الجمعة، 11 سبتمبر 2015

الرد على الصوفية الاءشعرية==والإيمان بالقدر على درجتين كل درجة تتضمن شيئين:
فالدرجة الأولى: الإيمان بالله – تعالى – علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم، الذي هو موصوف به أزلاً وأبداً، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات، والمعاصي، والأرزاق، والآجال، ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق.
(فأول ما خلق الله القلم قال له: اكتب. قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة)( ). فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، جفت الأقلام، وطويت الصحف كما قال – تعالى-: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحج: 70]، وقال: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحديد: 22].
تضمنت هذه الدرجة مرتبتين من مراتب الإيمان بالقدر:
الأولى: علم الله – تبارك وتعالى – بالأشياء قبل وقوعها: ((دل على ذلك الكتاب، والسنة، وجاءت به الآثار))( )، و((اتفق عليه الرسل من أولهم إلى خاتمهم، واتفق عليه جميع الصحابة، ومن تبعهم من الأمة))( ). ((ففي القرآن، والحديث، والآثار ما لا يكاد يحصر))( ) من دلائل ذلك، ((فإن القرآن قد أخبر بأنه – سبحانه – يعلم ما سيكون في غير موضع، بل أبلغ من ذلك أنه قدر مقادير الخلائق كلها، وكتب ذلك قبل أن يخلقها، فقد علم ما سيخلقه علماً مفصلاً))( )، ((وقد أخبر في القرآن من المستقبلات التي لم تكن بعد بما شاء الله، بل أخبر بذلك نبيه، وغير نبيه، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء))( ).
الثانية: كتابة الله – تعالى – لمقادير الأشياء قبل كونها، وقد ((ثبت ذلك في صريح الكتاب، والسنة، وآثار السلف))( ). ((فالله – سبحانه – قدر، وكتب مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم كما ثبت في صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء)( )، وفي البخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان الله، ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض)( )، وفي رواية: (ثم خلق السماوات والأرض)، فقد قدر – سبحانه – ما يريد أن يخلقه من هذا العالم حين كان عرشه على الماء إلى يوم القيامة))( ) كما جاء في حديث أمر القلم بالكتابة( ). و((أحاديث تقديره – سبحانه-، وكتابته لما يريد أن يخلقه كثيرة جداً))( ).
  
وهذا التقدير التابع لعلمه – سبحانه – يكون في مواضع جملة، وتفصيلاً، فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء، وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكاً فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له: اكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد، ونحو ذلك.
وبيان هذا أن ((التقدير، والكتابة تكون تفصيلاً بعد جملة، فالله – تعالى – لما قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات، والأرض بخمسين ألف سنة لم يظهر ذلك التقدير للملائكة، ولما خلق آدم قبل أن ينفخ فيه الروح أظهر لهم ما قدره كما يظهر لهم ذلك من كل مولود كما في الصحيح عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله إليه الملك، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد)، وفي طريق آخر، وفي رواية: (ثم يبعث إليه الملك، فيؤمر فيقال: اكتب رزقه، وعمله، وأجله، وشقي أم سعيد، ثم ينفخ فيه الروح)( )، فأخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بعد خلق جسد ابن آدم، وقبل نفخ الروح فيه ))( )، ومن التفصيل بعد الإجمال ما يكون ليلة القدر كما قال – تعالى-: ﴿حم  وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ  إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ  فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان: 1-4]، ((فهي ليلة الحكم، والتقدير))( ). ((يقضي الله كل أجل، وعمل، ورزق إلى مثلها))( ).
ومن ذلك أيضاً ما يكون في كل يوم كما في قوله – تعالى-: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرحمن: 29]، ومن شأنه – جل شأنه – أن ((يسوق المقادير التي قدرها قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف عام إلى مواقيتها، فلا يتقدم شيء منها عن وقته، ولا يتأخر، بل كل منها قد أحصاه كما أحصاه كتابه، وجرى به قلمه، ونفذ فيه حكمه، وسبق به علمه))( ).
  
فهذا القدر قد كان ينكره غلاة القدرية قديماً، ومنكروه اليوم قليل.
وبيان هذا أن ((غلاة القدرية ينكرون علمه المتقدم، وكتابته السابقة، ويزعمون أنه أمر ونهي، وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه، بل الأمر أنف: أي مستأنف.
وهذا القول أول ما حدث في الإسلام بعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين، وبعد إمارة معاوية بن أبي سفيان في زمن الفتنة التي كانت بين ابن الزبير، وبين بني أمية في أواخر عصر عبدالله بن عمر، وعبدالله بن عباس، وغيرهما من الصحابة، وكان أول من ظهر عنه ذلك بالبصرة معبد الجهني، فلما بلغ الصحابة قول هؤلاء تبرؤوا منهم، وأنكروا مقالتهم كما قال عبدالله بن عمر لما أخبر عنهم: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم براء مني، وكذلك كلام ابن عباس، وجابر بن عبدالله، وواثلة بن الأسقع، وغيرهم من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، وسائر أئمة المسلمين فيهم كثير حتى قال فيهم الأئمة كمالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم: إن المنكرين لعلم الله المتقدم يكفرون، ثم كثر خوض الناس في القدر، فصار جمهورهم يقر بالعلم المتقدم، والكتاب السابق لكن ينكرون عموم مشيئته، وعموم خلقه، وقدرته))( ).
  
وأما الدرجة الثانية: فهي مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السماوات، وما في الأرض من حركة، ولا سكون، إلا بمشيئة الله – سبحانه-، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد، وأنه – سبحانه – على كل شيء قدير من الموجودات، والمعدومات. فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه – سبحانه-، لا خالق غيره، ولا رب سواه. ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته، وطاعة رسوله، ونهاهم عن معصيته، وهو – سبحانه – يحب المتقين، والمحسنين، والمقسطين، ويرضى عن الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، ولا يحب الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد.
تضمنت هذه الدرجة مرتبتين من مراتب الإيمان بالقدر، وهما:
الأولى: مشيئة الله النافذة، ((فأهل السنة متفقون على إثبات القدر، وأن الله على كل شيء قدير))( )، و((أنه ما شاء الله كان، فوجب وجوده، وما لم يشأ لم يكن، فامتنع وجوده))( )، ((فما شاء الله كان، وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن، وإن شاء الناس، لا معقب لحكمه، ولا راد لأمره)) ( )، وعلى هذا ((اتفق المسلمون))( )، و((عليها إجماع الرسل من أولهم إلى آخرهم، وجميع الكتب المنزلة من عند الله، والفطرة التي فطر الله عليها خلقه، وأدلة العقول، والعيان))( ). والقرآن، والسنة مملوءان مما يدل على هذا.
الثانية: خلق – الله – تعالى لكل شيء، فمذهب أهل السنة والجماعة على ((أن الله خالق كل شيء، وربه، ومليكه، وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بأنفسها، وصفاتها القائمة بها من أفعال العباد، وغير أفعال العباد))( ). وهذا ((ما دل عليه الكتاب، والسنة، وكان عليه السابقون الأولون من المهاجرين، والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان))( ). ((وهذا أمر متفق عليه بين الرسل-صلى الله عليهم وسلم-، وعليه اتفقت الكتب الإلهية، والفطر، والعقول، والاعتبار))( )، بل أدلة هذا من القرآن، والسنة لا تكاد تحصر( ).
ومما يجب التنبه له في هذا المقام أنه لا يلزم من اعتقاد أن كل ما شاء الله وجوده، وكونه فقد أمر به، ورضيه، فإن أهل السنة والجماعة ((يقولون بما اتفق عليه السلف من أنه – سبحانه – ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ويثبتون الفرق بين مشيئته، وبين محبته، ورضاه. فيقولون:
إن الكفر، والفسوق، والعصيان، وإن وقع بمشيئته، فهو لا يحبه، ولا يرضاه، بل يسخطه، ويبغضه. ويقولون: إرادة الله في كتابه نوعان: نوع بمعنى المشيئة لما خلق، ونوع بمعنى محبته، ورضاه لما أمر به، وإن لم يخلقه))( ). وقد تقدم بيان هاتين الإرادتين، وأدلتهما في إثبات صفة الإرادة لله – تعالى-. وحكم الله – سبحانه وتعالى – ((يجري على وفق هاتين الإرادتين، فمن نظر إلى الأعمال بهاتين العينين كان بصيراً، ومن نظر إلى القدر دون الشرع، أو الشرع دون القدر كان أعور))( ).
فتبين بهذا ((أنه يحب ما لا يريد، ويريد ما لا يحبه، وذلك أن المراد قد يراد لغيره، فيريد الأشياء المكروهة؛ لما في عاقبتها من الأشياء المحبوبة، ويكره فعل بعض ما يحبه؛ لأنه يفضي إلى ما يبغضه. والله – تعالى – له الحكمة فيما يخلقه، وهو – سبحانه – يحب المتقين، والمحسنين، والتوابين، ويرضى عن الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، ويفرح بتوبة التائب. . . . ))( ). وهو – سبحانه – ((لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يأمر بالفحشاء، بل قال لما نهى عنه: ﴿كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً﴾ [الإسراء: 38]))( )، وتفصيل أدلة هذا ما تقدم أكثره في سياق آيات الصفات.
  
والعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم، والعبد هو المؤمن، والكافر، والبر، والفاجر، والمصلي، والصائم. وللعباد قدرة على أعمالهم، ولهم إرادة، والله خالقهم وخالق قدرتهم، وإرادتهم،
بيان هذا أن جمهور أهل السنة والجماعة على ((أن أفعال الإنسان الاختيارية مستندة إليه، وأنه فاعل لها، ومحدث لها))( )، و((العبد فاعل لفعله حقيقة لا مجازاً))( )، ((هذا قول السلف والأئمة))( ). وهو الحق ((الذي دل عليه المنقول والمعقول))( )، فإن ((الله، ورسوله وصف العبد بأنه يعمل، ويفعل))( )، وقد جاءت النصوص ((بإثبات فعله في عامة آيات القرآن: (يعملون)، (يفعلون)، (يؤمنون)، (يكفرون)، (يتفكرون)، (يحافظون)، (يتقون)))( )، , و((لم يكن من السلف والأئمة من يقول: إن العبد ليس بفاعل، ولا مختار، ولا مريد، ولا قادر، ولا قال أحد منهم: إنه فاعل مجازاً، بل من تكلم منهم بلفظ الحقيقة، والمجاز متفقون على أن العبد فاعل حقيقة))( ).
((ومما اتفق عليه سلف الأمة، وأئمتها أن العباد لهم مشيئة، وقدرة يفعلون بمشيئتهم، وقدرتهم ما أقدرهم الله عليه كما قال الله – تعالى-: ﴿كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ  فَمَن شَاء ذَكَرَهُ  وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ﴾ [المدثر: 54 – 56]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾ [المزمل: 19]، ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيماً﴾ [الإنسان: 30]))( ).
ومما اتفق عليه سلف الأمة، وأئمتها ((أن الله خالق كل شيء من أفعال العباد))( )، فالعبد مخلوق لله – تعالى-، ((والله – تعالى – خالق ذاته، وصفاته، وأفعاله))( ). ((والقرآن مملوء بما يدل على أن أفعال العباد حادثة بمشيئته وقدرته، وخلقه))( )، فإن ((في القرآن من ذكر تفصيل أفعال العباد التي بقلوبهم، وجوارحهم، وأنه هو – تبارك وتعالى – يحدث من ذلك ما يطول وصفه كقوله – تعالى-: ﴿فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ﴾ [الأعراف: 30]))( ).
  
كما قال – تعالى-: ﴿لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ  وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [التكوير: 28- 29].
وبيان ذلك أن الله ((– تعالى – قال: ﴿لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ﴾ [التكوير: 28] فأثبت للعبد مشيئة وفعلاً، ثم قال: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [التكوير: 29] فبين أن مشيئة العبد متعلقة بمشيئة الله))( ).
((وهذا صريح قول أهل السنة في إثبات مشيئة العبد، وأنها لا تكون إلا بمشيئة الرب))( )، ((وأن العبد له قدرة، وإرادة، وفعل، وهو فاعل حقيقة، والله خالق ذلك كله كما هو خالق كل شيء))( ).
  
وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة، ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات حتى سلبوا العبد قدرته، واختياره؛ ويخرجون عن أفعال الله، وأحكامه حكمها، ومصالحها.
وبيان هذا أن ((مسألة القدر مسألة عظيمة ضل فيها طائفتان من الناس))( ).
الطائفة الأولى: ((قدرية مجوسية تثبت الأمر، والنهي، وتنفي القضاء، والقدر))( )، فزعم هؤلاء ((أن في المخلوقات ما لا تتعلق به قدرة الله، ومشيئته، وخلقه كأفعال العباد، وغلاتهم أنكروا علمه القديم، وكتابه السابق، وهؤلاء هم أول من حدث من القدرية في هذه الأمة، فرد عليهم الصحابة، وسلف الأمة، وتبروا منهم))( )، ((وهم ضلال مبتدعة مخالفون للكتاب، والسنة، وإجماع سلف الأمة، ولما عرف بالعقل، والذوق))( ).
وقول هؤلاء القدرية المجوسية ((يتضمن الإشراك، والتعطيل، فإنه يتضمن إخراج بعض الحوادث عن أن يكون لها فاعل، ويتضمن إثبات فاعل مستقل غير الله، وهاتان شعبتان من شعب الكفر، فإن أصل كل كفر التعطيل، أو الشرك))( ). ((ولهذا أسماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة؛ لأنهم دانوا بديانة المجوس، وضاهوا قولهم، وزعموا أن للخير، والشر خالقين كما زعمت المجوس، وأنه يكون من الشر ما لا يشاؤه الله كما قالت المجوس ذلك))( )، ففي سنن ابن ماجه، وغيره عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن مجوس هذه الأمة المكذبون بأقدار الله – تعالى – إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم، وإن لقيتموهم فلا تسلموا عليهم)( ).
الطائفة الثانية: ((قدرية مشركة تثبت القضاء، والقدر، وتكذب بالأمر، والنهي، أو ببعض ذلك))( )، فهؤلاء ((أنكروا أن يكون العبد فاعلاً لأفعاله، وأن تكون له قدرة لها تأثير في مقدورها، أو أن يكون في المخلوقات ما هو سبب لغيره، وأن يكون الله خلق شيئاً لحكمة))( ).
((وأول من ظهر عنه إنكار ذلك هو الجهم بن صفوان وأتباعه))( )، ((فلما حدثت مقالته المقابلة لمقالة القدرية أنكرها السلف، والأئمة كما أنكروا قول القدرية من المعتزلة، وغيرهم، وبدعوا الطائفتين))( ).
((وأشد الطوائف قرباً من هؤلاء هو الأشعري ومن وافقه من الفقهاء أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم، وهو مع هذا يثبت للعبد قدرة محدثة، واختياراً، ويقول: إن الفعل كسب للعبد، لكنه يقول: لا تأثير لقدرة العبد على إيجاد المقدور، فلهذا قال من قال: إن هذا الكسب الذي أثبته الأشعري غير معقول))( ).
  
فصل
ومن أصول أهل السنة والجماعة أن الدين والإيمان قول، وعمل: قول القلب، واللسان، وعمل القلب، واللسان، والجوارح،
بيان هذا أن ((أهل السنة والجماعة من الصحابة جميعهم، والتابعين، وأئمة أهل السنة، وأهل الحديث))( ) متفقون ((على أن الإيمان، والدين قول، وعمل، هذا لفظ الصحابة، وغيرهم))( ). ((فالنقول متواترة عن السلف بأن الإيمان قول، وعمل))( )، حتى صار هذا القول ((عند أهل السنة من شعائر السنة، وحكى غير واحد الإجماع على ذلك))( ). ((ومن قال من السلف: الإيمان قول، وعمل أراد قول القلب، واللسان، وعمل القلب، والجوارح))( ).
والمراد بقول القلب: ((تصديق القلب، وإقراره، ومعرفته))( )،
وأما عمله ((فهو الانقياد))( )، ويدخل في هذا ((أعمال القلوب التي أوجبها الله، ورسوله، وجعلها من الإيمان))( )، ((مثل: حب الله، ورسوله، وخشية الله، وحب ما يحبه الله، ورسوله، وبغض ما يبغضه الله ورسوله، وإخلاص العمل لله وحده، وتوكل القلب على الله وحده))( )، ولا يكون القلب موصوفاً بالإيمان إلا ((بانقياد القلب مع معرفته))( )، وهذا أمر ((ظاهر ثابت بدلائل الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، بل ذلك معلوم بالاضطرار من دين الإسلام))( ).
أما قول اللسان ((فهو الإقرار))( ) بالشهادتين، ((والتصديق باللسان))( ) وذلك بالنطق بهما، فإنه ((إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين، وهو كافر باطناً، وظاهراً عند سلف الأمة، وأئمتها، وجماهير علمائها))( ). فإن ((من لم يصدق بلسانه مع القدرة لا يسمى في لغة القوم مؤمناً كما اتفق على ذلك سلف الأمة من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان))( ).
وأما عمل الجوارح فهو ثمرة ما في القلب من قول، وعمل ((والظاهر تابع للباطن لازم له: متى صلح الباطن صلح الظاهر، وإذا فسد فسد))( ). ((فالقلب هو الأصل، فإذا كان فيه معرفة، وإرادة سرى ذلك إلى البدن بالضرورة، لا يمكن أن يتخلف البدن عما يريده القلب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب) ( )))( )، و ((القرآن يبين أن إيمان القلب يستلزم العمل الظاهر بحسبه))( ). ((فالإيمان اسم لجميع الطاعات الباطنة، والظاهرة))( ).
وقد تنوعت ((أقوال السلف، وأئمة السنة في تفسير الإيمان، فتارة يقولون: هو قول، وعمل. وتارة يقولون: هو قول، عمل، ونية. وتارة يقولون: قول، وعمل، ونية، واتباع سنة. وتارة يقولون: قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح. وكل هذا صحيح، فإذا قالوا: قول، وعمل، فإنه يدخل في القول قول القلب، واللسان جميعاً))( )، وكل هذه التفاسير ترجع إلى معنى واحد، وإنما هو تنوع عبارة، فمن ((قال من السلف: الإيمان قول: وعمل، أراد قول القلب، واللسان، وعمل القلب والجوارح. ومن أراد الاعتقاد رأى أن لفظ القول لا يفهم منه إلا القول الظاهر، أو خاف ذلك، فزاد الاعتقاد، وقول اللسان. وأما العمل فقد لا يفهم منه النية، فزاد ذلك. ومن زاد اتباع السنة، فلأن ذلك كله لا يكون محبوباً لله إلا باتباع السنة، وأولئك لم يريدوا كل قول، وعمل، إنما أرادوا ما كان مشروعاً من الأقوال، والأعمال. ولكن كان مقصودهم الرد على المرجئة الذين جعلوه قولاً قط، فقالوا: بل هو قول، وعمل، إنما أرادوا ما كان مشروعاً من الأقوال، والأعمال. ولكن كان مقصودهم الرد على المرجئة الذين جعلوه قولاً فقط، فقالوا: بل هو قول، وعمل. والذين جعلوه أربعة أقسام فسروا مرادهم كما سئل سهل بن عبدالله التستري عن الإيمان ما هو؟ فقال: قول، وعمل، ونية، وسنة؛ لأن الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كفر، وإذا كان قولاً، وعملاً بلا نية فهو نفاق، وإذا كان قولاً، وعملاً، ونية بلا سنة فهو بدعة))( )، وبهذا يتبين أنه ((ليس بين هذه العبارات اختلاف معنوي))( ).
وأما تعريف الإيمان بالتصديق فليس بسديد، وذلك ((أن الإيمان، وإن كان يتضمن التصديق، فليس هو مجرد التصديق، وإنما هو الإقرار، والطمأنينة. وذلك لأن التصديق إنما يعرض للخبر فقط، فأما الأمر فليس فيه تصديق من حيث هو أمر، وكلام الله: خبر وأمر، فالخبر يستوجب تصديق المخبر، والأمر يستوجب الانقياد له، والاستسلام، وهو عمل في القلب جماعه الخضوع، والانقياد للأمر، وإن لم يفعل المأمور به فإذا قوبل الخبر بالتصديق، والأمر بالانقياد، فقد حصل أصل الإيمان في القلب، وهو الطمأنينة، والإقرار. فإن اشتقاقه من الأمن الذي هو القرار، والطمأنينة، وذلك إنما يحصل إذا استقر في القلب التصديق، والانقياد))( ).
  
وأن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية،
وبيان هذا أن المأثور عن الصحابة، وأئمة التابعين، وجمهور السلف، وهو مذهب أهل الحديث، وهو المنسوب إلى أهل السنة أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية))( ).
((والذي مضى عليه سلف الأمة، وأئمتها أن نفس الإيمان الذي في القلوب يتفاضل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)( )، وأما زيادة العمل الصالح الذي على الجوارح، ونقصانه فمتفق عليه))( ). ((والزيادة قد نطق بها القرآن في عدة آيات))( )، ((قال الله – تعالى-: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحجرات: 15]، وقال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ – إلى قوله: -أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ [الأنفال 2 – 4]، وقال: ﴿فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ﴾ [آل عمران: 173]، و قال: ﴿لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ﴾ [الفتح: 4] وقال: ﴿فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ [التوبة: 124].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)( )، وقال لوفد عبدالقيس: (آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم)( )))( ).
((وعلى هذا فنقول: إذا نقص شيء من واجباته فقد ذهب ذلك الكمال والتمام))( ).
  
وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي، والكبائر كما يفعله الخوارج،
وبيان هذا ((أن أئمة المسلمين، أهل المذاهب الأربعة، وغيرهم مع جميع الصحابة، والتابعين لهم بإحسان متفقون على أن المؤمن لا يكفر بمجرد الذنب كما تقول الخوارج))( ). ((فإنه ثبت بالكتاب، والسنة، وإجماع السلف أن الزاني غير المحصن يجلد، ولا يقتل، والشارب يجلد، والقاذف يجلد، والسارق يقطع، ولو كانوا كفاراً لكانوا مرتدين، ووجب قتلهم، وهذا خلاف الكتاب، والسنة، وإجماع السلف))( ). ((فهذه النصوص صريحة بأن الزاني، والشارب، والسارق، والقاذف ليسوا كفاراً مرتدين يستحقون القتل، فمن جعلهم كفاراً فقد خالف نص القرآن والسنة المتواترة))( ).
((وهؤلاء الخوارج لهم أسماء يقال لهم: الحرورية؛ لأنهم خرجوا بمكان يقال له حروراء، ويقال لهم: أهل النهروان؛ لأن علياً قاتلهم هناك))( ). ((وهم أول من كفر أهل القبلة بالذنوب، بل بما يرونه هم من الذنوب، واستحلوا دماء أهل القبلة بذلك، فكانوا كما نعتهم النبي صلى الله عليه وسلم: (يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان)( ) ))( ). وبدعتهم ((أول البدع ظهوراً في الإسلام، وأظهرها ذماً في السنة، والآثار))( ).
والمراد بأهل القبلة أهل الإسلام، وذلك لأن ((شعار المسلمين الصلاة، ولهذا يعبر عنهم بها، فيقال: اختلف أهل الصلاة واختلف أهل القبلة، والمصنفون لمقالات المسلمين يقولون: مقالات الإسلاميين، واختلاف المصلين، وفي الصحيح: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم له ما لنا، وعليه ما علينا)( )))( ). ويدخل فيما ذكرنا أهل البدع والأهواء، فإنهم لا يكفرون إذ ((لا يلزم إذا كان القول كفراً أن يكفر كل من قاله مع الجهل، والتأويل، فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين كثبوت الوعيد في الآخرة، وذلك له شروط وموانع))( ).
ومما ينبغي التنبه له أننا ((إذا قلنا: أهل السنة متفقون على أنه لا يكفر بالذنب، فإنما نريد به المعاصي كالزنى والشرب))( )، أما مباني الإسلام كالصلاة، والزكاة، والصوم ((ففي تكفير تاركها نزاع مشهور))( ).
  
بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي كما قال – سبحانه – في آية القصاص: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: 178]، وقال: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ  إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكم﴾ [الحجرات: 9- 10].
فالله – جل وعلا – وصف الطائفتين المقتتلتين: ((بالإيمان مع الاقتتال والبغي، وأخبر أنهم إخوة، وأن الأخوة لا تكون إلا بين المؤمنين لا بين مؤمن وكافر))( ).
  
ولا يسلبون الفاسق الملي الإيمان بالكلية، ولا يخلدونه في النار كما تقوله المعتزلة،
وبيان هذا أن ((الفاسق من أهل السنة مثل الزاني، والسارق، والشارب، ونحوهم))( ) ((ممن له طاعات، ومعاص، وحسنات، وسيئات، ومعه من الإيمان ما لا يخلد معه في النار، وله من الكبائر ما يستوجب دخول النار))( ) القول الوسط فيه هو قول أهل السنة والجماعة. فإنهم ((لا يسلبونه الاسم على الإطلاق، ولا يعطونه على الإطلاق))( )، بل يقولون: ((هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن عاص، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته. ويقال: ليس بمؤمن حقاً، أو ليس بصادق حقاً))( ). ((فأهل السنة متفقون على أنه قد سلب كمال الإيمان الواجب فزال بعض إيمانه الواجب لكنه من أهل الوعيد))( ).
والخلاف في هذه المسألة، مسألة الأسماء والأحكام، هو ((أول خلاف حدث في مسائل الأصول حيث كفرت الخوارج بالذنب فجعلوا صاحب الكبيرة كافراً))( ).
((وقالت المعتزلة: بل ينزل منزلة بين المنزلتين، فنسميه فاسقاً لا مسلماً، ولا كافراً))( )، فهو ((ليس بمؤمن بوجه من الوجوه، ولا يدخل في عموم الأحكام المتعلقة باسم الإيمان))( ) هذا من حيث الاسم.
أما بالنسبة للحكم ((فأهل السنة، والحديث، وأئمة الإسلام المتبعون للصحابة لا يقولون بتخليد أحد من أهل القبلة في النار كما تقوله الخوارج، والمعتزلة، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة:
(أنه يخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)( )، وإخراجه من النار من يخرج بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم فيمن يشفع له من أهل الكبائر من أمته، وهذه أحاديث كثيرة مستفيضة متواترة عند أهل العلم بالحديث))( ).
و((الخوارج والمعتزلة يقولون: صاحب الكبائر الذي لم يتب منها مخلد في النار ليس معه شيء من الإيمان، ثم الخوارج تقول: هو كافر، والمعتزلة توافقهم على الحكم لا على الاسم))( )، فإنهم ((نازعوا غيرهم في الاسم))( ).
  
بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ﴾ [النساء: 92].
وبيان ذلك أن المراد في الآية ((من أظهر الإسلام، فإن الإيمان الذي علقت به أحكام الدنيا هو الإيمان الظاهر، وهو الإسلام، فالمسمى واحد في الأحكام الظاهرة، ولهذا لما ذكر الأثرم لأحمد احتجاج المرجئة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعتقها، فإنها مؤمنة)( )، أجابه بأن المراد حكمها في الدنيا حكم المؤمنة، لم يرد أنها مؤمنة عند الله تستحق دخول الجنة بلا نار إذا لقيته بمجرد هذا الإقرار))( )، والفاسق يتناوله اسم الإيمان ((فيما أمر الله به، ورسوله؛ لأن ذلك إيجاب عليه، وتحريم عليه، وهو لازم له كما يلزمه غيره))( )، والفاسق يدخل ((في الخطاب بالإيمان؛ لأن الخطاب بذلك هو لمن دخل في الإيمان، وإن لم يستكمله فإنه إنما خوطب ليفعل تمام الإيمان))( ).
  
وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله – تعالى-: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال: 2]. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن))( ). ونقول: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، فلا يعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم بكبيرته.
وبيان هذا أن صاحب الكبيرة كالزاني، والسارق، وشارب الخمر، ونحوهم لا يدخلون في اسم الإيمان المطلق، وذلك ((لأن الإيمان المطلق هو الذي يستحق صاحبه الثواب، ودخول الجنة، وهؤلاء ليسوا من أهله))( )، ولأن ((حكم اسم الإيمان إذا أطلق في كلام الله ورسوله، فإنه يتناول فعل الواجبات، وترك المحرمات ))( )، وقد دل القرآن ((على أن الإيمان المطلق مستلزم للأعمال))( ). فالمؤمن ((المطلق في باب الوعد والوعيد هو المستحق لدخول الجنة بلا عقاب، وهو المؤدي للفرائض المجتنب للمحارم، وهؤلاء هو المؤمنون عند الإطلاق))( ). و((لهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق على من ارتكب كبيرة، أو ترك فريضة؛ لأن اسم الشيء الكامل يقع على الكامل منه، ولا يستعمل في الناقص ظاهراً إلا بقيد، ولذلك جاز إطلاق نفيه عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن) ( )))( ). و((الزاني، والسارق، والشارب، والمنتهب لم يعدم الإيمان الذي به يستحق أن لا يخلد في النار، وبه ترجى له الشفاعة، والمغفرة، وبه يستحق المناكحة، والموارثة لكن عدم الإيمان الذي به يستحق النجاة من العذاب، ويستحق به تكفير السيئات، وقبول الطاعات، وكرامة الله، ومثوبته، وبه يستحق أن يكون محموداً مرضياً))( ).
وهذا التفصيل في إطلاق اسم الإيمان على الفاسق هو الصحيح ((فإذا سئل عن أحكام الدنيا كعتقه في الكفارة، قيل: هو مؤمن، وكذلك إذا سئل عن دخوله في خطاب المؤمنين.
وأما إذا سئل عن حكمه في الآخرة، قيل: ليس هذا النوع من المؤمنين الموعودين بالجنة، بل معه إيمان يمنعه الخلود في النار، ويدخل به الجنة بعد أن يعذب في النار إن لم يغفر الله له ذنوبه، ولهذا قال من قال: هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، أو مؤمن ناقص الإيمان))( ).
ومن المعلوم أن ((نفي الإيمان المطلق لا يستلزم أن يكونوا منافقين كما في قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 1]، ثم قال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ  الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ  أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ [الأنفال: 2 – 4]، ومعلوم أنه ليس من لم يكن كذلك يكون منافقاً من أهل الدرك الأسفل من النار بل لا يكون قد أتى بالإيمان الواجب))( )، فإن المنفي عن الفاسق: ((إنما هو المجموع لا كل جزء من أجزائه كما إذا ذهب واحد من العشرة لم تبق العشرة عشرة، لكن بقي أكثر أجزائها))( ).
وأما إعطاء الفاسق اسم الإيمان المطلق فهي طريقة المرجئة، والجهمية، فصاحب الكبيرة عندهم مؤمن تام الإيمان( ). و((أصل نزاع هذه الفرق في الإيمان من الخوارج، والمرجئة، والمعتزلة، والجهمية، وغيرهم أنهم جعلوا الإيمان شيئاً واحداً إذا زال بعضه زال جميعه، وإذا ثبت بعضه ثبت جميعه، فلم يقولوا بذهاب بعضه وبقاء بعضه))( ).
وخالفوا بذلك ما دلت عليه النصوص، فإن ((نصوص الرسول وأصحابه تدل على ذهاب بعضه، وبقاء بعضه، كقوله: (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان) ( )))( ).
فأهل السنة، وأئمتها ((متفقون على أن الفساق الذين ليسوا منافقين معهم شيء من الإيمان يخرجون به من النار. هو الفارق بينهم وبين الكفار والمنافقين))( ). وبهذا تجتمع النصوص، ولله الحمد.
  

فصل
ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم، وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفهم الله في قوله – تعالى-: ﴿ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحشر: 10]،
بيان هذا أن أهل السنة والجماعة ((مجمعون على أن الواجب))( ) في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ((الثناء عليهم، والاستغفار لهم، والترحم عليهم، والترضي عنهم، واعتقاد محبتهم، وموالاتهم، وعقوبة من أساء فيهم القول))( )، فإن ((من أعظم خبث القلوب أن يكون في قلب العبد غل لخيار المؤمنين، وسادات أولياء الله بعد النبيين، ولهذا لم يجعل الله – تعالى – في الفيء نصيباً لمن بعدهم إلا الذين يقولون: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحشر: 10]))( )، ((فأهل السنة يترحمون على الجميع، ويستغفرون لهم كما أمرهم الله – تعالى –))( ). و((قد قال كثير من السلف: إن الرافضة لا حق لهم من الفيء؛ لأن الله إنما جعل الفيء للمهاجرين، والأنصار: ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحشر: 10] فمن لم يكن قلبه سليماً لهم، ولسانه مستغفراً لهم، لم يكن من هؤلاء))( )، ومنع الفيء عنهم عقوبة لهم، ولا عقوبة إلا في ترك ما يجب.
وهذا أصل مطرد عند أهل السنة والجماعة لكل من صحب النبي صلى الله عليه وسلم قليلاً أو كثيراً، فإن ((اسم الصحبة اسم جنس يعم قليل الصحبة، وكثيرها، وأدناها أن يصحبه زمناً قليلاً))( ).
  
وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم، ولا نصيفه))( ).
وبيان هذا أن ((سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حرام بالكتاب، والسنة.
أما الأول، فلأن الله يقول: ﴿وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا﴾ [الحجرات: 12]، وأدنى أحوال الساب أن يكون مغتاباً، وقال – تعالى –: ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ﴾ [الهمزة: 1]، وقال –تعالى-: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً﴾ [الأحزاب:58]. وهم صدور المؤمنين، فإنهم المواجهون بالخطاب في قوله – تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ [البقرة: 104] حيث ذكرت، ولم يكتسبوا ما يوجب أذاهم؛ لأن الله – سبحانه – رضي عنهم رضاً مطلقاً بقوله – تعالى-: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ﴾ [التوبة: 100]، فرضي عن السابقين من غير اشتراط إحسان، ولم يرض عن التابعين إلا أن يتبعوهم بإحسان، وقال – تعالى-: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ [الفتح: 18]))( ).
وأما السنة فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سبهم( )، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي)( ). فلا ((ريب أنه لا يجوز سب أحد من الصحابة))( )، وأن ((من لعن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كمعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، ونحوهما، ومن هو أفضل من هؤلاء كطلحة، والزبير، وعثمان، وعلي بن أبي طالب، وأبي بكر الصديق، وعمر، وعائشة أم المؤمنين، وغير هؤلاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه مستحق للعقوبة البليغة باتفاق أئمة الدين))( )، فإن ((قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي) خطاب لكل أحد أن يسب من انفرد عنه بصحبته عليه الصلاة والسلام))( ). وإن كان سبب الحديث سب خالد بن الوليد رضي الله عنه عبد الرحمن بن عوف، فإن ((من لم يصحبه قط نسبته إلى من صحبه قط كنسبة خالد إلى السابقين وأبعد))( )، وذلك أن ((سائر الصحابة حصل لهم بصحبتهم للرسول، مؤمنين به، مجاهدين معه، إيمان، ويقين لم يشركهم فيه من بعدهم))( ). ومما يؤيد هذا أن ((الصحبة اسم جنس تقع على من صحب النبي صلى الله عليه وسلم قليلاً أو كثيراً، لكن كل منهم له من الصحبة بقدر ذلك، فمن صحب سنة أو شهراً أو يوماً أو ساعة أو رآه مؤمناً، فله من الصحبة بقدر ذلك))( ).
  
ويقبلون ما جاء به الكتاب، والسنة، والإجماع من فضائلهم، ومراتبهم،
وبيان هذا أن أهل السنة والجماعة ((يتولون السابقين الأولين كلهم، ويعرفون قدر الصحابة، وفضلهم، ومناقبهم))( )، و((يعلمون مع هذا مراتب السابقين الأولين))( ).
  
ويفضلون من أنفق من قبل الفتح، وقاتل – وهو صلح الحديبية – على من أنفق من بعده، وقاتل، ويقدمون المهاجرين على الأنصار، ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر، وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر: (اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم)( )، وبأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة، بل قد رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة.
وبيان هذا أن ((أفضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم القرن الأول))( ). وهم في الفضل على مراتب كما دلت النصوص، فالسابقون ((الأولون من المهاجرين، والأنصار أفضل من سائر الصحابة قال – تعالى-: ﴿لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ [الحديد: 10]، وقال-تعالى-: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ﴾ [التوبة: 100]))( ). وقوله – تعالى-: ﴿لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ﴾ [الحديد: 10] ((نص في تفضيل المنفقين المقاتلين قبل الفتح على المنفقين المقاتلين بعده، ولهذا ذهب جمهور العلماء إلى أن السابقين في قوله – تعالى-: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ﴾ [التوبة: 100] هم هؤلاء الذين أنفقوا من قبل، وقاتلوا))( ).
أما فضل أهل بدر فقد ((ثبت في الصحيحين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لحاطب بن أبي بلتعة: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق لما كاتب المشركين بخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه شهد بدراً، وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ( )))( ).
أما من بايع تحت الشجرة فكانوا((أكثر من ألف وأربعمائة، وكلهم من أهل الجنة كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة) ( )))( )، وهم ((الذين أنزل الله فيهم: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ [الفتح: 18]))( ).
  
ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم كالعشرة، وثابت بن قيس بن شماس، وغيرهم من الصحابة،
وبيان هذا أن أهل السنة والجماعة ((يشهدون أن العشرة في الجنة))( )، فقد ((أخبر عن كل واحد من العشرة أنه في الجنة))( )، ففي الحديث الذي ((رواه أهل السنن من غير وجه من حديث عبدالرحمن بن عوف، وسعيد بن زيد))( ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (عشرة في الجنة: أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعلي، وعثمان، والزبير، وطلحة، و عبدالرحمن، وأبوعبيدة، وسعد بن أبي وقاص)، فعد هؤلاء التسعة، وسكت، فقال القوم: ننشدك الله يا أبا الأعور من العاشر؟قال: نشدتموني بالله، أبو الأعور في الجنة( ).
وأما شهادة النبي لثابت فلها قصة معروفة عند نزول قوله – تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾ [الحجرات: 2]، فظن ثابت أنه المقصود بها، فاحتبس، وحزن لذلك حزناً عظيماً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بل هو من أهل الجنة)( )،
وقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة لآخرين( )، مثل عبدالله بن سلام( )، وغيره رضي الله عن الجميع.
وكذلك شهد أهل السنة بالجنة لأمهات المؤمنين: عائشة، وغيرها( ) – رضي الله عنهن-.
  
ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وغيره من أن خير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر، ثم عمر، ويثلثون بعثمان، ويربعون بعلي رضي الله عنه، كما دلت عليه الآثار،
وبيان هذا أن تقديم أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، في الفضل ((متفق عليه بين أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة في العلم، والدين من الصحابة، والتابعين، وتابعيهم، وهو مذهب مالك، وأهل المدينة، والليث بن سعد، وأهل مصر، والأوزاعي، وأهل الشام، وسفيان الثوري، وأبي حنيفة، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وأمثالهم من أهل العراق، وهو مذهب الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وغير هؤلاء من أئمة الإسلام الذين لهم لسان صدق في الأمة))( )، وعلى هذا ((عامة أهل السنة من العلماء، والعباد، والأمراء، والأجناد))( ). ودلائل هذا كثيرة( )، والنقل في تفضيل الشيخين ((مستفيض عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وفي صحيح البخاري عن محمد بن الحنفية أنه قال لأبيه علي بن أبي طالب: يا أبت من خير الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: يا بني أو ما تعرف؟ قلت: لا، قال: أبوبكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر( )، ويروى هذا عن علي بن أبي طالب من نحو ثمانين وجهاً، وأنه كان يقوله على منبر الكوفة، بل قال: لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا وجلدته حد المفتري، فمن فضله على أبي بكر، وعمر جلد بمقتضى قوله رضي الله عنه ثمانين سوطاً))( ). ((فتقديم أبي بكر، وعمر من وجوه متواترة))( )، فإن لهما ((من التقدم والفضائل ما لم يشاركهما فيها أحد من الصحابة لا عثمان، ولا علي، ولا غيرهما، وهذا كان متفقاً عليه في الصدر الأول إلا أن يكون خلاف شاذ لا يعبأ به حتى إن الشيعة الأولى أصحاب علي لم يكونوا يرتابون في تقديم أبي بكر، وعمر عليه))( )، ((فأبو بكر، وعمر، لا يوازنهما أحد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر، وعمر)( )))( ).
وبهذا جاء ((النقل الثابت عن جميع علماء أهل البيت من بني هاشم من التابعين؛ وتابعيهم من ولد الحسين بن علي، وولد الحسن، وغيرهما أنهم كانوا يتولون أبا بكر، وعمر، وكانوا يفضلونهما على علي، والنقول عنهم ثابتة متواترة))( ).
  
وكما أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان، وعلي رضي الله عنهما – بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر – أيهما أفضل؟ فقدم قوم عثمان، وسكتوا، أو ربعوا بعلي، وقدم قوم علياً. وقوم توقفوا لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان ثم علي. وإن كانت هذه المسألة – مسألة عثمان، وعلي – ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة، لكن التي يضلل فيها مسألة الخلافة؛ وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله.
بيان هذا أنه قد ((اتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة عثمان بعد عمر رضي الله عنهما))( ). ((فقد ثبت بالنقل الصحيح في صحيح البخاري، وغير البخاري أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما جعل الخلافة شورى في ستة أنفس: عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبدالرحمن بن عوف – ولم يدخل معهم سعيد بن زيد، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وكان من بني عدي قبيلة عمر، وقال عن ابنه عبدالله: يحضركم عبدالله، وليس له في الأمر شيء، ووصى أن يصلي صهيب بعد موته حتى يتفقوا على واحد.
فلما توفي عمر، واجتمعوا عند المنبر. قال طلحة: ما كان لي من هذا الأمر فهو لعثمان. وقال الزبير: ما كان لي من هذا الأمر فهو لعلي. وقال سعد: ما كان لي من هذا الأمر فهو لعبد الرحمن بن عوف، فخرج ثلاثة وبقي ثلاثة. فاجتمعوا، فقال عبد الرحمن بن عوف: يخرج منا واحد، ويولي واحداً، فسكت عثمان، وعلي فقال عبد الرحمن بن عوف: أنا أخرج. وروي أنه قال: عليه عهد الله، وميثاقه أن يولي أفضلهما، ثم قام عبد الرحمن بن عوف ثلاثة أيام بلياليها، يشاور المهاجرين، والأنصار، والتابعين لهم بإحسان، ويشاور أمهات المؤمنين؛ ويشاور أمراء الأمصار – فإنهم كانوا في المدينة حجوا مع عمر، وشهدوا – موته – حتى قال عبد الرحمن بن عوف: إن لي ثلاثاً ما اغتمضت بنوم. فلما كان اليوم الثالث قال لعثمان: عليك عهد الله، وميثاقه إن وليتك لتعدلن، ولئن وليت علياً لتسمعن، ولتطيعن، ؟ قال: نعم. وقال لعلي: عليك عهد الله، وميثاقه إن وليتك لتعدلن، ولئن وليت عثمان لتسمعن ولتطيعن؟ قال: نعم. فقال: إني رأيت الناس لا يعدلون بعثمان( ). فبايعه علي، وعبدالرحمن، وسائر المسلمين بيعة رضاً، واختيار من غير رغبة أعطاهم إياها، ولا رهبة خوفهم بها))( ).
وأما تقديم عثمان على علي رضي الله عنه فقد: ((أجمع عليه المهاجرون والأنصار كما قال غير واحد من الأئمة منهم أيوب السختياني، وغير ه: من قدم علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، وقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال: كنا نفاضل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، وفي لفظ: ثم ندع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم( )، فهذا إخبار عما كان عليه الصحابة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من تفضيل أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، وقد روي أن ذلك كان يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره، وحينئذ فيكون هذا التفضيل ثابتاً بالنص، وإلا فيكون ثابتاً بما ظهر بين المهاجرين، والأنصار على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من غير نكير، وبما ظهر لما توفي عمر، فإنهم كلهم بايعوا عثمان بن عفان من غير رغبة، ولا رهبة، ولم ينكر هذه الولاية منكر منهم. قال الإمام أحمد: لم يجتمعوا على بيعة أحد ما اجتمعوا على بيعة عثمان))( )، وهو بين في قصة مبايعته رضي الله عنه، على أنه قد حصل نزاع بين أهل السنة في أيهما أفضل عثمان أو علي؟ ((فكان طائفة من أهل المدينة يتوقفون فيهما، وهي إحدى الروايتين عن مالك، وكان طائفة من الكوفيين يقدمون علياً، وهي إحدى الروايتين عن سفيان الثوري، ثم قيل: إنه رجع عن ذلك لما اجتمع به أيوب السختياني))( ). ((وسائر أئمة السنة على تقديم عثمان، وهو مذهب جماهير أهل الحديث، وعليه يدل النص، والإجماع، والاعتبار))( )، و((عليه استقر أمر أهل السنة))( ).
وقد تنازع السلف ((فيمن يقدم علياً على عثمان هل يعد من أهل البدعة؟على قولين: هما روايتان عن أحمد))( ).
((إحداهما: من فضل علياً على عثمان خرج من السنة إلى البدعة؛ لمخالفته لإجماع الصحابة. ولهذا قيل: من قدم علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين، والأنصار، يروى ذلك عن غير واحد: منهم أيوب السختياني، وأحمد بن حنبل، والدارقطني.
والثانية: لا يبدع من قدم علياً، لتقارب حال عثمان، وعلي))( ).
والراجح من هذين القولين أنه لا يبدع؛ لكون أئمة المسلمين متفقين على أن التبديع إنما يكون في مسائل الأصول التي اتفق عليها أهل العلم ((بخلاف من نازع في مسائل الاجتهاد التي لم تبلغ هذا المبلغ في تواتر السنن))( ) عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه المسألة مسألة عثمان، وعلي من هذا القبيل، كما أن تقدم أحدهما على الآخر لم يكن ظاهراً ((كتقدم أبي بكر، وعمر على الباقين، ولهذا كان في الشورى تارة يؤخذ برأي عثمان، وتارة يؤخذ برأي علي))( ).
 ((لكن المنصوص عن أحمد تبديع من توقف في خلافة علي، وقال: هو أضل من حمار أهله، وأمر بهجرانه، ونهى عن مناكحته، ولم يتردد أحمد، ولا أحد من أئمة السنة في أنه ليس غير علي أولى بالحق منه، ولا شكوا في ذلك))( )، ((بل أهل السنة يحبونه، ويتولونه، ويشهدون بأنه من الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين))( ).
  
ويحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتولونهم، ويحفظون فيهم وصية رسول الله، حيث قال يوم غدير خم: (أذكركم الله في أهل بيتي)( ). وقال أيضاً للعباس عمه وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم؛ فقال: (والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي)( ).
وقال: (إن الله اصطفى بني إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم)( ). ويتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين، ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة، خصوصاً خديجة رضي الله عنها أم أكثر أولاده، وأول من آمن به، وعاضده على أمره، وكان لها منه المنزلة العالية. والصديقة بنت الصديق رضي الله عنها التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)( ).
وبيان ذلك أن أهل السنة والجماعة ((يتولون جميع المؤمنين، ويتكلمون بعلم، وعدل))( )، و((يرعون حقوق أهل البيت التي شرعها الله لهم))( )، ((فإن الله جعل لهم حقاً في الخمس، والفيء، وأمر بالصلاة عليهم مع الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم))( )، وغير ذلك من الحقوق. وحقهم ((على الأمة لا يشركهم فيه غيرهم))( )، فإنهم ((يستحقون من زيادة المحبة، والموالاة ما لا يستحقه سائر بطون قريش))( ). ((فمحبة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم واجبة))( ). دل على هذا ما((روى مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدير يدعى خماً بين مكة والمدينة فقال: (يا أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله فيه الهدى والنور) فرغب في كتاب الله، (وعترتي أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي)، فقيل لزيد بن أرقم: من أهل بيته؟ قال: أهل بيته من حرم الصدقة: آل العباس، و آل علي، وآل جعفر، وآل عقيل) ( )))( )، ويدل لذلك أيضاً: ((ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه حسان أنه قال عن أهل بيته: (والذي نفسي بيده لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم من أجلي)( )))( ).
والمراد بأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم الذين تجب موالاتهم، ومحبتهم ((هم بنو هاشم كلهم: ولد العباس، وولد علي، وولد الحارث بن عبدالمطلب، وسائر بني أبي طالب، وغيرهم))( ). ولما ((قيل لزيد بن أرقم: من أهل بيته؟ قال: أهل بيته من حرم الصدقة: آل العباس، وآل علي، وآل جعفر، وآل عقيل))( ) كما في صحيح مسلم.
وقد ((تنازعوا في بني المطلب بن عبد مناف هل تحرم عليهم الصدقة، ويدخلون في آل محمد صلى الله عليه وسلم؟ على قولين: هما روايتان عن أحمد))( ).
وأما زوجاته رضي الله عنهن فقد اختلف العلماء هل هن من أهل بيته صلى الله عليه وسلم؟ ((على قولين، هما روايتان عن أحمد: أحدهما: أنهن لسن من أهل البيت، ويروى هذا عن زيد بن أرقم.
والثاني: وهو الصحيح أن أزواجه من آله، فإنه قد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علم الصلاة عليه: (اللهم صل على محمد، وأزواجه، وذريته)، ولأن امرأة إبراهيم من آله، وأهل بيته، وامرأة لوط من آله، وأهل بيته بدلالة القرآن، فكيف لا يكون أزواج محمد من آله، وأهل بيته؟))( ) ولقوله – تعالى – في خطاب نساء النبي: ﴿وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ [الأحزاب: 33]. فهذه ((الآية تدل على أنهن من أهل بيته، وإلا لم يكن لذكر ذلك في الكلام معنى))( )، فنساؤه صلى الله عليه وسلم من أهل بيته بنص القرآن( )، فلهن ما لأهل البيت من حقوق.
وأما ما رواه ((مسلم عن عائشة أنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة، وعليه مرط مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي، فأدخله، ثم جاء الحسين، فأدخله معه، ثم جاءت فاطمة، فأدخلها معه، ثم جاء علي، فأدخله، ثم قال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ [الأحزاب: 33] ( ))) ( ). و((قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي، وفاطمة، وحسن، وحسين: (اللهم إن هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً)( )))( ). فهذا يدل على أن علياً، وفاطمة، والحسن، والحسين كلهم من أهل البيت، وهم((أخص بذلك من غيرهم، ولذلك خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء لهم.
وهذا كما أن قوله: ﴿لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ﴾ [التوبة: 108] نزلت بسبب مسجد قباء، لكن الحكم يتناوله، ويتناول ما هو أحق منه بذلك، وهو مسجد المدينة. وهذا يوجه ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى، فقال: (هو مسجدي هذا)( )))( ).
((وهكذا أزواجه، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين كلهم من أهل البيت، لكن علياً، وفاطمة، والحسن، والحسين أخص من أزواجه ولهذا خصهم بالدعاء))( )، ((فالتخصيص؛ لكون المخصوص أولى بالوصف))( ). فالحديث لا يفيد لا مفهوماً، ولا منطوقاً أن أزواجه – رضي الله عنهن – لسن من أهل بيته صلى الله عليه وسلم.
((ومن المعلوم أن كل واحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يقال لها أم المؤمنين: عائشة، وحفصة، وزينب بنت جحش، وأم سلمة، وسودة بنت زمعة، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية، وصفية بنت حيي بن أخطب الهاورنية، -رضي الله عنهن-، وقد قال الله – تعالى-: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ [الأحزاب: 6]، وهذا أمر معلوم للأمة علماً عاماً، وقد أجمع المسلمون على تحريم نكاح هؤلاء بعد موته على غيره، وعلى وجوب احترامهن فهن أمهات المؤمنين في الحرمة، والتحريم))( ).
ومما لا ريب فيه أن ((أفضل نساء هذه الأمة خديجة، وعائشة وفاطمة))( ) – رضي الله عنهن-. وقد اختلف أهل العلم في أيهما أفضل خديجة، أو عائشة؟ ولا شك أن كل واحدة قد اختصت بفضل لم تشاركها فيه غيرها، ((فسبق خديجة، وتأثيرها في أول الإسلام، ونصرها، وقيامها في الدين لم تشركها فيه عائشة، ولا غيرها من أمهات المؤمنين، وتأثير عائشة في آخر الإسلام، وحمل الدين، وتبليغه إلى الأمة، وإدراكها من العلم ما لم تشركها فيه خديجة، ولا غيرها مما تميزت به عن غيرها))( ) فرضي الله عنهن أجمعين.
أما وجه تفضيل عائشة في قوله صلى الله عليه وسلم: ((فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام))( )، فذلك ((لأنه – أي الثريد – خبز، ولحم))( )، و((البر أفضل الأقوات، واللحم أفضل الآدام))( ).
  
ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة، ويسبونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول، أو عمل،
أهل السنة والجماعة ((يتولون جميع المؤمنين، ويتكلمون بعلم، وعدل، ليسوا من أهل الجهل، ولا من أهل الأهواء، ويتبرون من طريقة الروافض والنواصب جميعاً، ويتولون السابقين الأولين كلهم، ويعرفون قدر الصحابة، وفضلهم، ومناقبهم، ويرعون حقوق أهل البيت التي شرعها الله لهم))( ).
وبهذا يفارق أهل السنة والجماعة الرافضة. فالرافضة ((تطعن في جميع الصحابة إلا نفراً قليلاً بضعة عشر))( )، و((يجعلون النصوص الدالة على فضائل الصحابة كانت قبل ردتهم))( ).
وأما الناصبة فكانت ((تبغض علياً، وأصحابه))( )، بل كانوا: ((يكفرون علياً، أو يفسقونه، أو يشكون في عدالته))( ).
فأهل السنة والجماعة سالمون من هاتين الضلالتين؛ لما ثبت من فضائلهم، ولأن ((القدح فيهم قدح في القرآن والسنة))( )، وباطن هذا المسلك ((الطعن في الرسالة))( ).
  
ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص، وغير عن وجهه، والصحيح منها هم فيه معذورون: إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون. وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم، لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنهم خير القرون)( )، (وأن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهباً ممن بعدهم)( )، ثم إذا كان قد صدر عن أحد منهم ذنب فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه. فإذا كان هذا في الذنوب المحققة فكيف الأمور التي كانوا فيها مجتهدين: إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطؤوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور.
ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم، ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة، والنصرة، والعلم النافع، والعمل الصالح.
وبيان هذا أن ((مذهب أهل السنة الإمساك عما شجر بين الصحابة، فإنه قد ثبتت فضائلهم، ووجبت موالاتهم، ومحبتهم. وما وقع منه ما يكون لهم فيه عذر يخفى على الإنسان، ومنه ما تاب صاحبه منه، ومنه ما يكون مغفوراً. فالخوض فيما شجر يوقع في نفوس كثير من الناس بغضاً، وذماً، ويكون هو في ذلك مخطئاً بل عاصياً، فيضر نفسه، ومن خاض معه في ذلك، كما جرى لأكثر من تكلم في ذلك، فإنهم تكلموا بكلام لا يحبه الله، ولا رسوله؛ إما من ذم من لا يستحق الذم، وإما من مدح أمور لا تستحق المدح، ولهذا كان الإمساك طريقة أفاضل السلف))( ). وليس هذا خاصاً بما جرى بين الصحابة فقط، بل ((ينهى عما شجر بين هؤلاء سواء كانوا من الصحابة، أو ممن بعدهم. فإذا تشاجر مسلمان في قضية، ومضت، ولا تعلق للناس بها، ولا يعرفون حقيقتها، كان كلامهم فيها كلاماً بلا علم، ولا عدل يتضمن أذاهما بغير حق، ولو عرفوا أنهما مذنبان أو مخطئان لكان ذكر ذلك من غير مصلحة راجحة من باب الغيبة المذمومة))( ).
فالواجب فيما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم أن يقال: ((إما أن يكون عمل أحدهم سعياً مشكوراً، أو ذنباً مغفوراً، أو اجتهاداً قد عفي لصاحبه عن الخطأ فيه. فلهذا كان من أصول أهل العلم: أنه لا يمكن أحد من الكلام في هؤلاء بكلام يقدح في عدالتهم، وديانتهم، بل يعلم أنهم عدول مرضيون، لا سيما والمنقول عنهم من العظائم كذب مفترى))( ).
((ولهذا كان الإمساك عما شجر بين الصحابة خيراً من الخوض في ذلك بغير علم بحقيقة الأحوال))( )، ((فمن سلك سبيل أهل السنة استقام قوله، وكان من أهل الحق، والاستقامة، والاعتدال، وإلا حصل في جهل، وكذب، وتناقض))( ).
ومن وسطية أهل السنة، وعدلهم أنهم ((لا يعتقدون العصمة من الإقرار على الذنوب، وعلى الخطأ في الاجتهاد إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن سواه فيجوز عليه الإقرار على الذنب، والخطأ))( ). لكن الصحابة رضي الله عنهم ((هم كما قال – تعالى –: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ﴾ [الأحقاف: 16]))( ).
((بل يجوز أن يذنب الرجل منهم ذنباً صغيراً، أو كبيراً، ويتوب منه، وهذا متفق عليه بين المسلمين، ولو لم يبت فالصغائر مغفورة باجتناب الكبائر عند جماهيرهم، بل عند الأكثرين منهم أن الكبائر قد تمحى بالحسنات التي هي أعظم منها))( )، ((وقد يبتلون أيضاً بمصائب يكفر الله عنهم بها، وقد يكفر عنهم بغير ذلك))( )، فإن لهم رضي الله عنهم ((من التوبة، والاستغفار، والحسنات ما ليس لمن هو دونهم، وابتلوا بمصائب يكفر الله بها خطاياهم لم يبتل بها من دونهم، فلهم من السعي المشكور، والعمل المبرور ما ليس لمن بعدهم، وهم بمغفرة الذنوب أحق من غيرهم ممن بعدهم))( ). هذا فيما كان ذنباً محققاً منهم رضي الله عنهم، فكيف و ((ما يذكر عن الصحابة من السيئات كثير منه كذب، وكثير منه كانوا مجتهدين فيه، ولكن لم يعرف كثير من الناس وجه اجتهادهم))( )، ((فإنهم خير قرون هذه الأمة كما قال صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني، الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم)( )، وهذه خير أمة أخرجت للناس))( ).
  
ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما من الله عليهم من الفضائل، علم يقيناً أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان، ولا يكون، مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم، وأكرمها على الله – عز وجل-.
وبيان ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم: ((كانوا أكمل هذه الأمة عقلاً، وعلماً، وديناً كما قال فيهم عبدالله بن مسعود: من كان منكم مستناً، فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد كانوا، والله أفضل هذه الأمة، وأبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم، ودينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم. رواه غير واحد، منهم ابن بطة عن قتادة ( )))( )، وقوله رضي الله عنه: ((كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً كلام جامع بين فيه حسن قصدهم، ونياتهم ببر القلوب، وبين فيه كمال المعرفة، ودقتها بعمق العلم، وبين فيه تيسر ذلك عليهم، وامتناعهم من القول بلا علم بقلة التكلف))( )، و((الذي قاله عبدالله حق، فإنهم خير هذه الأمة كما تواترت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) ( )))( ). فأصحابه رضي الله عنهم ((كانوا أفضل قرون الأمة، فهم أعرف القرون بالله، وأشدهم له خشية))( ).
ومن دلائل خيريتهم رضي الله عنهم أن ((كل خبر فيه المسلمون إلى يوم القيامة من الإيمان، والإسلام، والقرآن، والعلم، والمعارف، والعبادات، ودخول الجنة، والنجاة من النار، وانتصارهم على الكفار، وعلو كلمة الله فإنما هو ببركة ما فعله الصحابة الذين بلغوا الدين، وجاهدوا في سبيل الله))( ) – فرضي الله عنهم وسلك بنا سبيلهم – لا كان، ولا يكون مثلهم.
  
ومن أصول أهل السنة التصديق بكرامات الأولياء، وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم، والمكاشفات، وأنواع القدرة، والتأثيرات، كالمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف، وغيرها، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة، والتابعين، وسائر قرون الأمة، وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة.
وبيان هذا أن كرامات الأولياء هي ما يكون للمؤمنين المتقين من الأمور الخارقة للعادة، فإن الكرامة هي ((الأمر الخارق للعادة))( ). وأما أولياء الله فإنهم((﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ﴾ [يونس: 63]، فقد أخبر الله – سبحانه – أن أولياءه هم المؤمنون المتقون ))( )، وذلك في قوله – تعالى-: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ  الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ﴾ [يونس: 62 – 63]، وهي إنما سميت بهذا الاسم؛ لأن الله يكرم((بها أولياءه المتقين ))( ).
وهذه الكرامات، وخوارق العادة أنواع( ):
الأول: ((ما هو من جنس العلم كالمكاشفات))( )، و((هي من جنس العلم الخارق))( )، فإذا ((كان القلب معموراً بالتقوى انجلت له الأمور وانكشفت))( ) و((كلما قوي الإيمان في القلب قوي انكشاف الأمور له، وعرف حقائقها من بواطلها، وكلما ضعف الإيمان ضعف الكشف))( )، وهذا النوع من الكرامات له صور ((فتارة بأن يسمع العبد ما لا يسمعه غيره، وتارة بأن يرى ما لا يراه غيره يقظة ومناماً، وتارة بأن يعلم ما لا يعلمه غيره وحياً وإلهاماً، أو إنزال علم ضروري، أو فراسة صادقة، ويسمى: كشفاً، ومشاهدات، ومكاشفات، ومخاطبات. فالسماع مخاطبات، والرؤية مشاهدات، والعلم مكاشفة. ويسمى كشفاً، ومكاشفة، أي: كشف له عنه))( )، ((مثل قول عمر في قصة سارية، وإخبار أبي بكر بأن ببطن زوجته أنثى، وإخبار عمر بمن يخرج من ولده فيكون عادلاً، وقصة صاحب موسى في علمه بحال الغلام))( ).
الثاني: ((ما هو من جنس القدرة والملك كالتصرفات الخارقة للعادة))( )، و((هي من جنس القدرة الخارقة))( ). و((ما كان من باب القدرة فهو التأثير، وقد يكون همة، وصدقاً، ودعوة مجابة، وقد يكون من فعل الله الذي لا تأثير له فيه بحال، مثل هلاك عدوه بغير أثر منه كقوله: (من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وإني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب)( )، ومثله تذليل النفوس له، ومحبتها إياه، ونحو ذلك))( )، ومن أمثلة هذا ((قصة الذي عنده علم من الكتاب، وقصة أهل الكهف، وقصة خالد بن الوليد، وسفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي مسلم الخولاني، وأشياء يطول شرحها، فإن تعداد هذا مثل المطر، وإنما الغرض التمثيل بالشيء الذي سمعه أكثر الناس، وأما القدرة التي لم تتعلق بفعله، فمثل نصر الله لمن ينصره، وإهلاكه لمن يشتمه))( ). و((كرامات الصحابة، والتابعين بعدهم، وسائر الصالحين كثيرة جداً))( ).
الثالث: ((ما هو من جنس الغناء عن الحاجات البشرية))( ). وذلك مثل ((الاستغناء عن الأكل، والشرب مدة))( ).
وهذه الكرامات ((إنما حصلت ببركة اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم))( )، فهي من جملة الآيات الدالة على صدق الرسول الذي اتبعوه. فإن((من آيات الأنبياء ما يظهر مثله على أتباعهم، ويكون ما يظهر على أتباعهم من آياتهم، فإن ذلك مختص بمن يشهد بنبوتهم، فهو مستلزم له، لا تكون تلك الآيات إلا لمن أخبر بنبوتهم))، و((لهذا من السلف من يأتي بالآيات دلالة على صحة الإسلام، وصدق الرسول كما ذكر أن خالد بن الوليد شرب السم لما طلب منه آية، ولم يضره))( ).
وبالجملة فهذه الكرامات التي تجري لأولياء الله، وعباده الصالحين إنما تكون ((الحجة أو حاجة. فالحجة لإقامة دين الله، والحاجة لما لابد منه من النصر، والرزق الذي به يقوم دين الله))( ).
وقد ضل في هذا الباب طوائف:
((فقالت طائفة: لا تخرق العادة إلا لنبي، وكذبوا بما يذكر من خوارق السحرة، والكهان، وبكرامات الصالحين، وهذه طريقة أكثر المعتزلة، وغيرهم كأبي محمد بن حزم، وغيره))( ).
((وقالت طائفة: بل كل هذا حق، وخرق العادة جائز مطلقاً، وكل ما خرق لنبي من العادات يجوز أن يخرق لغيره من الصالحين، بل ومن السحرة، والكهان، ولكن الفرق أن هذه تقترن بها دعوى النبوة، وهو التحدي))( ). وقد يقولون: إنه لا يمكن لأحد أن يعارضها بخلاف تلك، وهذا قول ((جهم، ومن اتبعه من النفاة للحكمة، والأسباب في أفعال الله – تعالى –))( ).
وممن ضل فيها أيضاً ((المتفلسفة الملاحدة الذين يقولون: أسباب الآيات القوى الفلكية، والقوى النفسانية، والطبيعية))( ).
والصواب ما تقدم من إثبات الكرامة لأولياء الله – تعالى-دون غيرهم، أما ما يكون للسحرة، والكهان، فليس من ذلك في شيء، فإنه يوجد ((بين كرامات الأولياء، وما يشبهها من الأحوال الشيطانية فروق متعددة:
منها أن كرامات الأولياء سببها الإيمان، والتقوى، والأحوال الشيطانية سببها ما نهى الله عنه، ورسوله)).
ومنها أن ((الأحوال الشيطانية تبطل أو تضعف إذا ذكر الله، وتوحيده، وقرئت قوارع القرآن لا سيما آية الكرسي، فإنها تبطل عامة هذه الخوارق الشيطانية، وأما آيات الأنبياء، والأولياء، فتقوى بذكر الله، وتوحيده))( ).
ومنها ((أن ما تأتي به السحرة والكهان وكل مخالف للرسل تمكن معارضته بمثله وأقوى منه))( )، أما ((كرامات الصالحين لا تعارض لا بمثلها، ولا بأقوى منها))( ).
ومنها أن ما يأتي به السحرة، والكهان مقصوده الكفر، والفسوق، والعصيان، أما كرامات الصالحين فمقصودها ((عبادة الله، وتصديق رسله، فهي آيات، ودلائل، وبراهين متعاضدة على مطلوب واحد))( ).
ومما ينبغي التنبه له الفرق بين آيات الأنبياء، وكرامات الأولياء، ((فإن آيات الأنبياء عليهم السلام التي دلت على نبوتهم هي أعلى مما يشتركون فيه هم، وأتباعهم))( ).
  
فصل
ثم من طريقة أهل السنة والجماعة اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم باطناً، وظاهراً، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، واتباع وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة)( ). ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم. ويؤثرون كلام الله على غيره من كلام أصناف الناس، ويقدمون هدي محمد صلى الله عليه وسلم على هدي كل أحد، ولهذا سموا أهل الكتاب والسنة. وسموا أهل الجماعة، لأن الجماعة هي الاجتماع، وضدها الفرقة، وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسماً لنفس القوم المجتمعين، والإجماع هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم، والدين.
وهم يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أعمال، وأفعال باطنة، أو ظاهرة مما له تعلق بالدين.
والإجماع الذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح إذ بعدهم كثر الاختلاف، وانتشر في الأمة.
وبيان هذا أن الأصول التي يستند إليها أهل السنة والجماعة في طريقتهم ثلاثة أصول. أول هذه الأصول وأصلها ورأسها كتاب الله، فإنه ((مبين للدين كله، موضح لسبيل الهدى، كاف من اتبعه، لا يحتاج معه إلى غيره، يجب اتباعه دون اتباع غيره من السبل))( ).
وثاني هذه الأصول السنة المطهرة، ((فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بين للناس لفظ القرآن ومعناه))( )، وقد تقدم الكلام على منزلتها.
ثالث هذه الأصول الإجماع، ((وهو متفق عليه بين عامة المسلمين من الفقهاء، والصوفية، وأهل الحديث، والكلام، وغيرهم في الجملة، وأنكره بعض أهل البدع من المعتزلة، والشيعة، لكن المعلوم منه هو ما كان عليه الصحابة. وأما بعد ذلك فتعذر العلم به غالباً))( ).
((ولا يوجد مسألة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص))( )، ((فإن ما دل عليه الإجماع فقد دل عليه الكتاب، والسنة))( ).
وبهذا يتبين أن ((دين المسلمين مبني على اتباع كتاب الله، وسنة رسوله، وما اتفقت عليه الأمة، فهذه الثلاثة هي أصول معصومة))( ) بنى عليها أهل السنة والجماعة عقدهم، وقولهم، وعملهم.
  
فصل
ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة،
هذا الفصل عقد لبيان ما تميز به أهل السنة والجماعة في مسلكهم العملي بعد الفراغ من ذكر ما تميزوا به في عقدهم، وأصول دينهم، ففي هذا الفصل ذكر أبرز الخصائص السلوكية المنهجية لأهل السنة والجماعة، فأول هذه السمات المنهجية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وسبب البداءة به قبل غيره ((أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر هو من أوجب الأعمال، وأفضلها، وأحسنها))( ).
فأهل السنة والجماعة يأمرون بكل معروف، وينهون عن كل منكر
((فلا يبقى معروف إلا أمروا به، ولا منكر إلا نهوا عنه))( ). وهم في ذلك كله ((على الصراط المستقيم، وهو أقرب الطرق إلى حصول المقصود))( ).
وقوام هذا الصراط ثلاثة أمور: ((العلم، والرفق، والصبر، العلم قبل الأمر والنهي، والرفق معه والصبر بعده، وإن كان كل من هذه الثلاثة لابد أن يكون مستصحباً في هذه الأحوال. وهذا كما جاء في الأثر عن بعض السلف، ورووه مرفوعاً ذكره القاضي أبو يعلى في المعتمد: لا يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر إلا من كان فقيهاً فيما يأمر به، فقيهاً فيما ينهى عنه، رفيقاً فيما يأمر به، رفيقاً فيما ينهى عنه، حليماً فيما يأمر به، حليماً فيما ينهى عنه))( ). والمقصود أن أهل السنة والجماعة قائمون بهذه الشعيرة العظيمة من شعائر الإسلام على ما تقتضيه الأدلة لا وكس، ولا شطط.
  
ويرون إقامة الحج والجهاد، والجمع والأعياد مع الأمراء أبراراً كانوا، أو فجاراً،
فأهل السنة والجماعة يرون إقامة هذه الأعمال الصالحة مع كل أمير براً كان، أو فاجراً، وذلك أنه ((إذا كان للرجل ذنوب، وقد فعل براً فهذا إذا أعين على البر لم يكن هذا محرماً، كما لو أراد مذنب أن يؤدي زكاته، أو يحج، أو يقضي ديونه، أو يرد بعض ما عنده من المظالم، أو يوصي على بناته، فهذا إذا أعين عليه فهو إعانة على بر، وتقوى، ليس إعانة على إثم، وعدوان، فكيف بالأمور العامة))( ).
فإن هذا الأمور من الحج، والجمع، والأعياد، ((والجهاد لا يقوم بها إلا ولاة الأمور))( )، فلو اشترط للقيام بها برهم، وصلاحهم لتعطلت هذه الشعائر، وانمحت. وبهذا مضت السنة( ) ((فإن الصحابة كانوا يصلون الجمعة، والجماعة خلف الأئمة الفجار))( ). و((من أصول أهل السنة والجماعة الغزو مع كل بر، وفاجر، فإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، وبأقوام لا خلاق لهم كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم))( ).
((وهذه طريقة خيار الأمة قديماً، وحديثاً، وهي واجبة على كل مكلف))( )، ((فإن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح، وتكميلها، وتعطيل المفاسد، وتقليلها بحسب الإمكان، ومعرفة خير الخيرين، وشر الشرين، حتى يقدم عند التزاحم خير الخيرين، ويدفع شر الشرين))( )، وهذا يكون في الجهاد، وغيره من الأمور العامة.
  
ويدينون بالنصيحة للأمة، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً)، وشبك بين أصابعه( ). وقوله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى، والسهر)( ). ويأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا بمر القضاء، ويدعون إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)( )، ويندبون إلى أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى، والمساكين، وابن السبيل، والرفق بالمملوك، وينهون عن الفخر، والخيلاء، والبغي، والاستطالة على الخلق بحق، أو بغير حق، ويأمرون بمعالي الأخلاق، وينهون عن سفاسفها.
وكل ما يقولونه، ويفعلونه من هذا، وغيره فإنما هم فيه متبعون للكتاب، والسنة.
هذه جملة من فضائل الأخلاق، وصالح الأعمال التي تميز بها أهل السنة والجماعة في سلوكهم، وأخلاقهم، ومنهجهم، وطريقهم، والجامع لها مراقبة الله – تعالى – في معاملة الخلق. فإن ((السعادة في معاملة الخلق أن تعاملهم لله، فترجو الله فيهم، ولا ترجوهم في الله، وتخافه فيهم، ولا تخافهم في الله، وتحسن إليهم رجاء ثواب الله لا لمكافأتهم، وتكف عن ظلمهم خوفاً من الله لا منهم))( ).
  
وطريقتهم هي دين الإسلام الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، لكن لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة، وفي الحديث عنه أنه قال: (هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)( ) صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنة والجماعة، وفيهم الصديقون، والشهداء، والصالحون، ومنهم أعلام الهدى، ومصابيح الدجى، أولو المناقب المأثورة، والفضائل المذكورة، وفيهم الأبدال، وفيهم أئمة الدين الذين أجمع المسلمون على هدايتهم، وهم الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة)( ). فنسأل الله أن يجعلنا منهم، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ويهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
في هذا بيان أنه لا تستحق فرقة من فرق الأمة وصف النجاة من النار ((إلا فرقة واحدة، وهم أهل السنة والجماعة))( )، وذلك أنه ((ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم الناس بأقواله، وأحواله، وأعظمهم تمييزاً بين صحيحها، وسقيمها، وأئمتهم فقهاء فيها وأهل معرفة بمعانيها، واتباعاً لها تصديقاً، وعملاً، وحباً، وموالاة لمن والاها، ومعاداة لمن عاداها))( ).
وقد سبق الكلام في أول هذه الرسالة عن سبب تسميتهم بأهل السنة والجماعة، وبالفرقة الناجية المنصورة سلك الله بنا سبيلهم، وهدانا إلى طريقهم إنه بر جواد كريم.
وأما قوله – رحمه الله-: (وفيهم الأبدال) فالأبدال جمع بدل، وهو لفظ ((تكلم به بعض السلف، ويروى فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث ضعيف))( )، وفيه ((أنهم أربعون رجلاً، وأنهم بالشام، وهو في المسند من حديث علي رضي الله( )، وهو حديث منقطع ليس بثابت))( ). ((والذين تكلموا باسم البدل فسروه بمعان: منها أنهم أبدال الأنبياء، ومنها أنه كلما مات منهم رجل أبدل الله – تعالى – مكانه رجلاً، ومنها أنهم أبدلوا السيئات من أخلاقهم، وأعمالهم، وعقائدهم بحسنات))( ).
والحمد لله رب العالمين، و سلام على المرسلين، وصلى الله، وسلم على نبينا محمد، وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغر الميامين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً مزيداً.
  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق