الأربعاء، 19 أغسطس 2015

الرد على الصوفية7=================

الأمر إلى تأليه أبي مسلم الخراساني، كما فعلوا مع أئمة الشيعة من العلويين. يضاف إلى ذلك أنهم نصروا حركة عبدالله بن معاوية في فارس أيضاً وأسبغوا عليه النور الإلهي الذي سنجده في التصوف واضحاً جلياً. وهذا كله يعني أن الفرس قد بدؤوا إضافة القداسة إلى البيت النبوي باعتبارها أساساً موازياً لأسسهم السياسية والدينية السابقة من تأليههم الملوك، وقولهم بالنور الذي ينتقل من ملك إلى آخر، فثبتت الولاية لعلي بن أبي طالب على نحو مبالغ فيه، وانتقلت هذه الولاية المقدسة مع زيادات وإضافات وحواش إلى الأئمة من بعده حتى بلغ الأمر حد التأله" (الصلة بين التصوف والتشيع ص341-343).
وهذه الشهادات تعني في الجملة أن التصوف والتشيع عند الإيرانيين كان دائماً وسيلة إلى غاية ولم يكن عقيدة وانتحالاً خالصاً، وهذا يصل إليه الدكتور كامل الشيبي في خلاصة بحثه حيث يقول:
"وقد استعان المختار بالوالي لأول مرة في تاريخ التشيع وكان ذلك من أسباب فشل حركته، وانفضاض العرب عنه، ويجب أن نلاحظ هنا أن دور الفرس في التشيع المبكر كان مؤقتاً فقد انصرفوا من بعد المختار إلى موالاة العباسيين وعادوا إلى التشيع من جديد بعد أن نزلت بهم ضربة السفاح أولاً. ثم المنصور ثم الرشيد. بل لقد وجدناهم يمنعون العلويين الخلافة حين تسلم البويهيون أزمة الحكم من العباسيين. وبهذا يتبين لنا أن دور الفرس في التشيع بل في الإسلام كان مجرد وسيلة لاستعادة المجد القديم، وإلغاء التسلط العربي عن كواهلهم" (الصلة بين التصوف، لكامل الشيبي ص101).

الباب السادس
أئمة الإسلام والتصوف
في هذا الباب نجمع طائفة من كلام علماء المسلمين قديماً وحديثاً لبيان مواقفهم من التصوف:
1- لم تعرف كلمة التصوف قط في عصر الصحابة ولا التابعين ولم يكن هناك بتاتاً من يسمى بالمتصوف، ولذلك فالتصوف بدعة منكرة لم تظهر إلا في أواخر القرن الثاني الهجري، ولذلك لم يدركها الإمامان أبو حنيفة ومالك رضي الله عنهما.
الإمام الشافعي:
وأما الإمام الشافعي  فقد أدرك بدايات التصوف وكان من أكثر العلماء والأئمة إنكاراً عليهم. وقد كان مما قاله في هذا الصدد: "لو أن رجلاً تصوف أول النهار لا يأتي الظهر حتى يصير أحمق".
وقال أيضاً: "ما لزم أحد الصوفيين أربعين يوماً فعاد عقله أبداً، وأنشد:
ودعوا الذين إذا أتوك تنسكو  وإذا خلوا كانوا ذئاب خفاف
(تلبيس إبليس ص371)
وقال أيضاً عندما سافر إلى مصر: "تركت ببغداد وقد أحدث الزنادقة شيئاً يسمونه السماع" (يعني الغناء والرقص الذي ابتدعه الصوفية في القرن الثاني وما زال مسلكهم إلى اليوم).
الإمام أحمد بن حنبل:
وأما الإمام أحمد بن حنبل فقد كان لهم بالمرصاد فقد قال فيما بدأ الحارث المحاسبي يتكلم فيه وهو الوساوس والخطرات. قال أحمد: "ما تكلم فيها الصحابة ولا التابعون". وحذر من مجالسة الحارث المحاسبي وقال لصاحب له: "لا أرى لك أن تجالسهم". وذكر أبو بكر الخلال في كتاب السنة عن أحمد بن حنبل أنه قال:
"حذروا من الحارث أشد التحذير!! الحارث أصل البلبلة -يعني في حوادث كلام جهم- ذاك جالسه فلان وفلان وأخرجهم إلى رأي جهم ما زال مأوى أصحاب الكلام. حارث بمنزلة الأسد المرابط انظر أي يوم يثب على الناس!!" (تلبيس إبليس 166-167).
وهذا الكلام من الإمام أحمد يكشف فيه القناع أيضاً عن أن الحارث المحاسبي الذي تسربل ظاهراً بالزهد والورع والكلام في محاسبة النفس على الخطرات والوساوس كان هو المأوى والملاذ لأتباع جهم بن صفوان المنحرفين في مسائل الأسماء والصفات والنافين لها، وهكذا كان التصوف دائماً هو الظاهر الخادع للحركات والأفكار الباطنية. ولذلك وقف الإمام أحمد لهؤلاء الأشرار الظاهرين منهم والمتخفين بالزهد والورع وأمر بهجر الحارث المحاسبي وشدد النكير عليه فاختفى الحارث إلى أن مات. (تلبيس إبليس 167).
الإمام أبو زرعة الدمشقي:
وجاء بعد الإمام أحمد بن حنبل الإمام أبو زرعة رحمه الله فقال أيضاً عن كتب الحارث المحاسبي وقد سأله سائل عنها: "إياك وهذه الكتب هذه كتب بدع وضلالات. عليك بالأثر فإنك تجد فيه ما يغنيك عن هذه الكتب. قيل له: في هذه الكتب عبرة. بلغكم أن مالك بن أنس وسفيان الثوري والأوزاعي والأئمة المتقدمين صنفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس وهذه الأشياء هؤلاء (يعني الصوفية) قوم خالفوا أهل العلم يأتوننا مرة بالحارث المحاسبي، ومرة بعبدالرحيم الدبيلي ومرة بحاتم الأصم ومرة بشقيق البلخي ثم قال: ما أسرع الناس إلى البدع" أ.هـ (تلبيس إبليس ص166-167).
الإمام أبو اليسر محمد بن محمد بن عبدالكريم البزودي المتوفي سنة 478هـ ببخارى:
قال في كتابه (أصول الدين) عند التعريف بالتصوف: "وأما (الصوفية) فأكثرهم من (أهل السنة والجماعة). وفيهم من يكون صاحب الكرامة، إلا أنه قد ظهر فيهم مذاهب ردية أكثرها ضلال وبدعة. منهم (الحبية) يقولون: إن الله تعالى إذا أحب عبداً رفع عنه الخطاب فيحل له كل النعم ويسقط عنه العبادات ولا يبقى في حقه حظر فلا يصلون ولا يصومون ولا يسترون العورة، ولا يمنعون عن الزنا وشرب الخمر، ولا عن اللواطة ولا عن محظور ما.
ومنهم (الأوليائية) يقولون: إن الولي أفضل من النبي والرسول من الآدميين والملائكة جميعاً. ويقولون: إن الرسول دون المرسل إليه ودون المرسل، على هذا رأينا عادات الأكابر. وهؤلاء يقولون أيضاً: إذا بلغ الإنسان في العبادة الدرجة القصوى وفي الولاية الرتبة العليا لا يبقى في حقه خطاب الإيجاب ولا خطاب الحظر ويحل له كل شيء.
ومنهم (الإباحتية) يقولون: الأموال كلها على الإباحة، وكذا الفروج وليس للملاك إلا مجرد الاكتساب، ويستبيحون أموال الناس وفروج نسائهم.
ومنهم (الحلولية) وهم قوم يستبيحون الرقص والغناء والنظر إلى الشاب الأمرد المليح الصبيح، ويقولون قد حلت بهذا الأمرد الصبيح صفة من صفات البارئ، فنحن نحبه ونعانقه لأجل تلك الصفة.
ومنهم (الحورية) يقولون باستباحة الرقص والغناء والمبالغة في الرقص حتى يسقطون على الأرض من كثرة الإتعاب في الرقص، ثم يقومون ويغتسلون ويقولون إن الحور العين يحضرن (الحق أنهم كانوا ينسبون في هذا الوقت إلى أهل السنة والجماعة وكان هذا ظاهرهم ولكنهم في الحقيقة كانوا زنادقة في الباطن يضمرون عقائد الباطنية كما شرح البزدوي نفسه أحوالهم)، ونجامعهن وكأن إبليس جامعهم لشر صنيعتهم.
ومنهم (الواقفية) يقولون: إنه لا يمكن معرفة الله تعالى، وتوقفوا في معرفة الله تعالى، وقالوا أبياتاً في الفارسية والعربية فيها:
تراكه داندكي            تراتو داني تو
ترانداند كس             تراتو داني بس
وقال آخر:
تاتوتوي زعلت خالي ني          يا باعلل ومحك ويرا مجوي
وقال آخر:
جه خبر فهم وه، را ازتو                 بحقيقت تراتو داني تو
روح وقلب وخردبتوا محدث               محدثات تراجه علم ازتو
وللآخر بالعربية:
لا يعرف الحق إلا من يعرفه               لا يعرف  القديم المحدث الفاني
(الشطر الثاني من البيت جاء مكسور الوزن)
وقالوا: إن العجز عن المعرفة هو المعرفة.
ومنهم (المتجاهلة) وهم قوم يضربون المزامير ويشربون الخمر ويأتون ببعض الفواحش ويلبسون ثياب الفسقة ويقولون: ترك الإرادة واجب فبمثل هذا تترك الإرادة.
ومنهم (المتكاسلة) رضوا بملء البطن من الطعام حراماً كان أو حلالاً يأكلون ما يجدون حراماً أو حلالاً، ويسكنون في الحانات لا يكسبون بل ينامون في غالب الأزمان ويصلون قليلاً قليلاً، ويأكلون كثيراً إن وجدوه ويرقصون إن وجدوا قارياً (أي مضيفاً من القرى بمعنى الضيافة)، واختاروا الكسل ولا يتعلمون شيئاً ولا يتزوجون إلا أنهم لا يعتقدون مذهباً ردياً ولا ينازعون مع أحد فهؤلاء لا بأس بهم. ومنهم العامة الأتقياء البررة، وأصحاب الكرامات يكونون أبداً على الطهارة ويتبعون سنن النبي صلى الله عليه وسلم في المشرب والمأكل واللباس والكلام والنيام والعبادة إلا أنهم تركوا سنته في تبليغ الوحي، وفوضوا ذلك إلى العلماء. وينبغي أن يترك الإنسان الطعن في الصوفية ويقطع لسانه عنهم (قلت كيف يجب ذلك وهذه هي أحوالهم بل يجب الإنكار عليهم)، فإن فيهم خيار الأمة، وإنما ذكرت هؤلاء لأنه ظهر في بلادنا بعض هؤلاء خصوصاً بديار فرغانة قد يحضرون بخاراً أحياناً ثم يخرجون إذا علمناهم فهؤلاء (الأوليائية) و(الحبية) شر عباد الله مال مذهبهم إلى الزندقة.
وفي (الصوفية) قوم يدعون الإلهام يقولون: حدثني قلبي عن ربي، ثم يذكرون بعض ما وضعه (القرامطة) من الإشارات الفاسدة بالألفاظ الهائلة يغرون بهم العامة، وجعلوا ذلك مكسبة لأنفسهم وأنكروا الشرائع أجمع، شر خليقة الله تعالى، وواحد من هؤلاء الصوفية حضر بلدة بخارى سنة ثمان وسبعين وأربع مائة، وجمع (الصوفية) وبعض (أصحاب الشافعي) على نفسه، وكنت خرجت من بلدة بخارى إلى بعض قراها فلما حضرت أخبروني بحضوره، وكان قبل ذلك يعتقد مذهب (أبي حنيفة) ويميل إلى الاعتزال، فبعثت إليه اثنين من أصحابي قلت لهما: قولا له لم تركت مذهب (أبي حنيفة) وأخرجت هذه البدع. فقال: ما تركته؛ فقلت لهما: قولا له لماذا ترفع اليدين عند الركوع وعند رفع الرأس من الركوع فاضطر إلى كشف سريرته الخبيثة فقال: ظهر لي ما لو ظهر لكم ترفعون أيديكم فقلت لهما: قولا له ماذا ظهر لك هل تقدر على إظهاره أو لا تقدر فإن كنت تقدر على إظهاره فأظهر وإن كنت لا تقدر على إظهاره فذلك بدعة عجزت عن إظهارها، ثم قلت لهما: قولا له إنا على الطريقة التي كان عليها الرسل والأنبياء والصالحون من الفقهاء من جميع الأعصار وأتقياؤهم وأولياؤهم وقراؤهم وأنت أيها التلبيس (هكذا بالأصل) الضال الغاوي المغوي أعرضت عن طريقة هؤلاء وسلكت طريقة إبليس وهو طريقة (الروافض) و(القرامطة) فعند ذلك فر من بلدة بخارى ونواحيها فرار القرود من الأسود والهنود والقيود. وقد أخبرني واحد من فقهائنا أنه سأل هذا المبتدع لم تركت مذهب (أبي حنيفة) وترفع اليدين عند الركوع وعند رفع الرأس من الركوع، فقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه صلى الله عليه وسلم وغيرهم ويرفعون أيديهم عند الركوع وعند رفع الرأس من الركوع (بالرغم من أن السنة هي رفع اليدين عند الركوع والرفع منه إلا أن احتجاج الصوفي بأنه يرى الرسول يفعل ذلك يقظة تلبيس وزندقة وكذب على الرسول وقد زعموا أيضاً أنه أعني الرسول يحضر مجالس سماعهم وموالدهم، بل وديوانهم في حراء الذي يزعمون أنه تقدر فيه المقادير) فقال: قلت له رأيت في المنام قال: بل في اليقظة" انتهى بلفظه.
الإمام ابن الجوزي:
وأما الإمام أبو الفرج عبدالرحمن بن الجوزي البغدادي المتوفي سنة 597هـ فقد كتب كتاباً فريداً سماه (تلبيس إبليس) خص الصوفية بمعظم فصوله وبين تلبيس الشيطان عليه وكان مما ذكره هذه الصفحات:
"وكان أصل تلبيسه عليهم أنه صدهم عن العلم وأراهم أن المقصود العمل فلما أطفأ مصباح العلم عندهم تخبطوا في الظلمات. فمنهم من أراه أن المقصود من ذلك ترك الدنيا في الجملة فرفضوا ما يصلح أبدانهم. وشبهوا المال بالعقارب، ونسوا أنه خلق للمصالح وبالغوا في الحمل على النفوس حتى إنه كان فيهم من لا يضطجع. وهؤلاء كانت مقاصدهم حسنة غير أنهم على غير الجادة. وفيهم من كان لقلة علمه يعمل بما يقع إليه من الأحاديث الموضوعة وهو لا يدري. ثم جاء أقوام يتكلمون لهم في الجوع والفقر الوساوس والحظوات وصنفوا في ذلك مثل الحارث المحاسبي. وجاء آخرون فهذبوا مذهب التصوف وأفردوه بصفات ميزوه بها من الاختصاص بالمرقعة والسماع والوجد والرقص والتصفيف وتميزوا بزيادة النظافة والطهارة. ثم مازال الأمر ينمى والأشياخ يضعون لهم أوضاعاً ويتكلمون بواقعاتهم. ويتفق بعدهم عن العلماء لا بل رؤيتهم ما هم فيه أو في العلوم حتى سموه العلم الباطن وجعلوا علم الشريعة العلم الظاهر.
ومنهم من خرج به الجوع إلى الخيالات الفاسدة فادعى عشق الحق والهيمان فيه كأنهم تخايلوا شخصاً مستحسن الصورة فهاموا به، وهؤلاء بين الكفر والبدعة، ثم تشعبت بأقوام منهم الطرق، ففسدت عقائدهم، فمن هؤلاء من قال بالحلول ومنهم من قال بالاتحاد. وما زال إبليس يخبطهم بفنون البدع حتى جعلوا لأنفسهم سنناً، وجاء أبو عبدالرحمن السلمي فصنف لهم كتاب السنن، وجمع لهم حقائق التفسير، فذكر عنهم فيه العجب في تفسيرهم القرآن بما يقع لهم من غير إسناد ذلك إلى أصل من أصول العلم. وإنما حملوه على مذاهبهم. والعجب من ورعهم في الطعام وانبساطهم في القرآن. وقد أخبرنا أبو منصور عبدالرحمن القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب قال: قال لي محمد بن يوسف القطان النيسابوري، قال: كان أبو عبدالرحمن السلمي غير ثقة، ولم يكن سمع من الأصم إلا شيئاً يسيراً فلما مات الحاكم أبو عبدالله بن البيع حدث عن الأصم بتاريخ يحيى بن معين وبأشياء كثيرة سواه. وكان يضع للصوفية الأحاديث.
قال المصنف: وصنف لهم أبو نصر السراج كتاباً سماه لمع الصوفية ذكر فيه من الاعتقاد القبيح والكلام المرذول ما سنذكر منه جملة إن شاء الله تعالى. وصنف لهم أبو طالب المكي قوت القلوب فذكر فيه الأحاديث الباطلة ومالا يستند فيه إلى أصل من صلوات الأيام والليالي وغير ذلك من الموضوع وذكر فيه الاعتقاد الفاسد. وردد فيه قول - قال بعض المكاشفين- وهذا كلام فارغ وذكر فيه عن بعض الصوفية أن الله عز وجل يتجلى في الدنيا لأوليائه. أخبرنا أبو منصور القزاز أخبرنا أبو بكر الخطيب قال: قال أبو طاهر محمد بن العلاف. قال: دخل أبو طالب المكي إلى البصرة بعد وفاة أبي الحسين بن سالم فانتمى إلى مقالته وقدم بغداد فاجتمع الناس عليه في مجلس الوعاظ فخلط كلامه فحفظ عنه أنه قال: ليس على المخلوق أضر من الخالق. فبدعة الناس وهجروه فامتنع من الكلام على الناس بعد ذلك، قال الخطيب: وصنف أبو طالب المكي كتاباً سماه قوت القلوب على لسان الصوفية وذكر فيه أشياء منكرة مستشبعة في الصفات.
قال المصنف: وجاء أبو نعيم الأصبهاني فصنف لهم كتاب الحلية. وذكر في حدود التصوف أشياء منكرة قبيحة ولم يستح أن يذكر في الصوفية أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وسادات الصحابة رضي الله عنهم. فذكر عنهم فيه العجب وذكر منهم شريحاً القاضي والحسن البصري وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وكذلك ذكر السلمي في طبقات الصوفية وإبراهيم بن أدهم ومعروفاً الكرخي وجعلهم من الصوفية بأن أشار إلى أنهم من الزهاد.
فالتصوف مذهب معروف يزيد على الزهد ويدل على الفرق بينهما أن الزهد لم يذمه أحد وقد ذموا التصوف على ما سيأتي ذكره وصنف لهم عبدالكريم بن هوازن القشيري كتاب الرسالة فذكر فيها العجائب من الكلام في الفناء والبقاء، والقبض، والبسط، والوقت، والحال والوجد والوجود، والجمع، والتفرقة، والصحو، والسكر، والذوق، والشرب، والمحو، والإثبات، والتجلي، والمحاضرة، والمكاشفة، واللوائح، والطوالع، واللوامع، والتكوين، والتمكين والشريعة، والحقيقة، إلى غير ذلك من التخليط الذي ليس بشيء وتفسيره أعجب منه، وجاء محمد بن طاهر المقدسي فصنف لهم صفة التصوف فذكر فيه أشياء يستحي العاقل من ذكرها سنذكر منها ما يصلح ذكره في مواضعه إن شاء الله تعالى.
وكان شيخنا أبو الفضل بن ناصر الحافظ يقول: كان ابن طاهر يذهب مذهب الإباحة، قال: وصنف كتاباً في جواز النظر إلى المراد أورد فيه حكاية عن يحيى بن معين، قال: رأيت جارية بمصر مليحة صلى الله عليها. فقيل له تصلي عليها، فقال صلى الله عليها وعلى كل مليح، قال شيخنا ابن ناصر: وليس ابن طاهر بمن يحتج به، وجاء أبو حامد الغزالي فصنف لهم كتاب الإحياء على طريقة القوم وملأه بالأحاديث الباطلة وهو لا يعلم بطلانها، وتكلم في علم المكاشفة وخرج عن قانون الفقه. وقال: إن المراد بالكوكب والشمس والقمر اللواتي رآهن إبراهيم صلوات الله عليه أنوار هي حجب الله عز وجل ولم يرد هذه المعروفات. وهذا من جنس كلام الباطنية. وقال في كتابه المفصح بالأحوال: إن الصوفية في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتاً ويقتبسون منهم فوائد، ثم يترقى الحال من مشاهدة الصورة إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق.
قال المصنف: وكان السبب في تصنيف هؤلاء مثل هذه الأشياء قلة علمهم بالسنن والإسلام والآثار وإقبالهم على ما استحسنوه من طريقة القوم. وإنما استحسنوها لأنه قد ثبت في النفوس مدح الزهد وما رأوا حالة أحسن من حالة هؤلاء القوم في الصورة ولا كلاما أرق من كلامهم. وفي سير السلف نوع خشونة، ثم إن ميل الناس إلى هؤلاء القوم شديد لما ذكرنا من أنها طريقة ظاهرها النظافة والتعبد وفي ضمنها الراحة والسماع والطباع تميل إليها. وقد كان أوائل الصوفية ينفرون من السلاطين والأمراء فصاروا أصدقاء (أي بعد أن صار التصوف حرفة وتكسباً صاحبوا الأمراء والسلاطين).
وجمهور هذه التصانيف التي صنفت لهم لا تستند إلى أصل وإنما هي واقعات تلقفها بعضهم عن بعض ودونوها وقد سموها بالعلم الباطن. والحديث بإسناد إلى أبي يعقوب إسحق بن حية قال سمعت أحمد بن حنبل وقد سئل عن الوساوس والخطرات. فقال: ما تكلم فيها الصحابة ولا التابعون.
قال المصنف: وقد روينا في أول كتابنا هذا عن ذي النون نحو هذا، وروينا عن أحمد بن حنبل أن سمع كلام الحارث المحاسبي. فقال لصاحب له. لا أرى لك أن تجالسهم. وعن سعيد بن عمرو البردعي، قال شهدت أبا زرعة، وسئل عن الحارث المحاسبي وكتبه، فقال للسائل: إياك وهذه الكتب. هذه الكتب كتب بدع وضلالات، عليك بالأثر فإنك تجد فيه ما يغنيك عن هذه الكتب. وقيل له. في هذه الكتب عبرة. قال: من لم يكن له في كتاب الله عز وجل عبرة فليس له في هذه الكتب عبرة. بلغكم أن مالك بن أنس، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والأئمة المتقدمة، صنفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس وهذه الأشياء هؤلاء قوم خالفوا أهل العلم يأتوننا مرة بالحارث المحاسبي ومرة بعبدالرحيم الدبيلي ومرة بحاتم الأصم ومرة بشقيق، ثم قال: ما أسرع الناس إلى البدع.
أخبرنا محمد بن عبد الباقي ثنا أبو محمد رزق الله بن عبدالوهاب التميمي عن أبي عبدالرحمن السلمي قال: أول من تكلم في بلدته في ترتيب الأحوال ومقامات أهل الولاية ذو النون المصري فأنكر عليه ذلك عبدالله بن عبدالحكم وكان رئيس مصر وكان يذهب مذهب مالك وهجره لذلك علماء مصر لما شاع خبره أنه أحدث علماً لم يتكلم فيه السلف حتى رموه بالزندقة. قال السلمي: وأخرج أبو سليمان الداراني من دمشق. وقالوا إنه يزعم أنه يرى الملائكة وأنهم يكلمونه، وشهد قوم على أحمد بن أبي الحواري: إنه يفضل الأولياء على الأنبياء فهرب من دمشق إلى مكة، وأنكر أهل بسطام على أبي يزيد البسطامي ما كان يقول حتى إنه ذكر للحسين بن عيسى أنه يقول: لي معراج كما كان للنبي صلى الله عليه وسلم معراج فأخرجوه من بسطام، وأقام بمكة سنتين ثم رجع إلى جرجان فأقام بها إلى أن مات الحسين بن عيسى ثم رجع إلى بسطام، قال السلمي: وحكى رجل عن سهلي بن عبدالله التستري أنه يقول: إن الملائكة والجن والشياطين يحضرونه وإنه يتكلم عليهم فأنكر ذلك عليه العوام حتى نسبوه إلى القبائح فخرج إلى البصرة فمات بها، قال السلمي: وتكلم الحارث المحاسبي في شيء من الكلام والصفات فهجره أحمد بن حنبل فاختفى إلى أن مات.
قال المصنف: وقد ذكر أبو بكر الخلال في كتاب السنة عن أحمد بن حنبل أنه قال: حذروا من الحارث أشد التحذير، الحارث أصل البلية يعني في حوادث كلام جهم ذاك جالسه فلان وفلان وأخرجهم إلى رأي جهم ما زال مأوى أصحاب الكلام، حارث بمنزلة الأسد المرابط انظر أي يوم يثب على الناس" (تلبيس إبليس 167/163). انتهى منه بلفظه.
الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية:
وأما الإمام ابن تيمية رحمه الله فقد كان من أعظم الناس بياناً لحقيقة التصوف، وتتبعاً لأقوال الزنادقة والملحدين منهم وخاصة ابن عربي، والتلمساني، وابن سبعين.
فتعقب أقوالهم وفضح باطنهم وحذر الأمة من شرورهم وذلك في كتبه ومؤلفاته الكثيرة وفي فتاويه، وكذلك تتبع أقوال المخلطين منهم الذين خلطوا بين القول الطيب والقول الخبيث كالترمذي صاحب كتاب (ختم الولاية) والغزالي صاحب إحياء علوم الدين. ولا شك أن من أعظم ما ألف الإمام ابن تيمية في هذا الصدد هو كتابة (الفرقان بين أولياء الرحمة وأولياء الشيطان) فقد فصل فيه القول في الولاية الرحمانية وبيان صفاتها من الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح، وفرق بين ذلك والولاية الشيطانية الصوفية التي تعتمد على الشعبذات والدجل، والكذب، وأكل أموال الناس بالباطل، والسماع والغناء والرقص والبدع المنكرة في الدين، والتظاهر بالصلاح والتقوى، ولقد أجاد الإمام ابن تيمية رحمه الله أيما إجادة في بيان الكرامة الرحمانية التي هي حق لولي الله، والكرامة الشيطانية التي تجري أحياناً على أيدي هؤلاء كتظاهرهم بالدخول في النيران وزعمهم أنها لا تضرهم، وحملهم الحيات والثعابين، وضربهم أنفسهم بالسيوف والسهام وغير ذلك من أنواع المخاريق التي يزعمون أنها من كراماتهم، وقد قام الإمام ابن تيمية نفسه بتحدي هؤلاء الصوفية الذي يزعمون هذه الكرامات وأنه يدخل معهم النار التي يزعمون دخولها وأنها تحرقهم إن شاء الله ولا تحرقه، شريطة أن يغسلوا أنفسهم أولاً بالخل لإزالة دهن الضفادع الذي يدهنون به أنفسهم حتى لا تؤثر فيهم النار. فلما كشف حيلهم وتحداهم وكان ذلك بمحضر السلطان تراجعوا عن ذلك وظهر كذبهم ومخاريقهم، وكان هؤلاء الصوفية من أتباع الرفاعي البطائحي (انظر مناظرة ابن تيمية لدجاجلة البطائحية الفتاوي الكبرى من ص445-476).
والمهم أن الإمام ابن تيمية كان من أعظم الرجال الذي كشفوا عوار التصوف وتتبعوا ترهاته، وما كتبه ودونه وقام به في هذا الصدد شيء يطول وصفه جداً.
الإمام برهان الدين البقاعي المتوفي سنة 885هـ:
ألف هذا الإمام الجليل كتاباً فذاً فريداً سماه (تنبيه الغبي بتكفير عمر بن الفارض وابن عربي) قال في خطبة هذا الكتاب:
"وبعد: فإني لما رأيت الناس مضطربين في ابن عربي المنسوب إلى التصوف، الموسوم عند أهل الحق بالوحدة، ولم أر من شفى القلب في ترجمته وكان كفره في كتابه الفصوص أظهر منه في غيره، أحببت أن أذكر منه ما كان ظاهراً، حتى يعلم حاله، فيهجر مقاله، ويعتقد انحلاله، وكفره وضلاله، وأنه إلى الهاوية مآله ومآبه، امتثالاً لما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان] وفي رواية عن عبدالله بن مسعود: [وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة من خردل]، وما أحضر من النسخة التي نقلت ما تراه منها إلا شخص من كبار معتقديه، وأتباعه ومحبيه.
عقيدة ابن عربي وكيده للإسلام:
وينبغي أن يعلم أولاً أن كلامه دائر على الوحدة المطلقة، وهي: أنه لا شيء سوى هذا العالم، وأن الإله أمر كلي لا وجود له إلا في ضمن جزئياته. ثم إنه يسعى في إبطال الدين من أصله، بما يحل به عقائد أهله، بأن كل أحد على صراط مستقيم، وأن الوعيد لا يقع منه شيء، وعلى تقدير وقوعه، فالعذاب المتوعد به إنما هو نعيم وعذوبة، ونحو ذلك!!. وإن حصل لأهله ألم، فهو لا ينافي السعادة والرضى، كما لم ينافها ما يحصل من الآلام في الدنيا، وهذا يحط عند من له وعلى اعتقاد: أنه لا إله أصلاً، وأنه ما ثم إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما وراء ذلك شيء.
منهاج الصوفية في الكيد بدعوتهم:
وكل ما في كلامه من غير هذا المهيع فهو تستر وتلبيس على من ينتقد عليه، ولا يلقي زمام انقياده إليه، فإنه علم أنه إن صرح بالتعطيل ابتداء بعد كل من قبوله فأظهر لأهل الدين أنه منهم، وقف لهم في أودية اعتقادهم، ثم استدرجهم عند المضائق، واستغواهم في أماكن الاشتباه، وهو أصنع الناس في التلبيس، فإنه يذكر أحاديث صحاحاً، ويحرفها على أوجه غريبة، ومناح عجيبة، فإذا تدرج معه من أراد الله -والعياذ بالله- ضلاله، وصل -ولا بد- إلى مراده من الانحلال من كل شرعة، والمباعدة لكل ملة. وخواص أهل هذه النحلة يتسترون بإظهار شعائر الإسلام، وإقامة الصلاة والصيام، وتمويه الإلحاد بزي التنسك والتقشف، وتزويق الزندقة بتسميتها: بعلم التصوف، فهو ممن أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: [يحقر أحدكم صلاته مع صلاته، وصيامه مع صيامه، يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية].
وقد أصل لهم غويهم هذا كما صرح به في الفص النوحي: أن الدعوة إلى الله مكر!! ونسب ذلك إلى الأنبياء عليهم السلام، فقال: أدعو إلى الله. فهذا عين المنكر.. إلى آخر كلامه.
وهذا هو السر في تنسكهم. على أنهم قد استغنوا في هذا الزمان عن التنسك، لانقياد أهله بغير ذلك، وقد يستدرجهم الله وأمثالهم -ممن يريد ضلاله- بإظهار شيء من الخوارق على أيديهم، كما يظهره الله على يد الدجال، وأيدي بعض الرهبان، ليتبين الموقن من المرتاب.
مثالهم في الزندقة:
وقد ضربوا -لتصحيح زندقتهم- مثالاً مكروا فيه بمن لم ترسخ قدمه في الإسلام، ولا خالط أنفاس النبوة، حتى صار يدفع الشبه.
حاصل ذلك المثال: أنهم يصلون إلى الله بغير وساطة المبعوث بالشرع، فتم لهم المكر، وتبعهم في ذلك أكثر الرعاع، ولم يبالوا بخرق الإجماع، وذلك المثال: أن ملكاً أقام على بابه سيفاً، وقال له: من دخل بغير إذنك فاقتله، وقال لغيره: أذنت لك في الدخول متى شئت، فإذا دخل الغير ، فقد أصاب، وعنوا بالسياف الشارع. فما أفادهم مثالهم مع زندقتهم به شيئاً، فإنهم اعترفوا فيه بإباحة دمائهم، وهو قصد أهل الشريعة، ومن يعتقد أن لأحد من الخلق طريقاً إلى الله من غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم، فهو كافر من أولياء الشيطان بالإجماع، فإن رسالته صلى الله عليه وسلم عامة ودعوته شاملة" (تنبيه الغبي إلى كفر الفارض وابن عربي لبرهان الدين البقاعي ص18-21). انتهى منه بلفظه.
ثم شرع المؤلف رحمه الله بعد ذلك يورد كلام أئمة الدين والعلم في بيان كفر هؤلاء وزندقتهم، وشرح ما جاء في الفصوص لابن عربي وبين كفره وزندقته وكذبه على الله ورسوله واستهزاءه بالأنبياء والمرسلين وادعاءه أن كل موجود هو الله. وكذلك استعرض قصيدة ابن الفارض المشهورة التائية وبين ما فيها من كفر وزندقة وأنها والفصوص وجهان لعملة واحدة وصورتان لكتاب واحد وهي وحدة الوجود التي ينادي بها هؤلاء الزنادقة.
وعلى كل حال لو تتبعنا كلام علماء المسلمين قديماً في شأن التحذير من التصوف فإنه أمر يطول شرحه.
وأما في العصر الحديث فإن التصوف على الرغم من انتشاره في غفلة من المسلمين عن علوم الكتاب والسنة، فإن الله سبحانه وتعالى قيض للمسلمين في العصر الحديث الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب الذي كان لدعوته المباركة في الجزيرة العربية الفضل في إيقاظ الأمة من سباتها العميق، واطلاعها على حقيقة التصوف الضال فانتشرت دعوة التوحيد شرقاً وغرباً، وقام الرجال المخلصون بملاحقة فلول التصوف في كل صقع من أصقاع الأرض حتى انزاحت الغمة أو كادت بفضل الله ورحمته بعد أن كان الظلام والشر قد عم الأرض كلها إلا القليل القليل من أهل الدين الحق والتوحيد. وأحب في هذا الباب من هذا الكتاب المبارك إن شاء الله تعالى أن أسوق شهادتين لرجلين مشهورين من رجال العصر الحاضر ممن أكرمهم الله بالنجاة من التصوف الخاسر إلى رحاب التوحيد والإيمان وهما الدكتور تقي الدين الهلالي شيخ التوحيد والسنة في بلاد المغرب، بل في العالم الإسلامي كله، والذي كان صوفياً (تجانياً) فأكرمه الله بدعوة التوحيد فلما رأى النور والخير كتب كتابه (الهدية الهادية إلى الطريقة التجانية). وأما الرجل الآخر الذي ننقل شهادته فهو الشيخ عبدالرحمن الوكيل رحمه الله، وكيل جماعة أنصار السنة بمصر، والذي جرّد قلمه السيال لبيان فرية التصوف الكبرى فكتب كتابه المشهور (هذه هي الصوفية).
شهادة الدكتور الشيخ تقي الدين الهلالي:
"الحمد لله الذي أرسل خاتم النبيين وإمام المرسلين، محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين بشيراً لمن آمن به، واهتدى بهديه، بالفوز المبين ونذيراً لمن كفر به وخالف سنته بالعذاب المهين، وصل اللهم على محمد وأزواجه وذرياته كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذرياته كما باركت على إبراهيم، صلاة تشمل آله ومن تمسك بسنته إلى يوم الدين.
فيقول أفقر العباد إلى الغني الكبير المتعال، محمد تقي الدين بن عبدالقادر الحسيني الهلالي غفر الله ذنبه وستر عيبه:
نشأت في بلاد سجلمانة، وحفظت القرآن وأنا ابن اثنتي عشرة سنة، ورأيت أهل بلادنا مولعين بطرائق المتصوفة لا تكاد تجد واحداً منهم لا عالماً ولا جاهلاً إلا وقد انخرط في سلك إحدى الطرق، وتعلق بشيخها تعلق الهائم الوامق، يستغيث به في الشدائد ويستنجد به في المصائب، ويلهج دائماً بشكره والثناء عليه فإن وجد نعمة شكره عليها، وإن أصابته مصيبة اتهم نفسه بالتقصير في محبة شيخه والتمسك بطريقته، ولا يخطر بباله أن شيخه يعجز عن شيء في السماوات ولا في الأرض فهو على كل شيء قدير، وسمعت الناس يقولون: من لم يكن له شيخ فالشيطان شيخه. وينشدون قول ابن عاشور في أرجوزته التي نظمها في عقيدة الأشعرية، وفي فروع المالكية، وفي مبادئ التصوف:
يصحب شيخاً عارف المسالك                     يقيه في طريقه المهالك
يذكره الله إذا رآه                                ويوصل العبد إلى مولاه
ورأيت الطرق المنتشرة في بلادنا قسمين:
1- قسم ينتمي إليه العلماء وعلية القوم.
2- وقسم ينتمي إليه السوقة وعامة الناس.
فمالت نفسي إلى القسم الأول، وسمعت أبي وهو من علماء بلدنا مراراً يقول: لولا أن الطريقة التجانية تمنع صاحبها من زيارة قبور الأولياء والاستمداد منهم وطلب الحاجات إلا قبر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، وإلا قبر الشيخ التجاني، وقبور من ينتمي إلى طريقته من الأولياء، قال أبي: لولا ذلك لأخذت ورد الطريقة التجانية، لأني لا أستطيع أن أترك زيارة جدنا عبدالقادر بن هلال، وجدنا كان مشهوراً بالصلاح وله قبر يزار وهو معدود من جملة الأولياء في ناحية الغرفة من القسم الشرقي الجنوبي في بلاد المغرب.
والطريقة التجانية، والدرقاوية، والكتانية، وإن كان أهلها في بلادنا قليلاً، تؤلف القسم الأول، فاشتاقت نفسي إلى أخذ ورد الطريقة التجانية وأنا قد ناهزت البلوغ فذهبت إلى المقدم وقلت له: يا سيدي أريد منك أن تعطيني ورد الطريقة التجانية، ففرح كثيراً، وقال لي: تأخذ الورد على صغر سنك؟ قلت: نعم، فقال: بخ بخ أفلحت ونجحت، فأعطاني الورد وهو:
ذكر لا إله إلا الله مائة مرة، والاستغفار مائة مرة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بأي صيغة مائة مرة، لكن صيغة الفاتح لما أغلق هي أفضل الصيغ، وسيأتي إن شاء الله ذكر فضلها (الفضل المزعوم عندهم) في هذا الكتاب بعون الله وتوفيقه، وأعطاني كذلك الوظيفة وهي أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ثلاثين مرة، وصلاة الفاتح لما أغلق خمسين مرة، ولا إله إلا الله مائة مرة، وجوهره الكمال وهي: اللهم صل وسلم على عين الرحمة الربانية.. الخ، وسيأتي ذكر ألفاظها اثنتي عشر مرة، وهذه الصلاة لا تذكر إلا بطهارة مائية، فمن كان فرضه التيمم فعليه أن يذكر بدلها صلاة الفاتح عشرين مرة، قال: وإنما اشترطت الطهارة المائية على ذاكرها لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين يحضرون مجلس كل من يذكرها ولا يزالون معه ما دام يذكرها.
ويجب ذكر الورد مرة في الصباح ومرة في المساء بطهارة تامة كما يشترط في الصلاة، ويكون الذاكر جالساً كجلسة التشهد على الأفضل مغمضاً عينيه مستحضراً صورة الشيخ أحمد التجاني وهو رجل أبيض مشرب بحمرة ذو لحية بيضاء، ويتصور في قلبه أن عموداً من النور يخرج من قلب الشيخ ويدخل في قلب المريد.
أما الوظيفة فيجب أن تذكر جماعة بصوت واحد، إن كان للمريد إخوان في بلده، فإن لم يكن له إخوان تجانيون في بلاده جاز له أن يذكرها وحده مرة في كل يوم.
وأخبرني المقدم الشيخ عبدالكريم المنصوري ببعض فضائل هذا الورد وسأذكرها فيما بعد إن شاء  الله واستمررت على ذكر الورد والوظيفة بإخلاص ملتزماً الشروط مدة تسع سنين، وهناك ذكر آخر يكون يوم الجمعة متصلاً بغروب الشمس وهو: لا إله إلا الله ألف مرة، والأفضل أن يكون معه سماع قبله أو بعده، وهو إنشاد شيء من الشعر بالغناء والترنم جماعة ثم يقولون جميعاً: الله حي، والمنشد ينشدهم وهم قيام حتى يخلص عند تواجدهم إلى لفظ آه، آه، آه، ويسمون هذه الحالة العمارة، وقد تركوها منذ زمان طويل لأن أبناء الشيخ التجاني لا يستعملون هذه العمارة، وهم يأتون من الجزائر إلى المغرب وقد أشاروا على المغاربة أن يتركوا العمارة لأنهم لا يستحسنونها، ولكن في كتب الطريقة أنها فعلت أمام الشيخ أحمد التجاني وبرضاه وإقراره.
وكنت كلما أصابتني مصيبة أستغيث بالشيخ فلا يغيثني، فمن ذلك أني كنت في الجزائر مسافراً من ناحية (بركنت) بقرب حدود المغرب إلى (المشرية)، وكان لي رفيق له جمل فعلقه وأوصاني بحراسته وتركني في خيمة وقلنا فيها من خيام أهل البادية، فانحل عقال الجمل وانطلق في البرية فتبعته فأخذ يستهزئ بي، وذلك أنه يبقى وقفاً إلى أن أكاد أضع يدي على عنقه ثم يجفل مرج واحدة ويجري مسافة طويلة ثم يقف ينتظرني إلى أن أكاد أقبضه ثم يهرب مرة أخرى وذلك في نحر الظهيرة وشدة الحر، فقلت في نفسي: هذا وقت الاستغاثة بالشيخ فتضرعت إليه وبالغت في الاستغاثة أن يمكنني في قبض الجمل وإناخته فلم يستجب، فعدت على نفسي باللوم واتهمتها بعدم الإخلاص والتقصير في خدمة الطريقة ولم أتهم الشيخ البتة بعجز عن قضاء حاجتي، ومع أن شيوخ الطريقة يوصون المريد أن لا يطالع شيئاً من كتب التصوف إلا كتب الطريقة التجانية وقع في يدي مجلد من كتاب (الإحياء) للغزالي فطالعته فأثر في نفسي واجتهدت في العبادة والتزمت قيام الليل في شدة البرد، فبينما أن ذات ليلة أصلي قيام الليل أمام خيمتي الصغيرة التي كنت جالساً فيها يكاد رأسي يمس سقفها إذ رأيت غماماً أبيض سد الأفق كالجبل المرتفع من الأرض إلى السماء وأخذ ذلك الغمام يدنو مني آتياً من جهة الشرق -وهي قبلة المصلي في المغرب والجزائر- حتى وقف بعيداً مني وخرج منه شخص وتقدم حتى قرب مني ثم شرع يصلي بصلاتي مؤتماً بي، وثيابه تشبه ثياب جارية بنت خمس عشرة سنة، ولم أستطع أن أميز وجهه بسبب الظلام.
ولما شرع يصلي معي كنت أقرأ في سورة ألم السجدة ففزعت وخفت خوفاً شديداً، فخرجت منها إلى سورة أخرى أظنها سورة سبأ، ولم أستطع قراءة القرآن مع شدة حفظي له بسبب الرعب الذي أصابني، فتركت السور الطوال وأخذت أقرأ بالسور القصار التي لا تحتاج قراءاتها إلى رباطة جأش واستحضار فكر. فصلى معي ست ركعات، ولم أرد أن أكلمه، لأن كتب الطريقة توصي المريد أن لا يشتغل بشيء مما يعرض له في سلوكه حتى يصل إلى الله، وتنكشف له الحجب فيشاهد العرش والفرش، ولا يبقى شيء من المغيبات خافياً عليه، ولما طال علي زمان الاضطراب دعوت الله في سجود الركعة السادسة فقلت: يا رب إن كان في كلام هذا الشخص خير فاجعله هو يكلمني، وإن لم يكن في كلامه خير فاصرفه عني، فلما سلمت من التشهد بعد الركعة السادسة سلم هو أيضاً، ولم أسمع له صوتاً ولكني رأيته التفت عند السلام إلى جهة اليمين كما يفعل المصلي المنفرد على مذهب المالكية، فإنه يسلم مرة واحدة عن يمينه، السلام عليكم دون أن يضيف إليها رحمة الله وبركاته، وإن كان مؤتماً بإمام يسلم ثلاث تسليمات إن كان بيساره مصل تسليمة عن يمينه وهي تسليمة التحليل وتسليمة أمامه للإمام، وتسليمة ثالثة عن شماله للمصلي الذي يجلس عن شماله وقد ثبت في الحديث الذي رواه أبو داود وصححه الحافظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وعن يساره السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وهذا هو الذي ينبغي لكل مصل أن يعتمد عليه سواء أكان إماماً أو مأموماً أو منفرداً.
وبعد السلام انصرف ومشى على مهل حتى دخل في الغمام الأبيض الذي كان قائماً في مكانه الذي كان ينتظره، وبعد دخوله في الغمام فوراً أخذ الغمام يتقهقر إلى جهة الشرق حتى اختفى عن بصري وكان في قبيلة (حميان) شيخ شنقيطي صالح ما رأيت مثله في الزهد والورع ومكارم الأخلاق وسأذكره فيما بعد، فسافرت إليه وحكيت له تلك الحادثة فقال لي: يمكن أن يكون ذلك شيطاناً لو كان ملكاً ما أصابك فزع ولا رعب، فظهر لي أن رأيه صواب.
وبعد ذلك بزمن طويل أخذت أدرس علم الحديث، فرأيت كتاب (صحيح البخاري) ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه جبريل وهو في غار حراء، فظهر لي أن رأي ذلك الشيخ رحمه الله غير صحيح وبقيت المشكلة بلا حل إلى الآن وكنت حينئذ مشركاً أستغيث بغير الله وأخاف غير الله. ومن هذا تعلم أن ظهور الخوارق وما في عالم الغيب ليس دليلاً على صلاح ما ظهرت له تلك الخوارق ولا على ولايته لله البتة فإن كل مرتاض رياضة روحية تظهر له الخوارق على أي دين كان وقد سمعنا وقرأنا أن العباد الوثنيين من أهل الهند تقع لهم خوارق عظام.
وبعد ذلك بأيام رأيت في المنام رجلاً نبهني وأشار إلى الأفق فقال لي: انظر فرأيت ثلاثة رجال فقال لي إن الأوسط منهم هو النبي صلى الله عليه وسلم فذهبت إليه فلما وصلت إليه انصرف الرجلان اللذان كانا معه فأخذت يده وقلت يا رسول الله خذ بيدي إلى الله فقال لي اقرأ العلم ففكرت وعلمت أني في بلاد الجزائر وكان الفرنسيون مسؤولين عليها وكان فقهاء بلدنا يكفرون كل من سافر إلى الجزائر وإذا رجع من سفره يأمرونه بالاغتسال والدخول في الإسلام من جديد ويعقدون له عقداً جديداً على زوجته فقلت في نفسي هذا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني بطلب العلم، وأنا في بلاد يحكمها النصارى، فإما أن أكون عاصياً أو كافراً فكيف يجوز لي أن أطلب فيها العلم. هذا كله وقع في لحظة وأنا لا أزال واقفاً أمام النبي صلى الله عليه وسلم فقلت في بلاد المسلمين أم في بلاد النصارى، فقال لي البلاد كلها لله، فقلت يا رسول الله ادع الله أن يختم لي بالإيمان فرفع اصبعه السبابة إلى السماء وقال لي عند الله.
وبعدما خرجت من الطريقة التجانية على أثر المناظرة التي سأذكرها فيما بعد إن شاء الله بزمان رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى في المنام على صورة تخالف الصورة التي رأيته عليها في المرة المذكورة، ففي الأولى كان طويلاً أبيض نحيفاً مشرباً بحمرة، لحيته بيضاء، أما في هذه المرة فكان ربعة من الرجال إلى الطول أقرب ولم يكن نحيفاً، ولحيته سوداء، وبياض وجهه وحمرته أقرب إلى ألوان العرب من المرة الأولى، وكانت رؤيتي له في فلاة من الأرض وكنت بعدما خرجت من الطريقة التجانية توسوس نفسي أحياناً بما في كتاب جواهر المعاني مما ينسب إلى الشيخ التجاني أنه قال: (من ترك ورده وأخذ وردنا وتمسك بطريقتنا هذه الأحمدية المحمدية الإبراهيمية الحنفية التجانية فلا خوف عليه من الله ولا من رسوله ولا من شيخه أياً كان من الأحياء أو من الأموات أما من أخذ وردنا وتركه فإنه يحل به البلاء وأخرى ولا يموت إلا كافراً قطعاً وبذلك أخبرني سيد الوجود صلى الله عليه وسلم يقظة ومناماً) وقال لي سيد الوجود صلى الله عليه وسلم فقراؤك فقرائي وتلاميذك تلاميذي وأنا مربيهم. وسيأتي من هذه الأخبار وأمثالها إن شاء الله كثير في ذكر فضائل الأوراد والأصحاب فكنت أدفع هذا الوسواس بأدلة الكتاب والسنة، وأرجم شيطانه بأحجارها فيخنس ثم يخسأ ويدبر فأراً منهزماً فلما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المرة خطر ببالي ذلك فعزمت على أن أبدأ الكلام مع النبي صلى الله عليه وسلم بأن أسأله أن يدعو الله لي أن يختم لي بالإيمان، وأظن القارئ لم ينس أني سألته في المرة الأولى فلم يدع لي ولكنه رفع إصبعه السبابة إلى السماء وقال عند الله، فقلت يا رسول الله، ادع الله أن يختم لي بالإيمان، فقال لي ادع أنت وأنا أؤمن على دعائك، فرفعت يدي وقلت اللهم اختم لي بالإيمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم آمين وكان رافعاً يديه فزال عني ذلك الوسواس ولكني لم آمن مكر الله تعالى فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، والرؤيا تبشر ولا تغر، وبين هذه الرؤيا التي دعا لي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يختم الله لي بالإيمان بتأمينه على دعائي والرؤيا التي قدمت ذكرها ولم يدع لي فيها، عشرون سنة، وتأولت اختلاف الصورة وعدم الدعاء في الرؤيا الأولى والدعاء في الرؤيا الثانية بما كنت عليه من الشرك في العبادة وبما صرت إليه من توحيد الله تعالى واتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم.

سبب خروجي من الطريقة التجانية:
لقد كنت في غمرة عظيمة، وضلال مبين، وكنت أرى خروجي من الطريقة التجانية كالخروج من الإسلام. ولم يكن يخطر لي ببال أن أتزحزح عنها قيد شعرة، وكان الشيخ عبدالحي الكتاني عدواً للطريقة التجانية لأنه كان شيخاً رسمياً للطريقة الكتانية، وإنما قلت رسمياً لأن أهل (سلا) أعني الكتانيين أنصار الشيخ محمد بن عبدالكبير الكتاني، مؤسس الطريقة الكتانية، لا يعترفون به أي بالشيخ عبد الحي ويقولون إن الاستعمار الفرنسي هو الذي فرضه على الكتانيين فرضاً، والذي حدثني بذلك هو العالم الأديب النبيل الشيخ عبدالله بن سعيد السلوي فإنه كان حامل لواء نصرة الشيخ محمد بن عبدالكبير الكتاني، وكان يعادي أخاه عبدالحي عداوة شديدة ويرميه بالعظائم والكبائر التي لا يسوغ ذكرها هنا والاستطراد بذكر أسباب العداوة بين الشيخين الكتانيين الأخوين يخرج بنا عن الموضوع، أقول مر بنا الشيخ عبد الحي في (وجدة) وأنا عند العالم الأديب الشاعر المتفنن في علوم كثيرة الشيخ أحمد سكيرج، قاضي القضاة بناحية (وجدة)، معلماً لولده الأديب السيد عبدالكريم وابن أخيه السيد عبدالسلام، كنت أعلمهما الأدب العربي بدعوة من الشيخ أحمد سكيرج، فمدحت عبدالحي بقصيدة ضاعت مني ولا أذكر شيئاً منها، ولكنه أعجب بها أيما إعجاب، حتى قال لي عاهدني أنك إذا قدمت (فاساً) تنزل عندي ضيفاً فعاهدته على ذلك. ففي ربيع الأول من سنة أربعين من هذا القرن الهجري سافرت إلى فاس ونزلت عنده. وولد له في تلك الأيام سماه عبدالأحد فالتمس مني نظم أبيات في التهنئة وتاريخ مولده فنظمتها ولا أذكر منها شيئاً، وفي اليوم السابع من مولده عمل مأدبة عظيمة دعا لها خلقاً كثيراً وبعد ما أكلوا وشربوا قاموا (للعمارة) (ذكر بالرقص والتمايل) التي تقدم ذكرها ودعوني أشاركهم في باطلهم فامتنعت لأن من شروط التجاني المخلص أن لا يذكر مع طريقة أخرى ذكرهم وأن لا يرقص معهم. وفي كتاب البغية للشيخ العربي ابن السايح وهو شرح المنية للتجاني ابن بابا الشنقيطي حكاية في وعيد شديد لمن يشارك أصحاب الطرائق الأخرى في أورادهم وأذكارهم وحاصلها أن شخصاً تجانياً ذهب إلى زاوية طريقة أخرى لغرض دنيوي فاستحى أن يبقى منفرداً عنه وهم يذكرون وظيفتهم فشاركهم في الذكر فلما فتح فاه ليذكر معهم أصابه الشلل في فكيه فبقي فاه مفغوراً ولم يستطع سده حتى مات. ولكن الجماعة ألحوا علي وجروني جراً حتى أوقفوني في حلقتهم فرأيت أفواهاً مفغورة من وجوه بعضها فيه لحية سوداء، وبعضها فيه لحيةخطها الشيب، وبعضها أمرد ليس له لحية من الغلمان الذين لم يلتحوا بعد، أما حلق اللحى فلم يكن موجوداً في ذلك الزمن إلا عند الفرنسيين المستعمرين وقليل جداً من حواشيهم وسمعت أصواتاً تنبعث من تلك الأفواه ليس لها معنى في أي لغة بعضها آآآ وبعضها آه آه آه، وبعضها أحن أح أح فاستنكرت تلك الهيئة وقلت في نفسي إن الله لا يرضى بهذه الحالة أن تكون عبادة له لبشاعتها ثم ندمت على ذلك ندامة الكسعي أو الفرزدق حين طلق نوار فقال:
ندمت ندامة الكسعي لما                عدت مني مطلقة نوار
وكانت جنتي فخرجت منها         كآدم حين أخرجه الضرار
وقلت في نفسي كيف يسوغ لي أن أنكر شيئاً حضر مثله خاتم الأولياء القطب سيدي أحمد التجاني فتبت من ذلك الخاطر ولكن جاءني امتحان آخر وذلك أن الشيخ عبد الحي الكتاني قال لي منتقداً: إن الطريقة التجانية مبنية على شفا جرف، وأنه لا ينبغي لعاقل أن يتمسك بها فقلت له: (والطريقة الكتانية التي أنت شيخها)؟ فقال لي كل الطرائق باطلة، وإنما هي صناعة للاحتيال على أكل أموال الناس بالباطل وتسخيرهم واستعبادهم، فقلت إذن أنت تستحل أموال الناس بالباطل وتسخرهم وتستعبدهم، قال: أنا لم أؤسس الطريقة وإنما أسسها غيري، وهذه الأموال التي آخذها منهم أنفقتها في مصالح لا ينفقونها هم فيها. ثم قلت له: ومن الذي حملك على الطعن في الطرائق وما دليلك على بطلانها؟ قال لي: ادعاء كل من الشيخين أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر بذاته وظيفة أصحابه حين يذكرونها وهذه قلة حياء منهما، وعدم تعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم كيف تكلفونه أن يخرج من قبره ويقطع هذه المسافات من البر والبحر ليجلس أمامكم فأنتم تبسطون له ثوباً أبيض ليجلس عليه وأصحابنا يقومون ويذهبون إلى الباب ليتلقوه، فقلت: إذاً أنت لا تعتقد صحة طريقك؟ فقال: لا أعتقدها أبداً وقد أخبرتك أنها صناعة لأكل أموال الناس بالباطل. وأزيدك على ذلك اعتماد طريقتكم على كتاب (جواهر المعاني) الذي تزعمون أن شيخكم أحمد التجاني أملاه على علي حرازم نصفه مسروق، فأحد المجلدين وهو الأول مسروق بالحرف وهو تأليف لمحمد عبدالله المدفون بكذا وكذا بفاس، وسمى ناحية نسيتها الآن، قال وأنا قابلت الكتابين من أولهما إلى آخرهما فوجدت المجلد الأول من (جواهر المعاني) مسروقاً كله من كلام الشيخ المذكور ففارقته. وبعد أيام كنت جالساً عند الشيخ عمر بن الخياط بائع الكتب بقرب القرويين فقال لي: هل اجتمعت بالأستاذ الشيخ محمد بن العربي العلوي، فقلت :لا، فقال لي: هذا الرجل من أفضل علماء فاس وعنده خزانة كتب لا يوجد مثلها في فاس وأثنى عليه بالعلم والأدب فقلت له أنا لا أجالس هذا الرجل ولا أجتمع به لأنه يبغض الشيخ أحمد التجاني ويطعن في طريقته فقال لي: إن طالب العلم يجب أن يتسع فكره وخلقه لمجالسة جميع الناس وبذلك يتسع علمه وأدبه ولا يجب عليه أن يقلدهم في كل ما يدعون، يأخذ ما صفا ويدع ما كدر، وإن لم تجتمع بهذا الرجل يفوتك علم وأدب كثير فذهبت إليه لأجتمع به، وكان قاضياً في محكمة فاس الجديدة فنظمت أربعة أبيات لا أحفظ منها إلا شطر البيت الرابع وهو (وهذا مدى قصدي وما أنا مستجد).. أعني أن غرضي بالاجتماع بك المذاكرة العلمية فهي غاية قصدي وإن اعتبرنا ما موصولة يكون المعنى والذي أستجديه أي أطلبه وإن اعتبرناها نافية تميمية يكون المعنى ولست مستجدياً أي طالباً مالاً، فلما خرج من المحكمة وأراد أن يركب بغلته التي كانت على باب المحكمة ولجامها بيد خادمه تقدمت إليه وأعطيته الصحيفة التي فيها الأبيات فلما قرأها رحب بي، وقال لطالب كان يرافقني وهو الحاج محمد بن الشيخ الأراري: أنت تعرف بيتنا، فقال: نعم، قال: فأتى به على الساعة التاسعة صباحاً، فخرجت مع الرفيق المذكور من مدرسة الشراطين، وكان يسكن فيها على الساعة الثامنة والنصف، لنصل إلى الشيخ على الساعة التاسعة، وكان ذلك اليوم الثاني عشر من ربيع الأول، وهو عيد عند المغاربة وكثير من البلدان الإسلامية وفي المغرب طائفة يسمون (العيساويين) أتباع الشيخ بن عيسى المكناسي، وهؤلاء لهم موسم في كل سنة يجتمعون فيه في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول ويأتون من جميع أنحاء المغرب، فيضربون طبولهم ومزاميرهم، ويترنمون بأناشيدهم إلى أن يظهر للناس أنهم أصيبوا بالجنون وحينئذ يفترسون الغنم والدجاج بدون زكاة بل يقطعونه بأظافرهم ويأكلون لحمه نيئاً والدم يسيل منه وقد ملأوا أزقة فاس وهي ضيقة في ذلك الزمن، وحتى في هذا الزمن، فلم نستطع أن نصل إلى بيت الشيخ إلا بعد مضي ساعتين ونصف من شدة الزحام فلما وصلنا وأخبرنا بوابه ذهب ثم رجع إلينا وقال: إنكما لم تجيئا في الموعد المضروب والشيخ مشغول عنده حكام فرنسيون فارجعا إليه بعد صلاة العصر فرجعنا وقلت لصاحبي: لا نرجع إليه فقد كفانا الله شر لقائه لأنه مبغض لشيخنا وطريقته فالخير في ما اختاره الله تعالى. فقال لي ليس الشيخ بملوم وقد اعتذر بعذر قائم والصواب أن نرجع إليه، فرجعنا إليه بعد العصر، ووجدت عنده من الترحيب والبشاشة والإكرام والتواضع ما لم أجده عند الشيخ الكتاني ولا عند أحد من علماء فاس.
وأخذنا في أحاديث أدبية وكان يقوم ويأتي بالكتب ويضعها أمامي. ووجدته كما قال السيد عمر بن الخياط. ولما كادت الشمس تغرب استأذنته في الانصراف فقال لي: أين تذهب، أنت غريب في هذا البلد وهذا المكان معد للضيوف لا نحتاج إليه فامكث، وبت هنا؛ وقبلت دعوته، وبعد أن صلينا المغرب جاء أصحابه، أذكر منهم الشيخ عبدالسلام الصرغيني، والشيخ المهدي العلوي، وهو لا يزال في قيد الحياة؛ أما الأول فقد مات فأخذ بعضهم يلعب الشطرنج وهو يراهم ولا ينكر عليهم فقلت في نفسي هذا دليل على أنه من العلماء الذين لا يعملون بعلمهم فهو جدير أن ينكر على أولياء الله ما خصهم الله به من كرامة. ثم تركوا الشطرنج وأخذوا ينتقدون الطريق الكتانية ويستهزئون بها ويسخرون من أهلها وكل منهم يحكي حكاية. فقال الشيخ عندي حكاية هي أعجب وأغرب مما عندكم؛ جاءني شاب كان متمسكاً بالطريقة  الكتانية تمسكاً عظيماً فقال لي: أريد أن أتوب على يدك من الطرائق كلها وتعلمني التمسك بالكتاب والسنة، فقلت له: وما الذي دعاك إلى الخروج من طريقتك التي كنت مغتبطاً بها. فقال لي: إنه أمس شرب الخمر وزنا وترك صلاة العصر والمغرب والعشاء فمر بالزاوية الكتانية وسمع المريدين يرقصون ويصيحون بأصوات عالية والمنشد ينشدهم، وكانت بقية سكر لا تزال مسيطرة عليه، فهم أن يدخل الزاوية، ويرقص معهم، ولكنه أحجم عن ذلك لأنه جنب ولم يصل شيئاً من الصلوات في ذلك النهار، إلا أن سكره غلب على عقله فدخل الزاوية ووجد الشيخ محمد بن عبدالكبير في صدر الحلقة، والمريدون يرقصون فاشتغل معهم في الرقص، وكان أنشطهم فلما فرغوا من رقصهم دعاه الشيخ وقبله في فمه وقال (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قبلك فاقتديت به)! قال ولما دعاني خفت خوفاً شديداً وظننت أنه انكشف له حالي وهو يريد أن يوبخني على ذنوبي فلما قال لي أيقنت أنه كاذب في كل ما يدعيه ويدعو إليه وإلا كيف يرضى عني النبي صلى الله عليه وسلم ويقبلني في فمي مع تلك الكبائر التي ارتكبتها في ذلك اليوم. قال: فهذا سبب مجيئي إليك لأتوب إلى الله من الطرائق كلها وأتبع طريقة الكتاب والسنة.
ولما رأيتهم أنا يعيبون الطريقة الكتانية ويستهزئون بها أصابني خوف شديد وندمت على زيارتي للشيخ فقلت لنفسي هذا الذي كنت أخافه وقد وقعت فيه فكيف الخلاص؟
وذكرت قول التجاني ابن بابا في منيته:
ومن يجالس مبغض الشيخ هلك            وضل في مهامة وفي حلك
وشدد النهى لنا الرسول                      في ذاك فلتعمل بما أقول
والشيخ قال هو سم يسري                       يحل من فعله في خسر
ومعنى ذلك أن الشيخ أحمد التجاني قال قال لي سيد الوجود صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً قل لأصحابك لا يجالسوا المبغضين لك فإن ذلك يؤذيني فصممت على أن أخرج من ذلك المجلس. فقمت فقال لي الشيخ إلى أين؟ فقلت: إلى بيت الخلاء، كذبت عليه، فلما وصلت إلى الباب منعني البواب من الخروج، وقال لي: وهل أذن لك الشيخ في الخروج، فقلت: نعم، فقال لي: هذا محال لأنك غريب والقانون الفرنسي يقضي بأن التجول بعد الساعة العاشرة ليلاً فيه خطر، فإنك لا تمشي خطوات حتى يقبضوا عليك وتؤخذ إلى السجن، وتبقى فيه إلى ضحى الغد وحينئذ ينظر في إطلاق سراحك. وقال لي: أنا لا أفتح لك الباب إلا إذا سمعت الإذن من الشيخ، فقلت له: إذا أرجع. ورجعت وجلست في مكاني، ولم تخفى حالي عن الشيخ فقال لي أراك منقبضاً؛ فما سبب انقباضك؟ فقلت سببه أنكم انتقلت من الطعن في الطريقة الكتانية إلى الطريقة التجانية، وأنا تجاني لا يجوز لي أن أجلس في مجلس أسمع فيه طعن في شيخي وطريقته. فقال لي: لا بأس عليك، أنا أيضاً كنت تجانياً وخرجت من الطريقة التجانية لما ظهر لي بطلانها، فإن كنت تريد أن تتمسك بهذه الطريقة على جهل وتقليد فلك علي ألا تسمع بعد الآن في مجلس انتقاداً لها أو طعناً فيها. وإن كنت تريد أن تسلك مسلك أهل العلم فهلم إلى المناظرة، فإن ظهرت علي رجعت إلى الطريقة، وإن ظهرت عليك خرجت منها كما فعلت أنا. فأخذتني النخوة ولم أرض أن أعترف أني أتمسك بها على جهل فقلت قبلت المناظرة.
مناظرة حول ادعاء الشيخ التجاني في أنه رأى النبي في اليقظة:
قال الشيخ أريد أن أناظرك في مسألة واحدة إن ثبتت ثبتت الطريقة كلها، وإن بطلت بطلت الطريقة كلها، قلت ما هي؟ قال: ادعاء التجاني أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً، وأعطاه هذه الطريقة بما فيها من الفضائل فإن ثبتت رؤيته للنبي صلى الله عليه وسلم يقظة وأخذه منه الطريقة فأنت على حق وأنا على باطل والرجوع إلى الحق، وإن بطل ادعاؤه فأنا على حق وأنت على باطل فيجب عليك أن تترك وتتمسك بالحق. ثم قال: تبدأ أنت أو أبدأ أنا؟ فقلت: ابدأ أنت، فقال: عندي أدلة كل واحد منها كاف في إبطال دعوى التجاني. قلت: هات ما عندك وعلي الجواب، فقال:
الأول: إن أول خلاف وقع بين الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كان بسبب الخلافة؛ قالت الأنصار للمهاجرين منا أمير ومنكم أمير، وقال المهاجرون: إن العرب لا تذعن إلا لهذا الحي من قريش. ووقع نزاع شديد بين الفريقين حتى شغلهم عن دفن النبي صلى الله عليه وسلم فبقي ثلاثة أيام بلا دفن صلاة الله وسلامه عليه فكيف لم يظهر لأصحابه ويفصل النزاع بينهم ويقول الخليفة فلان فينهي النزاع؟ كيف يترك هذا الأمر العظيم لو كان يكلم أحداً يقظة بعد موته لكلم أصحابه وأصبح بينهم، وذلك أهم من ظهوره للشيخ التجاني ألف ومائتي سنة، ولماذا ظهر؟ ليقول له أنت من الآمنين، ومن أحبك من الآمنين، ومن أخذ وردك يدخل الجنة بلا حساب ولا عقاب هو ووالده وأزواجه لا الحفدة، فكيف يترك النبي صلى الله عليه وسلم الظهور يقظة والكلام لأفضل الناس بعده في أهم الأمور ويظهر لرجل لا يساويهم في الفضل ولا يقاربهم لأمر غير مهم فقلت له:
إن الشيخ رضي الله عنه قد أجاب عن هذا الاعتراض في حياته فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلقى الخاص للخاص والعام للعام في حياته، أما بعد وفاته فقد انقطع إلقاء العام للعام وبقي إلقاء الخاص للخاص لم ينقطع بوفاته وهذا الذي ألقاه إلى شيخنا من إعطاء الورد والفضائل هو من الخاص للخاص. فقال أنا لا أسلم في أن الشريعة خاصاً وعاماً لأن أحكام الشرع خمسة وهذا الورد وفضائله إن كان من الدين فلا بد أن يدخل في الأحكام الخمسة لأنه عمل أعد الله لعامله ثواباً؛ فهو إما واجب أو مستحب ولم ينتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى حتى بين لأمته جميع الواجبات والمستحبات. وفي صحيح البخاري عن علي بن أبي طالب أنه قيل له هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم معشر أهل البيت بشيء فقال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء إلا فهماً يعطاه الرجل في كتاب الله، وإلا ما في هذه الصحيفة ففتحوها فإذا فيها العقل وفكاك الأسير وألا يقتل مسلم بكافر فكيف لا يخص النبي صلى الله عليه وسلم أهل بيته وخلفاءه بشيء ثم يخص رجلاً في آخر الزمان بما يتنافى مع أحكام الكتاب والسنة. فقلت: إن الشيخ عالم بالكتاب والسنة وفي جوابه مقنع لمن أراد أن يقنع. قال احفظ هذا.
الثاني: اختلاف أبي بكر مع فاطمة الزهراء رضي الله عنهما على الميراث فلا يخفى أن فاطمة طلبت من أبي بكر الصديق رضي الله عنه حقها من ميراث أبيها واحتجت عليه بأن إذا مات هو يرثه أبناؤه، فلماذا يمنعها من ميراث أبيها، فأجابها أبو بكر الصديق بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة. وقد حضر ذلك جماعة من الصحابة فبقيت فاطمة الزهراء مغاضبة لأبي بكر حتى ماتت بعد ستة أشهر بعد وفاة أبيها صلى الله عليه وسلم. فهذا حبيبان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه قال: فاطمة بضعة مني يسؤني ما ساءها، أو كما قال عليه الصلاة والسلام وصرح بأن أبا بكر الصديق أحب الناس إليه، وقال ما أحد أمنّ علي في نفس ولا مال من أبي بكر الصديق رواه البخاري. وهذه المغاضبة التي وقعت بين أبي بكر وفاطمة، تسوء النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كان يظهر لأحد بعد وفاته لغرض من الأغراض لظهر لأبي بكر الصديق وقال له: إني رجعت عما قلته في حياتي فأعطها حقها من الميراث، أو لظهر لفاطمة وقال لها يا ابنتي لا تغضبي على أبي بكر فإنه لم يفعل إلا ما أمرته به فقلت له ليس عندي من الجواب إلا ما سمعت قال احفظ هذا.
الثالث: الذي وقع بين طلحة والزبير وعائشة من جهة، وعلي بين أبي طالب من جهة أخرى واشتد النزاع بينهما حتى وقعت حرب الجمل، في البصرة فقتل فيها خلق كثير من الصحابة والتابعين وعقر جمل عائشة فكيف يهون على النبي صلى الله عليه وسلم سفك هذه الدماء ووقوع هذا الشر بين المسلمين بل بين أخص الناس به، وهو يستطيع أن يحقن هذه الدماء بكلمة واحدة، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى في آخر سورة التوبة برأفته ورحمته بالمؤمنين وأنه يشق عليه كل ما يصيبهم من العنت، وذلك في قوله تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} فقلت له ليس عندي من الجواب إلا ما سمعت وظهوره وكلامه للشيخ التجاني فضل من الله، والله يؤتي فضله من يشاء. قال احفظ هذا وفكر فيه.
الرابع: خلاف علي مع الخوارج وقد سفكت فيه دماء كثيرة، ولو ظهر النبي صلى الله عليه وسلم لرئيس الخوارج وأمره بطاعة إمامه لحقنت تلك الدماء، فقلت الجواب هو ما سمعت، فقال لي: احفظ هذا وفكر فيه، فإني أرجو أنك بعد التفكير ترجع إلى الحق.
الخامس: النزاع الذي وقع بين معاوية وعلي، وقد قتل في الحرب التي وقعت بينهما خلق كثير، منهم عمار بن ياسر، فكيف يترك النبي صلى الله عليه وسلم الظهور لأفضل الناس بعده وفي ظهوره هذه المصالح المهمة من جمع كلمة المسلمين وإصلاح ذات بينهم وحقن دمائهم، وهو خير المصلحين بقوله تعالى: {وأصلحوا ذات بينكم} وقوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} ثم يظهر للشيخ التجاني في آخر الزمان لغرض غير مهم وهو في نفسه غير معقول لأنه مضاد لنصوص الكتاب والسنة.
فلم يجد عندي جواباً غير ما تقدم ولكني لم أسلم له فقال فكر في هذه الأدلة وسنتباحث في المجلس الآخر، فعقدنا بعد هذا المجلس سبعة مجالس كل منها كان يستمر من بعد صلاة المغرب إلى ما بعد العشاء بكثير. وحينئذ أيقنت أنني كنت ضلال، ولكن أردت أن أزداد يقيناً فقلت له (من معك من العلماء هنا في المغرب على هذه العقيدة وهي أن مسألة في العقائد أو في الفروع يجب أن نعرضها مع قصر باعنا وقلة اطلاعنا على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ظهر لنا أنه موافق لهما قبلناه وما ظهر لنا أنه مخالف رددناه) فقال لي يوافقني على هذا أكبر مقدم للطريقة التجانية في المغرب كله وهو الشيخ الفاطمي الشرادي، فكدت أكذبه لأن المشهور في جميع أنحاء المغرب أن هذا الرجل من كبار العلماء، وهو أكبر مقدم للطريقة التجانية، ولم أقل أكبر شيخ لأن الشيخ التجاني لا يبيح أن يكون شيخاً للطريقة سواه، لأن تلقيبه بالشيخ قد يفهم منه أنه يجوز لغيره أن يتصرف في أوراد الطريقة وفضائلها وعقائدها وذلك ممنوع لأن الذي أعطى هذه الطريقة هو النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً كما تقدم والمتلقي الأول لها هو الشيخ أحمد التجاني والنبي صلى الله عليه وسلم سماه شيخاً لهذه الطريقة، وكل ناشر للطريقة وملقن لأورادها يسمى مقدماً فقط فالطريقة لها مصدر واحد وشيخ واحد ولا يجوز تعدد المصدر ولا تعدد الشيخ حسبما في كتب الطريقة.
مع الشيخ الفاطمي الشرادي:
فتوجهت إلى الشيخ الفاطمي رحمه الله وكان الوقت ضحى وقد أوصاني شيخنا محمد بن العربي ألا أسأله إلا في خلوة فوجدت عنده جماعة فانصرف بعضهم وجاء آخرون وبقيت عنده أنتظر أن أخلو به حتى صلينا الظهر وجاء الغداء فلم أستطع أن أخلو به وكان ثلاثة ممن كانوا في مجلسه حاضرين فقلت له إن الشيخ محمد بن العربي العلوي يقول يجب علينا أن نعرض جميع المسائل أصولاً وفروعاً على كتاب الله وسنة رسوله فما وافق في نظرنا القاصر قبلناه وما خالف رددنا ولو قال به الإمام مالك أو الشيخ أحمد التجاني، فأشار إلي بيده يستمهلني، وكان جلوسي عنده قد طال فانصرفت إلى مدرسة الشراطين حيث كنت نازلاً قبل لقائي بالشيخ العلوي، وفي ذلك اليوم بعد صلاة العشاء جاءني بواب المدرسة وقال لي إن الشيخ الفاطمي الشرادي أرسل إليك عبده وبغلته يطلب أن تزوره فتعجبت كثيراً لأمرين، أحدهما أن الوقت ليس وقت زيارة، وثانيهما أنه لم تجر العادة أن كبار العلماء الطاعنين في السن، يبعثون الدابة للركوب إلا لمن هو مثلهم في السن والعلم وأنا شاب فركبت البغلة وسار العبد أمامي حتى وصلت إليه وسلمت عليه فرد أحسن رد ورحب بي وقال لي يا ولدي أنا رجل كبير طاعن في السن ليس لي قدرة على القتال، أما سيدي محمد بن العربي العلوي فهو شاب مستعد للقتال وأنت سألتني أمام الناس عن مسألة مهمة لا يسعني أن أكتم جوابها، ولا أستطيع أن أصرح به أمام الناس، فأعلم أن ما قال لك سيدي محمد بن العربي العلوي هو الحق الذي لا شك فيه، وقد أخذت الطريقة القادرية وبقيت فيها زماناً، ثم أخذت الطريقة الوزانية وبقيت فيها زماناً، ثم أخذت الطريقة التجانية والتزمتها حتى صرت مقدماً فيها فلم أجد في هذه الطرائق فائدة، وتركتها كلها ولم يبق عندي من التصوف إلا طلب الشيخ المربي على الكتاب والسنة علماً وعملاً، ولو وجدته لصاحبته وصرت تلميذاً له، وأنت تريد أن تسافر إلى الشرق فإن ظفرت بشيخ مرب متخلق بأخلاق الكتاب والسنة علماً وعملاً فاكتب إلي وأخبرني به حتى أشد الرحال إليه فازددت يقيناً بالنتيجة التي وصلت إليها في مناظرتي مع الشيخ العلوي. ولو كان عندي من العلم مثل ما عندي الآن لقلت له إن ضالتك المنشودة هي أقرب إليك من كل قريب فإن هذا الشيخ الذي تطلبه وتريد أن تشد الرحال إليه ولو بعدت الدار وشط المزار هو أنت نفسك. بشرط أن يكون عندك العزم التام على العمل بالكتاب والسنة وطرح التقليد جانباً كيفما كان الأمر فجزاهم الله خيراً وتغمدهما برحمته.
مع الشيخ عبدالعزيز بن إدريس:
وبعد ذلك بعشرين سنة اجتمعت مع الشيخ عبدالعزيز بن إدريس من علماء تطوان وهو أحد تلامذة الشيخ الفاطمي فذكرت له الحكاية السالفة فقال لي وأنا أيضاً وقع لي ما يشبه هذا فإني بعد إتمام دراستي في جامع القرويين ذهبت إليه وهو أفضل شيوخي فقلت له أيها الشيخ أريد أن أرجع إلى وطني تطوان فأريد أن تزودني بدعائك الصالح وأن تلقنني ورد الطريقة التجانية، فقال لي يا أسفي عليك، أنت تحفظ كتاب الله وقد درست العلوم الإلهية التي تمكنك من فهم كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يكفك ذلك كله حتى تطلب الهدى في غيره، والطريقة لا شيء فعليك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فكشف الله عني بفضله ظلام الشرك والبدعة، وفتح لي باب التوحيد والاتباع فله الحمد والمنة نسأله أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة إنه الهادي إلى الصراط المستقيم (الهدية الهادية من ص7-21) انتهى منه بلفظه.

شهادة الشيخ عبدالرحمن الوكيل:
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، والصلاة والسلام على عبدالله ورسوله محمد خاتم النبيين وسيد ولد آدم أجمعين، وبعد: فإنه كانت لي بالتصوف صلة هي صلة العبر بالمأساة، فهنالك -حيث يدرج بي الصبا في مدارجه السحرية، وتستقبل النفس كل صروف الأقدار بالفرحة الطرب، وتستثني الروح ربا الجمال والحب من كل معاني الحياة- هنالك تحت شفوف الأسحار الوردية من ليالي القرية الوادعة الحالمة، وفي هيكل عبق بغيوم البخار، جثم على صدره صنم صغير يعبده كثير من شيوخ القرية، هنالك في مطاف هذه الذكريات الولهى: كان يجلس الصبي بين شيوخ تغضضت منهم الجباه، وتهدلت الجفون، ومشى الهرم في أيديهم خفقات حزينة راعشة، وفي أجسادهم الهضمية تحولاً ذابلاً، يتراءون تحت وصوصة السراج الخافت أوهام ضيعته الخيبة، وبقايا آمال عصف بها اليأس.
وتتهدج ترانيم الشيوخ تحت السحر -نواحاً بينها صوت الصبي- بالتراتيل الوثنية، وما زال الصبي يذكر أن صلوات ابن بشيش، ومنظومة الدردير كانتا أحب التراتيل إلى أولئك الشيوخ، وما زال يذكر أن أصوات الشيوخ كانت تشرق بالدموع، وتئن فيها الآهات حين كانوا ينطقون من الأولى: "اللهم انشلني من أوحال التوحيد!!" ومن الثانية "وجدلي بجمع الجمع منك تفضلاً" يا للصبي الغرير التعس المسكين!! فما كان يدري أنه بهذه الصلوات المجوسية يطلب أن يكون هو الله هوية وماهية وذاتاً وصفة!! ما كان يدري ما التوحيد الذي يضرع إلى الله أن ينشله من أوحاله!! ولا ما جمع الجمع الذي يبتهل إلى الله أن يمن به عليه.
ويشب الصبي، فيذهب إلى طنطا ليتعلم، وليتفقه في الدين. وثمة يسمع الكبار من شيوخه يقسمون له، ولصحابه: أن "البدوي" قطب الأقطاب، يصرف من شئون الكون، ويدبر من أقداره وغيوبه الخفية!! ويجرؤ الشاب مرة فيسأل خائفاً مرتعداً: وماذا يفعل الله؟! ويهدر الشيخ غضباً، ويزمجر حنقاً، فيلوذ الشاب بالرعب الصامت، وقد استشعر من سؤاله، وغضب الشيخ، أنه لطخ لسانه بجريمة لم تكتب لها مغفرة!! ولم لا؟ والشيخ هذا كبير جليل الشأن والخطر، وما كان يستطيع الشاب أبداً أن يفهم أن مثل هذا الخبر الأشيب –الذي يسائل عنه الموت- يرضى بالكفر، أو يتهوك مع الضلال والكذب. فصدق الشاب شيخه وكذب ما كان يتلو قبل من آيات الله {10:3 ثم استوى على العرش، يدبر الأمر، ما من شفيع إلا من بعد إذنه}! ثم يقرأ الشاب في الكتب التي يدرسها: أن الصوفي فلاناً غسلته الملائكة، وأن فلاناً كان يصلي كل أوقاته في الكعبة، في حين كان يسكن جبل قاف، أو جزائر واق الواق!! وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مد يده من القبر وسلم على الرفاعي!! وأن فلاناً عذبته الملائكة، لأنه حفظ القرآن والسنة وعمل بما فيهما، ولكنه لم يحفظ كتاب الجوهرة في التوحيد!!! وأن مذهبنا في الفقه هو الحق وحده، لأنه أحاديث حذفت أسانيدها!! ويصدق الشاب بكل هذا، ويؤمن، وما كان يمكن إلا أن يفعل هذا.
إذ قال في نفسه: لو لم تكن هذه الكتب حقاً، ما درست في الأزهر، ولا درسها هؤلاء الهرمون من الأحبار ولا أخرجتها المطبعة!! وهل كان يمكن أن يسأل نفسه مثلاً مثل هذا السؤال: أين من الحق البين من كتاب الله، هذا الباطل العربيد في هذه الكتب؟! لا، فلقد جيء به إلى طنطا ليتفقه في الدين على هؤلاء  الشيوخ، وهاهو فقه الدين يسمعه من الشيوخ، ويقرؤه في الكتب، وحسبه هذا!!
وتموج طنطا بالوفود، وتعج بالآمين بين الطاغوت الأكبر من كل حدب، ويجلس الشاب في حلقة يذكر فيها الصوفية اسم الله بخنات الأنوف، ورجات الأرداف ووثنية الدفوف، وثمة يسمع منشد القوم يصيح راقصاً: "ولي صنم في الدير أعبد ذاته" فتتعالى أصوات الدراويش طروبة الصيحات: "إيوه كده اكفر، اكفر يا مربي" ويرى الشاب على وجوه القوم فرحاً وثنياً راقص الإثم بما سمعوا من المنشد الكافر، فيسأل شيخنا ممن وفدوا من أهل قريته: يا سيدي الشيخ، ما ذلك الصنم المعبود؟! فيزم الشيخ شفتيه، ثم يجود على الشاب الواله الحيرة بقوله: "انته لسه صغير"!! ويسكت الشاب قليلاً، ولكن الكفر يضج في النعيق، فيسمع المنشد يقيء "سلكت طريق الدير في الأبدية" "وما الكلب والخنزير إلا إلهنا" ويطوي الشاب نفسه على فزع وعجب يسائل الذهول: ما الكلب؟ ما الخنزير؟ ما الدير وأنى للذهول بأن يجيب؟! ولقد خشي أن يسأل أحد الشيوخ ما دام قد قيل له: "انته لسه صغير" ثم إنه رأى بعض شيوخه الكبار يطوفون بهذه الحمآت، يشربون "القرفة" ويهنئون الأبدال والأنجاب والأوتاد بمولد القطب الغوث سيدهم السيد البدوي!!!
وتكفن دورات الفلك من عمر الشاب سنوات، فيصبح طالباً في كلية أصول الدين فيدرس أوسع كتب التوحيد -هكذا تسمى- فيعي منها كل شيء إلا حقيقة التوحيد، بل ما زادته دراستها إلا قلقاً حزيناً، وحيرة مسكينة. ويجلس الشاب ذات يوم هو وصديق من أصدقائه مع شيخ صوفي أمي. فيسأله عن معاني بعض تهاويل ابن عطاء السكندري "إرادتك التجريد مع إقامة الله إياك في الأسباب من الشهوة الخفية، وإرادتك الأسباب، مع إقامة الله إياك في التجريد، انحطاط على الهمة العلية". ويحار الطالبان، ولا يدريان بم يجيبان هذا الأمي عن هذه الحكم المزعومة -وقد عرفا بعد أنها تهدف إلى تقرير أسطورة رفع التكليف- فتمتلئ نفساهما بالغم المهموم، إذ رسبا في امتحان عقده لهما أمي صوفي؟!
ويدور الزمن فيصبح الشاب طالباً في شعبة التوحيد والفلسفة، ويدرس فيها التصوف، ويقرأ في كتاب صنفه أستاذ من أساتذته، رأي ابن تيمية في ابن عربي. فتسكن نفس الشاب قليلاً إلى ابن تيمية، وكان قبل يراه ضالاً مضلاً. فهذا البهتان الأثيم نعته الدردير!!
وكانت عنده لابن تيمية كتب، بيد أنه كان يرهب مطالعتها، خشية أن يرتاب في الأولياء، كما قال له بعض شيوخه من قبل!!
وخشية أن يضل ضلال ابن تيمية.. ويقرأ الشاب، ويستغرق في القراءة، ثم ينعم القدر على الشاب يصبح مشرق يهتك عنه حجب هذا الليل، فيقر به سراه المضني عند جماعة أنصار السنة المحمدية، فكأنما لقي بها الواحدة الندية السلسبيل بعد دوي ملتهب الهجير. لقد دعته الجماعة على لسان منشئها فضيلة والدنا الروحي الشيخ محمد حامد الفقي إلى تدبر الحق والهدى من الكتاب والسنة، فيقرأ الشباب ويتدبر ما يقرأ وثمة رويداً رويداً ترتفع الغشاوة عن عينيه، فيبهره النور السماوي، وعلى أشعته الهادية يرى الحقائق، ويبصر القيم. يرى النور نوراً والإيمان إيماناً، والحق حقاً، والضلال ضلالاً، وكان قبل -بسحر التصوف- يرى في الشيء عين نقيضه، فيؤمن بالشرك توحيداً، وبالكفر إيماناً، وبالمادية الصماء من الوثنية: روحانية عليا، ويدرك الشاب -وهو لا يكاد يصدق- أن التصوف دين الوثنية والمجوسية، دين ينسب الربوبية والإلهية إلى كل زنديق، وكل مجرم، وكل جريمة!! دين يرى في إبليس، وفرعون، وعجل السامري، وأوثان الجاهلي، يرى في كل هؤلاء الذين لعنتهم كتب الله، بل لعنتهم حتى العقول، يرى فيهم أرباباً وآلهة تهيمن على القدر في أزله وأبده، دين يرى في كل شيء إلهاً يجب أن يعبد. ورباً يخلق ما يشاء ويختار، دين يقرر أن حقيقة التوحيد الأسمى: هي الإيمان بأن الله -سبحانه- عين كل شيء. دين لا تجد فيه فيصلاً بين القيم، ولا بين حقائق الأشياء، ولا بين الضد وضده، ولا بين النقيض ونقيضه. دين يقول عن الجيف - يتأذى منها النتن، وعن الميكروبات تفتك سمومها بالبشرية - إنها هي الإلها، وسبحان ربنا!! دين يقول عن القاتل، عن السارق، عن الباغي، عن كل وغد تسفل في دناءته، عن كل طاغية بغى في تجبره. يقول عن كل هؤلاء: إنهم عينات الذات الإلهية!! فأي إله هذا الذي يقتل، ويبغي، ويفسد في الأرض؟ أي إله هذا الذي يدب تحت جنح الليل تتلظى في عينيه، وعلى يديه الإثم والجريمة الضارية؟ أي إله هذا الذي يلعق دم الضحايا يبرد به غلته، ويخضب بدماء الأعراض التي سفحها يديه الظالمتين؟ أي إله هذا الذي مشى في أيام التاريخ ولياليه بطشاً وظلماً وجبروتاً يدمر، ويخرب، ويصنع القصة الأولى لكل جريمة خاتلة؟! ومن يكون إلا إله الصوفية الذي ابتدع أسطورته سلف ابن عربي، وابن الفارض وغيرهما!!؟.
أيتها البشرية التي تهاب القانون، أو ترهب السماء!! ها هو دين التصوف يناديك ملحاً ملهوف النداء: أن تنحدري معه إلى حيث تترعين من كل خمرة مخمورة، وتتلطخين بكل فسق، وتتمرغين في أوحال الإثم!! وأنتم أيها العاكفون في المساجد؛ لا حاجة بكم إلى الصلاة والصوم والحج والزكاة، بل لا حاجة بكم إلى رب تحبونه وتخافونه، وترجونه، ولا إله تعبدونه.
لم هذا الكدح والجهاد والنصب والعبودية؟ لم هذا وكل فرد منكم في حقيقته هو الرب، وهو الإله كما يزعم الصوفية!!؟ ألا فأطلقوا غرائزكم الحبيسة، ودعوها تعش في الغاب والدخل وحوشاً ضارية، وأفاعي فتاكة! وأنتم يا بني الشرق! دعوا المستعمر الغاصب يسومكم الخسف والهوان، ويلطخ شرفكم بالضعة، وعزتكم بالذل الهين، ويهيمن على مصائركم بما يهوى بطشه الباغي، وبغية الظلوم. دعوه يهتك ما تحمون من أعراض، ويدمر ما تشيدون من معال، وينسف كل ما أسستم من أمجاد، ثم الثموا ضارعين خناجره وهي تمزق منكم الحشاشات، واهتفوا لسياطه، وهي تشوي منكم -أذلاء- الجلود. فما ذلك المستعمر عند الصوفية سوى ربهم، تعين في صورة مستعمر.
دعوا المواخير مفتحة الأبواب، ممهدة الفجاج. ومباءات البغاء تفتح ذراعيها الملهوفتين لكل شريد من ذئاب البشر، وحانات الخمور تطغى على قدسية المساجد، وأقيموا ذهبي الهياكل للأصنام، وارفعوا فوق الذرى منتن الجيف، ثم خروا ساجدين لها، مسبحين باسم ابن عربي وأسلافه وأخلاقه فقد أباح لكم أين تعبد الجيفة، وأن تتوسلوا إلى عبادتها بالجريمة!!
ذلكم هو دين التصوف في وسائله وغاياته وتلك هي روحانيته العليا!!.
ألا فاسمعوها غير هيابة ولا وجلة، واصغوا إلى هتاف الحق يهدر بالحق من أعماق الروح: إن التصوف أدنأ وألأم كيد ابتدعه الشيطان ليسخر معه عباد الله في حربه لله، ولرسله، إنه قناع المجوسي يتراءى بأنه رباني، بل قناع كل عدو صوفي، العداوة للدين الحق، فتش فيه تجد برهمية، وبوذية ، وزرادشتية، ومانوية وديصانية، تجد أفلوطينية، وغنوصية، تجد يهودية ونصرانية، ووثنية جاهلية، تجد فيه كل ما ابتدعه الشيطان من كفر، منذ وقف في جرأة الصوفية يتحدى الله، ويقسم بعزته أنه الذي سيضل غير المخلصين من عباده. تجد فيه كل هذا الكفر الشيطاني، وقد جعل منه الشيطان كفراً جديداً مكحول الإثم متبرج الغواية، متقتل الفتون، ثم سماه للمسلمين: (تصوفاً) وزعم لهم -وأيده في زعمه القدامية والمحدثون من الأحبار والرهبان- أنه يمثل أقدس المظاهر الروحية العليا في الإسلام!! أقولها عن بينة من كتاب الله، وسنة خير المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، وبعون من الله، سأظل أقولها، لعلي أعين الفريسة التعسة على أن تنجو من أنياب هذا الوحش الملثم بوشاح الدعة الحانية العطوف.
ولكن الصوفية سوداً وبيضاً، خضراً وحمراً، سلوهم: ما ردكم على هذا الصوت الهادر من أعماق البحر؟ سيقولون ما قالت وثنية عاد (إن نراك إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) وآلهتهم هي قباب أضرحة الموتى وأعتابها!! دمغناهم بالحق، فراحوا يعوون عواء اللص الحذر، وقع فجأة في قبضة الحارس، وجأروا بالشكوى الذليلة إلى النيابة، فلم تر النيابة فيمن يمسك بالبريء إلا مجرماً، وشكوا إلى رئيس حكومة سابق، وختموا الشكاة بهذه الضراعة الذليلة: "والله نسأل لمقامكم الرفيع الخير والسؤدد في ظل حامي الدين حضرة صاحب الجلالة المعظم صان عرشه، وأيد حكومته الرشيدة وألهمها التوفيق" (قدموا هذه الشكوى بتاريخ 4 أغسطس سنة 1951م)، فلم يرى الرئيس السابق فيمن يثرم أنياب الرقطاء مجرماً. وطاح الحق ببغي إلههم وملاذهم حامي دينهم، كما كانوا يلقبونه.
وما زلنا -بعون من الله-نستلهمه- بكتاب الله نتحداهم، وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نحاججهم، والله على كل شيء شهيد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
سيقول الناعمون -من ذوي الألسنة التي استمرأت كلمات الذل والعبودية، وليونة النفاق، وممن يتملقون الجماهير على حساب الحق، ويزعمون أنهم لا يحبون إثارة شقاق، أو جدال، ولا الطعن على أحد -سيقول هؤلاء: ما هكذا يكون النقد، ولا هكذا يكون البحث العلمي!! لا. أيها المدللون الخانعون للأساطير، فإنا لسنا أمام جماعة مسلمة، فنخشى إثارة الشقاق بينهم، ولو خشي الرسول مثل هذا لما لأ قريشاً على حساب الحق، ولكنه صلى الله عليه وسلم أطاع أمر ربه {94:15 فاصدع بما تؤمر، وأعرض عن المشركين} ووعى قلبه - المشرق المؤمن الطهور التقي- موعظة ربه فيما قاله له العلي الكبير {9:68 ودوا لو تدهن فيدهنون} وفيما قال له {75:17 وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك، لتفتري علينا غيره، وإذا لاتخذوك خليلاً، ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً، إذا لأذقناك ضعف الحياة، وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً} فكان سيد ما يستغفر به الرسول الكريم الأمين ربه: [اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت] فكيف بنا نحن اليوم الذين أمرنا أن جعل الرسول وحده لنا الأسوة؟!
ولسنا كذلك أمام فئة تحترم العقل، بل تزدريه وتحقره، ثم تهب في قحة طاغية الجراءة لتشتم الله، وتذود عن إبليس وفرعون وعباد العجل والوثن، داعية المسلمين إلى اتخاذ هؤلاء أرباباً وآلهة، وسيرد على القارئ عشرات النصوص من نصوص ابن عربي وتائية بن الفارض شهيدة عليهم بما ذكرت، وابن عربي وابن الفارض قطبا التصوف، وإماما الصوفية المعاصرة. فكيف يعاب علينا أننا ندافع عن دين الله، وأنا نقول للشيطان: إنك أنت الشيطان؟
ما نقول عن رجل –وهو ابن عربي- يفتري أدنأ البهتان على الله، فيصوره في صورة رجل وامرأة يقترفان الإثم، مؤكداً لأتباعه أن الجسدين الآثمين هما في الحقيقة ذات الله، سبحانه؟! وسبحان رب العزة عما يصف الإثم.
فلا نلام إذا هتكنا القناع عن وجه هذا الرجل، ليبصره المخدوعون به، ليبصره مسخاً ثانياً للشيطان؟ إننا في ميدان مستعر الأتون، يقاتلنا فيه عدو دنيء يتراءى أنه الأخ الشقيق الحنو، الندي الرحمة، فلا أقل من أن نحاربه بما يدفع ضره وشره، ويحول بينه وبين الفضاء على الرمق الذابل من عقائد المسلمين، وبين تشتيت الحشاشة الباقية من الجماعة الإسلامية. (مقدمة كتاب تنبيه الغبي إلى كفر ابن عربي من ص3-10، بقلم عبدالرحمن الوكيل).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق