الخضر تخالف ظاهر شريعة كان عليها موسى بل ما فعله الخضر موافق تماماً لشريعة موسى ولشريعة عيسى ولشريعة محمد ولكل شرائع الله المنزلة، ولم يقل الخضر أو يفعل شيئاً يخالف ما كان عليه الأنبياء صلوات الله عليهم، وإنما فقط أطلعه الله على بعض أسرار المقادير ففعل ما فعل من الحق الذي لا تنكره الشرائع بناء على هذه الأخبار والأنباء التي أطلعه الله عليها. وباختصار لم يفعل الخضر شيئاً مخالفاً لشريعة موسى فافهم هذا جيداً وتمسك به.

4- وجود الخضر عليه السلام على دين وشريعة غير شريعة موسى كان أمراً سائغاً وسنة من سنن الله قبل بعثة محمد  صلى الله عليه وسلم لأن النبي كان يبعث إلى قومه خاصة، ولذلك كان موسى رسولاً إلى بني إسرائيل فقط، ولم يكن رسولاً للعالمين، ولذلك لما سلم موسى عليه السلام على الخضر قال الخضر: وأنّى بأرضك السلام. قال له موسى أنا موسى. قال الخضر: موسى بني إسرائيل!؟ قال: نعم.. أي أنت مبعوث إلى بني إسرائيل ومنهم، ولذلك لم تكن شريعة موسى لازمة للخضر ولجميع الناس في زمانه، وأما بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لا يجوز شرعاً أن يكون هناك من هو خارج عن شريعته، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم رسول للعالمين، فلا يسع الخضر ولا غيره أن يتخلف عن الإيمان به واتباعه ولذلك فلا وجود بتاتاً للخضر وأمثاله بعد بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.

5- لا شك أن ما فعله الخضر فعله عن وحي حقيقي من الله وليس عن مجرد خيال أو إلهام لأن قتل النفس لا يجوز بمجرد الظن، ولذلك قال الخضر: وما فعلته عن أمري.. فلم يفعل إلا عن أمر الله الصادق ووحيه القطعي. ومثل هذا الأمر والوحي القطعي قد انقطع بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم فلا وحي بعده، ومن ادعى شيئاً من ذلك فقد كفر لأنه بذلك خالف القرآن الذي يقول الله فيه: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليماً} (الأحزاب:40).

وقال أيضاً رسول الله صلى الله عليه وسلم [وختم بي النبيون فلا نبي بعدي] ( رواه مسلم).

من بيان الحقائق السالفة تتضح لنا الصورة الحقيقية لقصة الخضر عليه السلام، والإعتقاد الواجب فيه حسب الكتاب والسنة. ولكن المتصوفة جعلوا من هذه القصة شيئاً مختلفاً تماماً. فقد زعموا أن الخضر حي إلى أبد الدهر، وأنه صاحب شريعة وعلم باطني يختلف عن علوم الشريعة الظاهرية، وأنه وليّ وليس بنبي، وأن علمه علم لدني موهوب له من الله بغير وحي الأنبياء وأن هذه العلوم تنزل إلى جميع الأولياء في كل وقت قبل بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وبعد بعثته، وأن هذه العلوم أكبر وأعظم من العلوم التي مع الأنبياء، بل وعلوم الأنبياء لا تدانيها ولا تضاهيها، فكما أن الخضر وهو وليّ فقط في زعمهم كان أعلم من موسى فكذلك الأولياء من أمة محمد هم أعلم من محمد صلى الله عليه وسلم لأن محمداً عالم بالشريعة الظاهرة فقط، والولي عالم بالحقيقة الصوفية، وعلماء الحقيقة أعلم من علماء الشريعة، وزعموا كذلك أن الخضر يلتقي بالأولياء ويعلمهم هذه الحقائق ويأخذ لهم العهود الصوفية، وأن الحقائق الصوفية تختلف عن الحقيقة المحمدية ولذلك فلكل ولي شريعته المستقلة فما يكون معصية في الشريعة كشرب الخمر والزنا واللواط، قد يكون  حقيقة صوفية وقربة إلى الله حسب العلم الباطني، وكذلك في أمر العقائد ومسائل الإيمان فلكل ولي كشفه الخاص، وعلمه الخاص اللدني الذي قد يختلف عن الوحي النبوي..

وهكذا جعل المتصوفة من قصة الخضر باباً عظيماً لإدخال كل أنواع الخرافات والزندقة والجهل والإسفاف..، بل بلغ الهذيان وحده عندهم حيث يوجد من زعم منهم أن الخضر لا يصلي لأنه على شريعة خاصة!! ومنهم من زعم أن الخضر يصلي ولكن على المذهب الحنفي!!

ولكن صوفياً آخر يزعم أنه رأى الخضر يصلي ولكن على المذهب الشافعي!! بل وأكثر من ذلك زعموا أن الخضر هو الذي يلقنه أذكار الطريقة الإدريسية والسنوسية.

وهكذا أصبح الخضر الصوفي هذا ألعوبة عظيمة، ولم يكتفوا بذلك بل جعلوا في كل مكان في الأرض تقريباً مكاناً زعموا أن الخضر جلس فيه أو رآه صوفي عنده، ولذلك أصبح له في كل أرض من أراضي الإسلام مقام ومزار، تذبح فيه الذبائح، وتقدم فيه القرابين، وينتفع بذلك الكذابون والغشاشون.

باختصار لقد تحول الخضر إلى قصة خرافية كبيرة أشبه بقصة ما يسمونه بالسوبرمان الذي يطير في كل مكان، ويلتقي بالأصدقاء والخلان في كل البلدان، ويشرع للناس ما شاء من عبادات وقربات، ويلقن الأذكار وينشئ الطرق الصوفية، ويعمد الأولياء والأقطاب، ويولي من يشاء، ويعزل من يشاء، وما عليك إذا أردت لقاء الخضر إلا أن تذكر مجموعة من الأذكار فيأتيك الخضر في الحال، ويبشرك بما تشاء من البشارات، ويجعلك ولياً من الأولياء، ويعطيك علوماً لدنية لم يعلمها الرسل أنفسهم ولا خطرت لهم على بال.

ولنذهب معاً في جولة مع الفكر الصوفي وخرافاته حول قصة الخضر:

أول من افترى القصة الصوفية للخضر:

يبدو أن أول من افترى القصة الصوفية للخضر هو محمد بن علي بن الحسن الترمذي المسمى بالحكيم والمتوفي في أواخر القرن الثالث الهجري -فالترمذي هذا يقول في كتابه ختم الولاية- (وهذا الكتاب بنظري هو أخطر كتاب صوفي على الإطلاق) يقول في جوابه عن علامات الأولياء:

"وللخضر عليه السلام، قصة عجيبة في شأنهم وقد عاين شأنهم في البدء ومن وقت المقادير فأحب أن يدركهم، فأعطى الحياة حتى بلغ من شأنه أنه يحشر مع هذه الأمة وفي زمرتهم، حتى يكون تبعاً لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو رجل من قرن إبراهيم الخليل، وذي القرنين، وكان على مقدمة جنده، حيث طلب ذو القرنين عين الحياة ففاتته وأصابها الخضر، في قصة طويلة.

وهذه آياتهم وعلاماتهم. فأوضح علاماتهم ما ينطقون به من العلم وأصوله.

قال له قائل: وما ذلك العلم؟

قال: علم البدء، وعلم الميثاق، وعلم المقادير، وعلم الحروف.

فهذه أصول الحكمة وهي الحكمة العليا. وإنما يظهر هذا العلم عن كبراء الأولياء، ويقبله عنهم من له حظ من الولاية" (ختم الولاية ص362)

وفي هذا النص يزعم مجرد زعم بلا أدنى دليل أو علم أن الخضر هذا عاين منذ بدء الخليقة أمور الأولياء وعرفهم منذ كتابه المقادير (انظر) وأحب -في زعم الترمذي- أن يدرك هؤلاء الأولياء، فأعطى الحياة حتى يبلغ أمة محمد صلى الله عليه وسلم..

وأما هو أي الخضر فكان في قرن إبراهيم أي وجد في زمانه.. وزمن ذي القرنين.. فانظر هذا الجهل والتخريف والإفتراء.. الذي لا يقوم على أدنى دليل إلا الكذب والبهتان.. ثم يستطرد في بهتانه فيزعم أن ذا القرنين كان يحارب ويسافر ليصل إلى عين الحياة التي من شرب منها فلا يموت أبداً فلم يستطع الوصول إليها ولكن الخضر وصل إليها.. فانظر هذا الكذب والتخريف.

وهذا بالطبع منقول بعضه من تخريف اليهود وافتراءاتهم أن آدم لما خلقه الله في الجنة أكل من شجرة المعرفة فأصبح كالله يعلم الخير والشر، ثم خاف الله منه أن يأكل من شجرة الحياة فيحيا أبداً ولا يموت فلما خاف الله من ذلك طرده من الجنة من أجل ذلك.. (انظر التوراة الإصحاح الثالث).

ولقد لفق الترمذي من هذه القصص الخرقاء قصته عن الخضر التي تلقفها الصوفية فيم بعد وزادوا عليها ما شاؤوا. والمهم هنا أنه زعم كل هذه المزاعم وأن الخضر حي أبداً وأنه قاتل مع ذي القرنين.. ولسنا ندري أين كان ما دام أنه حي يرزق إلى آخر الحياة. أين كان عن شهود غزوة بدر وأحد والخندق والمواقع، ولماذا لم يشارك في فتح القادسية واليرموك، ولماذا لم يلتق بأبي بكر وعمر، ولم يتشرف قبل ذلك برؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دام أنه حي أبداً واطلع على جميع الأولياء منذ البدء.. بل ولماذا لم ينزل ولم يلتق إلا بالكذابين الضالين أمثال هذا الترمذي الذي لم يتنبأ له إلا امرأته التي تنزل عليها الوحي حسب زعمه وبشرته بأنه سيكون من شأنه كذا وكذا إلى أن يكون خاتم الأولياء كما كان محمد خاتم النبيين!!

والترمذي الذي هذا هو شأنه يذكر أيضاً من صفات أوليائه المزعومين أنه تظهر علي أيديهم الآيات كطي الأرض، والمشي على الماء، ومحادثة الخضر عليه السلام الذي زعم أيضاً أن الأرض تطوي له برها وبحرها، سهلها وجبلها، يبحث عن الأولياء شوقاً إليهم (ختم الولاية ص361).

ومنذ ذلك الوقت الذي افترى فيه من افترى هذه الفرية على الخضر عليه السلام سواء كان الترمذي نفسه هذا أو هو ناقل عمن قبله.. أقول سواء كان هذا أو هذا فإن المتصوفة بدأوا ينسحبون الخرافات حول قصة الخضر وإليك بعضاً من هذه الخزعبلات والخرافات:

الخضر يصلي على المذهب الشافعي:

من أطرف القصص ما ذكره أحمد الفاروقي السرهندي في كتابه المنتخبات أنه رأى الخضر وإلياس عليهما السلام حضرا عنده في حلقة الدرس وأن الخضر قال له إنهما من عالم الأرواح وأنهما يتشكلان بما شاءا من الصور.. وأنه أي السرهندي هذا سأل الخضر هل تصلون بمذهب الشافعي فقال له الخضر لسنا مكلفين بالشرائع!! ولكن لأن قطب الزمان الشافعي فنحن نصلي وراءه على مذهبه الشافعي.. ويعلن السرهندي على ذلك فيقول إن كمالات الولاية مختصة بالمذهب الشافعي، وأما كمالات النبوة فهي من اختصاص المذهب الحنفي!! ولذلك عندما ينزل عيسى بن مريم فإنه يصلي ويعمل بالمذهب الحنفي!! وإليك نص أحمد السرهندي في هذه الخرافات قال:

المكتوب الثاني والثمانون والمئتان إلى الملا بديع في بيان ملاقاة الخضر وإلياس عليها السلام وبيان نبذة من أحوالهما

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى قد مضت مدة من استفسار الأصحاب عن أحوال الخضر على نبينا عليه الصلاة والسلام. ولما لم يكن للفقير اطلاع على أحواله كما ينبغي كنت متوقفاً في الجواب فرأيت اليوم في حلقة الصبح أن الإلياس والخضر عليهما السلام حضرا في صورة الروحانيين فقال الخضر بالإلقاء الروحاني:

نحن من عالم الأرواح قد أعطى الحق سبحانه أرواحنا قدرة كاملة بحيث تتشكل وتتمثل بصورة الأجسام ويصدر عنها ما يصدر عن الأجسام من الحركات والسكنات الجسمانية والطاعات والعبادات الجسدية. فقلت له في تلك الأثناء: أنتم تصلون الصلاة بالمذهب الشافعي. فقال نحن لسنا مكلفين بالشرائع، ولكن لما كانت كفاية مهمات قطب الدار مربوطة بنا وهو على مذهب الإمام الشافعي نصلي نحن أيضاً وراءه بمذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه فعلم في ذلك الوقت أنه لا يترتب الجزاء على طاعتهم بل تصدر عنهم  الطاعة والعبادة موافقة لأهل الطاعة ومراعاة لصورة العبادة وعلم أيضاً أن كمالات الولاية موافقة لفقه الشافعي وكمالات النبوة موافقة لفقه الحنفي فعلم في ذلك الوقت حقيقة كلام الخواجة محمد بارسا قدس سره حيث ذكر في الفصول الستة نقلاً أن عيسى عليه وعلى نبينا السلام يعمل بعد نزوله بمذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه رضي الله عنه فوقع في الخاطر في ذلك الوقت أن نستمد بهما وأن نطلب منهما الدعاء فقال إذا كانت عناية الحق سبحانه شاملة لحال الشخص فلا مدخل لنا هناك وكأنهم أخذوا أنفسهم من البين. وأما إلياس على نبينا وعليه الصلاة والسلام فلم يتكلم في ذلك الوقت أصلاً والسلام (المنتخبات من المكتوبات لأحمد الفاروقي ص91 طبع تركيا).

الخضر حنفي وليس شافعياً:

ويبدو أن الكشف السابق لما يسمونه بالعالم الرباني أحمد السرهندي الذي أراد به التنقص من المذهب الشافعي وعلاء منزلة المذهب الحنفي وذلك أنه جعل المذهب الحنفي للأنبياء، والمذهب الشافعي للأولياء.. أقول يبدو أنه لم يطلع على كشف الشعراني الذي زعم أن الخضر كان حنفياً ولم يكن شافعياً حيث ذكر في كتاب معارج الألباب عن بعض شيوخه أنه ذكر له أن الخضر عليه السلام كان يحضر مجلس فقه أبي حنيفة في كل يوم بعد صلاة الصبح يتعلم منه الشريعة فلما مات (أي أبو حنيفة) سأل الخضر ربه أن يرد روح أبي حنيفة إلى قبره حيث يتم له علم الشريعة وأن الخضر كان يأتي إليه كل يوم على عادته يسمع منه الشريعة داخل القبر وأقام على ذلك خمس عشرة سنة حتى أكمل علم الشريعة (معارج الألباب ص44).

فانظر أي تخليط وكذب سمج، فهذا الخضر المزعوم أين هو من تعلم الشريعة على يد محمد صلى الله عليه وسلم، وهم يزعمون أنه كان حياً ذلك الوقت ولماذا لم يتتلمذ على الخلفاء الراشدين وهم أعلم الناس بالشريعة.. ولقد قال أبو حنيفة نفسه: دعوا قولي لقول أصحاب رسول الله فإنهم كانوا أعلم بالتنزيل!! فإذا كان أبو حنيفة يأمرنا أن نترك قوله لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول أصحابه فكيف يترك الخضر المزعوم تعلم الشريعة عن الرسول وأصحابه وينتظر حياً حتى يأتي أبو حنيفة ليتعلم منه الشريعة.. ثم أي تلميذ بليد هذا الخضر الصوفي المزعوم حتى يمكث مع أبي حنيفة كل حياته ولا يستطيع أن يتعلم علمه.. ويدعو الله أن يظل أبو حنيفة حياً في قبره ليستكمل الدراسة ويستمر في التردد على القبر يومياً لمدة خمس عشرة سنة ليتعلم علم أبو حنيفة فضلاً عن عشرات السنين قبل ذلك!!

ثم كيف يكون الخضر هو ممد الأولياء ومعلمهم وهو بهذه البلادة وقلة الحفظ!!

لقد فات الذين يفترون هذه القصص كل هذه الأمور، ولكن لأنهم لم تكن لهم عقول سليمة فإنهم كذبوا مثل هذا الكذب السمج.

ورحم الله الإمام الشافعي القائل: "لا أرى أن رجلاً يتصوف أول النهار حتى يكون أحمق في آخره".. وقال: "لا أرى أن رجلاً يصاحب الصوفية أربعين يوماً فيعود إليه عقله أبداً".

وهؤلاء لا شك أنهم كانوا كذلك حمقى مجانين ذهبت عقولهم ولم ترجع إليهم أبداً.

والعجيب أن مثل هذه الخرافات تظل تسري وتجري فقد زعم الحصفكي الحنفي في مقدمة كتابه الدر المختار أن الخضر أودع أوراق المذهب الحنفي في نهر جيحون إلى وقت نزول عيسى عليه السلام حتى إذا نزل أخذ هذه الصحائف وتعلم منها المذهب الحنفي حتى يحكم به في آخر الزمان!!

الخضر يعلم الأذكار الصوفية:

الخضر الصوفي المزعوم يكاد يكون في كل ميدان من ميادين التصوف، فهو صاحب الكشف وهو نقيب الأولياء، وهو آخذ العهود، وهو مرشد الأنام، وهو معلم الأذكار. يقول أحمد بن إدريس: "اجتمعت بالنبي صلى الله عليه وسلم اجتماعاً صورياً ومعه الخضر عليه السلام فأمر النبي عليه السلام الخضر أن يلقنني أذكار الطريقة الشاذلية فلقنني إياها بحضرته صلى الله عليه وسلم" (مفاتيح كنوز السماوات والأرض لصالح محمد الجعفري ص8) ويستطرد أيضاً قائلاً: "ثم قال صلى الله عليه وسلم للخضر عليه السلام يا خضر لقنه ما كان جامعاً لسائر الأذكار والصلوات والاستغفار" (مفاتيح كنوز السماوات والأرض لصالح محمد الجعفري ص8).

قلت اعلم أن أذكار الطريقة الشاذلية هذه فيها كفر وشرك فمن أذكارها صلاة ابن مشيش (اللهم انشلني من أوحال التوحيد، وأغرقني في عين بحر الوحدة) وفيها أن محمد صلى الله عليه وسلم هو أصل هذا الوجود وأول مخلوق فيه ومنه انشقت كل الأنوار وظهرت كل الموجودات (اقرأ الباب الخاص بالحقيقة المحمدية، والباب الخاص بالذكر الصوفي)..

والمهم هنا التنبيه على أن الخضر الصوفي يختلف تماماً عن الخضر الذي ذكره الله في القرآن وقص علينا النبي صلى الله عليه وسلم قصته. فذاك نبي عبد موحد مؤمن على علم من علم الله بالوحي عاش ومات لوقته وزمانه وفعل ما فعل موافقاً للحق والشريعة أما الخضر الصوفي فهو ما رأينا مصدراً للخرافة والجهل والشرك ولذلك أخبر الإمام ابن تيمية بأن الخضر المزعوم هذا لا حقيقة له شأنه في ذلك شأن الغوث والقطب الصوفي، ومنتظر الرافضة.

الخضر الصوفي خرافة لا حقيقة:

يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله في رسالة زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور ما نصه:

"ثلاثة أشياء ما لها من أصل: باب النصيرية، ومنتظر الرافضة، وغوث الجهال، فإن النصيرية تدعي في الباب الذي لهم أنه الذي يقيم العالم فذاك شخصه موجود ولكن دعوى النصيرية فيه باطلة، وأما محمد بن الحسن المنتظر، والغوث المقيم بمكة ونحو هذا فإنه باطل ليس له وجود، وكذلك ما يزعمه بعضهم من أن القطب الغوث الجامع يمد أولياء الله ويعرفهم كلهم ونحو هذا فهذا باطل، فأبو بكر وعمر رضي الله عنهما لم يكونا يعرفان جميع أولياء الله ولا يمدانهم فكيف بهؤلاء الضالين المغترين الكذابين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم إنما عرف الذين لم يكن رآهم من أمته بسيماء الوضوء هو الغرة والتحجيل ومن هؤلاء من أولياء الله لا يحصيه إلا الله عز وجل وأنبياء الله الذي هو إمامهم وخطيبهم لم يكن يعرف أكثرهم بل قال الله تعالى: {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك} وموسى لم يكن يعرف الخضر، والخضر لم يكن يعرف موسى بل لما سلم عليه موسى قال له الخضر: وإني بأرضك السّلام، فقال له: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، وقد كان بلغه اسمه وخبره ولم يكن يعرف عينه ومن قال أنه نقيب الأولياء أو أنه يعلمهم كلهم فقد قال الباطل. والصواب الذي عليه المحققون أنه ميت وأنه لم يدرك الإسلام ولو كان موجوداً، في زمان النبي صلى الله عليه وسلم لوجب عليه أن  يؤمن به ويجاهد معه كما أوجب الله ذلك عليه وعلى غيره ولكان يكون في مكة والمدينة ولكان يكون حضوره مع الصحابة للجهاد معهم وإعانتهم على الدين أولى به من حضوره عند قوم كفار ليرفع لهم سفينتهم ولم يكن مختفياً عن خير أمة أخرجت للناس وهو قد كان بين المشركين ولم يحتجب عنهم ثم ليس للمسلمين به وأمثاله حاجة في دينهم ودنياهم، فإن دينهم أخذوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم النبي الأمي الذي علمهم الكتاب والحكمة وقال لهم نبيهم [لو كان موسى حياً ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم] وعيسى بن مريم عليه السلام إذا نزل من السماء إنما يحكم فيهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم فأي حاجة لهم مع هذا إلى الخضر وغيره والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرهم بنزول عيسى عليه السلام من السماء وحضوره مع المسلمين وقال [كيف تهلك أمة أنا أولها وعيسى في آخرها] فإذا كان النبيان الكريمان اللذان هما مع إبراهيم وموسى ونوح أفضل الرسل ومحمد صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم ولم يحتجبوا عن هذه الأمة لا عوامهم ولا خواصهم فكيف يحتجب عنهم من ليس مثلهم وإذا كان الخضر حياً دائماً فكيف لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقط، ولا خلفاؤه الراشدين؟!!

وقول قائل إنه نقيب الأولياء، فيقال له، من ولاه النقابة وأفضل الأولياء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وليس فيهم الخضر، وغاية ما يحكى في هذا الباب من الحكايات بعضها كذب وبعضها مبني على ظن رجال مثل شخص رأى رجلاً ظن أنه الخضر، وقال إنه الخضر، كما أن الرافضة ترى شخصاً تظن أنه الإمام المنتظر المعصوم أو تدعي ذلك. وروي عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال وقد ذكر له الخضر من أحالك على غائب فما أنصفك، وما ألقى هذا على ألسنة الناس إلا الشيطان. انتهى المراد منه.

 

الفصل التاسع

الكشف الصوفي

الإيمان بالغيب في الكتاب والسنة:

من أصول الدين وقواعد الإيمان أن تعتقد أن الغيب علمه لله تعالى وحده سبحانه وتعالى وأنه يطلع وسبحانه تعالى على ما شاء من الغيب من شاء من أنبيائه ورسله فقط وأن الأنبياء لا يعلمون من الغيب إلا ما أعلمهم الله إياه كما قال سبحانه وتعالى لرسوله: {قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون} (الأعراف:188).

وقال جل وعلا: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً* إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً* ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً} (الجن:26-28).

وأمر رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس أنه ليس ملكاً ولا يملك خزائن الله ولا يعلم الغيب قال تعالى: {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون} (الأعراف).

وهذا الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم هو ما قاله نوح قبل ذلك. قال تعالى على لسان نوح: {ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم  الله خيراً الله أعلم بما في أنفسهم إني إذاً لمن الظالمين} (هود).

وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:  [مفاتيح الغيب خمسة لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله]. وهذا الحديث يقرر قوله تعالى: {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيب ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير} (لقمان).

وفي صحيح البخاري أيضاً عن عائشة رضي الله عنها قالت: من حدثك أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب وهو يقول: {لا تدركه الأبصار} ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب وهو يقول {قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله}.

فهذه الآيات والأحاديث ومثلها كثير جداً قاطع بأنه لا يعلم أحد في السماوات والأرض الغيب إلا الله لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وأنه لا يعلم أحد من هؤلاء الغيب إلا ما أطلعه الله سبحانه عليه، فهاهم الملائكة يخلق الله آدم ولا يعلمون الحكمة من خلقه، ويعرض الله عليهم مسميات معينة ويقول لهم أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، فيقولون سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، ويعلم الله آدم النبي الأسماء فيعلمها لهم، وآدم نبي مكلم كما جاء في الحديث الشريف، وهؤلاء الأنبياء لا يعلمون الغيب بنص القرآن وبمئات بل بآلاف الوقائع، فنوح لم يعلم أن ابنه ليس من أهله وأن زوجته على غير دينه، وإبراهيم لم يعلم بأنه يولد له ولد من زوجته سارة إلا بعد أن جاءته الملائكة ولقد جاءته الملائكة في صورة بشر فذبح لهم عجلاً وقربه إليهم وهو لا يعلم حقيقتهم حتى أعلموه، ولم يكن يعرف مقصدهم حتى أعلموه أنهم ذاهبون لتدمير قرى لوط، وأما لوط فإنه ساءته رؤية الملائكة علماً أنهم قد أتوا لإنجائه وإنجاء أهله، ولم يعلم حقيقة أمرهم إلا بعد أن علموه ولم يكن له كشف خاص، ولا علم خاص يستطيع أن يعرف من القوم، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فقد حدث له مئات بل آلاف الوقائع التي تدل يقيناً أنه لم يكن يعلم في الغيب إلا ما أعلمه الله إياه.. فقد ظن أن جبريل الذي أتاه في الغار شيطان وقال لخديجة لقد خفت على نفسي، ولم يعرف أنه الملك حتى أتى ورقة بن نوفل فأخبره أن الكلام الذي جاء به يشبه الكلام الذي نزل على الأنبياء من قبله.. ولم يدر بخلد النبي أنه سيؤذى ويخرج من مكة أبداً علماً بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد مكث يتعبد في غار حراء سنوات طويلة، وعند الصوفية أن من لف رأسه بخرقه وجلس في مكان مظلم رأى الله، وعرف كل شيء وشاهد الكون أعلاه وأسفله.. بل  النبي محمد صلى الله عليه وسلم مكث ثلاث عشرة سنة في مكة لا يعلم أين سيهاجر بعد ذلك، وبعد الهجرة خرج إلى أبي سفيان ففاته واصطدم بجيش المشركين وجاءه المشركون في المدينة المرة تلو المرة يزعمون أنهم قد آمنوا ويطلبون منه أن يرسل لهم من يعلمهم القرآن فكان يرسل معهم خيرة القراء، فيغدرون بهم في الطريق.. فغدر المشركون بأربعين رجلاً من المسلمين مرة واحدة، وسبعة مرة، ولو علم رسول الله ما يكون من أمر الله بل لو علم أن هؤلاء الكفرة الأعراب يكذبون عليه لما أسلم لهم أصحابه وحبس المشركون يوماً وليلة في مكان ليس فيه ماء لأن السيدة عائشة رضي الله عنها قد فقدت عقداً لها ولو كان هناك كشف صوفي على ما يصوره الصوفية ويزعمونه لعلموا أين عقد السيدة عائشة الذي كان تحت بعيرها ولم يفطن إليه أحد من المسلمين من أصحاب النبي.. ورمى المنافقون السيدة عائشة بالزنا -شرفها الله وحماها وبرأها ولعن الله من سبها- .. ومكث رسول الله شهراً كاملاً لا يدري ما يقول، وكان يستفتي أصحابه ويسأل علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد، وبريرة خادمته ومولاته هل رأوا على عائشة شيئاً.. ولم يستطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلم حقيقة الأمر حتى أنزل الله براءتها من السماء.. هذا إلى العشرات والمئات من الوقائع التي تبين أن رسول الله وأكرم خلق الله من البشر على الله لم يكن يطلع على شيء من الغيب إلا ما أطلعه الله بحكم النبوة..

الغيب في المعتقد الصوفي:

ولكن الصوفية منذ القدم.. منذ نشأتهم في الإسلام وإلى يومنا هذا عمدوا إلى هذا الأصل الأصيل من أصول الدين فهدموا بل اقتلعوا جذوره من قلوب من يسير في طريقهم وينتهج منهجهم هذا الأصل فهدموه جعله الله أول صفة في كتابه للمتقين حيث يقول تبارك وتعالى في سورة البقرة الثانية في القرآن بعد الفاتحة: {الم* ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين* الذين يؤمنون بالغيب} الآية.

جعل الله صفة الإيمان بالغيب أول صفة للمتقين المهتدين بالقرآن والسنة وذلك حتى يوحد المؤمنون طريق التلقي فلا يتلقون غيباً إلا من الله ومن أقامه للأخبار بالغيب عنه وهم رسله، وأنبياؤه فقط، جاء المتصوفة فكان أول هدم لهم في الإسلام أن يهدموا هذا الأصل فأقاموا شيئاً سموه (الكشف الصوفي) وهو يعني عندهم رفع الحجب أمام قلب الصوفي وبصره ليعلم ما في السماوات جميعاً، وما في الأرض جميعاً، فلا تسقط ورقة إلا بنظره ولا تقع قطرة ماء من السماء إلا بعلمه ولا يولد مولود، أو يعقد معقود، أو يتحرك ساكن أو يسكن متحرك إلا بعلم الصوفي.. هكذا والله؛ وسيرى القارئ في هذا الفصل النقول من كتب القوم كلها تنص على أن الصوفي لا يقف أمامه حجاب، ولا يوصد أمامه باب، ولا يعجزه علم شيء في الأرض ولا في السماء. فهو يعلم ما يكتب في اللوح المحفوظ ساعة بساعة، بل هو يعلم بأي لغة وأي قلم كتب اللوح المحفوظ، وماذا في أم الكتاب، وماذا كان منذ الأزل وماذا سيكون إلى الأبد، لا أقول قد ساوى الصوفية أنفسهم بالأنبياء بالغيب أو ساووا أنفسهم بالخضر الذي يزعمون النقل عنه لا والله بل جعلوا كل زنديق منهم ممن لا وزن له في خلق ولا علم جعلوا هؤلاء هم الله علماً بكل شيء، وإحاطة بما في السماوات والأرض..

وسيرى القارئ أن أي زندقة وأي كفر في الأرض لم يجرؤ كاتبوه ومؤيدوه أن يكتبوا مثل هذا ولكن الصوفية سبقوا كل الكفار في كل الملل والنحل والأقوام وكتبوا بأقلامهم ما لم يجرؤ أحد بتاتاً أن يكتبه أو يسطره فيما علمناه من الكفرة والزنادقة والملاحدة..

لقد ترقى المتصوفة في قضية الكشف عندهم فزعموا أولاً أن الصوفي يكشف له معان في القرآن والحديث لا يعلمها علماء الشريعة الذين سموهم بعلماء الظاهر والقراطيس والآثار التي ينقلونها عن الموتى..، وأما هم فيلتقون بالرسول صلى الله عليه وسلم يقظة أحياناً، ومناماً أحياناً ويسألونه ويستفيدون منه هذه العلوم ثم ترقوا فقالوا إن لنا علوماً ليست في الكتاب والسنة نأخذها عن الخضر الذي هو على شريعة الباطن وهو الذي يمد الأولياء بهذه الشريعة، فموسى ومحمد والأنبياء على شريعة ظاهرة، وأما الخضر فهو على شريعة باطنة يجوز فيها ما لا يجوز في الظاهر، فقد قتل الغلام بغير ذنب، وكسر السفينة لمن حملهم بغير نوال، وبنى الجدار إحساناً منه لمن أساء إليهم.. ومثل هذا ينكره أهل الظاهر كما أنكره موسى، ونحن في الباطن على شريعة الخضر وهو يلتقي بنا ونتعلم منه علوماً خاصة ينكرها أهل الظاهر لجهلهم.. والعجيب أنه كان من هذا الدين الباطن الذي زعموا أخذه عن الخضر إتيان (الحمارة) والزنا، وشرب الخمر واللواط، والتعري، والصراخ في الطرقات، وسب المؤذنين للصلاة، وسب الأنبياء والإدعاء بأن كل مخلوق هو الله وإلقاء السلام على الكلاب والخنازير، والترحم على إبليس ومحاولة الوصول إلى مقامه، وجعل فرعون أعلم من موسى بالله وتبرئة قوم نوح من الشرك، وجعل الرسول محمد هو الله المستوي على العرش.. هذه الأشياء قليلة جداً من هذا الدين الباطني الذي زعم المتصوفة أنهم نالوه عن طريق الكشف الصوفي، وهو رفع الحجب عن القلوب والأبصار لرؤية الحق على ما هو عليه، وأن الخضر عليه السلام هو مبلغ كل هذا لهم، وتارة يترقون في هذا الكذب أو بالأحرى يهوون إلى أسفل سافلين في دعاوي الكذب هذه فيزعمون أنهم تلقوا هذه العلوم من ملك الإلهام كما تلقى محمد صلى الله عليه وسلم علومه من ملك الوحي، وأخرى يزعمون أنهم تلقوا علومهم هذه التي أشرنا إلى بعضها آنفاً من الله رأساً وبلا وساطة وأنها انطبعت في نفوسهم من الله رأساً وأنهم مطالعون الأمر في الأزل بأرواحهم، والأمر في الأبد يرونه كما يكون عليه الحال يرونه كذلك بأرواحهم بغير وساطة وأن همتهم تصل السماوات وما فوقها والأرض وما تحتها..

ولقد وسع المتصوفة دائرة كشفهم هذه فزعموا أنهم يعلمون أسرار الحروف المقطعة من القرآن بطريق الكشف، وقصص الأنبياء يروونها على حقيقتها ويجتمعون بالأنبياء ويسألونهم عن تفاصيل قصصهم وما كان منهم.. فيفيدون فوائد كثيرة دونها كثيراً ما هو موجود فعلاً في القرآن، وأما الجنة والنار، فهم وإياها دائماً رأي العين، بل هي ساقطة أصلاً من عيونهم لأن النار وما النار، لو بصق أحدهم عليها لأطفأها كما قال أبو يزيد وغيره منهم.. وأما الجنة فالنظر إليها شرك وكفر لأنهم ينظرون إلى الله فقط..

ولذلك قال قائلهم معيباً على الصحابة عندما قرأ {منكم من يريد الدنيا، ومنكم من يريد الآخرة} قال.. أف.. أليس منكم أحد يريد الله.. وقال آخر عن قوله تعالى: {إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون} قال.. ألهاهم عنه..

باختصار لقد اكتشف المتصوفة بزعمهم للقرآن معاني غير التي يعرفها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعلماء الأمة على مر العصور. لقد اكتشفوا هم عن طريق كشفهم الشيطاني أن للقرآن معاني أخرى وأن فيه علوماً كثيرة جداً لا يعلمها غيرهم.. وما هذه العلوم.. إنها كل الفلسفات القديمة، والخزعبلات والخرافات التي عند فلاسفة الإغريق، وكهنة الهنادك والهندوس، وشياطين المجوس وإباحية المانوية والمزدكية، وخرافات القصاص من كل لون وجنس كل هذا وهذا جعله المتصوفة كشفاً وحقيقة صوفية ومعاني للقرآن الكريم ولحديث النبي الشريف..

ومن أراد منهم أن لا ينسب هذه الخرافات والخزعبلات إلى القرآن والحديث، ورأى أنه تحقق بعلوم أكثر بكثير مما فيهما قال:

خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله.. فجعل نفسه أعظم معرفة وتحقيقاً مما لدى الأنبياء.. وذلك لما رأى أنه قد جمع من الخرافات والخزعبلات والأساطير شيئاً نهى الرسل الصادقون عن افترائه وتناقله وتداوله.. هذه هي حقيقة الكشف الصوفي الذي زعم أصحابه أنه ثمرة العبادة والتقوى والاتصال بالله والملائكة والأنبياء والخضر، وأنه نتيجة حتمية لسباحة أرواحهم في الأزل والأبد، والسماوات السبع وما فوقها والأراضين السبع وما تحتها.. لقد أتونا بعد هذه السياحة الشيطانية بعشرات المجلدات والخرافات والخزعبلات بعد أن لبسوها وخلطوها ببعض العلم الذي جاء به الرسل فخلطوا الأمر على عامة المسلمين، وأضلوا من لا علم لهم بالكتاب والسنة، وظنوا فعلاً أن هؤلاء الناس صالحون وأن علومهم هذه قد أتوا بها فعلاً من الغيب، وخاصة أنهم رأوهم أحياناً تجري على أيديهم بعض الحيل الشيطانية، وبعض الكرامات الإبليسية من خرق العادات أو الإخبار ببعض المغيبات ما هو عند الهندوس والمجوس والدجال وابن صياد أمثاله وأكثر منه مئات المرات، لقد أوهم العامة ما جرى على يد هؤلاء من هذه الكرامات الإبليسية التي هي حقاً أمثال شيطانية من ما يجري للكفار والمنافقين والدجالين، فظنوا أن هؤلاء من أهل الله حقاً، وأن الحجب ترتفع عنهم صدقاً وأن علومهم هذه آتية من الغيب يقيناً وبذلك راجت يوماً بضاعة هؤلاء الزنادقة وصرفوا المسلمين عن دينهم الحق وعقيدتهم المستقيمة.

وها نحن نورد بعد هذه المقدمة التي لا بد منها طائفة من النقول من كتب القوم المعتمدة التي تبين هذا الباطل الذي يدعونه ويسمونه كشفاً، وحقيقة، وعلماً لدنياً، وتحققاً واطلاعاً ليكون القارئ المسلم على بينه مما عليه هؤلاء الزنادقة.

عبدالكريم الجيلي وكتابه الإنسان الكامل:

هذا عبدالكريم الجيلي يكتب كتابه (الإنسان الكامل) زاعماً أيضاً أنه من الله أخذه، وأن الله أمره بإخراج هذا الكتاب للناس وأنه ليس فيه شيء إلا وهو مؤيد بالكتاب والسنة يقول:

".. ثم ألتمس من الناظر في هذا الكتاب بعد أن أعلمه أني ما وضعت شيئاً في هذا الكتاب إلا وهو مؤيد بكتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه إذا لاح له شيء في كلامي بخلاف الكتاب والسنة فليعلم أن ذلك من حيث مفهومه لا من حيث مرادي الذي وضعت الكلام لأجله فليتوقف عن العمل به مع التسليم إلى أن يفتح الله تعالى عليه بمعرفته، ويحصل له شاهد ذلك من كتاب الله تعالى أو سنة نبيه.

وفائدة التسليم هنا وترك الإنكار أن لا يحرم الوصول إلى معرفة ذلك، فإن من أنكر شيئاً من علمنا هذا حرم الوصول إليه ما دام منكراً، ولا سبيل إلى غير ذلك، بل ويخشى عليه حرمان الوصول إلى ذلك مطلقاً بالإنكار أول وهلة، ولا طريق له إلا الإيمان والتسليم.

واعلم أن كل علم لا يؤيده الكتاب والسنة فهو ضلالة، لا لأجل ما لا تجد أنت له ما يؤيده، فقد يكون العلم في نفسه مؤيداً بالكتاب والسنة، ولكن قلة استعدادك منعتك من فهمه فلن تستطيع أن تتناوله له بهمتك من محله فتظن أنه غير مؤيد بالكتاب والسنة، فالطريق في هذا التسليم وعدم العمل به من غير إنكار إلى أن يأخذ الله بيدك إليه" (الإنسان الكامل ص8).

علماً بأنه لم يضع فيه شيئاً مطلقاً وافق الكتاب والسنة، بل جمع فيه من الكفر والزندقة أعظم من كل كفر الأولين والآخرين كيف لا وقد جعل كل من عبد شيئاً في الأرض فما عبد إلا الله. بل زعم أنه ليس في الوجود إلا الله، الذي خلق الوجود من نفسه لنفسه فليس هناك إلا هو فهو الرب والعبد، والشيطان والراهب،والسماء والأرض، والظلمات والنور، والحمل الوديع والذئب الكاسر..

تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً واستغفر الله من تسطير ذلك وكتابته.. اللهم رحماك رحماك.. لقد قلت في كتابك عن الذين ادعوا الألوهية في عيسى وهو نبي كريم ونفس طيبة {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً} وقلت أيضاً {تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً* أن دعوا للرحمن ولداً* وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا* إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً}.. وهذا الزنديق يا ربي وأمثاله جعلوا كل كلب وخنزير في الأرض، وكل شيطان وإبليس وكل كافر وفاجر جزءاً منك، ومظهراً لك (ومجلى) -حسب عبارتهم- من مجاليك وتجلياتك ثم أنت ترزقهم وتعافيهم وتحلم عليهم سبحانك ما أحلمك وأجلك وأعظمك. لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك. ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.

نعود إلى الجيلي وكتابه الذي يقول فيه بالنص:

"وكنت قد أسميت الكتاب على الكشف الصريح وأيدت مسائله بالخبر الصحيح (..انظر) وسميته بالإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل" ثم يقول: "فأمرني الحق الآن بإبرازه بين تصريحه وإلغازه، ووعدني بعموم الانتفاع فقلت طوعاً للأمر المطاع، وابتدأت في تأليفه متكلاً على الحق في تعريفه، فها أنا ذا أكرع من دنه (الدن: هو وعاء الخمر الذي يخمر فيه) القديم، بكأس الاسم العليم، في قوابل أهل الإيمان والتسليم خمرة مرضعة من الحي الكريم، مسكرة الموجود بالقديم) أ.هـ (ص6).

ما الذي يتكلم عليه الجيلي في هذا الكتاب:

إن كتابه من أوله وآخره يدور حول معنى واحد وهو وصف الله بصفات مخلوقاته، وبيان أن المخلوق هو عين الخالق.. هذا كل ما يريد الجيلي أن يصل إليه وهذا هو ما شرحه شرحاً كاملاً في كتابه، وأضاف أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الإنسان الكامل والإله الكامل الذي اتصف بكل صفات الله بعلوها وسفلها، بحلوها ومرها؛ فقل هو الله أحد معناها كما يفسرها الجيلي: قل يا محمد الإنسان هو الله أحد. فهاء الإشارة في (هو) راجع إلى فاعل قل وهو أنت.. فيكون المعني يا محمد هو أي أنت الله أحد.. هذا هو الكشف الذي كشفه لنا الجيلي من الغيب وهذا هو الكتاب الذي ليس فيه شيء يخالف الكتاب والسنة.

وهذا نص عبارة الجيلي في ذلك:..

"الحرف الخامس من هذا الاسم: هو الهاء، فهو إشارة إلى هوية الحق الذي هو عين الإنسان قال الله تعالى (قل) يا محمد (هو) أي الإنسان (الله أحد) فهاء الإشارة في هو راجع إلى فاعل قل وهو أنت، وإلا فلا يجوز إعادة الضمير إلى غير مذكور أقيم المخاطب هنا مقام الغائب التفاتاً بيانياً إشارة إلى أن المخاطب بهذا ليس نفس الحاضر وحده، بل الغائب والحاضر في هذا على السواء.

قال الله تعالى (ولو ترى إذ وقفوا) ليس المراد به محمداً وحده بل كل راء، فاستدارة رأس الهاء إشارة إلى دوران رحى الوجود الحقي والخلقي على الإنسان، فهو في عالم المثال كالدائرة التي أشارت الهاء إليها، فقل ما شئت إن شئت قلت الدائرة حق وجوفها خلق، وإن شئت قلت الدائرة خلق وجوفها حق فهو حق وهو خلق، وإن شئت قلب الأمر فيه بالإلهام، فالأمر في الإنسان دوري بين أنه مخلوق له ذل العبودية والعجز وبين أنه على صورة الرحمن، فله الكمال والعز.

قال الله تعالى (والله هو الولي) يعني الإنسان الكامل الذي قال فيه (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) لأنه يستحيل الخوف والحزن وأمثال ذلك على الله لأن الله هو الولي الحميد (وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير) أي الولي، فهو حق منصور في صورة خلقية، أو خلق متحقق بمعاني الإلهية، فعلى كل حال وتقدير وفي كل مقال وتقرير هو الجامع لوصفي النقص والكمال، والساطع في أرض كونه بنور شمس المتعال، فهو السماء والأرض، وهو الطول والعرض، وفي هذا المعنى قلت:

لي الملك في الدارين لم أرى فيهما                      سواي فأرجو فضله أو فأخشاه

ولا قبل من قبلي فالحق شأنه                                ولا بعد من بعدي فأسبق معناه

وقد حزت أنواع الكمال وإنني                             جمال جلال الكل ما أنا إلا هو

فمهما ترى من معدن ونباته                                  وحيوانه مع أنه وسجاياه

ومهما ترى من عنصر وطبيعة                               ومن هباء الأصل طيب هيولاه

ومهما ترى من أبحر وقفاره                                  ومن شجر أو شاهق طال أعلاه

ومهما ترى من صورة معنوية                                ومن شهد للعين طال محياه

إلى أن يقول:

فإني ذلك الكل والكل مشهدي                             أنا المتجلي في حقيقته لا هو" (ص31)

ويشرح الجيلي هذا المعنى المجمل تفصيلياً في الباب الستين من كتابه فيقول بالنص:

الباب الملفى ستين: في الإنسان الكامل وأنه محمد صلى الله عليه وسلم وأنه مقابل للحق والخلق.

"اعلم حفظك الله أن الإنسان الكامل هو القطب الذي تدور عليه أفلاك الوجود من أوله إلى آخره، وهو واحد منذ كان الوجود إلى أبد الآبدين، ثم له تنوع في ملابس ويظهر في كنائس (الكنيسة مكان العبادة عند النصارى. والمعنى المشار إليه هنا أنه يوصف بالشيء ونقيضه كما قال فريد الدين العطار: وما الكلب والخنزير إلهنا              وما الله إلا راهب في كنيسة) فيسمى به باعتبار لباس، ولا يسمى به باعتبار لباس آخر، فاسمه الأصلي الذي هو له محمد، وكنيته أبو القاسم، ووصفه عبدالله، ولقبه شمس الدين، ثم له باعتبار ملابس أخرى أسام، وله في كل زمان اسم ما يليق بلباسه في ذلك الزمان، فقد اجتمعت به صلى الله عليه وسلم وهو في صورة شيخي الشيخ شرف الدين اسماعيل الجبرتي، ولست أعلم أنه النبي صلى الله عليه وسلم وكنت أعلم أنه الشيخ، وهذا من جملة مشاهد شاهدته فيها بزبيد سنة ست وتسعين وسبعمائة وسر هذا الأمر تمكنه صلى الله عليه وسلم من التصور بكل صورة، فالأديب إذا رآه في الصورة المحمدية التي كان عليها في حياته فإنه يسميه باسمه، وإذا رآه في صورة ما من الصور وعلم أنه محمد فلا يسميه إلا باسم تلك الصورة، ثم لا يوقع ذلك الاسم الأعلى الحقيقة المحمدية.

ألا تراه صلى الله عليه وسلم لما ظهر في صورة الشبلي رضي الله عنه قال الشبلي لتلميذه أشهد أني رسول الله وكان التلميذ صاحب كشف فعرفه، فقال: أشهد أنك رسول الله، وهذا أمر غير منكور وهو كما يرى النائم فلان في صورة فلان. وأقل مراتب الكشف أن يسوغ به في اليقظة ما يسوغ به اليقظة ما يسوغ به في النوم، ولكن بين النوم والكشف فرقاً وهو أن الصورة التي يرى فيها محمد صلى الله عليه وسلم في النوم لا يوقع اسمها في اليقظة على الحقيقة المحمدية، لأن عالـم المثال يقع التعبير فيه فيعبر عن الحقيقة المحمدية إلى حقيقة تلك الصورة في اليقظة، بخلاف الكشف فإنه إذا كشف لك عن الحقيقة المحمدية أنها متجلية في صورة من صور الآدميين، فيلزمك إيقاع اسم تلك الصورة على الحقيقة المحمدية، ويجب عليك أن تتأدب مع صاحب تلك الصورة تأدبك مع محمد صلى الله عليه وسلم. لما أعطاك الكشف أن محمداً صلى الله عليه وسلم متصور بتلك الصورة، فلا يجوز لك بعد شهود محمد صلى الله عليه وسلم فيها أن تعاملها بما كنت تعاملها به من قبل، ثم إياك أن تتوهم شيئاً في قولي من مذهب التناسخ، حاشا لله وحاشا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك مرادي، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم له من التمكين في التصور بكل صورة حتى يتجلى في هذه الصورة، وقد جرت سنته صلى الله عليه وسلم أنه لا يزال يتصور في كل زمان بصورة أكملها ليعلي شأنهم ويقيم ميلانهم، فهم خلفاؤه في الظاهر وهو في الباطن حقيقتهم" أ.هـ

ثم يستطرد الجيلي حسب اعتقاده مبيناً كيف يكون محمد صلى الله عليه وسلم إنساناً كاملاً، وإلهاً تحققت فيه كل مظاهر الربوبية والألوهية وتجلت فيه كل أسماء الله وصفاته..

ولما كان الله عند الجيلي ومن على طريقته من هؤلاء الزنادقة الملحدين هو هذه المخلوقات لا غير.. استطرد الجيلي مبيناً أن الكون الوجود في كل شيء منه مقابل للذات المحمدية. ففي ذات الرسول شبيه العرش والكرسي، والسماوات والأرض والملائكة والحيوان والنبات والجماد.. وسائر الموجودات التي هي في حقيقتها عند الجيلي هي الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً..

يقول الجيلي شارحاً ذلك:

"واعلم أن الإنسان الكامل مقابل لجميع الحقائق الوجودية بنفسه.

فيقابل الحقائق العلوية بلطافته، ويقابل الحقائق السفلية بكثافته، فأول ما يبدو في مقابلته للحقائق الخلقية يقابل العرش بقلبه، قال صلى الله عليه وسلم (قلب المؤمن من عرش الرحمن)، ويقابل الكرسي بآنيته، ويقابل سدرة المنتهى بمقامه، ويقابل القلم الأعلى بعقله، ويقابل اللوح المحفوظ بنفسه، ويقابل العناصر بطبعه، ويقابل الهيولي بقابليته، ويقابل الهباء بحيز هيكله، ويقابل الفلك الأطلس برأيه، ويقابل الفلك المكوكب بمدركته، ويقابل السماء الخامسة بهمته، ويقابل السماء الرابعة بفهمه، ويقابل السماء الثالثة بخياله، ويقابل السماء الثانية بفكره، ويقابل السماء الأولى بحافظته، ثم يقابل زحل بالقوى اللامسة، ويقابل المشتري بالقوى الدافعة، ويقابل المريخ بالقوى المحركة، ويقابل الشمس بالقوى الناظرة، ويقابل الزهرة بالقوى المتلذذة، ويقابل عطارد بالقوى الشامة، ويقابل القمر بالقوى السامعة، ثم يقابل فلك النار بحرارته، ويقابل فلك الماء ببرودته، ويقابل فلك الهواء برطوبته، ويقابل فلك التراب بيبوسته، ثم يقابل الملائكة بخواطره، ويقابل الجن والشياطين بوسواسه، ويقابل البهائم بحيوانيته، ويقابل الأسد بالقوى الباطشة، ويقابل الثعلب بالقوى الماكرة، ويقابل الذئب بالقوى الخادعة، ويقابل القرد بالقوى الحاسدة، ويقابل الفأر بالقوى الحريصة، وقس على ذلك باقي قواه، ثم إنه يقابل النار بالمادة الصفراوية، ويقابل الماء بالمادة البلغمية، ويقابل الريح بالمادة الدموية، ويقابل التراب بالمادة السوداوية، ثم يقابل السبعة أبحر بريقه ومخاطه وعرقه ونقاء أذنه ودمعه وبوله والسامع المحيط، وهو المادة الجارية بين الدم والعرق والجلد، منها تتفرع تلك الستة، ولكل واحد طعم، فحلو وحامض، ومر وممزوج، ومالح ونتن وطيب، ثم يقابل الجوهر بهويته وهي ذاته، ويقابل العرض بوصفه، ثم يقابل الجمادات بأنيابه، فإن الناب إذا بلغ وأخذ حده في البلوغ بقي شبه الجمادات لا يزيد ولا ينقص وإذا كسرته لا يلتحم بشيء، ثم يقابل النبات بشعره وظفره، ويقابل الحيوان بشهوانيته، ويقابل مثله من الآدميين ببشريته وصورته، ثم يقابل أجناس الناس، فيقابل الملك بروحه، ويقابل الوزير بنظره الفكري، ويقابل القاضي بعلمه المسموع، ورأيه المطبوع، ويقابل الشرطي بظنه، ويقابل الأعوان بعروقه وقواه جميعها، ويقابل المؤمنين بيقينه، ويقابل المشركين بشكه وريبه، فلا يزال يقابل كل حقيقة من حقائق الوجود برقيقة من رقائقه، فقد بينا فيما مضى من الأبواب خلق كل ملك مقرب من كل قوى من الإنسان الكامل، وبقي أن نتكلم عن مقابلة الأسماء والصفات.

اعلم أن نسخة الحق تعالى كما أخبر صلى الله عليه وسلم حيث قال: (خلق الله آدم على صورة الرحمن) وفي حديث آخر (خلق الله آدم على صورته) وذلك أن الله تعالى حي عليم قادر مريد سميع بصير متكلم، وكذلك الإنسان حي عليم..الخ.

ثم يقابل الهوية بالهوية، والإنية بالإنية، والذات بالذات، والكل بالكل، والشمول بالشمول، والخصوص بالخصوص، وله مقابلة أخرى يقابل الحق بحقائقه الذاتية، وقد نبهنا عليها في هذا الكتاب في غير ما موضع، وأما هنا فلا يجوز لنا أن نترجم عنها، فيكفي هذا القدر من التنبيه عليها.

ثم اعلم أن الإنسان الكامل هو الذي يستحق الأسماء الذاتية، والصفات الإلهية استحقاق الأصالة والملك بحكم المقتضي الذاتي، فإنه المعبر عن حقيقته بتلك العبارات والمشار إلى لطيفته بتلك الإشارات ليس لها مستند في الوجود إلا الإنسان الكامل، فمثاله للحق مثال المرآة التي لا يرى الشخص صورته إلا فيها، وإلا فلا يمكنه أن يرى صورة نفسه لا بمرآة الاسم الله فهو مرآته، والإنسان الكامل أيضاً مرآة الحق، فإن الحق تعالى أوجب على نفسه أن لا ترى أسماؤه ولا صفاته إلا في الإنسان الكامل، وهذا معنى قوله تعالى {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً} يعني قد ظلم نفسه بأن أنزلها عن تلك الدرجة، جهولاً بمقداره لأنه محل الأمانة الإلهية وهو لا يدري" أ.هـ (المصدر السابق ص76،77).

ادعاء رؤية العوالم العلوية والسفلية:

ولا يتوقف هذا الهذيان الذي يطالعنا به الجيلي في كتابه لحظة واحدة فهو يزعم أنه قد كشفت له الحجب فرأى العالم عاليه وسافله وشاهد الملائكة جميعاً وخاطبهم والرسل والأنبياء؛ فها هو يقول ويدعي: "وفي هذا المشهد (يعني بالمشهد اتصال الصوفي بأرواح المخلوقات التي وجدت في الحياة والتي لم توجد أيضاً لأن الأرواح في زعمه مخلوقة أبداً لا تفنى)، اجتماع الأنبياء والأولياء بعضهم ببعض أقمت فيه بزبيد (زبيد: مدينة من مدن اليمن المشهورة) بشهر ربيع الأول في سنة ثمانمائة من الهجرة النبوية فرأيت جميع الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين والأولياء والملائكة العالين، والمقربين، وملائكة التسخير، ورأيت روحانية الموجودات جميعها، وكشفت عن حقائق الأمور على ما هي عليه من الأزل إلى الأبد" (انظر) ويستطرد قائلاً "وتحققت بعلوم إلهية لا يسع الكون أن نذكرها فيه" (ص97 ج2).

ويستطرد الجيلي في هذيانه وكفرياته قائلاً عن مشاهداته المزعومة في خلق السماء الثانية: "رأيت نوحاً عليه السلام في هذه السماء جالساً على سرير خلق من نور الكبرياء بين أهل المجد والثناء فسلمت عليه وتمثلت بين يديه فرد علي السلام ورحب بي وقام".

إلى أن يقول: "وروحانية الملك الحاكم على جميع ملائكة هذه السماء عجائب من آيات الرحمن وغرائب من أسرار الأكوان لا يسعنا إذاعتها في أهل هذا الزمان" (ص100) أ.هـ.

ويستطرد الجيلي مبيناً مشاهداته المزعومة في السماء الثالثة وأنه رأى يوسف عليه السلام وأنه دار بينهما هذا الحديث الذي يزعم الجيلي في آخره أنه كان يعلم هذه العلوم التي أخبره يوسف بها قبل أن يتفوه بها يوسف. وما هذه العلوم.. إنها هذه الكفريات والهذيانات نفسها وهذا نص عبارته في ذلك:

"اجتمعت في هذه السماء مع يوسف عليه السلام، فرأيته على سرير من الأسرار كاشفاً عن رمز الأنوار عالماً بحقيقة ما انعقدت عليه أكلة الأحبار متحققاً بأمر المعاني، مجاوزاً عن قيد الماء والأواني فسلمت إلى تحية وافد إليه فأجاب وحياً ثم رحب بي وبيا، فقلت له: سيدي أسألك عن قولك {رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث} أي المملكتين تعني وعن تأويل أي الأحاديث تكنى فقال: أردت المملكة الرحمانية المودعة في النكتة الإنسانية (يعني أن يوسف عليه السلام أجابه بأن الله أطلعه عل وجود الرحمن في كيان  الإنسان) وتأويل الأحاديث: الأمانات الدائرة في الألسنة الحيوانية، فقلت له يا سيدي أليس هذا المودع في التلويح حللاً من البيان والتصريح. فقال: اعلم أن للحق تعالى أمانة في العباد يوصلها المتكلمون بها إلى أهل الرشاد، قلت: كيف يكون للحق أمانة وهو أصل الوجود في الظهور والإبانة، فقال: ذلك وصفه وهذا شأنه وذاك حكمه وهذه عبارته، والأمانة يجعلها الجاهل في اللسان ويحملها العالم في السر والجنان، والكل في حيرة عنه، ولم يفز غير العارف بشيء منه، فقلت: وكيف ذلك. فقال: اعلم أيدك الله وحماك أن الحق تعالى جعل أسراره كدرر إشارات مودعة في أسرار عبارات (يعني أن سر الخلق قد صحبه الله في أسرار العبارات التي يوحيها إلي)، فهي ملقاة في الطريق دائرة على ألسن الفريق، يجهل العام إشارتها، ويعرف الخاص ما سكن عبارتها، فيؤولها على حسب المقتضى ويؤول بها إلى حيث المرتضى، وهل تأويل الأحلام إلا رشحة من هذا البحر أو حصاة من جنادل هذا القفر فعلمت ما أشار إليه الصديق ولم أكن قبله جاهلاً بهذا التحقيق، ثم تركته وانصرفت في الرفيق الأعلى ونعم الرفيق" أ.هـ (ص101).

ثم يزعم الجيلي أن السماء الرابعة هي قلب الشمس وأن فيها إدريس وأن أكثر الأنبياء في دائرة هذا الفلك المكين مثل عيسى وسليمان وداود وإدريس وجرجيس.. وغيرهم.. الخ.

أسمعتم يا مسلمون نبياً من أنبياء الله يسمى جرجيس،.. ها هو الجيلي اطلع عليه في السماء وجاءكم باسمه كما جاءكم باسم ملك يسمى توحائيل.. أنظرتم كيف يكون الكشف وعلم الغيب. هذه هي نماذجه. وأما السماء الخامسة عند الجيلي فهي سماء الكوكب المسمى بهرام.. وحاكم هذه السماء عزرائيل وهو روحانية المريخ صاحب الانتقام والتوبيخ.. (هكذا والله..) ويستطرد الجيلي فيصف السماء السادسة فهي عنده كوكب المشتري.. ويقول "رأيت فيها موسى عليه السلام متمكناً في هذا المقام واضعاً قدمه على هذه السماء قابضاً بيمينه (يلاحظ في هذا التخليط والتقول على الله أن هؤلاء الكاذبين يعمدون إلى الوحي القرآني والحديثي فيأخذون منه ما يشاءون ويخلطونه بهذه الأكاذيب ويزعمون أن ذلك هو الكشف الذي كشف لهم فذكر منصبة موسى على ساق سدرة المنتهى مأخوذ من قول الرسول صلى الله عليه وسلم أكون أول من يفيق فأجد موسى باطشاً بساق العرش) ساق سدرة المنتهى سكران من خمر تجلي الربوبية.." أي موسى انطبعت في مرآة علمه أشكال الأكوان وتجلت فيه ربوبية الملك الديان.. وأنه دار بينه وبين الجيلي هذا الحوار.. يقول الجيلي بالنص:

"فوقفت متأدباً بين يديه، وسلمت بتحقيق مرتبته عليه، فرفع رأسه من سكرة الأزل ورحب بي ثم أهل، فقلت له: يا سيدي قد أخبر الناطق بالجواب الصادق في الخطاب، أنه قد برزت لك خلعة لن تراني من ذلك الجناب، وحالتك هذه غير حالة أهل الحجاب، فأخبرني بحقيقة هذا الأمر العجاب، فقال: اعلم أنني لما خرجت من مصر أرضي إلى حقيقة فرضي، ونوديت من طور قلبي بلسان ربي من جانب شجرة الأحدية في الوادي المقدس بأنوار الأزلية {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني} فلما عبدته كما أمر في الأشياء، وأثنيت عليه بما يستحقه من الصفات والأسماء تجلت أنوار الربوبية لي فأخذني عني، فطلبت البقاء في مقام اللقاء، ومحال أن يثبت المحدث لظهور القديم، فنادى لسان سري مترجماً عن ذلك الأمر العظيم، فقلت: {رب أرني أنظر إليك} فأدخل بانيتي في حضرة القدس عليك فسمعت الجواب من ذلك الجناب {لن تراني ولكن انظر إلى الجبل} وهي ذاتك المخلوقة من نوري في الأزل، {فإن استقر مكانه} بعد أن أظهر القديم سلطانه {فسوف تراني فلما تجلّى ربه للجبل} وجذبتني حقيقة الأزل وظهر القديم على المحدث {جعله دكاً وخر موسى صعقاً} فلم يبق في القديم إلا القديم، ولم يتجل بالعظمة إلا العظيم، هذا على أن استيفاؤه غير ممكن وحصره غير جائز، فلا تدرك ماهيته ولا ترى ولا يعلم كنهه ولا يدري، فلما اطلع ترجمان الأزل على هذا الخطاب أخبركم به من أم الكتاب (أي أن الجيلي اطلع على هذه المكاشفة من أم الكتاب) فترجم بالحق والصواب، ثم تركته وانصرفت وقد اغترفت من بحره ما اغترفت (ص104) أ.هـ.

ويستطرد الجيلي مبيناً مشاهداته في هذه السماء فيقول: "ثم إني رأيت ملائكة هذه السماء مخلوقة على سائر أنواع الحيوانات فمنهم من خلقه الله تعالى على هيئة الطائر وله أجنحة لا تنحصر للحاصر، وعبادة هذا النوع خدمة الأسرار ورفعها من حضيض الظلمة إلى عالم الأنوار، ومنهم من خلقه الله تعالى على هيئة الخيول المسومة، وعبادة هذه الطائفة المكرمة رفع القلوب من سجن الشهادة إلى فضاء الغيوب، ومنهم من خلقه الله تعالى على هيئة النجائب وفي صورة الركائب، وعبادة هذا النوع رفع النفوس إلى عالم المعاني من عالم المحسوس، ومنه من خلقه الله تعالى على هيئة البغال والحمير!! وعبادة هذا النوع رفع الحقير وجبر الكسير والعبور من القليل إلى الكثير ومنهم من خلقه الله تعالى على صرة الإنسان وعبادة هؤلاء حفظ قواعد الأديان، ومنهم من خلق على صفة بسائط الجواهر والأعراض وعبادة هؤلاء إيصال الصحة إلى الأجسام المراض، ومنهم من خلق على أنواع الحبوب والمياه وسائر المأكولات والمشروبات، وعبادة هؤلاء إيصال الأرزاق إلى مرزوقها من سائر المخلوقات، ثم إني رأيت في هذه السماء ملائكة مخلوقة بحكم الاختلاط مزجاً، فالنصف من نار والنصف من ماء عقد ثلجاً، فلا الماء يفعل في إطفاء النار ولا النار تغير الماء عن ذلك القرار" (ص105).

وأما السماء السابعة التي شاهدها الجيلي وجاء يقص علينا مشاهداته فهي السماء السابعة، وهي عنده زحل، ويحكى أنه شاهد فيها إبراهيم عليه السلام قائماً في هذه السماء وله منصة يجلس عليها على يمين العرش من فوق الكرسي وهو يتلو آية {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق..}.

ويستطرد الجيلي بعد ذلك تبجحاً أنه صعد إلى سدرة المنتهى وأنه رأى هناك الملائكة وأنها على هيئات مختلفة وأمامهم سبعة، ثم ثلاثة ثم ملك مقدم يسمى عبدالله.. وأنهم أخبروه أنهم لم يسجدوا لآدم -هكذا.. علماً بأن الله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه {فسجد الملائكة كلهم أجمعون* إلا إبليس أبى أن يكون من الساجدين} (الحجر:30-31).

فأكد الله سبحانه سجود الملائكة بكل وجميع ولكن جاءنا الجيلي ليخبرنا بأن الملائكة هؤلاء الذين شاهدهم في السماء لم يؤمروا بالسجود لآدم فاكتشف ما لم يعلمه الله ورسوله. وهذا نص عبارته في ذلك:

"ثم رأيت سبعة جملة هذه المائة متقدمة عليهم يسمون قائمة الكروبيين، ورأيت ثلاثة مقدمين على هذه السبعة يسمون بأهل المراتب والتمكين، ورأيت واحداً مقدماً على جميعهم يسمى عبدالله، وكل هؤلاء عالون ممن لم يؤمروا بالسجود لآدم، ومن فوقهم كالملك المسمى بالنون والملك المسمى بالقلم وأمثالهم أيضاً عالون، وبقية ملائكة القرب دونهم، وتحتهم مثل جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل (ليس في ملائكة الله عز وجل ملك يسمى عزرائيل ولم يثبت ذلك في حديث صحيح أو ضعيف ولكنه اسم يجري على ألسنة العامة، ولكن هؤلاء الجهلة يلتقطون مثل هذه الأسماء ويجعلونها كشفاً وعلماً لدنياً وروحياً وإلهاماً لهم فانظر وتعجب..) وأمثالهم.

ورأيت في هذا الفلك من العجائب والغرائب ما لا يسعنا شرحه" (ص107).

ولا يكتفي الجيلي ببيان كفرياته وهذيانه في السماء فينتقل إلى الأرض وهي عنده ليست أرضاً واحدة بل هو يزعم أنه شاهد سبعة أرضين وسبعة بحار ومحيطات وهاك بعضاً من هذا الهذيان الذي يزعم فيه الجيلي أنه رأى فيه الخضر وموسى، وأفلاطون وأرسطو والاسكندر، إلى هذيان وكفر لا يسع المؤمن عند سماعه وقراءته إلا أن يقول (يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك) وأن يقول أيضاً (الحمد لله الذي عافانا وما علينا ووقانا) وهاك أخي القارئ شيئاً من هذا الهذيان:

"إن الله تعالى لما بسط الأرض جعلها على قرني ثور يسمى البرهوت وجعل الثور على ظهر الحوت في هذا البحر يسمى البهموت، وهو الذي أشار إليه الحق تعالى بقوله {وما تحت الثرى} ومجمع البحرين هذا هو الذي اجتمع فيه موسى عليه السلام بالخضر على شطه، لأن الله تعالى كان قد وعده بأن يجتمع بعبد من عباده على مجمع البحرين، فلما ذهب موسى وفتاه حاملاً لغذائه ووصلا إلى مجمع البحرين لم يعرفه موسى عليه السلام إلا بالحوت الذي نسيه الفتى على الصخرة وكان البحر مداً، فلما جزر بلغ الماء إلى الصخرة فصارت حقيقة الحياة في الحوت، فاتخذ سبيله في البحر سرباً، فعجب موسى من حياة حوت ميت قد طبخ على النار، وهذا الفتى اسمه يوشع بن نون، وهو أكبر من موسى عليه السلام في السن سنة شمسية وقصتهما مشهورة، وقد فصلنا ذلك في رسالتنا الموسومة (بمسامرة الخليل ومسايرة الصحيب) فليتأمل فيه.

سافر الإسكندرية ليشرب من هذا الماء اعتماداً على كل كلام أفلاطون أن من شرب من ماء الحياة فإنه لا يموت، لأن أفلاطون كان قد بلغ هذا المحل وشرب من هذا البحر فهو باق إلى يومنا هذا في جبل يسمى دواوند، وكان أرسطو تلميذ أفلاطون وهو أستاذ الاسكندر صحب الاسكندر في مسيره إلى مجمع البحرين، فلما وصل إلى أرض الظلمات ساروا وتبعهم نفر من العسكر وأقام الباقون في مدينة تسمى ثُبُتْ برفع الثاء المثلثة والباء الموحدة وإسكان التاء المثناة من فوق وهو حد ما تطلع الشمس عليه، وكان في جملة من صحب الاسكندر من عسكر الخضر عليه السلام، فساروا مدة لا يعلمون عددها ولا يدركون أمدها وهم على ساحل البحر، وكلما نزلوا منزلاً شربوا من الماء، فلما ملوا من طول السفر أخذوا في الرجوع إلى حيث أقام العسكر، وقد كانوا مروا بمجمع البحرين على طريقهم من غير أن يشعروا به، فما أقاموا عنده ولا نزلوا به لعدم العلامة، وكان الخضر عليه السلام قد ألهم بأن أخذ طيراً فذبحه وربطه على ساقه، فكان يمشي ورجله في الماء، فلما بلغ هذا المحل انتعش الطير واضطرب عليه، فأقام عنده وشرب من ذلك الماء واغتسل منه وسبح فيه، فكتمه عن الاسكندر وكتم أمره إلى أن خرج، فلما نظر أرسطو إلى الخضر عليه السلام علم أنه قد فاز من دونهم بذلك، فلزم خدمته إلى أن مات واستفاد من الخضر هو والاسكندر علوماً جمة" (ص117).

ويستطرد الجيلي شارحاً له عن طريق كشوفاته وهذيانه فيقول:

".. واعلم أن الخضر عليه السلام قد مضى ذكره فيما تقدم، خلقه الله تعالى من حقيقته

{ونفخت فيه من روحي} فهو روح الله، فلهذا عاش إلى يوم القيامة، اجتمعت به وسألته، ومنه أروي جميع ما في هذا البحر المحيط (جميع الصوفية يزعمون أن كل ما ينقلونه من علومهم يسمعونه من الخضر، وقد زاد الجيلي أن الخضر مخلوق من روح الله.. ولا يعلم هذا الجاهل أن آدم هو الذي أمر الله جبريل أن ينفخ فيه وجبريل هو روح الله وليس الخضر خلقاً خاصاً).

واعلم أن هذا البحر المحيط المذكور، وما كان منه منفصلاً عن جبل (ق) مما يلي الدنيا فهو مالح وهو البحر المذكور، وما كان منه متصلاً بالجبل فهو وراء المالح، فإنه البحر الأحمر الطيب الرائحة وما كان من وراء جبل (ق) متصلاً بالجبل الأسود فإنه البحر الأخضر، وهو من الطعم كالسم القاتل، ومن شرب منه قطرة هلك، وفني لوقته، وما كان منه وراء الجبل يحكم الانفصال والحيطة والشمول بجميع الموجودات فهو البحر الأسود الذي لا يعلم له طعم ولا ريح ولا يبلغه أحد، بل وقع به الأخبار، فعلم وانقطع عن الآثار فكتم.

وأما البحر الأحمر الذي نشره كالمسك الأذفر فإنه يعرف بالبحر الأسمى ذي الموج الأنمى، رأيت على ساحل هذا البحر رجالاً مؤمنين، ليس لهم عبادة إلا تقريب الخلق إلى الحق، قد جبلوا على ذلك، فمن عاشرهم أو صاحبهم عرف الله بقدر معاشرتهم، وتقرب إلى الله بقدر مسايرتهم، وجوههم كالشمس الطالع والبرق اللامع، يستضيء بهم الحائر في تيهات القفار، ويهتدي بهم التائه في غيابات البحار، إذا أرادوا السفر في هذا البحر نصبوا شركاً لحيتانه، فإذا اصطادوا ركبوا عليها لأن مراكب هذا البحر حيتانه، ومكتسبه لؤلؤه ومرجانه، ولكنهم عند أن يستووا على ظهر هذا الحوت ينتعشون بطيب رائحة البحر فيغمى عليهم، فلا يفيقون إلى أنفسهم، ولا يرجعون إلى محسوسهم ما داموا راكبين في هذا البحر، فتسير بهم الحيتان إلى أن يأخذوا حدها من الساحل، فتقذف بهم في منزل من تلك المنازل، فإذا وصلوا إلى البر وخرجوا من ذلك البحر، رجعت إليهم عقولهم، وبان لهم محصولهم فيظفرون بعجائب وغرائب لا تحصر، أقل ما يعبر عنها، بأنها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" (ص118) .

وفي ختام هذا الهذيان يقول الجيلي:

"وأما البحر السابع فهو الأسود القاطع، لا يعرف سكانه، ولا يعلم حيتانه، فهو مستحيل الوصول غير ممكن الحصول، لأنه وراء الأطوار وآخر الأكوار والأدوار، لا نهاية لعجائبه، ولا آخر لغرائبه، قصر عنه المدى فطال، وزاد على العجائب حتى كأنه المحال، فهو بحر الذات الذي حارت دونه الصفات، وهو المعدوم الموجود والموسوم والمفقود والمعلوم والمجهول والمنقول والمحتوم والمعقول، وجوده فقدانه، أوله محيط بآخره وباطنه مستو على ظاهره، لا يدرك ما فيه، ولا يعلمه أحد فيستوفيه، فلنقبض العنان عن الخوض فيه والبيان (والله يقول الحق وهو يهدي السبيل) وعليه التكلان" (ص118) أ.هـ.

وهكذا يكون الهذيان مختوماً بقوله تعالى {والله يقول الحق وهو يهدي السبيل..} ..أعرفتم الحق الذي يدعونا إليه الجيلي ومن على شاكلته من هؤلاء الملاحدة والزنادقة؟ إنه هذا الهذيان الذي لا أول له ولا آخر.

ما الذي يريده هؤلاء الملاحدة؟!

وقد يسأل سائل: وما الذي يريده هؤلاء من تأليف هذه الكتب، ونشر هذا الجنون والهذيان؟! ولست أنا الذي سأجيب عن هذا السؤال، وإنما سأثبت الجواب من كلام الجيلي نفسه. إنه يقول بالنص:

"اعلم أن الله تعالى إنما خلق جميع الموجودات لعبادته، فهم مجبولون على ذلك مفطورون عليه من حيث الأصالة، فما في الوجود شيء إلا هو يعبد الله بحاله ومقاله وفعاله، بل بذاته وصفاته، فكل شيء في الوجود مطيع لله تعالى، لقوله تعالى للسماوات والأرض {ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} وليس المراد بالسماوات إلا أهلها، ولا بالأرض إلا سكانه. وقال تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} ثم شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يعبدونه بقوله [كل ميسر لما خلق له] لأن الجن والإنس مخلوقون لعبادته وهم ميسرون لما خلقوا له، فهم عباد الله بالضرورة، ولكن تختلف العبادات لاختلاف مقتضيات الأسماء والصفات، لأن الله تعالى متجل باسمه المضل، كما هو متجل باسمه الهادي، فكما يجب ظهور أثر اسمه المنعم، كذلك يجب ظهور أثر اسمه المنتقم. واختلاف الناس في أحوالهم لاختلاف أرباب الأسماء والصفات، قال تعالى {كان الناس أمة واحدة} يعني عباد الله مجبولون على طاعته من حيث الفطرة الأصلية، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ليعبده من اتبع الرسل من حيث اسمه المضل، فاختلف الناس وافترقت الملل وظهرت النحل، وذهبت كل طائفة إلى ما علمته أنه صواب.

ولو كان ذلك العلم عند غيرها خطأ ولكن حسنه الله عندها ليعبدوه من الجهة التي تقتضيها تلك الصفة المؤثرة في ذلك الأمر، وهذا معنى قوله {ما من دابة في الأرض إلا هو آخذ بناصيتها} فهو الفاعل بهم على حسب ما يريد مريده، وهو عين ما اقتضته صفاته، فهو سبحانه وتعالى يجزيهم على حسب مقتضى أسمائه وصفاته، فلا ينفعه إقرار أحد بربوبيته ولا يضره جحود أحد بذلك، بل هو سبحانه وتعالى يتصرف فيهم على ما هو مستحق لذلك من تنوع عباداته التي تنبغي لكماله، فكل من في الوجود عابد لله تعالى، مطيع لقوله تعالى {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم}، لأن من تسبيحهم ما يسمى مخالفة ومعصية وجحوداً وغير ذلك، فلا يفقهه كل أحد، ثم إن النفي إنما وقع على الجملة، فصح أن يفقهه البعض؛ فقوله {ولكن لا تفقهون تسبيحهم} يعني من حيث الجملة، فيجوز أن يفقهه بعضهم" (ص120).

وبعد أن يذكر الجيلي طوائف الناس ومللهم يقول : "فكل هذه الطوائف عابدون لله تعالى كما ينبغي أن يعبد لأنه خلقهم لنفسه لا لهم فهم له كما يستحق ثم إنه سبحانه وتعالى أظهر في هذه الملل حقائق أسمائه وصفاته فتجلى في جميعها بذاته فعبدته جميع الطوائف" (ص122).

ويشرح هذا المعنى تفصيلياً فيقول:

"فأما الكفار فإنهم عبدوه بالذات، لأنه لما كان الحق سبحانه وتعالى حقيقة الوجود بأسره والكفار من جملة الوجود وهو حقيقتهم فكفروا أن يكون لهم رب لأنه تعالى حقيقتهم ولا رب له بل هو الرب المطلق، فعبدوه من حيث ما تقتضيه ذواتهم التي هو عينها (وما دام أنهم في زعمه وكفره هم عين الله فهم ينفذون لثبته وأمره بل هم الله فلا حاجة بهم إلى أن يعلموا ذلك أو لا يعلموه. وبالتالي فكفرهم بإله غيرهم وخارج عن طبيعتهم هو عين الإيمان وعين الحق في نظر الجيلي الزنديق ومن على شاكلته من هؤلاء الملاحدة الذين لم تعرف الأرض أفجر ولا أكفر منهم).

ثم من عبد منهم الوثن فلسر وجوده سبحانه بكماله بلا حلول ولا مزج في كل فرد من أفراد ذوات الوجود، فكان تعالى حقيقة تلك الأوثان التي يعبدونها فما عبدوا إلا الله" (ص122).

وأظن أنه ليس هناك عبارة أصرح وأوضح من هذه العبارات تبين المقصود والمآل الذي يرمي المتصوفة والوصول إليه.

ويستطرد الجيلي مبيناً عقائد الناس وأنهم جميعاً على حق. فيقول عن اليهود : "وأما اليهود فإنهم يتعبدون بتوحيد الله تعالى ثم بالصلاة في كل يوم مرتين.. ويتعبدون بالاعتكاف يوم السبت، وشرط الاعتكاف عندهم أن لا يدخل في بيته شيئاً مما يتمول به، ولا مما يؤكل، ولا يخرج منه شيئاً، ولا يحدث فيه نكاحاً ولا بيعاً ولا عقداً، وأن يتفرغ لعبادة الله تعالى لقوله تعالى في التوراة:

(أنت وعبدك وأمتك لله تعالى في يوم السبت)، فلأجل هذا حرم عليهم أن يحدثوا في يوم السبت شيئاً مما يتعلق بأمر دنياهم، ويكون مأكوله مما جمعه يوم الجمعة، وأول عندهم إذا غربت الشمس من يوم الجمعة، وآخره الاصفرار من يوم السبت.

وهذه حكمة جليلة؛ فإن الحق تعالى خلق السماوات والأرضين في ستة أيام، وابتدأها في يوم الأحد ثم استوى على العرش في اليوم السابع وهو يوم السبت، فهو يوم الفراغ، فلأجل هذا عبد الله اليهود بهذه العبادة في هذا اليوم إشارة إلى الاستواء الرحماني وحصوله في هذا اليوم فافهم" (ص127).

ثم يقول مادحاً النصارى كذلك فيقول:

"وأما النصارى فإنهم أقرب من جميع الأمم الماضية إلى الحق تعالى، فهم دون المحمديين، سببه أنهم طلبوا الله تعالى فعبدوه في عيسى ومريم وروح القدس، ثم قالوا بعدم التجزئة، ثم قالوا بمقدمه على وجوده في محدث عيسى وكل هذا تنزيه في تشبيه لائق بالجناب الإلهي".

أي أن فعل النصارى هذا من تشبيه الله بخلقه ومن عبادة الثلاث ومن اتخاذ أرباب مع الله كل ذلك لائق في عقيدة عبدالكريم الجيلي ولكنه يراهم أيضاً مقصرون لأنهم حصروا الله في ثلاث نقط، والله عنده لا ينحصر في ثلاثة لأن كل موجود هو الله.

هذه هي الغاية التي يسعى هؤلاء الزنادقة سعياً حثيثاً إليها. إنها التسوية بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والكفر والإيمان، وإبليس وجبريل، ومحمد صلى الله عليه وسلم وأبو جهل، والخمر والماء، والأخت والأجنبية، والزواج والزنا واللواط، والقتل ظلماً والرحمة، والتوحيد والشرك، فلا ضلال في الأرض إلا في نظر القاصرين فقط، وأما العارفون فكل هذه الموجودات شيء واحد بل ذات واحدة تعددت وجوداتها، وتعددت أشكالها وألوانها وهي حقيقة واحدة -وبهذا الدين الذي لم تعرف البشرية أظلم ولا أفجر ولا أكفر منه- اعتقد هؤلاء الزنادقة وألبسوا هذا الدين الفاجر آيات القرآن وأحاديث النبي الكريم، ووصفوا أنفسهم بأنهم خير الناس وأعلمهم وأتقاهم، وهذه هي حالهم في الظلم والكفر والفجور، وهدم دين الإسلام وإحلال شرائع الشيطان مكان شريعة الرحمن، وطمس صفات الله ونوره سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وأستغفر الله من نقل هذا الكفر وتسطيره. فإنه كفر لم تقله اليهود ولا النصارى ولا المجوس ولا الصابئة.. ورحم الله الإمام عبدالله بن المبارك الذي كان يقول: إنا لنحكي كفر اليهود والنصارى ونستعظم أن نحكي كفر الجهمية.. فكيف لو رأى كفر هؤلاء الصوفية الملاحدة ماذا كان يقول في ذلك؟!

حقاً إن هذا لشيء عظيم ولكننا مضطرون أن نذكر كفرهم لندحضه ولنبينه للناس ليحذرون بعد أن عم شرهم البلاد والعباد، وبعد أن اغتر بهم جمع غفير من المسلمين، فظنوا أن الحق مع هؤلاء فاتبعوهم حتى صرفوهم عن دين الرسول صلى الله عليه وسلم وأوصلوهم إلى هذه النهاية المزرية التي يستحيل على الإنسان إذا وصلها أن يميز بين خير وشر، وهدى وضلالة، لأن كل هذه الأضداد ستكون عنده شيئاً واحداً.

ومع ذلك فإن الجيلي يستطرد في هذا الباب شارحاً مراده تماماً فيقول:

"ولم يفتقر في ذلك إلى علمهم، ولا يحتاج إلى نياتهم، لأن الحقائق ولو طال إخفاؤها لا أن تظهر" أ.هـ. يعني أن الله لا يحتاج أن يعلم الكافر به ما دام أن وجود هذا الكافر هو وجود الله، وأن هذه الحقيقة لا بد وأن تظهر للعيان يوماً ما..

ويمضي الجيلي شارحاً معتقده فيقول..

"وأما الطباعية فإنهم عبدوه من حيث صفاته الأربع..، لأن أربعة الأوصاف الإلهية.. التي هي الحياة والعلم والقدرة والإرادة أصل بناء الوجود فالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة مظاهرها في عالم الأكوان، فالرطوبة مظهر الحياة، والبرودة مظهر العلم، والحرارة مظهر الإرادة، واليبوسة مظهر القدرة. وحقيقة هذه المظاهر ذات الموصوف بها سبحانه وتعالى.. فعبدت هذه الطبائع لهذا السر فمنهم من علم ومنهم من جهل العالم سابق، والجاهل لاحق فهم عابدون للحق من حيث الصفات، ويؤول أمرهم إلى السعادة كما آل أمر من قبلهم إليها بظهور الحقائق التي بني أمرهم عليها" (ص123-124).

وهكذا يقرر الجيلي أن الفلاسفة الطبائعيين الذين قالوا برجوع الطبيعة إلى العناصر الأربعة هم عابدون لله شاؤوا أم أبوا، علموا أم جهلوا، وأن أمرهم إلى السعادة الأبدية. ويستدل لهذا الكفر الشنيع أيضاً بالقرآن فيقول: "والدليل من القرآن أن الله قال في الأحزاب المختلفين {كل حزب بما لديهم فرحون} فيقول: "إن فرحهم هذا في الدنيا والآخرة، فكل حزب يفرح بما عنده في الدنيا، ويفرح به أيضاً في الآخرة عندما يطلع الجميع أنه لا ثمة إلا الله وأنهم جميعاً مظاهر للذات الإلهية، وليسوا شيئاً خارجاً عنها".

وهكذا يستخدم القرآن أيضاً في هذا الكفر والباطل الذي لم تعرف البشرية له مثيلاً في كل تاريخها فقد ارتكز في الفطرة أن هناك حقاً وباطلاً، هدى وضلالاً، نوراً وظلاماً، كذباً وصدقاً، وإيماناً..، ولكن عند هؤلاء الصوفية كل هذا شيء واحد وحق واحد اختلفت مظاهره ولم تختلف حقيقته فالجنة والنار كلاهما نعيم، وإبليس وجبريل كلاهما عابد، بل معبود، بل شيء تعددت صفاته بتعدد موجوداته..

ويستطرد الجيلي في شرح كفره وفجوره فيقول:

"وأما الثنوية فإنهم عبدوه من حيث نفسه تعالى، لأنه تعالى جمع الأضداد بنفسه، فشمل المراتب الحقية والمراتب الخلقية، وظهر في الوصفين بالحكمين، وظهر في الدارين بالنعتين، فما كان منسوباً إلى الحقيقة الحقية فهو الظاهر في الأنوار وما كان منسوباً إلى الحقيقة الخلقية فهو عبارة عن الظلمة، فعبدوا النور والظلمة لهذا السر الإلهي الجامع للوصفين والضدين والاعتبارين والحكمين كيف شئت من أي حكم شئت، فإنه سبحانه يجمعه وضده بنفسه.

فالثنوية عبدوه من حيث هذه اللطيفة الإلهية مما يقتضيه في نفسه سبحانه وتعالى، فهو المسمى بالحق، وهو المسمى بالخلق، فهو النور والظلمة" (ص125) أ.هـ.

بهذا الوضوح شرح الجيلي مذهب الفلاسفة الصوفية الزنادقة الملاحدة، وبهذا التفصيل والبيان يستطرد أيضاً قائلاً:

"وأما المجوس فإنهم عبدوه من حيث الأحدية، فكما أن الأحدية مفنية لجميع المراتب والأسماء والأوصاف، كذلك النار فإنها أقوى الاستقصاءات وأرفعها، فإنها مفنية لجميع الطبائع بمحاذاتها، لا تقاربها طبيعة إلا تستحيل إلى النارية لغلبة قوتها، فكذلك الأحدية لا يقابلها اسم ولا وصف إلا يندرج فيها ويضمحل، فلهذه اللطيفة عبدوا النار وحقيقتها ذاتها وتعالى".

فيجعل المجوس قسماً غير الثنوية والمعلوم أنهم قسم واحد فالثنوية القائلون بالنور والظلمة وإله للخير وإله للشر هم أيضاً المجوس عبدة النار التي يجعلونها ستاراً وعلامة لإلهم إله الخير في زعمهم ولكن الجيلي الملحد يجعل هؤلاء أيضاً عبدة النيران من أهل الحق والتوحيد وأن عبادتهم للنار حق أقوى العناصر وأرفعها ويقول والنار حقيقتها ذات الله تعالى. فأي كفر يا قوم في الأرض أعظم من هذا وأكبر.. ويمدح الجيلي المجوس فيقول:

"فلما انتشقت مشام أرواح المجوس لعطر هذا المسك زكمت عن شمه سواه فعبدوا النار وما عبدوا إلا الواحد القهار" أ.هـ (ص126).

فأي تصريح عن عقائد القوم أبلغ من هذا..

ثم يقول: "وأما الدهرية (أي الاسم) فإنهم عبدوه من حيث الهوية (الدهرية: هم القائلون بأنه لا إله والحياة مادة فما هي أرحام تدفع وأرض يبلع واسمهم هذا مأخوذ من قوله تعالى {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن إلا يظنون} (الجاثية:24)) فقال عليه السلام: [لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر]".

 قلت: هذا إبليس والزنادقة لم يصل إلى هذا الحد في الكفر فالمقصود بقول رسول الله [إن الله هو الدهر] هو أنه سبحانه وتعالى مقدر المقادير؛ فسب الأيام سب لله لأنه هو مقدر المقادير سبحانه وتعالى والزمان لا دخل له في ذلك. فنهانا الرسول صلى الله عليه وسلم عن سب الزمان لأن هذا من ثم يتوجه إلى الله سبحانه وتعالى. وليس مقصود الرسول حتماً أن الله هو الزمان لأن الله جل وعلا هو خالق الزمان والمكان والخالق غير المخلوق. وأما الدهرية فإنهم لا يؤمنون بإله أصلاً والجيلي يجعل هؤلاء الملاحدة عباداً لله.. انظر..

الغزالي - وطريق الكشف:

لعل من العجائب والغرائب أن يسقط رجل في طريق التصوف كالغزالي رحمه الله وعفا عنه. وعلى ما كان منه فقد كان من علماء الشريعة. ولكن لقصر باعه -رحمه الله- في علم السنة ومعرفة صحيح الحديث من ضعيفه فقد اغتر بما عليه الصوفية من ظاهرهم، وما يبدونه ويعلقونه من الورع والتقوى، ولما كان عنده من الفلسفة الأولى التي دخل في بطنها ولم يستطع الخروج منها على حد قول تلميذه الإمام ابن العربي المالكي رحمه الله فإنه قد دون للمتصوفة ما دون في كتابه إحياء علوم الدين. ومن ذلك ما نقله عنهم في زعمهم بالكشف حيث يقول:

"فالأنبياء والأولياء انكشف لهم الأمر، وفاض على صدورهم النور، لا بالتعليم والدراسة والكتابة للكتب، بل بالزهد في الدنيا والتبري من علائقها، وتفريغ القلب من شواغلها والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى. فمن كان لله، كان الله له - وزعموا أن الطريق في ذلك، أولاً بانقطاع علائق الدنيا بالكلية، وتفريغ القلب منها، وبقطع الهمة عن الأهل والمال والولد والوطن، وعن العالم والولاية والجاه، بل يصير قلبه إلى حالة يستوي فيها وجود الشيء وعدمه. ثم يخلوا بنفسه في زاوية مع الاقتصار على الفرائض والرواتب، ويجلس فارغ القلب، ولا يفرق فكره بقراءة قرآن، ولا بالتأمل في تفسيره، ولا يكتب حديثاً ولا غيره. بل يجتهد أن لا يخطر بباله شيء سوى الله تعالى. فلا يزال، بعد جلوسه في الخلوة، قائلاً بلسانه: الله.. الله.. على الدوام، مع حضور القلب، حتى ينتهي إلى حالة يترك تحريك اللسان ويرى كأن الكلمة جارية على لسانه. ثم يصير عليه إلى أن يمحي عن القلب صورة اللفظ وحروفه وهيئة الكلمة، ويبقي معنى الكلمة مجرداً في قلبه حاضراً فيه، كأنه لازم له، لا يفارقه، وله اختيار إلى أن ينتهي إلى هذا الحد، واختيار في استدامة هذه الحالة بدفع الوسواس. وليس له اختيار في استجلاب رحمة الله تعالى. بل هو بما فعله صار متعرضاً لنفحات رحمة الله، فلا يبقى إلا الانتظار لما يفتح الله من الرحمة، كما فتحها على الأنبياء والأولياء بهذه الطريق.

وعند ذلك إذا صدقت إرادته، وصفت همته، وحسنت مواظبته، فلم تجاذبه شهواته، ولم يشغله حديث النفس بعلائق الدنيا - تلمع لوامع الحق في قلبه، ويكون في ابتدائه كالبرق الخاطف ثم يلبث ثم يعود وقد يتأخر. وإن عاد فقد يثبت، وقد يكون مختطفاً. وإن ثبت قد يطول ثباته وقد لا يطول، وقد يتظاهر أمثاله على التلاحق وقد يقتصر على فن واحد.

ومنازل الأولياء الله تعالى فيه لا تحصر، كما لا يحصى تفاوت خلقهم وأخلاقهم - وقد رجع هذا الطريق إلى تطهير محض من جانبك، وتصفية وتجليات، ثم استعداد وانتظار فقط" أ.هـ

فانظر قول الغزالي عن الصوفي الذي يريد الوصول إلى الكشف (ويجلس فارغ القلب، مجموع الهم، ولا يفرق فكره بقراءة القرآن ولا بالتأمل في تفسير ولا يكتب حديثاً ولا غيره.. بل يقول.. الله الله على الدوام..) فهل وجد مثل هذا الأمر في كتاب أو سنة أو أنه عمل مبتدع يريد به صاحبه غاية لا تحصل له، وهي رؤية الله أو أنوار الله، أو الملائكة أو رسول الله؟!

وهل يرى الصوفي من وراء هذا الذكر المبتدع غير طوالع نار الشياطين، وبوارق كيدهم، ولوائح طلوعهم على من جعل له غاية غير غايات الدين وطريقاً غير طريق المؤمنين الذي سنه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسن لنا الرسول أن يجلس أحدنا في زاوية مظلمة ولا يجعل على خاطره شيئاً غير الله وينتظر أن ينزل عليه الوحي والكشف.. وبالطبع من جعل له غاية غير غايات الكتاب والسنة تلاعبت به الشياطين وظن أن ما تنزل عليه إنما هو من الله وما هو من الله.. والغزالي الذي قرر هذا الكلام للصوفية وساعد في نشر زندقتهم وكفرهم لم يتقدم فيما أعلمه خطوة أخرى وجعل من تنزل الملائكة على الصوفية وذلك فيما أظن وأعلم أن الرجل يعلم أن من قال بنزول الوحي عليه بعد النبي فقد كفر ولذلك أنكر الغزالي أن تكون الملائكة تنزل على الأولياء والصوفية كما تنزل على الأنبياء، واكتفى بما ذكرناه عنه آنفاً أن الأولياء والصوفية تشرق على قلوبهم هذه العلوم التي يقولونها إشراقاً من الغيب فضلاً من الله لهم ورحمة –في زعمه- بهم. لقد اكتفى الغزالي في تقريره الكشف الصوفي بإشراق العلوم في القلب وسماع الصوت أيضاً كما قال: "الخلوة لا تكون إلا في بيت مظلم فإن لم يكن له مكان مظلم فليلق رأسه بجيبه، أو يتدثر بكساء أو إبراز ففي مثل هذه الحالة يسمع نداء الحق ويشاهد جلال - الحضرة البوبية) (إحياء علوم الدين ج2 ص66).

وعلى الرغم من أن الغزالي جارى الصوفية في مزاعمهم هذه، وقرر ما ابتدعوه من الخلوة والظلام ولف الرأس وانتظار العلوم إلا أن إنكاره نزول الملك على الصوفي لم يعجب كبار الصوفية، وأهل الحقيقة منهم، ولذلك عنفوه وجهلوه وجعلوا هذا منه لقلة الذوق وعدم التحقق بنفسه وعدم مقابلته لمن هو أعلى منه مقاماً، وأحسن منه حالاً، وأنه لو التقى بمن هو أعظم منه وأكبر منه في هذا الطريق لعلم أن الملائكة ينزلون على أولياء الصوفية تماماً كما ينزلون على الأنبياء وأنه لا فرق إلا في نوع العلوم فقط لا في كيفية النزول ولذلك كتب عبدالوهاب الشعراني في كتابه اليواقيت والجواهر اعتراض الغزالي وإنكاره لنزول الملك على الصوفي وأتى بالجواب من ابن عربي الذي خطأ الغزالي ورد عليه في عدم جواز نزول الملك على الصوفي فقال:

"(فإن قلت) قد ذكر الغزالي في بعض كتبه أن من الفرق بين تنزل الوحي على قلب الأنبياء وتنزله على قلوب الأولياء نزول الملك فإن الولي يلهم ولا ينزل عليه قط، والنبي لا بد له من الوحي من نزول الملك به فهل ذلك صحيح؟

(فالجواب) كما قاله الشيخ في الباب الرابع والستين وثلاثمائة أن ذلك غلط والحق أن الكلام في الفرق بينهما إنما هو في كيفية ما ينزل به الملك لا في نزول الملك إذ الذي ينزل به الملك على الرسول أو النبي خلاف ما ينزل به الملك على الولي التابع فإن الملك لا ينزل على الولي التابع إلا بالاتباع لنبيه وبإفهام ما جاء به بما لم يتحقق له علمه كحديث قال العلماء بضعفه مثلاً فيخبره ملك الإلهام بأنه صحيح فللولي العمل به في حق نفسه بشروط يعرفها أهل الله عز وجل لا مطلقاً. وقد ينزل الملك على الولي ببشرى من الله بأنه من أهل السعادة كما قال تعالى في الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا؛ وهذا وإن كان إنما يقع عند الموت فقد يعجل الله تعالى به لمن يشاء من عباده *قال الشيخ: وسبب غلط الغزالي وغيره في منع تنزل الملك على الولي عدم الذوق وظنوا بأنهم قد علموا بسلوكهم جميع المقامات فلما ظنوا ذلك بأنفسهم ولم يروا ملك الإلهام نزل عليهم أنكروه وقالوا ذلك خاص بالأنبياء فذوقهم صحيح وحكمهم باطل مع أنهؤلاء الذين منعوا قائلون بأن زيادة الثقة مقبولة وأهل الله كلهم ثقات. قال ولو أن أبا حامد وغيره اجتمعوا في زمانهم بكامل من أهل الله وأخبرهم بتنزل الملك على الولي لقبلوا ذلك ولم ينكروه. قال وقد نزل علينا ملك الإلهام بما لا يحصى من العلوم وأخبرنا بذلك جماعات كثيرة ممن كان لا يقول بقولنا فرجعوا إلينا فيه ولله الحمد".

وهكذا يقرر ابن عربي، الفيلسوف الصوفي والذي يسمونه الشيخ الأكبر، جواز، بل وقوع نزول الملائكة على شيوخ الصوفية وأن هذا قد وقع له ومد لمشايخ  كثيرين ممن هم على شاكلته من أهل الكذب والزيغ. وإليك في الفصل الآتي طائفة من كلام ابن عربي في هذا الصدد:

ابن عربي والكشف الصوفي:

لم أطلع فيما اطلعت على كاتب صوفي أكثر تبجحاً فيما زعمه من العلم الباطني أكثر من ابن عربي الأندلسي الأصل، المغربي، ثم الشامي، سكناً ووفاة.

لقد ملأ هذا الكاتب كتبه مدحاً لنفسه، وأنه لا يستطيع أحد مجاراته قط. فقد زعم لنفسه الإطلاع على كل ما سطره الفلاسفة قديماً وما كتبه اليهود والنصارى.. والمطالع لكتبه يجد هذا واضحاً جداً في مؤلفاته فقد ادعى لنفسه ختم الولاية الكبرى الخاصة وأنه خاتم الأولياء كما كان محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، وكان في هذا الكذب متبعاً لمن سبقه ممن ادعى ختم الولاية كالترمذي الذي يسمونه الحكيم وهو محمد بن علي الترمذي.. وادعى لنفسه العلم الكامل المحيط بالقرآن والسنة، وأن تآليفه كلها معصومة من الخطأ، وأنه لا يكتب شيئاً إلا عن وحي يوحى، بل زعم أن أبواب كتابه الفتوحات المكية توقيفي يتبع فيه ما يوحى إليه وليس له يد في ترتيب فصوله وأبوابه..

وأنه أحياناً يتكلم بشيء بعد شيء لا رابط بينهما كما نزل في القرآن {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين} بعد آيات الطلاق ولا رابط بينهما.. وأن علومه كلها محفوظة من الخطأ. وإليك نصوص عباراته في ذلك كما جمعها الصوفي الكبير عبدالوهاب الشعراني من ثنايا كتاب (الفتوحات المكية) وضمنها عبدالوهاب في كتاب أسماه اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الكبائر:

"قال في الباب السادس والستين وثلاثمائة من الفتوحات المكية جميع ما أتكلم به في مجالسي وتآليفي إنما هو من حضرة القرآن العظيم فإني أعطيت مفاتيح العلم فلا أستمد قط في علم من العلوم إلا منه كل ذلك حتى لا أخرج من مجالسة الحق تعالى في مناجاته بكلامه أو بما تضمنه كلامه *وقال في الكلام على الآذان من الفتوحات: اعلم أني لم أقرر بحمد الله تعالى في كتابي هذا ولا غيره قط أمراً غير مشروع، وما خرجت عن الكتاب والسنة في شيء من تصانيفي *وقال في الباب السادس والستين وثلاثمائة: جميع ما أكتبه في تصانيفي ليس هو عن فكر ولا روية وإنما هو عن نفث في روعي من ملك الإلهام *وقال في الباب السابع والستين وثلاثمائة ليس عندي بحمد الله تقليد لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلومنا كلها محفوظة من الخطأ *وقال في الباب العاشر من الفتوحات: نحن بحمد الله لا نعتمد في جميع ما نقوله إلا على ما يلقيه الله تعالى في قلوبنا لا على ما تحتمله الألفاظ *وقال في الباب الثالث والسبعين وثلاثمائة: جميع ما كتبته وأكتبه إنما هو عن إملاء إلهي وإلقاء رباني أو نفث روحاني في روع كياني كل ذلك لي بحكم الإرث لا بحكم الاستقلال فإن النفث في الروع منحط عن رتبة وحي الكلام ووحي الإشارة والعبارة ففرق يا أخي بين وحي الكلام ووحي الإلهام تكن من العلماء الأعلام *وقال في الباب السابع والأربعين من الفتوحات: اعلم أن علومنا وعلوم أصحابنا ليست من طريق الفكر وإنما هي من الفيض الإلهي *وقال في الباب السادس والأربعين ومائتين: منها جميع علومنا من علوم الذوق لا من علم بلا ذوق فإن علوم الذوق لا تكون إلا عن تجل إلهي والعلم قد يحصل لنا بنقل المخبر الصادق وبالنظر الصحيح *وقال في الباب التاسع والثمانين منها والباب الثامن والأربعين وثلاثمائة: اعلم أن ترتيب أبواب الفتوحات لم يكن عن اختيار مني ولا عن نظر فكري وإنما الحق تعالى يملي لنا على لسان ملك الإلهام جميع ما نسطره وقد نذكر كلاماً بين كلامين لا تعلق له بما قبله ولا بعده كما في قوله تعالى حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى بين آيات طلاق ونكاح وعدة ووفاة تتقدمها وتتأخر عنها انتهى وأطال في ذلك *وقال في الباب الثامن من الفتوحات: اعلم أن العارفين رضي الله تعالى عنهم لا يتقيدون في تصانيفهم بالكلام فيما بوبوا عليه فقط وذلك لأن قلوبهم عاكفة على باب الحضرة الإلهية مراقبة لما يبرز لهم منها فمهما برز لهم كلام بادروا إلى إلقائه على حسب ما حد لهم فقد يلقون الشيء إلى ما ليس في جنسه امتثالاً لأمر ربهم وهو تعالى يعلم حكمة ذلك. انتهى. فهذه النقول تدل على أن كلام الكمل لا يقبل الخطأ من حيث هو والله أعلم" (اليواقيت والجواهر ص24،25 ج2).

وفي نص آخر، يقرر الشعراني ما زعمه شيخه ابن عربي في أنه لا فرق بين وحي الأولياء وحي الأنبياء إلا أن وحي الأنبياء تشريع جديد، وأما الأولياء فإن وجهتهم كشف وعلم واتباع لمشرع الأنبياء..

"وقال في الباب الثالث والخمسين وثلاثمائة: اعلم أنه لم يجيء لنا خبر إلهي أن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحي تشريع أبداً إنما لنا وحي الإلهام. قال تعالى ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك ولم يذكر أن بعده وحياً أبداً. وقد جاء الخبر الصحيح في عيسى عليه السلام وكان ممن أوحي إليه قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا نزل آخر الزمان لا يؤمنا إلا بنا أي بشريعتنا وسنتنا مع أن له الكشف التام إذا نزل زيادة على الإلهام الذي يكون له كما الخواص من هذه الأمة.

(فإن قلت) فإذن الإلهام خبر إلهي (فالجواب) نعم وهو كذلك إذ هو إخبار من الله تعالى للعبد على يد ملك مغيب عن الملهم.

(فإن قلت) فهل يكون إلهام بلا وساطة أحد (فالجواب) نعم قد يلهم العبد من الوجه الخاص الذي بين كل إنسان وربه عز وجل فلا يعلم به ملك الإلهام لكن علم هذا الوجه يتسارع إلى إنكاره ومنه إنكار موسى على الخضر عليهما الصلاة والسلام وعذر موسى في إنكاره أن الأنبياء ما تعودوا أخذ أحكام شرعهم إلا على يد ملك لا يعرف شرعاً من غير هذا الطريق فعلم أن الرسول والنبي يشهدان الملك ويريانه رؤية بصر عندما يوحي إليهما وغير الرسول يحس بأثره ولا يراه فيلهمه الله تعالى بوساطته ما شاء أن يلهمه أو يعطيه من الوجه الخاص بارتفاع الوسائط وهو أجل الإلقاء، وأشرفه إذا حصل الحفظ لصاحبه ويجتمع في هذا الرسول والولي أيضاً" أ.هـ (اليواقيت والجواهر ص84 ج2).

وقول ابن عربي هنا "أو يلهمه أو يعطيه من الوجه الخاص بارتفاع الوسائط (أي بين الولي والله) وهو أي هذا الإلقاء بهذه الطريقة أجل الإلقاء وأشرفه –إذا حصل الحفظ لصاحبه- ويجتمع في هذا الرسول والولي أيضاً.." أ.هـ.. فانظر كيف جعل الولي كالنبي في تلقي الإلقاء الخاص من الله بلا وساطة ولم يكتف ابن عربي بتقرير هذا أيضاً بل راح يزعم أن هناك صورة أخرى للوحي للأولياء وهي انطباع صورة ما يريده الله في ذهن الولي قال الشعراني:

"(فإن قلت) فما حقيقة الوحي (فالجواب) كما قال الشيخ في الباب الثالث والسبعين من الفتوحات أن حقيقته هو ما تقع به الإشارة القائمة مقام العبارة في غير عبارة إذ العبارة يتوصل منها إلى المعنى المقصود منها ولهذا سميت عبارة بخلاف الإشارة التي هي الوحي فإنها ذات المشار إليه والوحي هو المفهوم الأول والإفهام الأول ولا عجب من أن يكون عين الفهم عين الإفهام عين المفهوم منه فإن لم يحصل لك يا أخي معرفة هذه النكتة فليس لك نصيب من معرفة علم الإلهام الذي يكون للأولياء. ألا ترى أن الوحي هو السرعة ولا أسرع مما ذكرناه انتهى.

(فإن قلت) فما صورة تنزل وحي الإلهام على قلوب الأولياء (فالجواب) صورته أن الحق تعالى إذا أراد أن يوحي إلى ولي من أوليائه بأمر ما تجلى إلى قلب ذلك الولي في صورة ذلك الأمر فيفهم من ذلك الولي التجلي بمجرد مشاهدته ما يريد الحق تعالى أن يعلم ذلك الولي به من تفهيم معاني كلامه أو كلام نبيه صلى الله عليه وسلم علم في الضر به باليد الإلهية، كما يليق بجلاله تعالى وكما وجد العلم في شربة اللبن ليلة الإسراء. ثم إن من الأولياء من يشعر بذلك ومنهم من لا يشعر بل يقول وجدت كذا وكذا في خاطري ولا يعلم من أتاه به ولكن من عرفه فهو أتم لحفظه حينئذ من الشيطان وأطال في ذلك في الباب الثاني عشر وثلاثمائة* (اليواقيت والجواهر ص84 ج2).

ويعني بالقربة الإلهية حديث النبي صلى الله عليه وسلم الثابت في مسند أحمد: رأيت ربي الليلة في أحسن صورة فقال لي يا محمد: [فيم يختصم الملأ الأعلى] فقلت: [الله أعلم] فوضع رب العزة يده على ظهري حتى وجدت بردها في صدري فرأيت السماوات فقلت: [يا ربي في الكفارات والدرجات..] الحديث. ويعني ابن عربي بذلك أنه كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم ارتفع عنه الحجاب عندما وضع يده سبحانه على الكيفية التي شاءها سبحانه -على ظهر النبي فرأى النبي لذلك الملأ الأعلى وهم الملائكة- يختصمون أي يتناقشون في الكفارات والدرجات أي ما يكفر الذنوب لبني آدم، وما يعلي درجاتهم فقال الله سبحانه وتعالى مجيباً بعد رؤيته للملائكة وسماعه لحديثهم أما الكفارات فهي إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة.. وأما الدرجات فهي إطعام الطعام وإلانة في الكلام والصلاة بالليل والناس نيام..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق