الاثنين، 7 سبتمبر 2015

" وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض " إلخ

قوله : ' 2 : 11 ' " وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون " قال أبو العالية في الآية : يعني لا تعصوا في الأرض . لأن من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصية الله فقد أفسد في الأرض ، لأن صلاح الأرض والسماء إنما هو بطاعة الله ورسوله . وقد أخبر تعالى عن إخوة يوسف عليه السلام في قوله تعالى : ' 12 : 70 ـ 72 ' " ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون" ـ إلى قوله ـ "قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين " فدلت الآية على أن كل معصية فساد في الأرض .

ومناسبة الآية للترجمة : أن التحاكم إلى غير الله ورسوله من أعمال المنافقين وهو الفساد في الأرض .

وفي الآية : التنبيه على عدم الإغترار بأقوال أهل الأهواء وإن زخرفوها بالدعوى .

وفيها التحذير من الاغترار بالرأي ما لم يقم على صحة دليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فما أكثر من يصدق بالكذب ويكذب بالصدق إذا جاءه ، وهذا من الفساد في الأرض ويترتب عليه من الفساد أمور كثيرة ، تخرج صاحبها عن الحق وتدخله في الباطل . نسأل الله العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة .

فتدبر تجد ذلك في حال الأكثر إلا من عصمه الله ومن عليه بقوة داعي الإيمان ، وأعطاه عقلاً كاملاً عند ورود الشهوات ، وبصراً نافذاً عند ورود الشبهات ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .

قوله : ' 7 : 56 ' " ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها " قال أبو بكر بن عياش في الآية : إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى أهل الأرض وهم فساد ، فأصلحهم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم فمن دعا إلى خلاف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهو من المفسدين في الأرض .

وقال ابن القيم رحمه الله : قال أكثر المفسرين : لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله لها ببعث الرسل ، وبيان الشريعة والدعاء إلى طاعة الله ، فإن عبادة غير الله والدعوة إلى غيره والشرك به هو أعظم فساد في الأرض ، بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك به ومخالفة أمره ، فالشرك والدعوة إلى غير الله وإقامة معبود غيره ، ومطاع متبع غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هو أعظم فساد في الأرض ، ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا أن يكون الله وحده هو المطاع ، والدعوة له لا لغيره ، والطاعة والاتباع لرسوله ليس إلا ، وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم . فإذا أمر بمعصية وخلاف شريعته فلا سمع ولا طاعة . ومن تدبر أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله، وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة رسوله والدعوة إلى غير الله ورسوله. ا هـ .

ووجه مطابقة هذه الآية للترجمة : أن التحاكم إلى غير الله ورسوله من أعظم ما يفسد الأرض من المعاصي ، فلا صلاح لها إلا بتحكيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو سبيل المؤمنين ، كما قال تعالى : ' 4 : 15 ' " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا " .

قوله : ( وقول الله تعالى : ' 5 : 50 ' " أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون "  .

قال ابن كثير رحمه الله : ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله تعالى المشتمل على كل خير ، الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله ، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الجهالات والضلالات كما يحكم به التتار من السياسات المأخوذة عن جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق وهو عبارة عن كتاب أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وفيها كثير من الأحكام أخذها عن مجرد نظرة وهواه. فصارت في بنيه شرعاً يقدمونها على الحكم بالكتاب والسنة ، فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله ، فلا يحكم بسواه في قليل ولا كثير .

قوله : " ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون " استفهام إنكار أي لا حكم أحسن من حكمه تعالى . وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس له في الطرف الآخر مشارك ، أي ومن أعدل من الله حكماً لمن عقل عن الله شرعه وآمن وأيقن أنه تعالى أحكم الحاكمين ، وأرحم بعباده من الوالدة بولدها ، العليم بمصالح عباده القادر على كل شئ ، الحكم في أقواله وأفعاله وشره وقدره ؟ .

وفي الآية ، التحذير من حكم الجاهلية وإختياره على حكم الله ورسوله ، فمن فعل ذلك فقد أعرض عن الأحسن ، وهو الحق ، إلى ضده من الباطل .

 

لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به

قوله :  عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به " قال النووي : حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة  بإسناد صحيح  .

هذا الحديث رواه الشيخ أبو الفتح نضر بن إبراهيم المقدسي الشافعي في كتاب :  الحجة على تارك الحجة  بإسناد صحيح كما قاله المصنف رحمه الله عن النووي . ورواه الطبراني وأبو بكر بن عاصم، والحافظ أبو نعيم في الأربعين التي شرط لها أن تكون في صحيح الأخبار  ، وشاهده في القرآن قوله تعالى : ' 4 : 65 ' " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم " الآية . وقوله : ' 33 : 36 ' " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم " وقوله : ' 28 : 50 ' " فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم " ونحو هذه الآيات .

قوله :  لا يؤمن أحدكم  أي لا يكون من أهل كمال الإيمان الواجب الذي وعد الله أهله عليه بدخول الجنة والنجاة من النار . وقد يكون في درجة أهل الإساءة والمعاصي من أهل الإسلام .

قوله :  حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به . الهوى  بالقصر ، أي ما يهواه وتحبه نفسه وتميل إليه ، فإن كان الذي تحبه وتميل إليه نفسه ويعمل به تابعاً لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرج عنه إلى ما يخالفه . فهذه صفة أهل الإيمان المطلق ، وإن كان بخلاف ذلك أو في بعض أحواله أو أكثرها انتفى عنه من الإيمان كماله الواجب ، كما في حديث أبي هريرة : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن " يعني أنه بالمعصية ينتفي عنه كمال الإيمان الواجب وينزل عنه في درجة الإسلام وينقص إيمانه ، فلا يطلق عليه الإيمان إلا بقيد المعصية ، أو الفسوق ، فيقال : مؤمن عاص ، أو يقال : مؤمن بإيمانه فاسق بمعصيته ، فيكون معه مطلق الإيمان الذي لا يصح إسلامه إلا به . كما قال تعالى : ' 5 : 92 ' " فتحرير رقبة مؤمنة " والأدلة على ما عليه سلف الأمة وأئمتها : أن الإيمان قول وعمل ونية يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية : من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصى ، فمن ذلك قوله تعالى : ' 2 : 143 ' " وما كان الله ليضيع إيمانكم " أي صلاتكم إلى بيت المقدس قبل تحويل القبلة ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس : " آمركم بالإيمان بالله وحده ، أتدرون ما الإيمان بالله وحده ؟ شهادة أن لا إله إلا الله " الحديث ، وهو في الصحيحين والسنن . والدليل على أن الإيمان يزيد قوله تعالى : '74 : 31 ' " ويزداد الذين آمنوا إيماناً " الآية . وقوله : ' 9 : 124 ' " فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا " الآية . خلافاً لمن قال : إن الإيمان هو القول ، وهم المرجئة ، ومن قال : إن الإيمان هو التصديق كالأشاعرة . ومن المعلوم عقلاً وشرعاً أن نية الحق تصديق ، والعمل به تصديق وقول الحق تصديق وليس مع أهل البدع ما ينافي قول أهل السنة والجماعة ولله الحمد والمنة . قال الله تعالى : ' 2 : 177 ' " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر" ـ إلى قوله ـ "أولئك الذين صدقوا " أي فيما عملوا به في هذه الآية من الأعمال الظاهرة والباطنة . وشاهده في كلام العرب قولهم : حملة صادقة . وقد سمي الله تعالى الهوى المخالف لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إلهاً ، فقال تعالى: ' 25 : 43 ' " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه " قال بعض المفسرين : لا يهوى شيئاً إلا ركبه .

قال ابن رجب رحمه الله : أما معنى الحديث : فهو أن الإنسان لا يكون مؤمناً كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي وغيرها . فيجب ما أمر به ويكره ما نهى عنه ، وقد ورد القرآن مثل هذا المعنى في غير موضع ، وذم سبحانه من كره ما أحبه الله أو أحب ما كرهه الله كما قال تعالى : ' 47 : 28 ' " ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم " فالواجب على كل مؤمن أن يحب ما أحبه الله محبة توجب له الإتيان بما أوجب عليه منه ، فإن زادت المحبة حتى أتى بما ندب إليه منه كان ذلك فضلاً ، وأن يكره ما يكرهه الله كراهة توجب له الكف عما حرم عليه منه ، فإن زادت الكراهة حتى أوجبت الكف عما كراهه تنزيهاً كان ذلك فضلاً . فمن أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه أوجب ذلك له أن يحب بقلبه ما يحب الله ورسوله ويكره ما يكرهه الله ورسوله ، فيرضي ما يرضي الله ورسوله ، ويسخط ما يسخط الله ورسوله ، ويعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض ، فإن عمل بجوارحه شيئاً يخالف ذلك ، بأن ارتكب بعض ما يكرهه الله ورسوله وترك ما يحبه الله ورسوله مع وجوبه والقدرة عليه ، دل ذلك على نقص محبته الواجبة ، فعليه أن يتوب من ذلك ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة التي هي ركن العبادة إذا كملت فجميع المعاصي تنشأ عن تقديم هوى النفس على محبة الله ورسوله . وقد وصف الله المشركين باتباع الهوى في مواضع من كتابه ، فقال تعالى : ' 28 : 50 ' " فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله " وكذلك البدع إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع . ولهذا سمي أهلها أهل الأهواء ، وكذلك المعاصي إنما تنشأ من تقديم الهوى على محبة الله ومحبة ما يحبه ، وكذلك حب الأشخاص : الواجب فيه أن يكون تبعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيجب على المؤمن محبة ما يحبه الله من الملائكة والرسل والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين عموماً ، ولهذا كان من علامات وجود حلاوة الإيمان : أن يحب المرء لا يحبه إلا لله فتحرم موالاة أعداء الله ومن يكرهه الله عموماً ، وبهذا يكون الدين كله لله . ومن أحب لله وأبغض لله ، وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان ، ومن كان حبه وبغضه وعطاؤه ومنعه لهوى نفسه كان ذلك نقصاً في إيمانه الواجب . فتجب التوبة من ذلك : انتهى ملخصاً .

ومناسبة الحديث للترجمة : بيان الفرق بين أهل الإيمان وأهل النفاق والمعاصي في أقوالهم وأفعالهم وإرادتهم .

قوله :  وقال الشعبي  هو عامر بن شراحيل الكوفي ، عالم أهل زمانه ، وكان حافظاً علامة ذا فنون . كان يقول :  ما كتبت سوداء في بيضاء  ، وأدرك خلقاً كثيراً من الصحابة وعاش بضعاً وثمانين سنة . قال الذهبي .

وفيما قاله الشعبي ما يبين أن المنافق يكون أشد كراهة لحكم الله ورسوله من اليهود والنصارى . ويكون أشد عداوة منهم لأهل الإيمان . كما هو الواقع في هذه الأزمنة وقبلها من إعانة العدو على المسلمين . وحرصهم على إطفاء نور الإسلام والإيمان : ومن تدبر ما في التاريخ وما وقع منهم من الوقائع عرف أن هذا حال المنافقين قديماً وحديثاً ، وقد حذر الله نبيه صلى الله عليه وسلم من طاعتهم والقرب منهم ، وحضه على جهادهم في مواضع من كتابه ، قال تعالى : ' 66 : 9 ' " يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم " الآية . وفي قصة عمر رضي الله عنه وقتله المنافق الذي طلب التحاكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي دليل على قتل من أظهر الكفر والنفاق ، وكان كعب بن الأشرف هذا شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم والأذى له والإظهار لعداوته فانتقض به عهده . وحل به قتله . وروى مسلم في صحيحه عن عمر : سمعت جابراً يقول : : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لكعب ابن الأشرف ؟ فإنه قد آذى الله ورسوله ، قال محمد بن سلمة : يا رسول الله ، أتحب أن أقتله ؟ قال : نعم . قال : ائذن لي فلأقل ، قال : قل ، فأتاه فقال له ، وذكر ما بينهما وقال : إن هذا الرجل قد أراد صدقة وقد عنانا . فما سمعه قال : وأنا أيضاً والله لتملنه ، قال : إنا قد اتبعناه الآن ، ونكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شئ يصير أمره، قال : وقد أردت أن تسلفني سلفاً ، قال : فما ترهنني ؟ قال : ما تريد . قال : ترهنني نسائكم ؟ قالت : أنت أجمل العرب ، أنرهنك نسائنا ؟ قال : ترهنوني أولادكم ؟ قال : يسب ابن أحدنا فيقال : رهن في وسقين من تمر . ولكن نرهنك اللأمة ـ يعني السلاح ـ قال : فنعم : وواعده أن يأتيه بالحارث وأبي عبس بن جبر وعباد بن بشر . قال : فجاءوا فدعوه ليلاً فنزل إليهم ـ قال سفيان قال غير عمرو : قالت له أمرأته : إني أسمع صوتاً كأنه صوت دم ، قال : إنما هذا محمد بن مسلمة ورضيعه وأبو نائلة إن الكريم لو دعى إلى طعنة ليلاً لأجاب ، قال محمد إني إذا جاء فسوف أمد يدي إلى رأسه ، فإذا استمكنت منه فدونكم قال : فلما نزل وهو متوشح . فقالوا : نجد منك ريح الطيب ، قال : نعم ، تحتى فلانة أعطر نساء العرب ، قال : فتأذن لي أن أشتم منه ؟ قال : نعم فشم ، فتناول فشم ، ثم قال : أتأذن لي أن أعود ؟ قال : فاستمكن من رأسه . ثم قال : دونكم . قال : فقتلوه " .

وفي قصة عمر : بيان أن المنافق المغموض بالنفاق إذا أظهر نفاقه قتل ، كما في الصحيحين  وغيرهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ترك قتل من أظهر نفاقه منهم تأليفاً للناس ، فإنه قال : " لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه " فصلوات الله وسلامه عليه .

 

باب من جحد شيئاً من الأسماء والصفات

باب

من جحد شيئاً من الأسماء والصفات

وقول الله تعالى : ' 13 : 30 ' " وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب " .

سبب نزول هذه الآية معلوم مذكور في كتب التفسير وغيرها . وهو أن مشركي قريش جحدوا اسم الرحمن عناداً ، وقال تعالى: ' 17 : 110 ' " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى " و الرحمن اسم وصفته ، دل هذا الإسم على أن الرحمة وصفه سبحانه ، وهي من صفات الكمال ، فإن كان المشركون جحدوا إسماً من أسمائه تعالى ، وهو من الأسماء التي دلت على كماله سبحانه وبحمده فجمود معنى هذا الإسم ونحوه من الأسماء يكون كذلك ، فإن جهم بن صفوان ومن تبعه يزعمون أنها لا تدل على صفة قائمة بالله تعالى . وتبعهم على ذلك طوائف من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم . فلهذا كفرهم كثيرون من أهل السنة . قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى :

ولقد تقلد كفرهم خمسون في    عشر من العلماء في البلدان

الكائي الإمام حكاه عنــ    هم بل حكاه قبله الطبراني

فإن هؤلاء الجهمية ومن وافقهم على التعطيل جحدوا ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله من صفات كماله ونعوت جلاله ، وبنوا هذا التعطيل على أصل باطل أصلوه من عند أنفسهم ، فقالوا : هذه هي صفات الأجسام . فيلزم من إثباتها أن يكون الله جسماً ، هذا منشأ ضلال عقولهم ، لم يفهموا من صفات الله إلا ما فهموه من خصائص صفات المخلوقين ، فشبهوا الله في إبتداء آرائهم الفاسدة بخلقه ثم عطلوه من صفات كماله ، وشبهوه بالناقصات والجمادات والمعدومات ، فشبهوا أولاً وعطلوا ثانياً . وشبهوه ثالثاً بكل ناقص ومعدوم ، فتركوا ما دل عليه الكتاب والسنة من إثبات ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله على ما يليق بجلاله وعظمته . وهذا هو الذي عليه سلف الأمة وأئمتها ، فإنهم أثبتوا لله ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتاً بلا تمثيل ، وتنزيهاً بلا تعطيل ، فإن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات يحتذى حذوه فكما أن هؤلاء المعطلة يثبتون لله ذاتاً لا تشبه لذوات ، فأهل السنة يقولون ذلك ويثبتون ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله من صفات كماله ونعوت جلاله لا تشبه صفاته صفات خلقه ، فإنهم آمنوا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يتناقضوا ، وأولئك المعطلة كفروا بما في الكتاب والسنة من ذلك ، وتناقضوا . فبطل قول المعطلين بالعقل والنقل ولله الحمد والمنة ، وإجماع أهل السنن من الصحابة والتابعين وتابعيهم وأئمة المسلمين .

وقد صنف العلماء رحمهم الله تعالى في الرد على الجهمية والمعطلة والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم في إبطال هذه البدع وما فيها من التناقض والتهافت : كالإمام أحمد رحمه الله تعالى في رده المشهور ، وكتاب السنة لابنه عبد الله ، وصاحب الحيدة عبد العزيز الكتاني في رده على بشر المريسي ، وكتاب السنة لأبي عبد الله المروزي ، ورد عثمان بن سعيد على الكافر العنيد . وهو بشر المريسي ، وكتاب التوحيد لإمام الأئمة محمد بن خزيمة الشافعي ، وكتاب السنة لأبي بكر الخلال ، وأبي عثمان الصابوني الشافعي ، وشيخ الإسلام الأنصاري ، وأبي عمر بن عبد البر النمري ، وخلق كثير من أصحاب الأئمة الأربعة وأتباعهم ، وأهل الحديث ومن متأخريهم أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة ، وشيخ الإسلام ابن تيمية وأصحابه وغيرهم رحمهم الله تعالى . فلله الحمد والمنة على بقاء السنة وأهلها مع تفرق الأهواء وتشعب الآراء . والله أعلم .

قوله :  وفي صحيح البخاري عن علي رضي الله عنه : حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله  .

 على  هو أمير المؤمنين أبو الحسن علي بن أبي طالب ، وأحد الخلفاء الراشدين . وسبب هذا القول ـ والله أعلم ـ ما حدث في خلافته من كثرة إقبال الناس على الحديث ، وكثرة القصاص وأهل الوعظ . فيأتون في قصصهم بأحاديث لا تعرف من هذا القبيل ، فربما استنكرها بعض الناس وردها وقد يكون لبعضها أصل أو معنى صحيح ، فيقع بعض المفاسد لذلك ، فأرشدهم أمير المؤمنين رضي الله عنه إلى أنهم لا يحدثون عامة الناس إلا بما هو معروف ينفع الناس في أصل دينهم وأحكامه ، من بيان الحلال من الحرام الذي كلفوا به علماً وعملاً ، دون ما يشغل عن ذلك مما قد يؤدي إلى رد الحق وعدم قبوله فيفضي بهم إلى التكذيب ، ولا سيما مع اختلاف الناس في وقته ، وكثرة خوضهم وجدلهم .

وقد كان شيخنا المصنف رحمه الله لا يحب أن يقرأ على الناس إلا ما ينفعهم في أصل دينهم وعباداتهم ومعاملاتهم الذي لا غنى لهم عن معرفته ، وينهاهم عن القراءة في مثل كتب ابن الجوزي : كالمنعش ، والمرعش ، والتبصرة  لما في ذلك من الإعراض عما هو أوجب وأنفع ، وفيها ما الله به وأعلم مما لا ينبغي اعتقاده . والمعصوم من عصمه الله .

وقد كان أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان ينهى القصاص عن القصص ، لما في قصصهم من الغرائب والتساهل في النقل وغير ذلك ، ويقول :  لا يقص إلا أمير أو مأمور  وكل هذا محافظة على لزوم الثبات على الصراط المستقيم علماً وعملاً ونية وقصداً ، وترك كل ما كان وسيلة إلى الخروج عنه من البدع ووسائلها ، والله الموفق للصواب ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

قوله :  وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس :  أنه رأى رجلاً انتفض لما سمع حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات ـ استنكاراً لذلك ـ فقال : ما فرق هؤلاء ؟ يجدون رقة عند محكمه ، ويهلكون عند متشابهه  .

قوله :  وروى عبد الرزاق  هو ابن همام الصنعاني المحدث محدث اليمن صاحب التصانيف، أكثر الرواية عن معمر بن راشد صاحب الزهري . وهو شيخ عبد الرزاق يروي عنه كثيراً .

ومعمر ـ بفتح الميمين وسكون العين ـ أبو عروة بن أبي عمرو راشد الأزدي الحراني ثم اليماني ، أحد الأعلام من أصحاب محمد بن شهاب الزهري يروي عنه كثيراً .

قوله :  عن ابن طاوس  هو عبد الله بن طاوس اليماني . قال معمر : كان من أعلم الناس بالعربية . وقال ابن عيينة : مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة .

قوله :  عن أبيه  هو طاوس بن كيسان الجندي بفتح الجيم والنون ـ الإمام العلم ، قيل اسمه ذكوان ، قاله ابن الجوزي .

قلت : وهو من أئمة التفسير ومن أوعية العلم ، قال في تهذيب الكمال : عن الوليد الموقري عن الزهري قال :  قدمت على عبد الملك بن مروان فقال : من أين قدمت يا زهري ؟ قال : قلت : من مكة ، قال : ومن خلفت يسودها وأهلها ؟ قلت : عطاء بن أبي رباح ، قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قلت : من الموالي ، قال : فبم سادهم ؟ قال : قلت : بالديانة والرواية . قال : إن الديانة والرواية لينبغي أن يسودوا . قال : فمن يسود أهل اليمن ؟ قلت : طاوس بن كيسان ، قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قال : قلت : من الموالى ، قال : فبم سادهم ؟ قلت : بما ساد به عطاء ، قال : إنه لينبغي ذلك . قال : فمن يسود أهل مصر ؟ ؟ قلت يزيد بن حبيب ، قال : فمن العرب أم من الموالى ؟ قال : قلت : من الموالى ، قال : فمن يسود أهل الشام ؟ قلت : مكحول ، قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قلت من الموالي ، عبد نوبي أعتقته امرأة من هذيل . قال : فمن يسود أهل الجزيرة ؟ قلت : ميمون بن مهروان ، قال : فمن العرب أم من الموالي ، قال : قلت : من الموالي . قال فمن يسود أهل خراسان ؟ قال : قلت : الضحاك بن مزاحم ، قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قال : قلت : من الموالي ، قال : فمن يسود أهل البصرة ؟ قال : قلت : الحسن البصري ، قال فمن العرب أم من الموالي ؟ قلت : من الموالي . قال : ويلك ، ومن يسود أهل الكوفة ؟ قال : قلت : إبراهيم النخعي ، قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قال : قلت : من العرب . قال : ويلك يا زهري فرجت عني ، والله لتسودن الموالي على العرب في هذا البلد حتى يخطب لها على المنابر والعرب تحتها . قال : قلت : يا أمير المؤمنين ، إنما هو دين : من حفظه ساد ومن ضيعه سقط  .

قوله :  عن ابن عباس  قد تقدم ، وهو حبر الأمة وترجمان القرآن ، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " وروى عنه أصحابه أئمة التفسير : كمجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعطاء بن أبي رباح ، وطاوس وغيرهم .

قوله :  ما فرق هؤلاء  يستفهم من أصحابه ، يشير إلى أناس ممن يحضر مجلسه من عامة الناس ، فإذا سمعوا شيئاً من محكم القرآن ومعناه حصل معهم فرق أي خوف ، فإذا سمعوا شيئاً من أحاديث الصفات انتفضوا كالمنكرين له ، فلم يحصل منهم الإيمان الواجب الذي أوجبه الله تعالى على عباده المؤمنين قال الذهبي : حديث وكيع عن إسرائيل بحديث :إذا جلس الرب على الكرسي فاقشعر رجل عند وكيع . فغضب وكيع . وقال :  أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث ولا ينكرونها  أخرجه عبد الله بن أحمد في كتاب الرد على الجهمية . وربما حصل معهم من عدم تلقيه بالقبول ترك ما وجب من الإيمان به ، فشبه حالهم حال من قال الله فيهم : ' 2 : 85 ' " أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض " فلا يسلم من الكفر إلا من عمل بما وجب عليه في ذلك من الإيمان بكتاب الله كله واليقين كما قال تعالى : ' 3 : 7 ' " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب " فهؤلاء الذين ذكرهم ابن عباس رضي الله عنهما تركوا ما وجب عليهم من الإيمان بما لم يعرفوا معناه من القرآن ، وهو حق لا يرتاب فيه مؤمن ، وبعضهم يفهم منه غير المراد من المعنى الذي أراد الله فيحمله على غير معناه ، كما جرى لأهل البدع ، كالخوارج والرافضة والقدرية ، ونحوهم ممن يتأول بعض آيات القرآن على بدعته . وقد وقع منهم الابتداع والخروج عن الصراط المستقيم ، فإن الواقع من أهل البدع وتحريفهم لمعنى الآيات يبين معنى قول ابن عباس .

وسبب هذه البدع جهل أهلها وقصورهم في الفهم ، وعدم أخذ العلوم الشرعية على وجهها ، وتلقيها من أهلها العارفين لمعناها الذين وفقهم الله تعالى لمعرفة المراد ، والتوفيق بين النصوص ، والقطع بأن بعضها لا يخالف بعضاً ، ورد المتشابه إلى المحكم . وهذه طريقة أهل السنة والجماعة في كل زمان ومكان ، فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه .

 

ما ورد عن علماء السلف في المشتابه

( ذكر ما ورد عن علماء السلف في المتشابه )

قال في الدر المنثور : أخرج الحاكم ـ وصححه ـ عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد ، فنزل القرآن من سبعة أحرف : زجر ، وأمر ، وحلال ، وحرام ، ومحكم ومتشابه ، وأمثال . فأحلوا حلاله ، وحرموا حرامه ، وافعلوا ما أمرتم به ، وانتهوا عما نهيتم عنه ، واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمة ، وآمنوا بمتشابهه ، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا " .

قال :  وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله تعالى : ' 3 : 7 ' " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه " الآية . قال : طلب القوم التأويل ، فأخطأوا التأويل وأصابوا الفتنة ، وطلبوا ما تشابه منه فهلكوا بين ذلك .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : " آيات محكمات " قال :  منهن قوله تعالى : ' 6 : 151 ـ 153 ' " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " إلى ثلاث آيات ، ومنهن : ' 17 : 23 ـ 39 ' " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " إلى آخر الآيات  .

وأخرج ابن جرير من طريق أبي مالك عن أبي صالح عن ابن عباس ، وعن مرة عن ابن مسعود وناس من الصحابة رضي الله عنهم :  المحكمات الناسخات التي يعمل بهن ، والمتشابهات المنسوخات  .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن إسحق بن سويد أن يحيى بن يعمر وأبا فاختة تراجعا هذه الآية " هن أم الكتاب " فقال أوب فاختة :  هن فواتح السور . منها يستخرج القرآن : " الم * ذلك الكتاب " منها استخرجت البقرة و " الم * الله لا إله إلا هو " منها استخرجت آل عمران . وقال يحيى : هن اللاتي فيهن الفرائض ، والأمر والنهي والحال والحرام . والحدود وعماد الدين  .

وأخرج ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير قال :  المحكمات فيهن حجة الرب وعصمة العباد ، ودفع الخصوم والباطل ، ليس فيها تصريف ولا تحريف عما وضعت عليه  وأخر متشابهات  في الصدق ، لهن تصريف وتحريف وتأويل ، ابتلى الله بهن العباد كما ابتلاهم بالحلال والحرام ، لا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق  .

وأخرج ابن أبي حاتم مقاتل بن حيان  إنما قال : " هن أم الكتاب " لأنه ليس من أهل دين لا يرضي بهن : " وأخر متشابهات " يعني فيما بلغنا  ألم  و  المص  و  المر  .

قلت : وليس في هذه الآثار ونحوها ما يشعر بأن أسماء الله تعالى وصفاته من المتشابه ، وما قال المنفاة من أنها من المتشابه دعوى بلا برهان .

قوله :  ولما سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن أنكروا ذلك فأنزل الله فيهم : ' 13 : 30 ' " وهم يكفرون بالرحمن " روى ابن جرير عن قتادة : " وهم يكفرون بالرحمن " روى ابن جرير عن قتادة : " وهم يكفرون بالرحمن " ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية حين صالح قريشاً كتب :  هذا ما صالح عليه محمد رسول الله ، فقال مشركوا قريش : لئن كنت رسول الله ثم قاتلناك لقد ظلمناك ، ولكن اكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله . فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله دعنا نقاتلهم . فقال : لا . اكتبوا كما يريدون : إني محمد بن عبد الله فلما كتب الكاتب  بسم الله الرحمن الرحيم  قالت قريش : أما الرحمن فلا نعرفه . وكان أهل الجاهلية يكتبون : باسمك اللهم . فقال أصحابه : دعنا نقاتلهم . قال : لا . ولكن اكتبوا كما يريدون  وروى أيضاً عن مجاهد قال : قوله : ' 13 : 30 ' " كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب " قال :  هذا ما كاتب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً في الحديبية ، كتب  بسم الله الرحمن الرحيم  قالوا : لا تكتب الرحمن ، لا ندري ما الرحمن ؟ لا نكتب إلا باسمك اللهم . قال تعالى : " وهم يكفرون بالرحمن " الآية .

وروى أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :  كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ساجداً : يا رحمن يا رحيم . فقال المشركون : هذا يزعم أنه يدعو واحداً وهو يدعو مثنى مثنى . فأنزل الله : ' 17 : 110 ' " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى " الآية  .

 

يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها

قوله : باب

قول الله تعالى : ' 16 : 83 ' " يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون " .

ذكر المصنف رحمه الله ما ذكر بعض العلماء في معناها . وقال ابن جرير : فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنى بالنعمة . فذكر عن سفيان عن السدى : " يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها " قال :  محمد صلى الله عليه وسلم  وقال آخرون بل معنى ذلك أنهم يعرفون أن ما عدد الله تعالى ذكره في هذه السورة من النعم من عند الله ، وأن الله هو المنعم عليهم بذلك ، ولكنهم ينكرون ذلك ، فيزعمون أنهم ورثوه عن آبائهم .

وأخرج عن مجاهد : " يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها " ، قال :  هي المساكن والأنعام وما يرزقون منها والسرابيل من الحديد والثياب ، تعرف هذا كفار قريش ثم تنكره ، بأن تقول : هذا كان لآبائنا فورثونا إياه  وقال آخرون : معنى ذلك أن الكفار إذا قيل لهم من : رزقكم ؟ أقروا بأن الله هو الذي يرزقهم ثم ينكرونه بقولهم : رزقنا ذلك شفاعة آلهتنا .

وذكر المصنف مثل هذا عن ابن قتيبة وهو أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري قاضي مصر النحوي اللغوي ، صاحب المصنفات البديعة المفيدة المحتوية على علوم جمة ، اشتغل ببغداد وسمع الحديث على إسحاق بن راهوية وطبقته . توفي سنة ست وسبعين ومائتين .

وقال آخرون : ما ذكره المصنف  عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي  أبو عبد الله الكوفي الزاهد عن أبيه وعائشة وابن عباس وعنه قتادة وأبو الزبير والزهري ، وثقة أحمد وابن معين قال البخاري : مات بعد العشرين ومائة " يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها " قال :  إنكارهم إياها أن يقول الرجل : لولا فلان ما كان كذا وكذا ، ولولا فلان ما أصبت كذا وكذا  وإختار ابن جرير القول الأول ، واختار غيره أن الآية تعم ما ذكره العلماء في معناها . وهو الصواب والله أعلم .

قوله :  قال مجاهد  هو شيخ التفسير : الإمام الرباني ، مجاهد بن جبر المكي مولى بني مخزوم . قال الفضل بن ميمون : سمعت مجاهداً يقول عرضت المصحف على ابن عباس مرات ، أقفه عند كل آية وأسأله : فيم نزلت ؟ وكيف نزلت ؟ وكيف معناها ؟ توفي سنة اثنتين ومائة . وله ثلاث وثمانون سنة رحمه الله .

قوله :  وقال أبو العباس  هو شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الإمام الجليل رحمه الله ـ بعد حديث زيد بن خالد ـ وقد تقدم في باب ما جاء في الإستسقاء بالأنواء . قال : وهذا كثير في الكتاب والسنة ، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به . قال بعض السلف هو كقولهم : كانت الريح طيبة ، والملاح حاذقاً . نحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثير . ا هـ .

وكلام شيخ الإسلام يدل على أن حكم هذه الآية عام فيمن نسب النعم إلى غير الله الذي أنعم بها ، وأسند أسبابها إلى غيره ، كما هو مذكور في كلام المفسرين المذكور بعضه هنا .

قال شيخنا رحمه الله : وفيه اجتماع الضدين في القلب ، وتسمية هذا الكلام إنكاراً للنعمة .

 

قول الله " فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون "

قوله : باب

قول الله تعالى : ' 2 : 22 ' " فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون " .

الند : المثل والنظير . وجعل الند لله : هو صرف أنواع العبادة أو شئ منها لغير الله ، كحال عبدة الأوثان الذين يعتقدون فيمن دعوه ورجوه أنه ينفعهم ويدفع عنهم ، ويشفع لهم . وهذه الآية في سياق قوله تعالى : " يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون * الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون " قال العماد ابن كثير رحمه الله في تفسيره : قال أبو العالية : لا تجعلوا لله أنداداً أي عدلاء شركاء . وهكذا قال الربيع بن أنس وقتادة والسدى وأبو مالك واسماعيل بن أبي خالد .

وقال ابن عباس : " فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون " أي لا تشركون بالله شيئاً من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر ، وأنتم تعلمون أنه ربكم لا رب لكم يرزقكم غيره ، وقد علمتم أن الذي يدعوكم الرسول إليه من توحيده هو الحق الذي لا شك فيه . وكذلك قال قتادة ومجاهد : " فلا تجعلوا لله أنداداً " قال أكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله . وقال ابن زيد : الأنداد هي الآلهة التي جعلوها معه وجعلوا لها مثل ما جعلوا له . وعن ابن عباس : " فلا تجعلوا لله أنداداً " أشباهاً . وقال مجاهد : " فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون " قال تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل . وذكر حديثاً في معنى هذه الآية الكريمة وهو ما في مسند أحمد عن الحارث الأشعري أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله أمر يحيى بن زكريا عليه السلام بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن ، وأنه كاد أن يبطيء بها . فقال له عيسى عليه السلام :  إن الله أمرك بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن فإما أن تبلغهن وإما أن أبلغهن ، فقال : يا أخي ، إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي . قال : فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس ، حتى امتلأ المسجد وقعد على الشرف . فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن : أولاهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً : فإن مثل ذلك مثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بذهب أو ورق ، فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده ، فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك ؟ وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً . وآمركم بالصلاة فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت . فإذا صليتم فلا تلتفتوا . وآمركم بالصيام ، فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك . وإن خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك . وآمركم بالصدقة . فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يديه إلى عنقه ، وقدموه ليضربوا عنقه . فقال لهم : هل لكم أن أفتدي نفسي منكم ؟ فجعل يفتدى بالقليل والكثير حتى فك نفسه . وآمركم بذكر الله كثيراً : فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره ، فأتى حصناً حصيناً فتحصن فيه ، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله . قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن : الجماعة ، والسمع والطاعة، والهجرة والجهاد في سبيل الله ، فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع ، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثي جهنم . قالوا يا رسول الله وإن صلى وصام ؟ فقال : وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم ، فادعوا المسلمين بأسمائهم التي سماهم الله عز وجل : المسلمين المؤمنين عباد الله " .

وهذا حديث حسن ، والشاهد منه في هذه الآية قوله : " واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا " وهذه الآية دالة على توحيد الله تعالى بالعبادة وحده لا شريك له . وقد استدل بها كثير من المفسرين على وجود الصانع ، وهي دالة على ذلك بطريق الأولى . والآيات الدالة على هذا المقام في القرآن كثيرة جداً . وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد :

تأمل في نبات الأرض وانظر    إلى آثار ما صنع المليك

عيون من لجين ناظرات    بأحداق هي الذهب السبيك

على قضب الزبرجد شاهدات    بأن الله ليس له شريك

وقال ابن المعتز :

فيا عجباً ، كيف يعصى الإلـ    ـه أم كيف يجحده الجاحد ؟

وفي كل شئ له آية    تدل على أنه واحد

قوله :  وعن ابن عباس رضي الله عنهما في الآية الأنداد هو الشرك ، أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل . وهو أن تقول : والله ، وحياتك يا فلانة . وحياتي ، وتقول : لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص . ولولا الله وفلان . لا تجعل فيها فلاناً. هذا كله به شرك  رواه ابن أبي حاتم  . بين ابن عباس رضي الله عنهما أن هذا كله من الشرك ، وهو الواقع اليوم على ألسن كثير ممن لا يعرف التوحيد ولا الشرك : فتنبه لهذه الأمور . فإنها من المنكر العظيم الذي يجب النهي عنه والتغليظ فيه لكونه من أكبر الكبائر . وهذا من ابن عباس رضي الله عنهما تنبيه بالأدنى من الشرك على الأعلى .

 

من حلف بغير الله فقد أشرك أو كفر

قوله :  وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك " رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم  .

قوله :  فقد كفر أو أشرك  يحتمل لي أن يكون شكاً من الراوي ويحتمل أن تكون أو بمعنى الواو فيكون قد كفر وأشرك . ويكون الكفر الذي هو دون الكفر الأكبر . كما هو من الشرك الأصغر . وورد مثل هذا عن ابن مسعود بهذا اللفظ .

قوله : وقال ابن مسعود :  لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلى من أن أحلف بغيره صادقاً  .

ومن المعلوم أن الحلف بالله كاذباً كبيرة من الكبائر لكن الشرك أكبر من الكبائر . وإن كان أصغر كما تقدم بيان ذلك ، فإذا كان هذا حال الشرك الأصغر فكيف بالشرك الأكبر الموجب للخلود في النار ؟ كدعوة غير الله والاستغاثة به ، والرغبة إليه ، وإنزال حوائجه به ، كما هو حال الأكثر من هذه الأمة في هذه الأزمان وما قبلها : من تعظيم القبور ، واتخاذهها أوثاناً ، والبناء عليها ، واتخاذها مساجد ، وبناء المشاهد باسم الميت لعبادة من بنيت باسمه وتعظيمه ، والإقبال عليه بالقلوب والأقوال والأعمال . وقد عظمت البلوى بهذا الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله ، وتركوا ما دل عليه القرآن العظيم من النهي عن هذا الشرك وما يوصل إليه . قال الله تعالى : ' 7 : 37 ' " فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين " كفرهم الله تعالى بدعوتهم من كانوا يدعونه من دونه في دار الدنيا . وقد قال تعالى : ' 72 : 18 ' " وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا " وقال تعالى : ' 72 : 20 ـ 21 ' " قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا * قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا " وهؤلاء المشركون عكسوا الأمر فخالفوا ما بلغ به الأمة وأخبر به عن نفسه صلى الله عليه وسلم ، فعاملوه بما نهاهم عنه من الشرك بالله والتعلق على غير الله حتى قال قائلهم :

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به    سواك عند حلول الحادث العمم

إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي    فضلاً ، وإلا فقل : يا زلة القدم

فإن من جودك الدنيا وضرتها    ومن علومك علم اللوح والقلم

فانظر إلى هذا الجهل العظيم حيث اعتقد أنه لا نجاة له إلا بعياذه ولياذه بغير الله ، وانظر إلى هذا الإطراء العظيم الذي تجاوز الحد في الإطراء الذي نهي عنه صلى الله عليه وسلم بقوله : " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله " رواه مالك وغيره ، وقد قال تعالى : ' 6 : 50 ' " قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك " .

فانظر إلى هذه المعارضة العظيمة للكتاب والسنة والمحادة لله ورسوله . وهذا الذي يقوله هذا الشاعر هو الذي في نفوس كثير خصوصاً ممن يدعون العلم والمعرفة . ورأوا قراءة هذه المنظومة ونحوها لذلك وتعظيمها من القربات فإن لله وإنا إليه راجعون .

قوله :  وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ، ولكن قولوا ما شاء الله ، ثم شاء فلان " رواه أبو داود بسند صحيح  .

وذلك لأن المعطوف بالواو يكون مساوياً للمعطوف عليه ، لكونها إنما وضعت لمطلق الجمع . فلا تقتضي ترتيباً ولا تعقيباً . وتسوية المخلوق بالخالق شرك ، إن كان في الأصغر ـ مثل هذا ـ فهو أصغر ، وإن كان في الأكبر فهو أكبر . كما قال تعالى عنهم في الدار الآخرة :' 21 : 97 ، 98 ' " تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين " بخلاف المعطوف بثم . فإن المعطوف بها يكون متراخياً عن المعطوف عليه بمهملة . فلا محذور لكونه صار تابعاً .

قوله :  وعن إبراهيم النخعي :  أنه يكره أن يقول الرجل أعوذ بالله وبك . ويجوز أن يقول : بالله ثم بك . قال ويقول : لولا الله ثم فلان . لا تقولوا : لولا الله وفلان .

وقد تقدم الفرق بين ما يجوز وما لا يجوز من ذلك . هذا إنما هو في الحي الحاضر الذي له قدرة وسبب في الشئ . وهو الذي يجري في حقه مثل ذلك . وأما في حق الأموات الذين لا إحساس لهم بمن يدعوهم ولا قدرة لهم على نفع ولا ضر . فلا يقال في حقهم شئ من ذلك . فلا يجوز التعلق عليه بشئ ما بوجه من الوجوه ، والقرآن يبين ذلك وينادي بأنه يجعلهم آلهة إذا سئلوا شيئاً من ذلك ، أو رغب إليهم أحد بقوله أو عمله الباطن أو الظاهر ، فمن تدبر القرآن ورزق فهمه صار على بصيرة من دينه وبالله التوفيق .

والعلم لا يؤخذ قسراً وإنما يؤخذ بأسباب ذكرها بعضهم في قوله :

أخي ، لن تنال العلم إلا بستة    سأنبيك عن تفصيلها ببيان

ذكاء وحرص ، واجتهاد وبلغة    وإرشاد أستاذ ، وطول زمان

وأعظم من هذه الستة من رزقه الله تعالى الفهم والحفظ ، وأتعب نفسه في تحصيله فهو الموفق لمن شاء من عباده . كما قال تعالى : ' 4 : 113 ' " وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما " .

ولقد أحسن العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى من حيث قال :

والجهل داء قاتل وشفاؤه    أمران في التركيب متفقان

نص من القرآن ، أو من سنة    وطبيب ذاك العالم الرباني

والعلم أقسام ثلاث ، ما لها    من رابع ، والحق ذو تبيان

علم بأوصاف الإله وفعله    وكذلك الأسماء للرحمن

والأمر والنهي الذي هو دينه    وجزاؤه يوم المعاد الثاني

والكل في القرآن والسنن التي    جاءت عن المبعوث بالقرآن

والله ما قال امرؤ متحذلق     بسواهما إلا من الهذيان

 

باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله والنهي عن الحلف بالآباء

قوله : باب

( ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله )

عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تحلفوا بآبائكم . من حلف بالله فليصدق . ومن حلف له بالله فليرض . ومن لم يرض فليس من الله " رواه ابن ماجه بسند حسن .

قوله :  لا تحلفوا بآباكم  تقدم النهي عن الحلف بغير الله عموماً .

قوله :  من حلف بالله فليصدق  هذا مما أوجبه الله على عباده وحضهم عليه في كتابه . قال تعالى : ' 9 : 119 ' " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين " وقال : ' 33 : 35 ' " والصادقين والصادقات " وقال : ' 47 : 21 ' " فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم " وهو حال أهل البر ، كما قال تعالى : ' 2 : 177 ' " ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين " ـ إلى قوله ـ "أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون " .

وقوله : من حلف فليرض ، ومن لم يرض فليس من الله  أما إذا لم يكن له بحكم الشريعة على خصمه إلا اليمين فأحلفه فلا ريب أنه يجب عليه الرضا . وأما إذا كان فيما يجري بين الناس مما قد يقع في الاعتذارات من بعضهم لبعض ونحو ذلك . فهذا من حق المسلم على المسلم : أن يقبل منه إذا حلف له معتذراً أو متبرئاً من تهمة ومن حقه عليه : أن يحسن به الظن إذا لم يتبين خلافه ، كما في الأثر عن عمر رضي الله عنه :  ولا تظنن بكلمة خرجت من مسلم شراً وأنت تجد لها في الخير محملاً  .

وفيه : من التواضع والألفة والمحبة وغير ذلك من المصالح التي يحبها الله ما لا يخفى على من له فهم . وذلك من أسباب اجتماع القلوب على طاعة الله ، ثم إنه يدخل في حسن الخلق الذي هو أثقل ما يوضع في ميزان العبد ، كما في الحديث وهو من مكارم الأخلاق .

فتأمل أيها الناصح لنفسه ما يصلحك مع الله تعالى : من القيام بحقوقه وحقوق عباده ، وإدخال السرور على المسلمين ، وترك الانقباض عنهم والترفع عليهم . فإن فيه من الضرر ما لا يخطر بالبال ولا يدور بالخيال . وبسط هذه الأمور وذكر ما ورد فيها مذكور في كتب الأدب وغيرها . فمن رزق ذلك والعمل بما ينبغي العمل به من وترك ما يجب تركه من ذلك ، دل على وفور دينه ، وكمال عقله . والله الموفق لعبده الضعيف المسكين . والله أعلم .

 

باب : قول ما شاء الله وشئت

باب

قول : ( ما شاء الله وشئت )

عن قتيلة : " أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : إنكم تشركون . تقولون : ما شاء الله وشئت ، وتقولون ، وتقولون : والكعبة . فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا : ورب الكعبة . وأن يقولوا : ما شاء الله ثم شئت " رواه النسائي وصححه .

قوله :  عن قتيلة  بمثناة مصغرة بنت صيفي الأنصارية صحابية مهاجرة ، لها حديث في سنن النسائي ، وهو المذكور في الباب . ورواه عنها عبد الله بن يسار الجعفي .

وفيه : قبول الحق مما جاء به كائناً من كان . وفيه : بيان النهي عن الحلف بالكعبة ، مع أنها بيت الله التي حجها وقصدها بالحج والعمرة فريضة . وهذا يبين أن النهي عن الشرك بالله عام لا يصلح منه شئ ، لا لملك مقرب ولا نبي مرسل . ولا للكعبة التي هي بيت الله في أرضه . وأنت ترى ما وقع من الناس اليوم من الحلف بالكعبة وسؤالها ما لا يقدر عليه إلا الله . ومن المعلوم أن الكعبة لا تضر ولا تنفع . وإنما شرع الله لعباده الطواف بها والعبادة عندها وجعلها للأمة قبلة : فالطواف بها مشروع والحف بها ودعاؤها ممنوع . فميز أيها المكلف بين ما يشرع وما يمنع ، وإن خالفك من خالفك من جهة الناس الذين هم كالأنعام ، بل هم أضل سبيلاً .

قوله :  إنكم تشركون . تقولون : ما شاء الله وشئت  والعبد وإن كانت له مشيئة فمشيئته تابعة لمشيئة الله ، ولا قدرة له على أن يشأ شيئاً إلا إذا كان الله قد شاءه ، كما قال تعالى : ' 81 : 28 ، 29 ' " لمن شاء منكم أن يستقيم * وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين " وقوله : ' 76 : 29 ، 30 ' " إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا * وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما " .

وفي هذه الآيات والأحاديث : الرد على القدرية والمعتزلة ، نفاة القدر الذين يثبتون للعبد مشيئة تخالف ما أراده الله تعالى من العبد وشاءه ، وسيأتي ما يبطل قولهم في :  باب ما جاء في منكري القدر  إن شاء الله تعالى ، وأنهم مجوس هذه الأمة .

وأما أهل السنة والجماعة فتمسكوا بالكتابة والسنة في هذا الباب وغيره . واعتقدوا أن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله تعالى في كل شئ مما يوافق ما شرعه الله وما يخالفه ، من أفعال العباد وأقوالهم . فالكل بمشيئة الله وإرادته . فما وافق ما شرعه رضيه وأحبه . وما خالفه كرهه من العبد ، كما قال تعالى : ' 39 : 7 ' " إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر " الآية . وفيه : بيان أن الحلف بالكعبة شرك . فإن النبي صلى الله عليه وسلم أقر اليهودي على قوله :  إنكم تشركون  .

قوله :  وله أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما " أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت ، قال : أجعلتني لله نداً ؟ بل ما شاء الله وحده " .

هذا يقرر ما تقدم من أن هذا شرك ، لوجود التسوية في العطف بالواو .

وقوله :  أجعلتني لله نداً  فيه بيان أن من سوى العبد بالله ولو في الشرك الأصغر فقد جعله نداً لله شاء أم أبى ، خلافاً لما يقوله الجاهلون ، مما يختص بالله تعالى من عباده ، وما يجب النهي عنه من الشرك بنوعيه . ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين.

قوله :  ولابن ماجه : عن الطفيل أخي عائشة لأمها قال :  رأيت فيما يرى النائم كأني أتيت على نفر من اليهود ، فقلت : من أنتم ؟ قالوا : نحن اليهود ، قلت : إنكم لأنتم القوم ، لولا أنكم تقولون عزير ابن الله. قالوا : وإنكم لأنتم القوم ، لولا أنكم تقولون : ما شاء الله وشاء محمد . ثم مررت بنفر من النصارى فقلت : من أنتم ؟ قالوا نحن النصارى . قلت إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون : المسيح ابن الله ، قالوا : وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون : ما شاء الله وشاء محمد ، فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال : هل أخبرت بها أحداً ؟ قلت: نعم. قال : فحمد الله وأثنى عليه . ثم قال : أما بعد فإن طفيلاً رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم ، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها . فلا تقولوا : ما شاء الله وشاء محمد ، ولكن قولوا : ما شاء الله وحده  .

قوله : عن الطفيل أخي عائشة لأمها  هو الطفيل بن عبد الله بن سخبرة أخو عائشة لأمها ، صحابي له حديث عند ابن ماجه ، وهو ما ذكره المصنف في الباب .

وهذه الرؤيا حق أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل بمقتضاها . فنهاهم أن يقولوا : ما شاء الله وشاء محمد ، وأمرهم أن يقولوا :  ما شاء الله وحده  .

وهذا الحديث والذي قبله فيه أن يقولوا : ما شاء الله وحده  ولا ريب أن هذا أكمل في الإخلاص وأبعد عن الشرك من أن يقولوا:  ثم شاء فلان  لأن فيه التصريح بالتوحيد المنافي للتنديد في كل وجه . فالبصير يختار لنفسه أعلى مراتب الكمال في مقام التوحيد والإخلاص .

قوله :  كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها  ورد في بعض الطرق :  أنه كان يمنعه الحياء منهم  وبعد هذا الحديث الذي حدثه به الطفيل عن رؤياه خطبهم صلى الله عليه وسلم فنهى عن ذلك نهياً بليغاً ، فما زال صلى الله عليه وسلم يبلغهم حتى أكمل الله له الدين وأتم له به النعمة ، وبلغ البلاغ المبين ، صلوات الله وسلامهم عليه وعلى آله وصبحه أجمعين .

وفيه معنى قوله صلى الله عليه وسلم :  "الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة " .

قلت : وإن كان رؤيا منام فهي وحي يثبت بها ما يثبت بالوحي أمراً ونهياً . والله أعلم .

 

باب من سب الدهر فقد آذى الله

قوله : باب

( من سب الدهر فقد آذى الله )

وقول الله تعالى : ' 45 :24 ' " وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر " .

قال العماد ابن كثير في تفسيره : يخبر تعالى عن دهرية الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد : " وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر " ما ثم إلا هذه الدار ، يموت قوم ويعيش آخرون ، وما ثم معاد ولا قيامة . وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون للمعاد ، ويقوله الفلاسفة الإلهيون منهم ، وهم ينكرون البدأة والرجعة . وتقول الفلاسفة الدهرية الدورية ، المنكرون للصانع ، المعتقدون أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شئ إلى ما كان عليه . وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهى ، فكابروا المعقول وكذبوا المنقول ، ولهذا قالوا : " وما يهلكنا إلا الدهر " قال الله تعالى : " وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون " أي يتوهمون ويتخيلون .

فأما الحديث الذي أخرجه صاحب الصحيح وأبو داود والنسائي من رواية سفيان ابن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله تعالى : يؤذيني ابن آدم ، يسب الدهر وأنا الدهر ، بيدي الأمر ، أقلب الليل والنهار " وفي رواية : " لا تسبوا الدهر فإني أنا الدهر " وفي رواية : " لا يقل ابن آدم يا خيبة الدهر ، فإني أنا الدهر ، أرسل الليل والنهار ، فإذا شئت قبضتهما " ا هـ .

قال في شرح السنة : حديث متفق على صحته أخرجاه من طريق معمر من أوجه عن أبي هريرة قال : ومعناه أن العرب كان من شأنها ذم الدهر أي سبه عند النوازل ، لأنهم كانوا ينسبون إليه ما يصيبهم من المصائب والمكاره فيقولون : أصابتهم قوارع الدهر وأبادهم الدهر ، فإذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد التي يصنعونها فنهوا عن سب الدهر . ا هـ باختصار .

وقد أورده ابن جرير بسياق غريب جداً بهذا الطريق . قال :  كان أهل الجاهلية يقولون : إنما يهلكنا الليل والنهار وهو الذي يهلكنا ويميتنا ويحيينا ، فقال الله في كتابه : " وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر " . ويسبون الدهر . فقال الله عز وجل :  يؤذيني ابن آدم ، يسب الدهر وأنا الدهر ، بيدي الأمر ، أقلب الليل والنهار  .

وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن منصور عن سريج بن النعمان عن ابن عيينة مثله . ثم روى عن يونس عن ابن وهب عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يقول الله تعالى : يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر ، بيدي الليل والنهار " وأخرجه صاحب الصحيح والنسائي من حديث يونس بن يزيد به .

وقال محمد بن إسحاق عن العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله عز وجل : استقرضت عبدي فلم يعطني ، ويسبني عبدي ، يقول : وادهراه ، وأنا الدهر " .

قال الشافعي وأبو عبيد وغيرهما من الأئمة في تفسير قوله :  ألا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر  كانت العرب في جاهليتها إذا أصابهم شدة أو بلاء أو نكبة قالوا : يا خيبة الدهر فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه ، وإنما فاعلها هو الله تعالى . فكأنما إنما سبوا الله سبحانه ، لأنه فاعل ذلك في الحقيقة ، فلهذا نهى عن سب الدهر بهذا الإعتبار لأن الله هو الدهر الذي يعنونه ويسندون إليه تلك الأفعال . هذا أحسن ما قيل في تفسيره ـ وهو المراد ـ والله أعلم .

وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرة في عدهم  الدهر  من الأسماء الحسنى أخذاً من هذا الحديث . ا هـ .

وقد بين معناه في الحديث بقوله :  أقلب الليل والنهار  وتقليبه تصرفه تعالى فيه بما يحبه الناس ويكرهونه .

وفي هذا الحديث زيادة لم يذكرها المصنف رحمه الله تعالى ، وهي قوله :  بيدي الأمر  .

قوله :  وفي رواية :  لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر  .

معنى هذه الرواية : هو ما صرح به في الحديث من قوله :  وأنا الدهر ، أقلب الليل والنهار  يعني ما يجري فيه من خير وشر بإرادة الله وتدبيره ، بعلم منه تعالى وحكمة ، لا يشاركه في ذلك غيره . ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، فالواجب عند ذلك حمده في الحالتين وحسن الظن به سبحانه وبحمده ، والرجوع إليه بالتوبة والإنابة . كما قال الله تعالى : ' 7 : 168 ' " وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون " وقال تعالى : ' 21 : 35 ' " ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون " ونسبة الفعل إلى الدهر ومسبته كثيرة ، كما في أشعار المولدين ، كابن المعتز والمتنبي وغيرهما . وليس منه وصف السنين بالشدة ونحو ذلك كقوله تعالى : ' 12 : 48 ' " ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد " الآية . وقال بعض الشعراء :

إن الليالي من الزمان مهولة    تطوى وتنشر بينها الأعمار

فقصارهن مع الهموم طويلة    وطوالهن مع السرور قصار

وقال أبو تمام :

أعوام وصل كاد ينسى طيبها     ذكر النوى ، فكأنها أيام

ثم انبرت أيام هجر أعقبت    نحوى أسى ، فكأنها أعوام

ثم انقضت تلك السنون وأهلها    فكأنها وكأنهم أحلام

 

باب التسمى بقاضي القضاة

قوله : باب

( التسمى بقاضي القضاة ونحوه )

ذكر المصنف رحمه الله هذه الترجمة إشارة إلى النهى عن التسمى بقاضي القضاة قياساً على ما في حديث الباب . لكونه شبهه في المعنى فينهى عنه .

قوله :  في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك ، لا مالك إلا الله "  .

لأن هذا اللفظ إنما يصدق على الله تعالى . فهو ملك الأملاك لا ملك أعظم ولا أكبر منه . مالك الملك ذو الجلال والإكرام . وكل ملك يؤتيه الله من يشاء من عباده فهو عارية يسرع ردها إلى المعير . وهو الله تعالى ، ينزع الملك من ملكه تارة وينزع الملك منه تارة فيصير لا حقيقة له سوى اسم زال مسماه . وأما رب العالمين فملكه دائم كامل لا انتهاء له بيده القسط يخفضه ويرفعه ، ويحفظ على عباده أعمالهم بعلمه سبحانه وتعالى ، وما تكتبه الحفظة عليهم . فيجازى كل عامل بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر . كما ورد في الحديث : " اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله . وإليك يرجع الأمر كله . أسألك من الخير كله ، وأعوذ بك من الشر كله " .

قوله :  قال سفيان  يعني ابن عيينة  مثل شاهنشاه  عند العجم عبارة عن ملك الأملاك . ولهذا مثل به سفيان لأنه عبارة عنه بلغة العجم .

قوله :  وفي رواية :  أغيظ رجل على الله وأخبثه  .

قوله :  أغيظ  من الغيظ وهو مثل الغضب والبغض . فيكون بغيضا إلى الله مغضوباً عليه . والله أعلم .

قوله :  وأخبثه  وهو يدل أيضاً على أن هذا خبيث عند الله فاجتمعت في حقه هذه الأمور لتعاظمه في نفسه وتعظيم الناس له بهذه الكلمة التي هي من أعظم التعظيم ، فتعظمه في نفسه وتعظيم الناس له بما ليس له بأهل ، وضعه عند الله يوم القيامة . فصار أخبث الخلق وأبغضهم إلى الله وأحقرهم ، لأن الخبيث البغيض عند الله يكون يوم القيامة أحقر الخلق وأخبثهم ، لتعاظمه في نفسه على خلق الله بنعم الله .

قوله :  أخنع : يعني أوضع  هذا هو معنى  أخنع  فيفيد ما ذكرنا في معنى  أغيظ  أنه يكون حقيراً بغيضاً عند الله .

وفيه التحذير من كل ما فيه تعاظم . كما أخرج أبو داود عن أبي مجلذ قال :  خرج معاوية رضي الله عنه على ابن الزبير وابن عامر . فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير . فقال معاوية لابن عامر : اجلس ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار " وأخرجه الترمذي أيضاً ، وقال حسن . وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال : " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً على عصا ، فقمنا إليه . فقال : لا تقوموا كما تقوم الأعاجم ، يعظم بعضهم بعضاً " رواه أبو داود .

قوله :  أغيظ رجل  هذا من الصفات التي تمر كما جاءت ، وليس شئ مما ورد في الكتاب والسنة إلا ويجب اتباع الكتاب والسنة في ذلك وإثباته على وجه يليق بجلال الله وعظمته تعالى ، إثباتاً بلا تمثيل وتنزيهاً بلا تعطيل كما تقدم ، والباب كله واحد . وهذا هو قول أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من الفرق الناجية من الثلاث والسبعين فرقة. وهذا التفرق والاختلاف إنما حدث في أواخر القرن الثالث وما بعده كما لا يخفى على من له معرفة بما وقع في الأمة من التفرق والاختلاف والخروج عن الصراط المستقيم ، والله المستعان .

 

باب إحترام أسماء الله

باب

( احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك )

عن أبي شريح :  أنه كان يكنى أبا الحكم . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله هو الحكم . وإليه الحكم ، فقال : إن قومي إذا اختلفوا في شئ أتوني فحكمت بينهم فرضى كلا الفريقين . فقال : ما أحسن هذا . فما لك من الولد ؟ قل : شريح ومسلم وعبد الله . قال : فمن أكبرهم ؟ قلت : شريح . قال : فأنت أبو شريح " رواه أبو داود وغيره  .

قوله :  عن أبي شريح  قال في خلاصة التهذيب: هو أبو شريح الخزاعي اسمه خويلد بن عمرو أسلم يوم الفتح ، له عشرون حديثاً ، اتفقا على حديثين وانفرد البخاري بحديث ، وروى عنه أبو سعيد المقبري ونافع بن جيير وطائفة . قال ابن سعد : مات بالمدينة سنة ثمان وستين . وقال الشارح اسمه هانيء بن يزيد الكندي قاله الحافظ ، وقيل : الحارث الضبابي . قاله المزي .

قوله :  يكنى  الكنية ما صدر بأب أو أم ونحو ذلك واللقب ما ليس كذلك كزين العابدين ونحوه .

وقول النبي صلى الله عليه وسلم :  إن الله هو الحكم وإليه الحكم  فهو سبحانه الحكم في الدنيا والآخرة ، يحكم بين خلقه في الدنيا بوحيه الذي أنزل على أنبيائه ورسله ، وما من قضية إلا ولله فيها حكم بما أنزل على نبيه من الكتاب والحكمة ، وقد يسر الله معرفة ذلك لأكثر العلماء من هذه الأمة ، فإنها لا تجتمع على ضلالة ، فإن العلماء وإن اختلفوا في بعض الأحكام فلا بد أن يكون المصيب فيهم واحداً ، فمن رزقه الله تعالى قوة الفهم وأعطاه ملكة يقتدر بها على فهم الصواب من أقوال العلماء يسر له ذلك بفضله ومنه عليه وإحسانه إليه ، فما أجلها من عطية ، فنسأل الله من فضله .

قوله :  وإليه الحكم في الدنيا والآخرة  كما قال تعالى : ' 42 : 10 ' " وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله " وقال : ' 4 : 59 ' " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا " فالحكم إلي الله هو الحكم إلى كتابه ، والحكم إلى رسوله هو الحكم إليه في حياته وإلى سنته بعد وفاته .

وقد قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن : " بم تحكم ؟ قال : بكتاب الله : قال : فإن لم تجد ؟ قال : بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال فإن لم تجد ؟ قال أجتهد رأيي . فقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله إلى ما يرضى رسول الله " فمعاذ من أجل علماء الصحابة بالأحكام ومعرفة الحلال من الحرام ، ومعرفة أحكام الكتاب والسنة . ولهذا ساغ له الاجتهاد إذا لم يجد للقضية حكماً في كتاب الله ، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، بخلاف ما يقع اليوم وقبله من أهل التفريط في الأحكام ممن يجهل حكم الله في كتابه وسنة رسوله ، فيظن أنه الاجتهاد يسوغ له مع الجهل بأحكام الكتاب والسنة وهيهات .

وأما يوم القيامة فلا يحكم بين الخلق إلا الله عز وجل إذا نزل لفصل القضاء بين العباد ، فيحكم بين خلقه بعلمه . وهو الذي لا يخفى عليه خافية من أعمال خلقه : '4 : 40 ' " إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً " والحكم يوم القيامة إنما هو بالحسنات والسيئات ، فيؤخذ للمظلوم من الظالم من حسناته بقدر ظلامته إن كان له حسنات ، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم ، فطرح على سيئات الظالم لا يزيد على هذا مثقال ذرة ولا ينقص هذا عن حقه بمثقال ذرة .

قوله :  فإن قومي إذا اختلفوا في شئ أتوني فحكمت بينهم فرضى كلا الفريقين فقال : ما أحسن هذا  فالمعنى ـ والله أعلم ـ أن أبا شريح لما عرف منه قومه أنه صاحب إنصاف وتحر للعدل بينهم ومعرفة ما يرضيهم من الجانبين صار عندهم مرضياً وهذا هو الصلح : لأن مدارؤ على الرضى لا على الإلزام . ولا على الكهان وأهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ولا على الاستناد إلى أوضاع أهل الجاهلية من أحكام كبرائهم وأسلافهم التي تخالف حكم الكتاب والسنة . كما قد يقع اليوم كثيراً ، كحال الطواغيت الذين لا يلتفتون إلى حكم الله ولا إلى حكم رسوله . وإنما المعتمد عندهم ما حكموا به بأهوائهم وآرائهم .

وقد يلتحق بهذا بعض المقلدة لمن لم يسغ تقليده فيعتمد على قول من قلده ويترك ما هو الصواب الموافق لأصول الكتاب والسنة . والله المستعان .

وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فما لك من الولد ؟ قال شريح ، ومسلم ، وعبد الله . قال : فمن أكبرهم ؟ قلت : شريح. قال : فأنت أبو شريح " فيه تقديم الأكبر في الكنية وغيرها غالباً . وجاء هذا المعنى في غير ما حديث والله أعلم .

 

باب من هزل بشيء فيه ذكر الله والرسول

قوله : باب

( من هزل بشئ فيه الله أو القرآن أو الرسول ) أي فقد كفر

قوله :وقول الله تعالى : ' 9 : 65 ' " ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون" .

قال العماد ابن كثير رحمه الله في تفسيره : قال أبو معشر المدني عن محمد بن كعب القرظي وغيره :  قالوا : قال رجل من المنافقين : ما أرى مثل قرائنا هؤلاء ؟ أرغبنا بطوناً ، وأكذبنا ألسناً ، وأجبننا عند اللقاء ، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته . فقال يا رسول الله ، إنما كنا نخوض ونلعب ، ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق . فقال : " أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين " وإن رجليه ليسفعان الحجارة ، وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متعلق بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم  وقال عبد الله بن وهب : أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر قال :  قال رجل في غزوة تبوك في مجلس : ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ، ولا أكذب ألسناً ، ولا أجبن عند اللقاء . فقال رجل في المجلس : كذبت ، ولكنك منافق ، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن . قال عبد الله بن عمر : وأنا رأيته متعلقاً بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبه الحجارة ، وهو يقول : يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم "  وقد رواه الليث عن هشام بن سعد بنحو هذا .

وقال ابن إسحاق :  وقد كان جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني أمية ابن زيد بن عمرو بن عوف ، ورجل من أشجع حليف لبنى سلمة يقال له : مخشي بن حمير ، يشيرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك ، فقال بعضهم لبعض : أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضاً ؟ والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الجبال ، إرتجافاً وترهيباً للمؤمنين . فقال مخشي بن حمير : والله لوددت أني أقاضي على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة ، وأنا نتلفت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني لعمار بن ياسر : أدرك القوم فإنهم قد احترقوا ، فسلهم عما قالوا ، فإن أنكروا فقل : بل قلتم كذا وكذا وكذا ، فانطلق إليهم عمار ، فقال ذلك لهم ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذورن إليه . فقال وديعة بن ثابت ـ ورسول الله واقف على راحلته ـ فجعل يقول وهو آخذ بحقها : يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب ، فقال مخشي بن حمير : يا رسول الله قعد بي اسمي واسم أبي ، فكان الذي عناه أي بقوله تعالى : " إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة " في هذه الآية : مخشي بن حمير فسمى عبد الرحمن، وسأل الله أن يقتل شهيداً لا يعلم بمكانه ، فقتل يوم اليمامة فلم يوجد له أثر  .

وقال عكرمة في تفسير هذه الآية :  كان رجل ممن إن شاء الله عفا عنه يقول : اللهم إني أسمع آية أنا أعني بها تقشعر منها الجلود ، وتجل منها القلوب . اللهم فاجعل وفاتي قتلاً في سبيلك ، لا يقول أحد أنا غسلت ، أنا كفنت ، أنا دفنت . قال : فأصيب يوم اليمامة ، فما أحد من المسلمين إلا وقد وجد غيره  .

وقوله : " لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم " أي بهذه المقالة التي استهزأتم بها " إن نعف عن طائفة منكم " أي مخشي بن حمير " نعذب طائفة " أي لا يعفى عن جميعكم ، ولا بد من عذاب بعضكم " إنهم كانوا مجرمين " أي بهذه المقالة الفاجرة الخاطئة . انتهى .

قال شيخ الإسلام : وقد أمره الله تعالى أن يقول لهم : " قد كفرتم بعد إيمانكم " وقول من يقول : إنهم كفروا بعد إيمانهم بلسانهم مع كفرهم أولاً بقلوبهم : لا يصح لأن الإيمان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر ، فلا يقال : قد كفرتم بعد إيمانكم ، فإنهم لم يزالوا كافرين في نفس الأمر ، وإن أريد أنكم أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان ، فهم لم يظهروا للناس إلا لخواصهم ، وهم مع خواصهم ما زالوا كذلك . ولا يدل اللفظ على أنهم ما زالوا منافقين .

وقال رحمه الله في موضع آخر : فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم : إنما تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له ، بل إنما كنا نخوض ونلعب . وبين أن الاستهزاء بآيات الله كفر . ولا يكون هذا إلا ممن شرح صدراً بهذا الكلام ، ولو كان الإيمان في قلبه لمنعه أن يتكلم بهذا الكلام ، والقرآن يبين أن إيمان القلب يستلزم العمل الظاهر بحسبه . كقوله تعالى : ' 24 : 47 ـ 52 ' " ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك" ـ إلى قوله ـ "إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون " فنفى الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول ، وأخبر أن المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم سمعوا وأطاعوا ، فبين أن هذا من لوازم الإيمان ، انتهى .

وفيه : بيان أن الإنسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها أو عمل يعمل به . وأشدها خطراً إرادات القلوب . فهي كالبحر الذي لا ساحل له . ويفيد الخوف من النفاق الأكبر . فإن الله تعالى أثبت لهؤلاء إيماناً قبل أن يقولوا ما قالوه ، كما قال ابن أبي مليكة :  أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه  . نسأل الله السلامة والعفو والعافية في الدنيا والآخرة .

 

باب قول الله " ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته " الآية

قوله : باب

قول الله تعالى : ' 41 : 50 ' " ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته " الآية .

ذكر المصنف رحمه الله تعالى عن ابن عباس وغيره من المفسرين في معنى هذه الآية وما بعدها ما يكفي في المعنى ويشفي .

قوله :  قال مجاهد : هذا بعملي وأنا محقوق به . وقال ابن عباس : يريد من عندي . وقوله : " قال إنما أوتيته على علم عندي " قال قتادة :  على علم مني بوجوه المكاسب : وقال آخرون :  على علم من الله أني له أهل وهذا معنى قول مجاهد: أوتيته على شرف  .

وليس فيما ذكروه اختلاف وإنما هي افراد المعنى .

قال العماد ابن كثير رحمه الله في معنى قوله تعالى : ' 39 : 49 ' " إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة " يخبر أن الإنسان في حالة الضر يضرع إلى الله تعالى وينيب إليه ويدعوه ، ثم إذا خوله نعمة منه طغى وبغى و " قال إنما أوتيته على علم " أي لما يعلم الله من استحقاق له ، ولولا أني عند الله حظيظ لما خولني هذا . قال تعالى: " بل هي فتنة" أي ليس الأمر كما زعم بل إنما أنعمنا عليه بهذه النعمة لنختبره فيما أنعمنا عليه أيطيع أم يعصى ؟ مع علمنا المتقدم بذلك " بل هي فتنة " أي إختبار " ولكن أكثرهم لا يعلمون " فلهذا يقولون ما يقولون ، ويدعون ما يدعون : " قد قالها الذين من قبلهم " أي قد قال هذه المقالة وزعم هذا الزعم وادعى هذه الدعوى كثير ممن سلف من الأممم " فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون " أي فما صح قولهم ولا نفعهم جمعهم ، وما كانوا يكسبون . كما قال تعالى مخبراً عن قارون : ' 28 : 76 ـ 78 ' " إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين * وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين * قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون " وقال تعالى : ' 26 : 138 ' " وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين " ا هـ .

 

حديث أبرص وأقرع وأعمى

قوله : : وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن ثلاثة .. الحديث  .

قوله :  أخرجاه  أي البخاري ومسلم . والناقة العشراء ـ بضم العين وفتح الشين وبالمد ـ هي الحامل .

قوله :  أنتج  وفي رواية  فنتج  معناه تولي نتاجها ، والناتج للناقة كالقابلة للمرأة .

قوله :  ولد هذا  هو بتشديد اللام ، أي تولى ولادتها ، وهو بمعنى  أنتج  في الناقة ، فالمولد والناتج والقابلة بمعنى واحد ، لكن هذا للحيوان ، وذلك لغيره .

وقوله :  انقطعت بي الحبال  هو بالحاء المهملة والباء الموحدة : هي الأسباب .

قوله :  لا أجهدك  معناه : لا أشق عليك في رد شئ تأخذ ، أو تطلب من مالي ذكره النووي .

وهذا حديث عظيم ، وفيه معتبر : فإن الأولين جحدا نعمة الله ، فما أقرا لله بنعمة ، ولا نسبا النعمة إلى المنعم بها ، ولا أديا حق الله فيها ، فحل عليهما السخط . وأما الأعمى فاعترف بنعمة الله ، ونسبها إلى من أنعم عليه بها ، وأدى حق الله فيها ، فاستحق الرضا من الله بقيامه بشكر النعمة لما أتى بأركان الشكر الثلاثة التي لا يقوم الشكر إلا بها . وهي الإقرار بالنعمة ونسبتها إلى المنعم ، وبذلها فيما يجب .

قال العلامة ابن القيم رحمه الله : أصل الشكر هو الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع له ، والذل والمحبة ، فمن لم يعرف النعمة بل كان جاهلاً بها لم يشكرها ، ومن عرفها ولم يعرف بها لم يشكرها أيضاً ، ومن عرف النعمة والمنعم لكن جحدها كما يحجد المنكر لنعمة المنعم عليه بها فقد كفرها ، ومن عرف النعمة والمنعم بها ، وأقر بها ولم يجحدها ، ولكن لم يخضع له ولم يحبه ويرض به وعنه ، لم يشكره أيضاً ، ومن عرفها وعرف المنعم بها وأقر بها ، وخضع للمنعم بها ، وأحبه ورضى به وعنه ، واستعملها في محابه وطاعته ، فهذا هو الشاكر لها ، فلا بد في الشكر من علم القلب ، وعمل يتبع العلم ، وهو الميل إلى المنعم ومحبته والخضوع له .

قوله :  قذرني الناس  بكراهة رؤيته وقربه منهم .

 

باب قول الله " فلما آتاهما صالحا " الآية

 قول الله ' 7 : 190 ' " فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون "  .

قال الإمام أحمد رحمه الله في معنى هذه الآية : حدثنا عبد الصمد حدثنا عمر بن إبراهيم حدثنا قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال : سميه عبد الحارث فإنه يعيش ، فسمته عبد الحارث فعاش . وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره " وهكذا رواه ابن جرير عن محمد بن بشار بندار عن عبد الصمد بن عبد الوارث به . ورواه الترمذي في تفسير هذه الآية عن محمد ابن المثنى عن عبد الصمد به ، وقال : هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم ، ورواه بعضهم عن عبد الصمد ولم يرفعه . ورواه الحاكم في  مستدركه  من حديث عبد الصمد مرفوعاً ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه . ورواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم في تفسيره عن أبي زرعة الرازي عن هلال بن فياض عن عمر بن إبراهيم به مرفوعاً .

وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا سهيل بن يوسف عن عمرو عن الحسن " جعلا له شركاء فيما آتاهما " قال :  كان هذا في بعض أهل الملل ولم يكن آدم  . وحدثنا بشر بن معاذ قال : حدثني يزيد ، حدثنا سعيد عن قتادة قال : كان الحسن يقول :  هم اليهود والنصارى ، رزقهم الله أولاداً فهودوا ونصروا  وهذا إسناد صحيح عن الحسن رحمه الله .

قال العماد ابن كثير في تفسيره : وأما الآثار : فقال : محمد بن إسحاق عن داود ابن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال :  كانت حواء تلد لآدم عليه السلام أولاداً فتعبدهم لله وتسميهم عبد الله وعبيد الله ونحو ذلك ، فيصيبهم الموت ، فأتاهما إبليس فقال : أما إنكما لو تسميانه بغير الذي تسميانه به لعاش ، فولدت له رجلاً فسماه عبد الحارث ، ففيه أنزل الله : " هو الذي خلقكم من نفس واحدة " الآية وقال العوفي عن ابن عباس :فأتاهما الشيطان فقال : هل تدريان ما يولد لكما ؟ أم هل تدريان ما يكون ، أبهيمة أم لا ؟ وزين لهما الباطل ، إنه لغوي مبين ، وقد كانت قبل ذلك ولدت ولدين فماتا ، فقال لهما الشيطان: إنكما إن لم تسمياه بي لم يخرج سوياً ، ومات كما مات الأول . فسميا ولدهما عبد الحارث ، فذلك قوله تعالى : " فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون "  .

وذكر مثله عن سعيد بن جيير عن ابن عباس . ورواه ابن أبي حاتم . وقد تلقى هذا الأثر عن ابن عباس جماعة من أصحابه كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ، ومن الطبقة الثانية : قتادة والسدى وجماعة من الخلف ، ومن المفسرين والمتأخرين جماعات لا يحصون كثرة . قال العماد ابن كثير : وكأن أصله ـ والله أعلم ـ مأخوذ من أهل الكتاب .

قلت : وهذا بعيد جداً .

قوله :  قال ابن حزم : اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله كعبد عمرو وعبد الكعبة ، وما أشبه ذلك ، حاشى عبد المطلب  .

ابن حزم : هو عالم الأندلس ، أبو محمد على بن أحمد بن سعيد بن حزم القرطبي الظاهري . صاحب التصانيف ، توفي سنة ست وخمسين وأربعمائة . وله اثنتان وسبعون سنة .

وعبد المطلب هذا هو جد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهو ابن هاشم بن عبد مناف بن قصى بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ، وما فوق عدنان مختلف فيه . ولا ريب أنهم من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام .

حكى رحمه الله اتفاق العلماء على تحريم كل ما عبد لغير الله ، لأنه شرك في الربوبية والإلهية . لأن الخلق كلهم ملك لله وعبيد له ، استعبدهم لعبادته وحده ، وتوحيده في ربوبيته وإلهيته ، فمنهم من عبد الله ووحده في ربوبيته وإلهيته ، ومنهم من أشرك به في إلهيته وأقر له بربوبيته وأسمائه وصفاته ، وأحكامه القدرية جارية عليهم ولا بد ، كما قال تعالى : ' 19 : 93 ' " إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا " فهذه هي العبودية العامة .

وأما العبودية الخاصة فإنها تخص بأهل الإخلاص والطاعة ، كما قال تعالى : " أليس الله بكاف عبده " ونحوها .

قوله :  حاشى عبد المطلب  هذا استثناء من العموم المستفاد من  كل وذلك أن تسميته بهذا الإسم لا محذور فيها ، لأن أصله من عبودية الرق ، وذلك أن المطلب أخو هاشم قدم المدينة ، وكان ابن أخيه  شيبة  هذا قد نشأ في أخواله بني النجار من الخزرج، لأن هاشماً تزوج فيهم امرأة ، فجاءت منه بهذا الابن ، فلما شب في أخواله ، وبلغ سن التمييز سافر به عمه المطلب إلى مكة بلد أبيه وعشيرته فقدم به مكة وهو رديفه ، فرآه أهل مكة وقد تغير لونه بالسفر ، فحسبوه عبداً للمطلب ، فقالوا : هذا عبد المطلب ، فعلق به هذا الإسم وركبه ، فصار لا يذكر ولا يدعى إلا به ، فلم يبق للأصل معنى مقصود . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أنا ابن عبد المطلب " وقد صار معظماً في قريش والعرب ، فهو سيد قريش وأشرفهم في جاهليته ، وهو الذي حفر زمزم وصارت له السقاية وفي ذريته من بعده . وعبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد بني عبد المطلب ، وتوفي في حياة أبيه . قال الحافظ صلاح الدين العلائي في كتاب الدرة السنية في مولد خير البرية : كان سن أبيه عبد الله حين حملت منه آمنة برسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ثمانية عشر عاماً ، ثم ذهب إلى المدينة ليمتار منها تمراً لأهله فمات بها عند أخواله بني عدي بن النجار ، والنبي صلى الله عليه حمل على الصحيح . انتهى .

قلت : وصار النبي صلى الله عليه وسلم لما أوضعته أمه في كفالة جده عبد المطلب . قال الحافظ الذهبي : وتوفي أبوه عبد الله وللنبي ثمانية وعشرون شهراً ، وقيل أقل من ذلك ، وقيل : وهو حمل . توفي بالمدينة ، وكان قد قدمها ليمتار تمراً ، وقيل : بل مر بها راجعاً من الشام ، وعاش خمسة وعشرين سنة . قال الواقدي : وذلك أثبت الأقاويل في سنه ووفاته . وتوفيت أمه آمنة بالأبواء وهي راجعة به صلى الله عليه وسلم إلى مكة من زيارة أخوال أبيه بني عدي بن النجار ، وهو يومئذ ابن ست سنين ومائة يوم ، وقيل : ابن أربع سنين . فلما ماتت أمه حملته أم أيمن مولاته إلى جده ، فكان في كفالته إلى أن توفي جده ، وللنبي صلى الله عليه وسلم ثمان سنين فأوصى به إلى عمه أبو طالب ا هـ .

قوله :  وعن ابن عباس رضي الله عنهما في الآية  قد قدمنا نظيره عن ابن عباس في المعنى .

قوله :  وله بسند صحيح عن قتادة قال :  شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته  قال شيخنا رحمه الله : إن هذا الشرك في مجرد تسمية ، لم يقصدا حقيقته التي يريدها إبليس ، وهو محمل حسن يبين أن ما وقع من الأبوين من تسميتهما ابنهما عبد الحارث إنما هو مجرد تسمية لم يقصدا تعبيده لغير الله وهذا معنى قول قتادة : شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته .

 

قول الله " ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها "

قوله : باب

 قول الله تعالى : ' 7 : 180 ' " ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه " الآية .

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن لله تسعة وتسعين اسماً ، مائة إلا واحداً ، من أحصاها دخل الجنة ، وهو وتر يحب الوتر " أخرجاه في الصحيحين من حديث سفيان ابن عيينة . ورواه البخاري عن أبي اليمان عن أبي الزناد عن الأعرج عنه . وأخرجه الجوزجاني عن صفوان بن صالح عن الوليد بن مسلم عن شعيب بسنده مثله . وزار بعد قوله : " يحب الوتر ـ : هو الله الذي لا إله إلا هو ، الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارىء ، المصور ، القهار ، الغفار ، الوهاب ، الرزاق ، الفتاح ، العليم ، القابض ، الباسط ، الخافض ، الرافع ، المعز ، المذل ، السميع ، البصير ، الحكم ، العدل ، اللطيف ، الخبير ، الحليم ، العظيم ، الغفور ، الشكور ، العلي ، الكبير ، الحفيظ ، المقيت ، الحسيب ، الجليل ، الكريم ، الرقيب ، المجيب ، الواسع ، الحكيم ، الودود ، المجيد ، الباعث ، الشهيد ، الحق ، الوكيل ، القوي ، المتين ، الولي ، الحميد ، المحصي ، المبدىء ، المعيد ، المحيى ، المميت ، الحي ، القيوم ، الواجد ، الماجد ، الواحد ، الأحد ، الفرد ، الصمد ، القادر ، المقتدر ، المقدم ، المؤخر ، الأول ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، الوالي ، المتعالي ، البر ، التواب ، المنتقم ، العفو ، الرؤوف ، مالك الملك ، ذو الجلال والإكرام ، المقسط ، الجامع ، الغني ، المغني ، المعطي ، المانع ، الضار ، النافع ، النور ، الهادي ، البديع ، الباقي ، الوارث ، الرشيد ، الصبور " . ثم قال الترمذي : هذا حديث غريب . وقد روى من غير وجه عن أبي هريرة ، ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث . الذي عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه . وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم وعبد الملك بن محمد الصنعاني عن زهير بن محمد أنه بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك . أي أنهم جمعوها من القرآن كما روى عن جعفر بن محمد وسفيان وأبي زيد اللغوي والله أعلم .

هذا ما ذكره العماد ابن كثير في تفسيره . ثم قال : ليعلم أن الأسماء الحسنى ليست منحصرة في تسعة وتسعين . بدليل ما رواه أحمد عن يزيد بن هارون عن فضيل بن مرزوق عن أبي سلمة الجهني عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك بن عبدك ، بن أمتك ، ناصيت بيدك . ماض في حكمك . عدل في قضاؤك . أسألك اللهم بكل اسم هو لك . سميت به نفسك. أو أنزلته في كتابك . أو علمته أحداً من خلقك . أو استأثرت به في علم الغيب عنك . أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري . وجلاء حزني . وذهاب همي وغمى . إلا أذهب الله همه وحزنه . وأبدله مكانه فرحاً فقيل : يا رسول الله : ألا نتعلهما ؟ فقال : بلى . ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها " وقد أخرجه أبو حاتم وابن حبان في صحيحه .

 

معنى يلحدون في أسمائه

وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى : " وذروا الذين يلحدون في أسمائه " قال :  إلحاد الملحدين : أن دعوا اللات في أسماء الله  وقال ابن جريج عن مجاهد : " وذروا الذين يلحدون في أسمائه " قال :  اشتقوا اللات من الله . واشتقوا العزى من العزيز  .

وقال قتادة :  يلحدون : يشركون  وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس  الإلحاد التكذيب  .

وأصل الإلحاد في كلام العرب : العدول عن القصد . والميل والجور والإنحراف . ومنه اللحد في القبر . لانحرافه إلى جهة القبلة عن سمت الحفر .

قال ابن القيم رحمه الله تعالى :

وحقيقة الإلحاد فيها الميل بالإشـ     ـراك والتعطيل والنكران

وقال رحمه الله تعالى : فالإلحاد إما بجحدها وإنكارها . وإما بجحد معانيها وتعطيلها وإما بتحريفها عن الصواب وإخراجها عن الحق بالتأويلات . وإما أن يجعلها أسماء لهذه المخلوقات كإلحاد أهل الاتحاد . فإنهم جعلوها أسماء هذا الكون محمودها ومذمومها . حتى قال زعيمهم : هو المسمى بمعنى كل اسم ممدوح عقلاً وشرعاً وعرفاً . وبكل اسم مذموم عقلاً وشرعاً وعرفاً . تعالى عما يقولون علواً كبيراً ، انتهى .

قتل : والذي عليه أهل السنة والجماعة قاطبة . متقدمهم ومتأخرهم : إثبات الصفات التي وصف الله بها نفسه ووصفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بجلال الله وعظمته . إثباتاً بلا تمثيل . وتنزيهاً بلا تعطيل . كما قال تعالى : ' 42 : 11 ' " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " وأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات يحتذى حذوه ومثاله . فكما أنه يجب العلم بأن الله ذاتاً حقيقة لا تشبه شيئاً من ذوات المخلوقين ، فله صفات حقيقة لا تشبه شيئاً من صفات المخلوقين ، فمن جحد شيئاً مما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله ، أو تأوله على غير ما ظهر من معناه فهو جهمي قد اتبع غير سبيل المؤمنين . كما قال تعالى : ' 4 : 115 ' " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً " .

وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى أيضاً :

( فائدة جليلة )

ما يجري صفة أو خبراً على الرب تبارك وتعالى أقسام :

أحدها : ما يرجع إلى نفس الذات ، كقولك : ذات وموجود .

الثاني : ما يرجع صفاته ونعوته ، كالعليم والقدير ، والسميع والبصير .

الثالث : ما يرجع إلى أفعاله . كالخالق والرازق .

الرابع : التنزيه المحض . ولا بد من تضمنه ثبوتاً ، إذا لا كمال في العدم المحض ، كالقدوس والسلام .

الخامس : ـ ولم يذكره أكثر الناس ـ وهو الاسم الدال على جملة أوصاف عديدة لا تختص بصفة معينة ، بل دال على معان ، نحو المجيد العظيم الصمد . فإن المجيد من اتصف بصفات متعددة ، من صفات الكمال ، ولفظه يدل على هذا . فإنه موضوع للسعة والزيادة والكثرة ، فمنه  استمجد المرخ والعفار  وأمجد الناقة ، علفها . ومنه  رب العرش المجيد  صفة العرش لسعته وعظمته وشرفه . وتأمل كيف جاء هذا الاسم مقترناً بطلب الصلاة من الله على رسوله كما علمناه صلى الله عليه وسلم لأنه في مقام طلب المزيد والتعرض لسعة العطاء ، وكثرته ودوامه . فأتى في هذا المطلوب باسم يقتضيه ، كما تقول : اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ، فهو راجع إلى التوسل إليه بأسمائه وصفاته . وهو من أقرب الوسائل وأحبها إليه . ومنه الحديث الذي في الترمذي : " ألظوا بياذا الجلال والإكرام " ومنه : " اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام " فهذا سؤال له وتوسل إليه بحمده وأنه لا إله إلا هو المنان . فهو توسل إليه بأسمائه وصفاته . وما أحق ذلك بالإجابة وأعظمه موقعاً عند المسؤول . وهذا باب عظيم من أبواب التوحيد .

السادس : صفة تحصل من اقتران أحد الاسمين والوصفين بالآخر . وذكل قدر زائد على مفرديهما نحو الغني الحميد ، الغفور القدير ، الحميد المجيد ، وهكذا عامة الصفات المقترنة والأسماء المزدوجة في القرآن . فإن  الغني  صفة كمال و الحمد كذلك ، واجتماع  الغني مع الحمد  كمال آخر ، فله ثناء من غناه من حمده ، وثناء من اجتماعهما ، وكذلك الغفور القدير ، والحميد المجيد ، والعزيز الحكيم ، فتأمله فإنه أشرف المعارف .

 

باب : لا يقال السلام على الله

قوله : ( باب لا يقال :  السلام على الله  ) .

قوله :  في الصحيح عن ابن مسعود ـ إلخ  هذا الحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث شقيق بن سلمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : " كنا إذا جلسنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا : السلام على الله قبل عباده ، السلام على فلان وفلان ـ الحديث " وفي آخره ذكر التشهد الآخير . رواه الترمذي من حديث الأسود بن يزيد عن ابن مسعود . وذكر في الحديث سبب النهي عن ذلك بقوله : " فإن الله هو السلام ومنه السلام " وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من الصلاة المكتوبة يستغفر ثلاثاً ويقول : " اللهم أنت السلام ومنك السلام ، تباركت يا ذا الجلال والإكرام " . وفي الحديث : "إن هذا هو تحية أهل الجنة لربهم تبارك وتعالى " وفي التنزيل ما يدل على أن الرب تبارك وتعالى يسلم عليهم في الجنة . كما قال تعالى : ' 36 : 58 ' " سلام قولاً من رب رحيم " .

ومعنى قوله :  إن الله هو السلام  إن الله سالم من كل نقص ومن كل تمثيل . فهو الموصوف بكل كمال ، المنزه عن كل عيب ونقص .

قال العلامة ابن القيم في بدائع الفوائد : السلام اسم مصدر . وهو من ألفاظ الدعاء . يتضمن الإنشاء والإخبار ، فجهة الخبر فيه لا تناقض الجهة الإنشائية . وهو معنى السلام المطلوب عند التحية . وفيه قولان مشهوران :

الأول : أن السلام هنا هو الله عز وجل . ومعنى الكلام : نزلت بركته عليكم ونحو ذلك . فاختير في هذا المعنى من أسمائه عز وجل اسم  السلام  دون غيره من الأسماء .

الثاني : أن السلام مصدر بمعنى السلامة . وهو المطلوب المدعو به عند التحية ومن حجة أصحاب القول : أنه يأتي منكراً ، فيقول المسلم :  سلام عليكم  ولو كان اسماً من أسماء الله لم يستعمل كذلك . ومن حجتهم : أنه ليس المقصود من السلام هذا المعنى ، وإنما المقصود منه الإيذان بالسلامة خبراً ودعاء .

قال العلامة ابن القيم رحمه الله : وفصل الخطاب أن يقال : الحق في مجموع القولين . فكل منهما بعض الحق ، والصواب في مجموعهما . وإنما يتبين ذلك بقاعدة . وهي : أن حق من دعا الله بأسمائه الحسنى أن يسأل في كل مطلوب ويتوسل بالاسم المقتضى لذلك المطلوب ، المناسب لحصوله ، حتى إن الداعي متشفع إلى الله تعالى متوسل به إليه . فإذا قال : رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور . فقد سأله أمرين وتوسل إليه باسمين من أسمائه ، مقتضيين لحصول مطلوبه . وقال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه وقد سأله ما يدعو به " قل : اللهم أني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مفغرة من عندك ، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم " فالمقام لما كان مقام طلب السلامة التي هي أهم عند الرجل ، أتى في طلبها بصيغة اسم من أسماء الله تعالى وهو  السلام  الذي تطلب منه السلامة . فتضمن لفظ السلام معنين : أحدهما : ذكر الله، والثاني: طلب السلامة . وهو مقصود المسلم . فقد تضمن  سلام عليكم  اسماً من اسماء الله وطلب السلامة منه . فتأمل هذه الفائدة . وحقيقته : البراءة والخلاص والنجاة من الشر والعيوب . وعلى هذا المعنى تدور تصاريفه ، فمن ذاك قولهم : سلمك الله ، ومنه دعاء المؤمنين على الصراط  رب سلم سلم  ومنه سلم الشئ لفلان ، أي خلص له وحده . قال تعالى : ' 39 : 29 ' " ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل " أي خالصاً له وحده لا يملكه معه غيره . ومنه السلم ضد الحرب : لأن كل واحد من المتحاربين يخلص ويسلم من أذى الآخر ، ولهذا بنى فيه على المفاعلة ، فقيل : المسالمة مثل المشاركة . ومنه القلب السليم وهو النفي من الدغل والعيب . وحقيقته : الذي قد سلم لله وحده ، فخلص من دغل الشرك وغله ، ودغل الذنوب والمخالفات ، فهو مستقيم على صدق حبه وحسن معاملته . وهذا هو الذي ضمن له النجاة من عذاب الله والفوز بكرامته . ومنه أخذ الإسلام ، فإنه من هذه المادة ، لأنه الاستسلام والانقياد لله ، والتخلص من شوائب الشرك ، فسلم لربه وخلص له ، كالعبد الذي سلم لمولاه ليس له فيه شركاء متشاكسون . ولهذا ضرب سبحانه هذين المثلين للمسلم الخالص لربه وللمشرك به .

 

قول : اللهم اغفر لي إن شئت

قوله : باب

قول :  اللهم اغفر لي إن شئت

يعني أن ذلك لا يجوز لورود النهي عنه في حديث الباب .

قوله :  في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يقل أحدكم : اللهم اغفر لي إن شئت ، اللهم ارحمني إن شئت ، ليعزم المسألة فإن الله لا مكره له " بخلاف العبد ، فإنه قد يعطي السائل مسألته . لحاجته إليه، أو لخوفه أو رجائه ، فيعطيه مسألته وهو كاره . فاللائق بالسائل للمخلوق أن يعلق حصول حاجته على مشيئة المسؤول ، مخافة أن يعطيه وهو كاره ، بخلاف رب العالمين ، فإنه تعالى لا يليق به ذلك لكمال غناه عن جميع خلقه ، وكمال جوده وكرمه ، وكلهم فقير إليه ، محتاج لا يستغني عن ربه طرفة عين وعطاؤه كلام . وفي الحديث : " يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة ، سخاء الليل والنهار . أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض ؟ فإنه لم يغض ما في يمينه ، وفي يده الأخرى القسط يخفضه ويرفعه " يعطي تعالى لحكمة ويمنع لحكمة وهو الحكيم الخبير . فاللائق بمن سأل الله أن يعزم المسألة ، فإنه لا يعطي عبده شيئاً عن كراهة ولا عن عظم مسألة . وقد قال بعض الشعراء فيمن يمدحه :

ويعظم في عين الصغير صغارها    ويصغر في عين العظيم العظائم

وهذا بالنسبة إلى ما في نفوس أرباب الدنيا ، وإلا فإن العبد يعطي تارة ويمنع أكثر ، ويعطي كرهاً ، والبخل عليه أغلب . وبالنسبة إلى حاله هذه فليس عطاؤه بعظيم ، وأما ما يعطيه الله تعالى عباده فهو دائم مستمر ، يجود بالنوال قبل السؤال من حين وضعت النطفة في الرحم . فنعمه على الجنين في بطن أمه دارة ، يربيه أحسن تربية ، فإذا وضعته أمه عطف عليه والديه ورباه بنعمة حتى يبلغ أشد ، يتقلب في نعم الله مدة حياته ، فإن كانت حياته على الإيمان والتقوى ازدادت نعم الله تعالى عليه إذا توفاه أضعاف أضعاف ما كان عليه في الدنيا من النعم التي لا يقدر قدرها إلا الله ، مما أعده الله تعالى لعباده المؤمنين المتقين . وكل ما يناله العبد في الدنيا من النعم وإن كان بعضها على يد مخلوق فهو بإذن الله وإرادته وإحسانه إلى عبده ، فالله تعالى هو المحمود على النعم كلها ، فهو الذي شاءها وقدرها وأجراها عن كرمه وجوده وفضله . فله النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن . قال تعالى : ' 16 : 53 ' " وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون " وقد يمنع سبحانه عبده إذا سأله لحكمة وعلم بما يصلح عبده من العطاء والمنع ، وقد يؤخر ما سأله عبده لوقته المقدر ، أو ليعطيه أكثر . فتبارك الله رب العالمين .

وقوله :ولمسلم : وليعظم الرغبة  أي في سؤاله ربه حاجته ، فإنه يعطي العظائم كرماً وجوداً وإحساناً . فالله تعالى لا يتعاظمه شئ أعطاه ، أي ليس شئ عنده بعظيم ، وإن عظم في نفس المخلوق . لأن سائل المخلوق لا يسأله إلا ما يهون عليه بذله بخلاف رب العالمين ، فإن عطاءه كلام ' 36 : 82 ' " إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون " فسبحان من لا يقدر الخلق قدره ، لا إله غيره ولا رب سواه .

 

لا يقول : عبدي وأمتي

قوله : باب

( لا يقول : عبدي وأمتي )

ذكر الحديث الذي في الصحيح :  عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يقولن أحدكم : أطعم ربك . وضيء ربك . وليقل : سيدي ومولاي . ولا يقل أحدكم : عبدي وأمتي ، وليقل : فتاي وفتاتي وغلامي " .

هذه الألفاظ المنهى عنها . وإن كانت تطلق لغة . فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها تحقيقاً للتوحيد وسداً لذرائع الشرك لما فيها من التشريك في اللفظ . لأن الله تعالى هو رب العباد جميعهم . فإذا أطلق على غيره شاركه في الاسم . فينهى عنه لذلك . وإن لم يقصد بذلك التشريك في الربوبية التي هي وصف الله تعالى . وإنما المعنى أن هذا مالك له . فيطلق عليه هذا اللفظ بهذا الإعتبار . فالنهي عنه حسماً لمادة التشريك بين الخالق والمخلوق . وتحقيقاً للتوحيد . وبعداً عن الشرك حتى في اللفظ . وهذا أحسن مقاصد الشريعة . لما فيه من تعظيم الرب تعالى ، وبعده عن مشابهة المخلوقين ، فأرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى ما يقوم مقام هذه الألفاظ . وهو قوله  سيدي ومولاي  وكذا قوله :  ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي لأن العبيد عبيد الله . والإماء إماء الله . قال الله تعالى : ' 19 : 93 ' " إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا " ففي إطلاق هاتين الكلمتين على غير الله تشريك في اللفظ ، فنهاهم عن ذلك تعظيماً لله تعالى وأدباً وبعداً عن الشرك وتحقيقاً للتوحيد ، وأرشدهم إلى أن يقولوا :  فتاي وفتاتي وغلامي  وهذا من باب حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد ، فقد بلغ صلى الله عليه وسلم أمته كل ما فيه لهم نفع ، ونهاهم عن كل ما فيه نقص في الدين . فلا خير إلا دلهم عليه ، خصوصاً في تحقيق التوحيد ، ولا شر إلا حذرهم منه ، خصوصاً ما يقرب من الشرك لفظاً وإن لم يقصد به . وبالله التوفيق .

 

لا يرد من سأل الله

قوله : باب

( لا يرد من سأل بالله )

ظاهر الحديث النهي عن رد السائل إذا سأل بالله . لكن هذا العموم يحتاج إلى تفصيل بحسب ما ورد في الكتاب والسنة ، فيجب إذا سأل السائل ما له فيه حق كبيت المال أن يجاب فيعطى منه على قدر حاجته وما يستحقه وجوباً ، وكذلك إذا سأل المحتاج من في ماله فضل فيجب أن يعطيه على حسب حاله ومسألته ، خصوصاً إذا سأل من لا فضل عنده ، فيستحب أن يعطيه على قدر حال المسؤول ما لا يضر به ولا يضر عائلته ، وإن كان مضطراً وجب أن يعطيه ما يدفع ضرورته .

ومقام الإنفاق من أشرف مقامات الدين ، وتفاوت الناس فيه بحسب ما جبلوا عليه من الكرم وضدهما من البخل والشح . فالأول : محمود في الكتاب والسنة . والثاني : مذموم فيهما . وقد حث الله تعالى عباده على الإنفاق لعظم نفعه وتعديه وكثرة ثوابه . قال الله تعالى : ' 2 : 267 ، 268 ' " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد * الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم " وقال تعالى : ' 55 : 7 ' " وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه " وذلك الإنفاق من خصال البر المذكورة في قوله تعالى : ' 2 : 177 ' " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين " الآية فذكره بعد ذكر أصول الإيمان وقبل ذكر الصلاة . ذلك ـ والله أعلم ـ لتعدي نفعه . وذكره تعالى في الأعمال التي أمر الله بها عباده . وتعبدهم بها ووعدهم عليها الأجر العظيم . قال تعالى : ' 33 : 35 ' " إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما " .

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على الصدقة حتى النساء . نصحاً للأمة وحثاً لهم على ما ينفعهم عاجلاً وآجلاً . وقد أثنى الله سبحانه على الأنصار رضي الله عنهم بالإيثار ، فقال تعالى : ' 59 : 9 ' " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " والإيثار من أفضل خصال المؤمن كما تفيده هذه الآية الكريمة ، وقد قال تعالى: ' 76 : 8، 9 ' " ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا " .

والآيات والأحاديث في فضل الصدقة كثيرة جداً ، ومن كان سعيه للآخرة رغب في هذا ورغب ، بالله التوفيق .

قوله : من دعاكم فأجيبوه  هذا من حقوق المسلمين بعضهم على بعض : إجابة دعوة المسلم ، وتلك من أسباب الألفة والمحبة بين المسلمين .

 

من صنع لكم معروفاً فكافئون

قوله :  ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه  ندبهم صلى الله عليه وسلم على المكافأة على المعروف ، فإن المكافأة على المعروف من المروءة التي يحبها الله ورسوله ، كما دل عليه هذا الحديث ولا يهمل المكافأة على المعروف إلا اللئام من الناس ، وبعض اللئام يكافىء على الإحسان بالإساءة ، كما يقع كثيراً من بعضهم . نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة ، بخلاف حال أهل التقوى والإيمان فإنهم يدفعون السيئة بالحسنة طاعة لله ومحبة لما يحبه لهم ويرضاه ، كما قال تعالى : ' 23 : 96 ـ 98 ' " ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون * وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين * وأعوذ بك رب أن يحضرون " وقال تعالى : ' 41 : 34 ، 35 ' " ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم " وهم الذين سبقت لهم من الله تعالى السعادة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق