الجمعة، 11 سبتمبر 2015

العقيدة الوسطية==الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمده – جل ذكره – لا أحصي ثناء عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد. . .
فغير خاف على أهل العلم، وطلابه، والمشتغلين به ما للعقيدة الواسطية التي ألفها شيخ الإسلام أبو العباس أحمد ابن عبدالحليم بن تيمية-رحمه الله تعالى-من المكانة، والأهمية، والمنزلة بين الكتب المؤلفة في بيان عقيدة السلف. فإن هذه العقيدة المباركة الذائعة الصيت، والحائزة السبق، عظيمة النفع في توضيح عقيدة أهل السنة والجماعة على قلة ألفاظها، وسهولة عبارتها، والذي رشحها لهذا أسباب عديدة منها: -
1- أن ما تضمنته هذه العقيدة المباركة معتمد على ما جاء في كتاب الله – عز وجل-، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه سلف الأمة وأئمتها، وذلك في ألفاظها ومعانيها، وقد أبان شيخ الإسلام عن هذه المزية في المناظرة التي جرت في هذه العقيدة فقال: ((أنا تحريت في هذه العقيدة اتباع الكتاب، والسنة))( )، وقال أيضاً: ((وكل لفظ ذكرته فأنا أذكر به آية، أو حديثاً، أو إجماعاً سلفياً))( ).
2- أن ما تضمنته هذه الرسالة المباركة هو نتيجة، وثمرة تتبع شيخ الإسلام – رحمه الله – لأقوال السلف، واستقرائها في باب أسماء الله وصفاته، واليوم الآخر، والإيمان، والقدر، والصحابة وغير ذلك من مسائل الأصول والاعتقاد، قال – رحمه الله – في كلامه عن هذه العقيدة: ((ما جمعت إلا عقيدة السلف الصالح جميعهم))( ).
3- أن المؤلف – رحمه الله – بذل الوسع والطاقة في تحرير طريقة الفرقة الناجية المنصورة أهل السنة والجماعة في هذه العقيدة تحريراً بالغاً دقيقاً، حتى قال: ((قد أمهلت كل من خالفني في شيء منها ثلاث سنين، فإن جاء بحرف واحد عن أحد من القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبي  يخالف ما ذكرته فأنا راجع عن ذلك))( ). ولقد عدل – رحمه الله – عن استعمال بعض الألفاظ المشتهرة كالتحريف والتشبيه ونحوهما، لكونها ليست في الكتاب والسنة، وإن كان قد يعنى بها معنى صحيح( ).
4- أنه على صغر حجم هذه العقيدة المباركة إلا أنها اشتملت على غالب مسائل الاعتقاد، وأصول الإيمان، إضافة إلى بيان المسلك العملي الخلقي لأهل السنة والجماعة.
ولقد حظيت هذه العقيدة بالقبول عند أهل العلم قديماً وحديثاً، فأثنى عليها أهل العلم، وذكروها بالجميل، فقال الذهبي – رحمه الله – في كلام له على هذه الرسالة: ((وقع الاتفاق على أن هذا معتقد سلفي جيد))( )، وقال ابن رجب – رحمه الله –: ((وقع الاتفاق على أن هذه عقيدة سنيّة سلفية))( )، وقال عنها الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله-: ((جمعت على اختصارها، ووضوحها جميع ما يجب اعتقاده في أصول الإيمان، وعقائده الصحيحة))( ).
ولهذا اعتنى أهل العلم وطلابه بهذه العقيدة حفظاً، وتدريساً، تعلماً، وتعليماً. وقد شرحت بشروح كثيرة متنوعة بسطاً، واختصاراً، وفي كل خير، لكن لما كانت هذه العقيدة بمثابة الخلاصة، والنبذة لما بسطه شيخ الإسلام – رحمه الله-، وفصّله في مؤلفاته، وكتبه، ورسائله بدا لي أن خير من يوضح ما اشتملت عليه هذه العقيدة، ويبينه هو مؤلفها – رحمه الله-، فاستعنت الله – تعالى – في تتبع كلامه، وجمعه، ثم انتقاء ما يوضح مقصود الرسالة، ويبسط موجزها، ثم تنسيق ذلك، والتأليف بين هذا الدر المنثور لينتظم العِقد، ويتحقق القصد. ولإتمام الفائدة، وتوثيق المادة عزوت جميع ما نقلته من كلامه – رحمه الله – سواء كان النقل نصاً، وهو الغالب، أو كان بالمعنى، وهو قليل نزر. وما لم أجد فيه كلاماً للشيخ – رحمه الله – رجعت فيه إلى تلميذه ابن القيم – رحمه الله-، وهذا قليل أيضاً. ولم أخرج عن هذا الصراط إلا في عدة مواضع، نقلت فيها كلاماً للشيخ عبدالرحمن بن سعدي – رحمه الله-.
فأسأل الله – تعالى -أن ينفع بهذا الشرح كما نفع بالأصل، وأن يجعله عملاً مقبولاً، تعظم به الحسنات، وترفع به الدرجات، إنه بر جواد كريم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد البشير النذير، وسلم تسليماً كثيراً.
كتبه
خالد بن عبدالله بن محمد المصلح
9 / 4 / 1421 ه
القصيم  عنيزة
ص. ب 1060
بسم الله الرحمن الرحيم
افتتحت هذه الرسالة المباركة بالبسملة، وافتتاح الرسائل، والكتب، والمؤلفات بالبسملة مما جرى عليه عمل العلماء خلفاً، وسلفاً تأسياً بكتاب الله – تعالى – واتباعاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
والبسملة ((جملة تامة: إما اسمية على أظهر قولي النحاة، أو فعلية))( ). وقد اختلف النحاة، وأهل اللغة في تقدير متعلق البسملة، فمن ((الناس من يضمر في مثل هذا: ابتدائي بسم الله، أو: ابتدأت بسم الله))( ).
والأحسن إضمار ما يناسب الحال، ((لأن الفعل كله مفعول بسم الله ليس مجرد ابتدائه، كما أظهر المضمر في قوله: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: 1]!، وفي قوله ﴿بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾ [هود: 41]. . . . ))( ).
فالمناسب هنا أن يقدر متعلق البسملة: بسم الله اقرأ بالنسبة للقارئ.
  
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى، ودين الحق،
 ثم ذكر بعد البسملة الحمد، وذلك لأن ((الحمد مفتاح كل أمر ذي بال من مناجاة الرب، ومخاطبة العباد))( ). و((الحمد: هو الإخبار بمحاسن المحمود مع المحبة له))( ). و((ذكر الحمد بالألف، واللام التي تقتضي الاستغراق لجميع المحامد، فدل على أن الحمد كله لله))( ).
والرب – سبحانه وتعالى – إذا حمد نفسه في كتابه ذكر أسماءه الحسنى، وصفاته العلا، وأفعاله الجميلة( )، ولهذا ذكر المؤلف – رحمه الله – بعد حمد الله فعلاً من أفعال الله الجميلة، وهو إرساله رسوله صلى الله عليه وسلم بالهدى، ودين الحق. ((فالهدى كمال العلم، ودين الحق كمال العمل))( ) و بهما يحصل ((صلاح القوة النظرية العلمية، والقوة الإرادية العملية))( ) وذلك لأن الهدى يتضمن العلم النافع، ودين الحق يتضمن العمل الصالح))( ).
  
ليظهره على الدين كله،
لا ريب أن ((دين الحق الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم ظاهر على كل تقدير))( )، فإن ((الله وعد بإظهاره على الدين كله: ظهور علم وبيان، وظهور سيف وسنان، فقال-تعالى-: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾[التوبة: 33]))( )، ((فيظهره بالدلائل، والآيات العلمية التي تبين أنه حق، ويظهره أيضاً بنصره، وتأييده على مخالفيه، ويكون منصوراً))( ).
  
وكفى بالله شهيداً
وذلك لأن ((شهادته وحده – سبحانه – كافية بدون ما ينتظر من الآيات، كما قال – تعالى –: ﴿قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَاب﴾ِ [الرعد: 43].
وشهادته للقرآن، ولمحمد صلى الله عليه وسلم تكون بأقواله التي أنزلها قبل ذلك على أنبيائه، كما قال – تعالى – عن أهل الكتاب: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 140]، وتكون بأفعاله، وهو ما يحدثه من الآيات، والبراهين الدالة على صدق رسله، فإنه صدَّقهم بها فيما أخبروا به عنه، وشهد لهم بأنهم صادقون))( ).
  
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً وتوحيداً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. صلى الله عليه، وعلى آله، وصحبه، وَسَلَّمَ تسليماً مزيداً.
في هذا الشهادة لله – تعالى – بالتوحيد، وللنبي  بالرسالة والعبودية.
والتشهد مشروع في الخطب والثناء على الله – تعالى( )-، وذلك لأن ((التوحيد أصل الإيمان، وهو الكلام الفارق بين أهل الجنة وأهل النار، وهو ثمن الجنة, ولا يصح إسلام أحد إلا به))( )، فناسب أن يذكر في الخطب والثناء تذكيراً بأصل الدين وأساس الملة.
وأما الصلاة على النبي  فهي سؤال الله – تعالى – أن يثني على رسوله، وأن يظهر فضله وشرفه، وأن يكرمه، ويقربه. فصلاة الله على رسوله ((هي ثناؤه – سبحانه – عليه، وإظهاره لفضله، وشرفه، وإرادة تكريمه، وتقريبه))( ).
  
أما بعد،
فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة، أهل السنة والجماعة.
في هذا بيان موضوع هذه الرسالة المباركة، وأنها قد اشتملت على عقيدة الفرقة الناجية من الأهواء والبدع في الدنيا، والناجية من النار في الآخرة، والموعودة بالنصر، والظهور إلى يوم القيامة.
ووصف هذه الفرقة بالنجاة جاء في بعض روايات حديث: ((صحيح مشهور في السنن والمسانيد كسنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، وغيرهم. ولفظه: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة)، وفي لفظ: (على ثلاث وسبعين ملة)( )، وفي رواية قالوا: يا رسول الله من الفرقة الناجية؟ قال: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) ( )، وفي رواية قال: (هي الجماعة، يد الله على الجماعة) ( )، ولهذا وصف الفرقة الناجية بأنها أهل السنة والجماعة))( ).
((وهم الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة)( ) ))( )، وقد جاء هذا الحديث بلفظ: ((لا تزال طائفة من أمتي منصورين، لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة))( ).
وهذا الوعد الصادق متحقق، ولله الحمد، ((فإنه لم يزل، ولا يزال فيه طائفة قائمة بالهدى، ودين الحق، ظاهرة بالحجة، والبيان، واليد، والسنان إلى أن يرث الله الأرض، ومن عليها، وهو خير الوارثين))( ).
ومع قيام هذه الطائفة، وظهورها فإنه ((لا يتمكن ملحد، ولا مبتدع من إفساد بغلو، أو انتصار على أهل الحق))( ).
وبالنظر إلى أحوال الفرق، وأقوالهم، وما هم عليه يتبين ((أن أحق الناس بأن تكون الفرقة الناجية أهل الحديث والسنة))( )، إذ هم ((المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب))( )، فهم أهل هذا الوصف، وأحق به.
وإنما سموا أهل السنة، لأنه ((ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم الناس بأقواله، وأحواله، وأعظمهم تمييزاً بين صحيحها، وسقيمها، وأئمتهم فقهاء فيها، وأهل معرفة بمعانيها، واتباع لها تصديقاً، وعملاً، وحباً، وموالاة لمن والاها، ومعاداة لمن عاداها، الذين يردون المقالات المجملة إلى ما جاء به من الكتاب، والحكمة، فلا ينصبون مقالة، ويجعلونها من أصول دينهم، وجمل كلامهم إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول، بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه، ويعتمدونه))( ).
وسموا أهل الجماعة، ((لأن الجماعة هي الاجتماع، وضدها الفرقة))( )، و((الجماعة هم المجتمعون الذين ما فرقوا دينهم، وكانوا شيعاً))( )، ((فإن الله – تعالى – أمر بالجماعة والائتلاف، وذم التفرق والاختلاف))( ).
وهم أهل الجماعة أيضاً، لأن الإجماع هو الأصل الثالث الذي يعتمدون عليه في العلم والدين( ) ((فمن قال بالكتاب، والسنة، والإجماع كان من أهل السنة والجماعة))( ).
  
وهو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره.
بدأ رحمه الله ذكر عقيدة الفرقة الناجية المنصورة أهل السنة والجماعة بذكر الإيمان العام المجمل الذي يجب على كل أحد، ((فإنه يجب على المكلف أن يؤمن بالله، ورسوله، ويقر بجميع ما جاء به الرسول: من أمر الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وما أمر به الرسول، ونهى، بحيث يقر بجميع ما أخبر به، وما أمر به))( )، هذا هو الإيمان المجمل الواجب على كل أحد. فإن ((من لقي الله بالإيمان بجميع ما جاء به الرسول مجملاً، مقراً بما بلغه من تفصيل الجملة غير جاحد لشيء من تفاصيلها فإنه يكون بذلك من المؤمنين، إذ الإيمان بكل فرد من تفصيل ما أخبر الرسول، وأمر به غير مقدور للعباد، إذ لا يوجد أحد إلا وقد خفي عليه بعض ما قاله الرسول))( ). ولذلك فإنه ((يصح الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والجنة، والنار، ومعلوم أنا لا نحيط علماً بكل شيء من ذلك على جهة التفصيل، وإنما كلفنا الإيمان بذلك في الجملة، ألا ترى أنا لا نعرف عدة من الأنبياء، وكثيراً من الملائكة، ولا نحيط بصفاتهم ثم لا يقدح ذلك في إيماننا بهم))( ). ((فلا يشترط في الإيمان المجمل العلم بمعنى كل ما أخبر به))( ) الله، ورسوله . فكل من آمن بما جاء به الرسول إيماناً مجملاً، ثم ((عمل بما علم أن الله أمر به مع إيمانه، وتقواه فهو من أولياء الله – تعالى –))( ).
وأول ما يجب الإيمان به على كل أحد الإيمان بهذه الأصول، والقواعد الستة ((التي لا يكون أحد مؤمناً إلا بها))( )، وهى كما يلي:
أولاً: الإيمان بالله – تعالى-، ويتضمن ذلك الإيمان بربوبية الله، وصفات كماله، ونعوت جلاله، وأسمائه الحسنى، وعموم قدرته، ومشيئته وكمال علمه، وحكمته))( )، و((إثبات ما أثبته لنفسه، وتنزيهه عما نزه نفسه عنه))( ).
ومن الإيمان بالله – تعالى – توحيده، وإخلاص الدين له في عبادته، ((بل هو قلب الإيمان، وأول الإسلام، وآخره))( ).
ثانياً: -الإيمان بالملائكة، ويتضمن ذلك الإيمان، ((بأنهم أحياء ناطقون ))( )وأنهم ((مخلوقون من نور))( )، وأنهم((لا يحصي عددهم إلا الله))( )، وأن ((لهم من العلوم، والأحوال، والإرادات، والأعمال ما لا يحصيه إلا ذو الجلال))( ) و((أنهم معبّدون أي: مذللون مصرفون، مدينون مقهورون))( ) لله الواحد القهار جل وعلا، ويتضمن أيضاً الإيمان بمن سماه الله منهم في كتابه ( ) أو جاءت به السنة.
ثالثاً: الإيمان بكتب الله – تعالى-، ويتضمن ذلك الإيمان ((بكل كتاب أنزل الله))( )، ((بما سمى الله من كتبه في كتابه من التوراة، والإنجيل، والزبور خاصةً))( )، وأن لله سوى ذلك كتباً أنزلها على أنبيائه لا يعرف أسماءها، وعددها إلا الذي أنزلها))( )، ويتضمن أيضاً الإيمان بالقرآن العظيم، وأنه كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ، و إليه يعود كما سيأتي تقريره. ((فهو المتكلم بالقرآن، والتوراة، والإنجيل، وغير ذلك من كلامه))( )، ويتميز القرآن عن سائر كتب الله بالنسبة لهذه الأمة بوجوب اتباعه( )، تصديقاً لأخباره، و عملاً بأحكامه.
رابعاً: الإيمان بالرسل، ويتضمن ذلك الإيمان ((بكل نبي أرسله الله))( )، ((و بما سمى الله في كتابه من رسله))( )، و((بأن لله سواهم رسلاً، وأنبياء لا يعلم أسماءهم إلا الذي أرسلهم))( )، و ((أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، لا نبي بعده، وأن الله أرسله إلى جميع الثقلين من الإنس، والجن))( ).
خامساً: الإيمان باليوم الآخر، ويتضمن ذلك ((الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت))، وسيأتي لهذا بسط، وبيان في هذه الرسالة المباركة إن شاء الله – تعالى-.
سادساً: الإيمان بالقدر خيره وشره ( )، وسيأتي بسط، وبيان لهذا الأصل في هذه الرسالة المباركة إن شاء الله – تعالى-.
  
ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل.
هذا شروع في بيان بعض ما يتضمنه الإيمان بالله، وهو الإيمان بأسماء الله – تعالى – وصفاته، و ((القول الشامل في جميع هذا الباب))( ) ((ما أجمع عليه سلف الأمة، وأئمتها))( )، من((أنهم يصفون الله – تعالى – بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل))( ). ((قال الإمام أحمد: لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو بما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز القرآن، والحديث))( )، وذلك أن ((من تأمل نصوص الكتاب، والسنة وجدها في غاية الإحكام، والإتقان، وأنها مشتملة على التقديس لله عن كل نقص، والإثبات لكل كمال))( ).
وهذه الاحترازات المذكورة ((من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل))تمحض سبيل أهل السنة والجماعة، وطريقة سلف الأمة وأئمتها، وتخلصها من الضلالة، والبدعة في هذا الباب، ويتبين ذلك ببيان ما تضمنته هذه الاحترازات.
فالمراد بالتحريف: التأويل المذموم الباطل الذي هو ((صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، كتأويل من تأول: استوى بمعنى استولى، ونحوه، فهذا عند السلف، والأئمة باطل لا حقيقة له، بل هو من باب تحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في أسماء الله، وآياته))( )، إذ هو في الحقيقة صرف للنصوص عن مدلولها ومقتضاها ( )، و((إزالة اللفظ عما دل عليه من المعنى))( )، واستعمال التأويل بهذا المعنى ((لا يوجد الخطاب به إلا في اصطلاح المتأخرين))( ) فقط. وأما السلف فالتأويل عندهم ((بمعنى التفسير، وهذا هو الغالب في اصطلاح المفسرين للقرآن))( )، وهو أيضاً ((الحقيقة التي يؤول إليها الكلام))( ).
((وأصل وقوع أهل الضلال في مثل هذا التحريف الإعراض عن فهم كتاب الله – تعالى – كما فهمه الصحابة والتابعون، ومعارضة ما دل عليه بما يناقضه، وهذا هو من أعظم المحادة لله ولرسوله، ولكن على وجه النفاق والخداع))( ).
وأما التعطيل فالمراد به ((نفي الصفات))( )، ((ولهذا كان السلف والأئمة يسمون نفاة الصفات معطلة، لأن حقيقة قولهم تعطيل ذات الله – تعالى-))( ). وقد سموا هذا العبث بالصفات توحيداً، ((ففسروا التوحيد بتفسير لم يدل عليه الكتاب، والسنة، و لا قاله أحد من سلف الأمة، وأئمتها))( ).
وأما التكييف فالمراد به السؤال ((عن الهيئة، والصورة))( )، وطلب حقيقة الشيء، وكنهه ( ).
وتكييف صفات الله – تعالى-: -((منفي بالنص))( ) في قوله – تعالى: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ﴾ [آل عمران: 7]، ((فالكيف هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله))( )، فإن معنى التأويل هو ((الحقيقة التي يؤول إليها الخطاب، وهي نفس الحقائق التي أخبر الله عنها))( )، فتأويل ((آيات الصفات يدخل في حقيقة الموصوف وحقيقة صفاته، وهذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله))( )، فإن تأويل ما أخبر الله به عن نفسه هو ((كنه ذاته، وصفاته التي لا يعلمها إلا الله))( ).
ولقد اتفق السلف على نفي المعرفة بماهية الله، وكيفية صفاته( )، ولا عجب فإن ((العلم بكيفية الصفة فرع على العلم بكيفية الموصوف، فإن كان الموصوف لا تعلم كيفيته امتنع أن تعلم كيفية الصفة))( ).
أما التمثيل فالمراد به التسوية بين الله – تعالى – وغيره فيما يجب، أو يجوز أو يمتنع ( )، ((فإن الرب – تعالى – منزه عن أن يوصف بشيء من خصائص المخلوق، أو أن يكون له مماثل في شيء من صفات كماله، وكذلك يمتنع أن يشاركه غيره في شيء من أموره بوجه من الوجوه))( ).
و ((نفي المثل عن الله، ونفي الشريك ثابت بالكتاب، والسنة، وإجماع السلف))( )، ((مع دلالة العقل على نفيه))( ). فالواجب إثبات الصفات، ونفي التمثيل، فإنه ((لا ريب أن القرآن تضمن إثبات الصفات، ونفي مماثلة المخلوقات))( ). بل جميع ((الكتب الإلهية قد جاءت بإثبات صفات الكمال على وجه التفصيل مع تنزيهه عن أن يكون له مثيل))( ).
ووجه الجمع بين التحريف، والتعطيل أن التحريف يفضي إلى التعطيل، أما الجمع بين التكييف، والتمثيل فلأن التكييف يفضي إلى التمثيل، فالواجب في نصوص الكتاب، والسنة ((أن تمر كما جاءت، ويؤمن بها، وتصدق، وتصان عن تأويل يفضي إلى تعطيل، وتكييف يفضي إلى تمثيل))( )
  
بل يؤمنون بأن الله – سبحانه: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11].
في هذه الآية الكريمة دليل لصحة طريقة الفرقة الناجية المنصورة أهل السنة والجماعة، وسلامة سبيلهم، ومنهجهم في هذا الباب حيث إن ((طريقة سلف الأمة، وأئمتها أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل))( )، ((ففي قوله: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ رد على أهل التمثيل، وفي قوله: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ  رد على أهل التعطيل))( ).
((ولا ريب أن أهل السنة، والجماعة، والحديث من أصحاب مالك والشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد، وغيرهم متفقون على تنزيه الله – تعالى – عن مماثلة الخلق، وعلى ذم المشبهة الذين يشبهون صفاته بصفات خلقه))( )، فإنه قد علم بالكتاب، والسنة، والإجماع ما يعلم بالعقل أيضاً أن الله – تعالى – ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11] لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فلا يجوز أن يوصف بشيء من خصائص المخلوقين؛ لأنه متصف بغاية الكمال منزه عن جميع النقائص، فإنه – سبحانه – غني عما سواه، وكل ما سواه مفتقر إليه ))( )، و ((كما أن الرب نفسه ليس كمثله شيء فصفاته كذاته))( ).
وفي هذه الآية أيضاً ((إثبات صفات الكمال على وجه الإجمال))( )، والمراد بالكمال المثبت له ((الكمال الذي لا يماثله فيه شيء))( ).
  
فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه،
طريقة الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة سالمة من نفي ما وصف الله به نفسه في كتابه، أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ((لا يجوز النفي إلا بدليل كالإثبات))( )، ((هذا هو الصواب عند السلف، والأئمة، وجماهير المسلمين))( ). وقد اتفق سلف الأمة على ذم من نفى بلا دليل( ) ((فكيف ينفى بلا دليل ما دل عليه دليل إما قطعي، وإما ظاهري ))( )؛ ((فإن الله – تعالى – أخبر عن صفاته، وأسمائه بما لا يكاد يُعد من آياته))( )، ثم إن النفي ((لا يؤمن معه إزالة ما وجب له – سبحانه-))( ) من صفات الجلال، ونعوت الكمال، كما أن ((النفي المحض عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء، وما ليس بشيء، هو كما قيل ليس بشيء فضلاً عن أن يكون مدحاً أو كمالاً))( )، ((وإنما يكون كمالاً إذا تضمن أمراً ثبوتياً كقوله: ﴿لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ﴾ [البقرة: 255]))( ) فإن ((نفي السنة والنوم يتضمن كمال الحياة والقيام، فهو مبين لكمال أنه الحي القيوم))( ). فما جاء من وصفه – سبحانه – بالنفي ((فالمقصود إثبات الكمال))( ).
((فالواجب أن ينظر في هذا الباب فما أثبته الله، ورسوله أثبتناه، وما نفاه الله، ورسوله نفيناه، والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات، والنفي. فننثبت ما أثبتته النصوص من الألفاظ والمعاني، وننفي ما نفته النصوص من الألفاظ والمعاني))( ).
  
ولا يحرفون الكلم عن مواضعه،
طريقة أهل السنة والجماعة سالمة أيضاً من تحريف الكلم عن مواضعه، وذلك بتغيير ((معنى الكتاب، والسنة فيما أخبر الله به، أو أمر به))( ). ولما تورط أهل البدع، والأهواء في هذا حرفوا الكلم عن مواضعه، فإن ((هذه التأويلات من باب تحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في آياته))( ). ولهذا فإن ((تأويل هؤلاء المتأخرين عن الأئمة تحريف باطل))( ).
  
ولا يلحدون في أسماء الله وآياته،
طريق أهل السنة والجماعة سالمة أيضاً من الإلحاد في أسماء الله، وصفاته , وآياته، وذلك أن ((الإلحاد يقتضي ميلاً عن شيء إلى شيء بباطل))( )، ويكون ذلك بحمل أسماء الله، وآياته ((على ما يعلم بالاضطرار أنه خلاف مراد الله، ورسوله))( )، فإن ((كل من اعتقد نفي ما أثبته الرسول حصل في نوع من الإلحاد بحسب ذلك))( ).
وقد ذم الله – تعالى – ((الذين يلحدون في أسمائه وآياته، كما قال –تعالى-: ﴿ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون ﴾ [الأعراف: 180]، وقال – تعالى –: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شئْتُمْ ﴾، [فصلت: 40] ))( ).
والإلحاد في أسماء الله – تعالى – أنواع: -
((أحدها: أن تسمى الأصنام بها كتسميتهم اللات من الإلهية، والعزى من العزيز، وتسميتهم الصنم إلهاً، وهذا إلحاد حقيقة، فإنهم عدلوا بأسمائه إلى أوثانهم، وآلهتهم الباطلة.
الثاني: تسميته بما لا يليق بجلاله كتسمية النصارى له أباً.
الثالث: وصفه بما يتعالى عنه، ويتقدس من النقائص كقول أخبث اليهود: إن الله فقير.
الرابع: تعطيل الأسماء عن معانيها، وجحد حقائقها.
خامسها: تشبيه صفاته بصفات خلقه تعالى عما يقول المشبهون علواً كبيراً))( ).
  
ولا يكيفون، ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه، لأنه – سبحانه – لا سمي له، ولا كفو له، ولا ند له.
طريق أهل السنة والجماعة سالم من التكييف، والتمثيل، لأنه – تبارك وتعالى-: ((لا مثل له، ولا سمي، ولا كفو. فلا يجوز أن يكون شيء من صفاته مماثلاً لشيء من صفات المخلوقات، ولا يكون المخلوق مكافئاً، ولا مسامياً له في شيء من صفاته – سبحانه –))( )، فإنه – جل وعلا – نزه ((نفسه عن النظير باسم الكفء، والمثل، والند، والسمي))( ).
وقد ((نطق القرآن بنفيه عن الله في مواضع كقوله:  فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً [البقرة: 22]))( ).
وفي هذه الآيات ((نفي للشركاء، والأنداد، يدخل فيه كل من جعل شيئاً كفواً لله في شيء من خواص الربوبية مثل خلق الخلق، والإلهية كالعبادة له، ودعائه، ونحو ذلك))( )، وفيها أيضاً نفي ((المثل، والكفو، والند، والشريك، والعديل ولو من بعض الوجوه، وهذا هو الحق، وذلك؛ لأن المخلوقات- وإن كان فيها شبه من بعض الوجوه في مثل معنى الموجود، والحي، والعليم، والقدير- فليست مماثلة له بوجه من الوجوه، ولا مكافئة، بل هو – سبحانه – له المثل الأعلى في كل ما يثبت له، ولغيره، ولما ينفى عنه، وعن غيره، لا يماثله غيره في إثبات شيء، ولا في نفيه، بل المثبت له من الصفات الوجودية المختصة بالله التي تعجز عقول البشر عن معرفتها، وألسنتهم عن صفاتها، ما لا يعلمه إلا الله))( ).
  
ولا يقاس بخلقه – سبحانه –
فلا يجوز قياس الله – تعالى – بخلقه في أمر من الأمور، ((ومما يوضح هذا أن العلم الإلهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيل يستوي فيه الأصل والفرع، ولا بقياس شمول تستوي فيه أفراده، فإن الله-تعالى – ليس كمثله شيء، فلا يجوز أن يمثل بغيره، ولا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها))( )، ((ولكن يستعمل في ذلك قياس الأولى سواء كان تمثيلاً أو شمولاً، كما قال – تعالى –: ﴿وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾ [النحل: 60] ( ).
ولا شك أن ((أعظم المطالب العلم بالله – تعالى-، وصفاته، وأفعاله، وأمره، ونهيه، وهذا كله لا تنال خصائصه لا بقياس الشمول، ولا بقياس التمثيل، فإن الله – تعالى – لا مثل له فيقاس به، ولا يدخل هو وغيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها، فلهذا كانت طريقة القرآن، وهي طريقة السلف، والأئمة أنهم لا يستعملون في الإلهيات قياس تمثيل، وقياس شمول تستوي أفراده، بل يستعملون من هذا، وهذا قياس الأولى، فإن الله له المثل الأعلى))( ).
وإنما ترك السلف قياس التمثيل، وقياس الشمول في المطالب الإلهية؛ لأنها لا توصل إلا إلى الحيرة، والاضطراب، والشك، والارتياب، و ((لهذا لما سلك طوائف من المتفلسفة، والمتكلمة مثل هذه الأقيسة في المطالب الإلهية لم يصلوا بها إلى اليقين، بل تناقضت أدلتهم، وغلب عليهم بعد التناهي الحيرة، والاضطراب لما يرونه من فساد أدلتهم، وتكافئها))( ).
فلا ((تحسبن أن العقول لو تركت وعلومها التي تستفيدها بمجرد النظر عرفت الله معرفة مفصلة بصفاته، وأسمائه على وجه اليقين))( )، بل لا بد في معرفة الله – تعالى – من الوحي الذي بعث به رسله.
((أما قياس الأولى الذي كان يسلكه السلف اتباعاً للقرآن))( )، فهو طريق ((فطري ضروري متفق عليه))( )، يتضمن ((أن يثبت له من صفات الكمال التي لا نقص فيها أكمل مما علموه ثابتاً لغيره))( )، وينزه ((عن كل نقص ينزه عنه غيره، ويذم به سواه))( ). و ((بهذه الطريقة جاء القرآن، وهي طريقة سلف الأمة، و أئمتها))( ). فكل ((ما ثبت لغيره من الكمال الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه فهو أحق به، وما نزه عنه غيره من النقائص فهو أحق بالتنزيه منه كما قال – تعالى –:﴿لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾ [النحل: 60]، وقال – تعالى –: ﴿ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ  [الروم: 28]))( ).
  
فإنه – سبحانه – أعلم بنفسه، وبغيره، وأصدق قيلاً، وأحسن حديثاً من خلقه، ثم رسله صادقون مصدقون بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون،
في هذا بيان سبب وعلة وجوب الوقوف على ما أخبر الله به من صفاته، فإن المتكلم ((إذا كمل علمه، وقدرته، وإرادته كمل كلامه))( )، وهذه الأوصاف كلها ثابتة للرسل – صلوات الله وسلامه عليهم – فضلاً عن ثبوتها له – جل وعلا-. فإن((البيان التام هو ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه أعلم الخلق بالحق، وأنصح الخلق للخلق، وأفصح الخلق في بيان الحق، فما بينه من أسماء الله، وصفاته، وعلوه، وفوقيته هو الغاية في هذا الباب))( ).
((ولهذا أجمع أهل الملل قاطبة على أن الرسل معصومون فيما يبلغونه عن الله – تبارك وتعالى – لم يقل أحد قط إن من أرسله الله يكذب عليه، وقد قال – تعالى – لم يقل أحد قط إن من أرسله الله يكذب عليه، وقد قال – تعالى – ما يبين أنه لا يقر كاذباً عليه قال – تعالى –: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيل لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِين  ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ  فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة: 44-47] ))( ). فدل هذا على وجوب التسليم، والانقياد لما جاءت به الرسل – صلوات الله وسلامه عليهم-.
  
﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ  وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ  وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180 – 182 ] فسبح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل، وسلم على المرسلين، لسلامة ما قالوه من النقص، والعيب.
في هذه الآية الكريمة قال الله – تعالى –: ((﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الصافات: 180] أي: عما يصفه الكفار المخالفون للرسل، ﴿ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ﴾ [الصافات: 181]؛ لسلامة ما قالوه من النقص، والعيب وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 182] فالرسل وصفوا الله بصفات الكمال، ونزهوه عن النقائص المناقضة للكمال، ونزهوه عن أن يكون له مثل في شيء من صفات الكمال، وأثبتوا له صفات الكمال على وجه التفصيل، ونفوا عنه التمثيل))( )، ((وفي اقتران السلام عليهم بتسبيحه نفسه سر عظيم من أسرار القرآن يتضمن الرد على كل مبطل، ومبتدع، فإنه نزه نفسه تنزيهاً مطلقاً كما نزه نفسه عما يقول خلقه، ثم سلم على المرسلين، وهذا يقتضي سلامتهم من كل ما يقول المكذبون لهم المخالفون لهم، وإذا سلموا من كل ما رماهم به أعداؤهم لزم سلامة كل ما جاؤوا به من الكذب، والفساد. وأعظم ما جاؤوا به التوحيد، ومعرفة الله، ووصفه بما يليق بجلاله مما وصف به نفسه على ألسنتهم))( ).
  
وهو – سبحانه – قد جمع فيما وصف، وسمى به نفسه بين النفي والإثبات.
وبيان هذا أن سبيل سلف الأمة، وأئمتها ((في الصفات مبني على أصلين:
أحدهما: أن الله – سبحانه-، وتعالى – منزه عن صفات النقص مطلقاً كالسنة، والنوم، والعجز وغير ذلك))( )، ((وكذلك ما كان مختصاً بالمخلوق فإنه يمتنع اتصاف الرب به، فلا يوصف الرب بشيء من النقائص، ولا بشيء من خصائص المخلوق، وكل ما كان من خصائص المخلوق فلا بد فيه من نقص))( ).
الثاني: أنه متصف بصفات الكمال التي لا نقص فيها على وجه الاختصاص بما له من الصفات التي لا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات))( )، فإنه ((يمتنع أن يماثله فيها شيء))( ).
وبهذا جاءت الأدلة فإن ((الله – سبحانه – موصوف بالإثبات، والنفي. فالإثبات كإخباره أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، ونحو ذلك، والنفي كقوله: ﴿لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ﴾ [البقرة: 255]))( ).
ويسلك أهل السنة والجماعة فيما ينفونه، ويثبتونه في باب الأسماء، والصفات طريقة الرسل، فإن الرسل – عليهم صلوات الله – جاؤوا بإثبات مفصل، ونفي مجمل))( )، ((فهذه طريقة الرسل، وأتباعهم من سلف الأمة، وأئمتها))( ).
و((هي ما جاء بها القرآن، والله – تعالى – في القرآن يثبت الصفات على وجه التفصيل، وينفي عنه على طريق الإجمال التشبيه، والتمثيل، فهو في القرآن يخبر أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه عزيز حكيم، غفور رحيم، وأنه سميع بصير، وأنه غفور ودود، وأنه – تعالى – على عظم ذاته يحب المؤمنين، ويرضى عنهم، ويغضب على الكفار، ويسخط عليهم، وأنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، وأنه كلم موسى تكليماً، وأنه تجلى للجبل فجعله دكاً، وأمثال ذلك، ويقول في النفي:
 ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء﴾ [الشورى: 11]، ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم: 65]، ﴿فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ﴾ [النحل: 74]، ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ  اللَّهُ الصَّمَدُ  لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ  وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1 – 4] فيثبت الصفات، وينفي مماثلة المخلوقات))( ).
والنفي الذي جاءت به النصوص ((يجمعه نوعان: نفي النقص، ونفي مماثلة غيره له في صفات الكمال))( )، ((فالرب – تعالى – موصوف بصفات الكمال التي لا غاية فوقها، منزه عن النقص بكل وجه، ممتنع من أن يكون له مثيل في شيء من صفات الكمال. فأما صفات النقص فهو منزه عنها مطلقاً، وأما صفات الكمال فلا يماثله – بل ولا يقاربه – فيها شيء من الأشياء))( ).
هذه هي طريقة الرسل، ومن تبعهم من سلف الأمة، وأئمتها، أما من خالفهم من المعطلة المتفلسفة، وغيرهم فقد عكسوا القضية ( )، فإن هؤلاء الملاحدة جاؤوا بنفي مفصل، وإثبات مجمل، فقالوا في النفي: ليس بكذا وكذا ولا كذا، فلا يقرب من شيء ولا يقرب منه شيء، ولا يرى في الدنيا، ولا في الآخرة، ولا له كلام يقوم به، ولا له حياة، ولا علم، ولا قدرة، ولا غير ذلك، ولا يشار إليه، ولا يتعين، ولا هو مباين للعالم، ولا حال فيه، ولا خارجه، ولا داخله إلى أمثال العبارات السلبية التي لا تنطبق إلا على المعدوم))( ). ((وهؤلاء المعطلة ينفون نفياً مفصلاً، ويثبتون شيئاً مجملاً يجمعون فيه بين النقيضين))( )، ((ويثبتون ما لا يوجد إلا في الخيال))( ).
  
فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاء به المرسلون، فإنه الصراط المستقيم: صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين، والشهداء، والصالحين.
وسبب هذا أنهم – رحمهم الله – ((يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصل الذي يعتقدونه، ويعتمدونه))( ).
  
وقد دخل في هذه الجملة ما وصف الله به نفسه في سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن.
المراد بالجملة ما تقدم من القواعد في باب أسماء الله – تعالى – وصفاته، فبعد أن ذكر طريقة أهل السنة والجماعة في هذا الباب بين اطراد طريقتهم، واستقامة منهجهم في جميع ما أخبر الله – تعالى-به عن نفسه في كتابه من آيات الصفات، أو ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديثها.
ومن ذلك ما وصف الله به نفسه في سورة الإخلاص، فإن ((هذه السورة اشتملت على جميع أنواع التنزيه، والتحميد، على النفي والإثبات، ولهذا كانت تعدل ثلث القرآن))( )، ((وليس في القرآن سورة هي وصف الرحمن محضاً إلا هذه السورة))( )، ((ولهذا تسمى سورة الإخلاص))( )، فقد ((تضمنت هذه السورة من وصف الله – سبحانه، وتعالى – الذي ينفي قول أهل التعطيل، وقول أهل التمثيل، ما صارت به هي الأصل المعتمد في مسائل الذات))( ). والمراد بالذات ((النفس الموصوفة التي لها وصف، ولها صفات))( ). ومن((الأصول المعروفة في هذا الباب أن القول في الصفات كالقول في الذات))( ).
وأما كون هذه السورة تعدل ثلث القرآن فلما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه عديدة، فإن الأحاديث ((المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾، وأنها تعدل ثلث القرآن من أصح الأحاديث، وأشهرها، حتى قال طائفة من الحفاظ: لم يصح عن النبي  في فضل سورة من القرآن أكثر مما صح عنه في فضل ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾، وجاءت الأحاديث بالألفاظ كقوله: (﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ تعدل ثلث القرآن) ( )، وقوله: (من قرأ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ مرة فكأنما قرأ ثلث القرآن، من قرأها مرتين فكأنما قرأ ثلثي القرآن، ومن قرأها ثلاثاً فكأنما قرأ القرآن كله)( )، وقوله للناس: (احتشدوا حتى أقرأ عليكم ثلث القرآن)، فحشدوا حتى قرأ عليهم ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ قال: (والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن)( ).
وأما توجيه ذلك فقد قالت طائفة من أهل العلم: ((إن القرآن باعتبار معانيه ثلاثة أثلاث: ثلث توحيد، وثلث قصص، وثلث أمر ونهي. ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ هي صفة الرحمن، ونسبه، وهي متضمنة ثلث القرآن، وذلك أن القرآن كلام الله – تعالى-، والكلام إما إنشاء، وإما إخبار. فالإنشاء هو الأمر، والنهي، وما يتبع ذلك كالإباحة، ونحوها، وهو الأحكام. والإخبار: إما إخبار عن الخالق وإما إخبار عن المخلوق. فالإخبار عن الخالق هو التوحيد، وما يتضمنه من أسماء الله وصفاته، والإخبار عن المخلوق هو القصص، وهو الخبر عما كان وعما يكون، ويدخل فيه الخبر عن الأنبياء، وأممهم، ومن كذبهم، والإخبار عن الجنة، والنار، والثواب، والعقاب، قالوا: فبهذا الاعتبار تكون قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تعدل ثلث القرآن لما فيها من التوحيد الذي هو ثلث معاني القرآن))( )، فجعلت هذه السورة المباركة ((تعدل ثلث القرآن؛ لأنها صفة الرحمن، وذكره محضاً لم تشب بذكر غيره))( ). وقد ((اشتملت على التوحيد العلمي القولي نصاً، وهى دالة على التوحيد العملي لزوماً))( )، ((ففي اسم الصمد إثبات كل الكمال، وفي نفي الكفء التنزيه عن التشبيه والمثال، وفي الأحد نفي كل شريك لذي الجلال، وهذه الأصول الثلاثة هي مجامع التوحيد))( ).
  
﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1].
في هذه الآية الكريمة ((إثبات الأحدية لله المستلزمة نفي كل شركة عنه))( )، ((فقوله: (أحد) يدل على نفي النظير))( )، ((وأنه ليس كمثله شيء في صفات الكمال الثابتة))( )، فإن ((قوله: (أحد) مع قوله: ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحدٌ﴾ [الإخلاص: 4] ينفي المماثلة، والمشاركة))( ). ((فظهر أن اسمه الأحد يوجب تنزيهه عن ما يجب نفيه عنه من التشبيه، ومماثلة غيره في شيء من الأشياء))( ).
و ((لفظ الأحد لم يوصف به شيء من الأعيان إلا الله وحده، وإنما يستعمل في غير الله في النفي))( ).
  
﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ [الإخلاص: 2].
في هذه الآية الكريمة إثبات اسم الصمد لله – تعالى-، ((واسمه الصمد يتضمن إثبات صفات الكمال، ونفي النقائص))( )، ((فالصمدية تثبت الكمال المنافي للنقائص، والأحدية تثبت الانفراد بذلك))( ).
((ولفظ (ص م د) يدل على الاجتماع، والانضمام المنافي للتفرق، والخلو، والتجويف))( ).
((والاسم الصمد فيه للسلف أقوال متعددة قد يظن أنها مختلفة وليست كذلك، بل كلها صواب، والمشهور منها قولان: أحدهما: أن الصمد هو الذي لا جوف له. والثاني: أنه السيد الذي يصمد إليه في الحوائج. والأول هو قول أكثر السلف من الصحابة، والتابعين، وطائفة من أهل اللغة، والثاني قول طائفة من السلف، والخلف، وجمهور اللغويين))( )، و ((الاشتقاق يشهد للقولين جميعاً؛ قول من قال: إن الصمد الذي لا جوف له، وقول من قال: إنه السيد، وهو على الأول أدل، فإن الأول أصل الثاني))( )، وعلم بهذا أن ((معنى الصمد يوجب الاستسلام لله وحده المنافي للاستكبار، فإن الصمد يتضمن صمود كل شيء إليه، وفقره إليه))( ). فهو – سبحانه –((الذي يفتقر إليه كل شيء، ويستغني عن كل شيء، بل الأشياء مفتقرة من جهة الربوبية، ومن جهة إلهيته، فما لا يكون به لا يكون، وما لا يكون له لا يصلح، ولا ينفع، ولا يدوم))( ).
((فالصمدية تثبت له الكمال، والأحدية تنفي مماثلة شيء له في ذلك))( ).
((وهذان الاسمان: الأحد، والصمد لم يذكرهما الله إلا في هذه السورة))( ).
  
﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴾ [الإخلاص: 3].
هذه الآية الكريمة تضمنت تنزيه الله ((نفسه عن أن يكون له ولد، وأن يخرج منه شيء من الأشياء كما يخرج من غيره من المخلوقات، وهذا من تمام معنى الصمد كما سبق في تفسيره أنه الذي لا يخرج منه شيء، وكذلك تنزيه نفسه عن أن يولد – فلا يكون من مثله- تنزيه له أن يكون من سائر المواد بطريق الأولى، والأحرى))( ).
  
﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 4].
في هذه الآية الشريفة ((نفي للشركاء، والأنداد، يدخل فيه كل من جعل شيئاً كفواً لله في شيء من خواص الربوبية مثل: خلق الخلق، والإلهية، كالعبادة له، ودعائه، ونحو ذلك))( )، فإنه ((ليس شيء من الأشياء كفواً له في شيء من الأشياء؛ لأنه أحد ))( )، فقوله في أول السورة: ﴿اللَّهُ أَحَدٌ﴾ مع هذه الآية ((ينفي المماثلة، والمشاركة))( ).
  
وما وصف به نفسه في أعظم آية في كتاب الله:
بيان هذا أنه يدخل فيما سبق من القواعد السلفية أيضاً ما وصف الله به نفسه في أعظم آية في كتابه في آية الكرسي، فإنها أعظم آية في كتاب الله، ودليل ذلك ما ((في صحيح مسلم أن النبي  قال: (يا أُبي، أتدري أي آية في كتاب الله أعظم؟) قال: ﴿اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [البقرة: 255]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليهنك العلم أبا المنذر)( )، فأخبر في هذا الحديث الصحيح أنها أعظم آية في القرآن، وفي ذاك أنها أعلى شعب الإيمان، وهذا غاية الفضل، فإن الأمر كله مجتمع في القرآن، والإيمان، فإذا كانت أعظم القرآن، وأعلى الإيمان ثبت لها غاية الرجحان))( ). ولا غرو فإنه ليس ((في القرآن آية واحدة تضمنت ما تضمنته آية الكرسي))( ) من الصفات العظيمة، والمعاني الجليلة.
  
﴿اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ،
في هذه الآية الكريمة العظيمة إثبات انفراد الله بالألوهية( )، وفيها إثبات اسم الحي، وصفة الحياة، واسم((الحي مستلزم لجميع الصفات، وهو أصلها، ولهذا كان أعظم آية في القرآن ﴿اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ القيُّومُ﴾ [البقرة: 255]، وهو الاسم الأعظم، فاستلزم جميع الصفات، فلو اُكتُفيَ في الصفات بالتلازم لاُكتُفيَ بالحي))( ).
وفيها إثبات اسم القيوم، وصفة القيومية، ومعنى ((القيوم، القائم المقيم لما سواه))( )، فهو ((الدائم الباقي الذي لا يزول، ولا يعدم، ولا يفنى بوجه من الوجوه))( ).
واسمه – سبحانه – ((الحي، القيوم يجمع أصل معاني الأسماء والصفات، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوله إذا اجتهد في الدعاء))( ).
وقال ابن القيم في نونيته:
 ((ولـه الحياة كمـالهـا فلأجل ذا        ما للممات عليه من سلطان
وكـذلك الـقـيوم من أوصافه         مـا للمنام لديه من غشيان
وكذاك أوصاف الكمـال جميعها        ثبتت له ومدارها الوصفان))
وفي هذه الآية الكريمة وصف الله – تعالى – نفسه بالنفي، وذلك لكونه((متضمناً لإثبات مدح ))( )، فإنه((– سبحانه – لا يمدح بالصفات السلبية إلا لتضمنها المعاني الثبوتية ))( )، ((فإذا وصف بالسلوب فالمقصود هو إثبات الكمال))( ). ((فنفي السنة، والنوم يتضمن كمال الحياة، والقيومية، وهذه من صفات الكمال))( )، ((فإن النوم ينافي القيومية، والنوم أخو الموت))( )، ((فلو جعلت له سنة، أو نوم لنقصت حياته، وقيوميته، فلم يكن قائماً، ولا قيوماً))( )، ولهذا نفى الله – تعالى – عنه جنس السنة، والنوم، لكون ذلك ((مناقضاً لما علم من صفاته الكاملة))( ).
  
لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ،
في هذا إثبات تمام ملكه – جل وعلا – لما في السماوات والأرض.
((فإنكاره، ونفيه أن يشفع أحد عنده إلا بإذنه يتضمن كمال ملكه لما في السماوات، وما في الأرض، وأنه ليس له شريك، فإن من شفع عنده غيره بغير إذنه، وقبل شفاعته كان مشاركاً له، إذ صارت شفاعته سبباً لتحريك المشفوع إليه، بخلاف من لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فإنه منفرد بالملك ليس له شريك بوجه من الوجوه))( )، وهذا ((كمال الملك، والربوبية، وانفراده بذلك))( ).
  
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء،
في هذا أثبت سعة علمه – سبحانه –، ثم ((بين أنهم لا يعلمون من علمه إلا ما علمهم إياه، كما قالت الملائكة: ﴿لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا﴾ [البقرة: 32]، فكان في هذا النفي إثبات أن عباده لا يعلمون إلا ما علمهم إياه ))( )، ((فهو العالم بالمعلومات، ولا يعلم أحد شيئاً إلا بتعليمه))( )، ((فبين أنه المنفرد بالتعليم، والهداية. . . . كما أنه المنفرد بالخلق والإحداث))( ).
  
وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا،
في هذا إثبات سعة كرسيه – جل وعلا-، و ((الكرسي ثابت بالكتاب، والسنة، وإجماع جمهور السلف))( )، و ((قد نقل عن بعضهم: أن كرسيه علمه، وهو قول ضعيف، فإن علم الله وسع كل شيء كما قال: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا﴾ [غافر: 7]، والله يعلم نفسه ويعلم ما كان، وما لم يكن، فلو قيل: وسع علمه السماوات والأرض لم يكن هذا المعنى مناسباً، لا سيما وقد قال: ﴿وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ [البقرة: 255] أي: لا يثقله، ولا يكرثه، وهذا يناسب القدرة لا العلم. والآثار المأثورة تقتضي ذلك))( ). و ((قد قال بعضهم: إن الكرسي هو العرش، لكن الأكثرون على أنهما شيئان))( ). فعن ((ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: إن الكرسي الذي وسع السماوات والأرض لموضع القدمين، ولا يعلم قدر العرش إلا الذي خلقه))( ).
وفيها ((إثبات عظيم قدرة الرب – جل وعلا – حيث ذكر سعة كرسيه السماوات والأرض، وأنه – سبحانه – َلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا  [البقرة: 255]، أي: لا يكرثه ولا يثقل عليه ))( )كما تقدم، ((وهذا النفي تضمن كمال قدرته، فإنه مع حفظه للسماوات والأرض لا يثقل ذلك عليه كما يثقل على من في قوته ضعف))( ).
  
﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيم ﴾ [البقرة: 255].
((ختم هذه الآية بهذين الاسمين الجليلين الدالين على علو ذاته، وعظمته في نفسه))( ).
واسمه – تبارك، وتعالى – العلي ((يفسر بأنه أعلى من غيره قدراً، فهو أحق بصفات الكمال. ويفسر بأنه العالي عليهم بالقهر، والغلبة، فيعود إلى أنه القادر عليهم، وهم المقدورون، وهذا يتضمن كونه خالقاً لهم، ورباً لهم، وكلاهما يتضمن أن نفسه فوق كل شيء، فلا شيء فوقه))( ).
وأما اسمه العظيم فهو ((متضمن لصفات عديدة، فالعظيم من اتصف بصفات كثيرة من صفات الكمال))( )، فهو من الأسماء الدالة((على جملة أوصاف عديدة لا تختص بصفة معينة))( ).
  
ولهذا كان من قرأ هذه الآية في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح.
وبيان هذا أنه ((قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه لما وكله النبي صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة الفطر فسرق منه الشيطان ليلة بعد ليلة، وهو يمسكه فيتوب فيطلقه، فيقول له النبي : (ما فعل أسيرك البارحة؟)، فيقول: زعم أنه لا يعود، فيقول: (كذبك، وإنه سيعود)، فلما كان في المرة الثالثة، قال: دعني أعلمك ما ينفعك، إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي ﴿اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم﴾ [البقرة: 255] إلى آخرها، فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صدقك، وهو كذوب!)، وأخبره أنه شيطان( ).
ولهذا إذا قرأها الإنسان عند الأحوال الشيطانية بصدق أبطلتها. . . ))( ).
  
وقوله – سبحانه – ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ﴾ [الفرقان: 58]،
في هذه الآية الكريمة إثبات أنه الحي الذي لا يموت، وبهذا وصفته الرسل – عليهم الصلاة والسلام-( )، فإن((الحياة صفة كمال يستحقها بذاته، والموت مناقض لها، فلم يوصف بالحياة لأجل نفي الموت، بل وصفه بالحياة يستلزم نفي الموت فينفى عنه الموت؛ لأنه حي ))( )، ولكونه ((مناقضاً لما علم من صفاته الكاملة))( ).
  
وقوله – سبحانه-: ﴿ هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الحديد: 3]،
في هذه الآية الكريمة إثبات هذه الأسماء الأربعة لله – تعالى-، وأما تفسيرها ((فقد ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم، وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (اللهم أنت الأول، فليس قبلك شيء، وأنت الآخر، فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر، فليس فوقك شيء، وأنت الباطن، فليس دونك شيء)( )))( ).
وقال ابن زمنين في تفسير هذه الأسماء الأربعة: ((هو الأول لا شيء قبله، والآخر الباقي إلى غير نهاية، ولاشيء بعده، والظاهر العالي فوق كل شيء، والباطن بطن علمه بخلقه))( ).
واسمه – جل وعلا – الظاهر ((ضمن معنى العالي كما قال: ﴿ فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ ﴾ [الكهف: 97]. . .، فكلما علا الشيء ظهر، ولهذا قال: (أنت الظاهر، فليس فوقك شيء) فأثبت الظهور، وجعل موجب الظهور أنه ليس فوقه شيء))( ). ((فهذا أخبر بأنه ليس فوقه شيء في ظهوره، وعلوه على الأشياء))( ).
واسمه – جل وعلا – الباطن ((أوجب أن لا يكون شيء دونه، فلا شيء دونه باعتبار بطونه))، و ((في هذا اللفظ معنى القرب، والبعد من وجه، ومعنى الاحتجاب، والاختفاء من وجه، فقوله: (وأنت الباطن، فليس دونك شيء) نفى أن يكون شيء دونه، كما نفى أن يكون فوقه، ولو قدر فوقه شيء لكان أكمل منه في العلو والبيان، إذ هذا شأن الظاهر، ولو كان دونه شيء لكان
أكمل منه في الدنو، والاحتجاب، وهذا شأن الباطن، وهذا يوافق قوله: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) ( )))( ). ((ولهذا لم يجئ هذا الاسم الباطن كقوله: (وأنت الباطن، فليس دونك شيء) إلا مقروناً بالاسم الظاهر الذي فيه ظهوره، وعلوه، فلا يكون شيء فوقه؛ لأن مجموع الاسمين يدلان على الإحاطة، والسعة، وأنه الظاهر، فلا شيء فوقه، والباطن، فلا شيء دونه))( ).
((فأولية الله عز وجل سابقة على أولية كل ما سواه، وآخريته ثابتة بعد آخرية كل ما سواه، فأوليته سبقه لكل شيء، وآخريته بقاؤه بعد كل شيء، وظاهريته – سبحانه – فوقيته، وعلوه على كل شيء. ومعنى الظهور يقتضي العلو، وظاهر الشيء ما علا منه، وأحاط بباطنه، وبطونه – سبحانه – إحاطته بكل شيء بحيث يكون أقرب إليه من نفسه، وهذا قرب غير قرب المحب من حبيبه، هذا لون، وهذا لون، فمدار هذه الأسماء الأربعة على الإحاطة، وهي إحاطتان: زمانية، ومكانية. . . ))( ). الزمانية في قوله: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ ﴾، والمكانية في قوله: ﴿وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾، ثم أكد تمام الإحاطة في آخر الآية: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾.
  
وقوله: ﴿وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [التحريم: 2]،
وقوله: ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ﴾ [سبأ: 2]،
 وقوله: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [الأنعام: 59]،
وقوله: ﴿وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ﴾ [فاطر: 11]،
في هذه الآيات الكريمات إثبات صفتي العلم، والحكمة لله – تعالى-.
فأما صفة علم الله – تعالى – فأدلة إثباتها كثيرة، فإن ((في القرآن والحديث، والآثار ما لا يكاد يحصر))( )من النصوص الدالة على ثبوت صفة العلم لله – تعالى – و((هو – سبحانه – يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون))( ). ((ولهذا كان قول المرسلين: إن الله أحصى كل شيء عدداً، فهو يعلم أوزان الجبال، ودورات الزمان، وأمواج البحار، وقطرات المطر، وأنفاس بني آدم: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [الأنعام: 59] ( ).
وهو – سبحانه – ((يعلم المعدومات، والممتنعات التي ليست مفعولة، وكما يعلم المقدرات كقوله: ﴿وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ [الأنعام: 28]، وقوله: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: 22]، وإن كان وجود إله غيره ممتنعاً، فعلمه – سبحانه – بما يعلمه، ليس من شرطه كونه مفعولاً له، بل كونه مفعولاً له دليل على أنه يعلمه، والدليل لا ينعكس))( ). فالله – جل شأنه – ((العليم الذي له العلم العام للواجبات، والممتنعات، والممكنات، فيعلم نفسه الكريمة، وصفاته المقدسة، ونعوته العظيمة، وهي الواجبات التي لا يمكن إلا وجودها، ويعلم الممتنعات حال امتناعها، ويعلم ما يترتب على وجودها لو وجدت، كما قال – تعالى –: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: 22]))( )، ((ويعلم – تعالى – الممكنات، وهي التي يجوز وجودها، وعدمها، ما وجد منها، وما لم يوجد، وما لم تقتض الحكمة إيجاده ))( )، وقد أحاط علمه – سبحانه – ((بجميع الأزمان الحاضرة، والماضية، والمستقبلة))( ).
((واسمه العليم لما كان كل شيء يصلح أن يكون معلوماً تعلق بكل شيء))( )، فعلمه – سبحانه – ((له عموم التعلق: يتعلق بالخالق، والمخلوق، والموجود، والمعدوم))( ).
وقد ضل في هذه الصفة العظيمة فرق أبرزها:
الأولى: الفلاسفة، فقالوا بأن الله – تعالى-: ((يعلم الكليات دون الجزئيات))( )، وهذا كذب، وضلال مبين، وهو ((من أخبث الأقوال، وشرها، ولهذا لم يقل به أحد من طوائف الملة، وهؤلاء شر من المنكرين للعلم القديم من القدرية، وغيرهم))( ). ومما يبين ذلك أن ((القرآن فيه إخبار الله بالأمور المفصلة عن الشخص، وكلامه المعين، وفعله المعين، وثوابه، وعقابه المعين، مثل: قصة آدم، ونوح، وهود، وصالح، وموسى، وغيرهم ما يبين أنهم أعظم الناس تكذيباً لرسل الله – تعالى-، وكذلك إخباره عن أحوال محمد صلى الله عليه وسلم، وما جرى ببدر، وأحد، والأحزاب، والخندق، والحديبية، وغير ذلك من الأمور الجزئية أقوالاً، وأفعالاً.
وإخباره أنه يعلم السر، وأخفى، وأنه عليم بذات الصدور، وأنه يعلم ما تنقص الأرض من الموتى، وعنده كتاب حفيظ، وأنه يعلم ما في السماوات، والأرض، وأن ذلك في كتاب))( ).
الثانية: غلاة القدرية، ((الذين يزعمون أن الله لا يعلم أفعال العباد إلا بعد وجودها))( )، ((وهذا القول مهجور باطل مما اتفق على بطلانه سلف الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وسائر علماء المسلمين، بل كفروا قائله. والكتاب، والسنة مع الأدلة العقلية تبين فساده))( ).
أما صفة الحكمة فقد ((أجمع المسلمون على أن الله – تعالى – موصوف بالحكمة))( ) فله – سبحانه – الحكمة الباهرة في خلقه، وله الحكمة البالغة في شرعه( )، وقد دل على هذا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ((في مواضع لا تكاد تحصى، ولا سبيل إلى استيعاب أفرادها))( )، فإن ((القرآن مملوء بذلك في الخلق، والأمر))( ). ومن المهم التنبه إلى أن((تفصيل حكمة الله في خلقه، وأمره يعجز عن معرفتها عقول البشر))( )، و((ليس للعباد أن يعلموا تفصيل حكمة الله – تعالى-، بل يكفيهم العلم العام، والإيمان التام))( ).
وقد ضل في هذه الصفة طوائف، فأنكرها الجهمية، والأشعرية( ). ونفي الحكمة أمر خطير، فإنه ((يتضمن نفي الإرادة، ونفي القدرة))( ). ولازم هذا ((نفي فعل الرب، ونفي الأحداث، ومن نفى ذلك يلزمه امتناع حدوث حادث في الوجود))( ). فإثبات((الحكمة لازم لكل طائفة على أي قول قالوه))( )؛ لأنهم لابد أن يثبتوا إلهاً قادراً، أو يثبتوا حوادث في الوجود، وهذه القدرة، والإحداث إما أن يكونا لحكمة أو لا، وعدم الحكمة عبث ونقص ينزه عنه الرب، وإثبات الحكمة كمال واجب له – سبحانه – كما قال – تعالى –: ﴿وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ﴾ [النحل: 60].
  
وقوله: ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق: 12].
وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [الذاريات: 58].
في هاتين الآيتين الكريمتين إثبات قدرة الله – تعالى – وقوته. فهو – جل وعلا – القوي القدير. وقد((اتفق المسلمون، وسائر أهل الملل على أن الله على كل شيء قدير، كما نطق بذلك القرآن في مواضع كثيرة جداً))( ).
وهاتان الصفتان معناهما متقارب، فإن ((لفظ القوة قد يراد به ما كان في القدرة أكمل من غيره، فهو قدرة أرجح من غيرها، أو القدرة التامة))( ).
((والقدرة: هي قدرته على الفعل. والفعل نوعان: لازم، ومتعد.
والنوعان في قوله: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ [الحديد: 4]، فالاستواء والإتيان والمجيء، والنزول، ونحو ذلك أفعال لازمة، لا تتعدى إلى مفعول، بل هي قائمة بالفاعل، والخلق، والرزق، والإماتة، والإحياء، والإعطاء، والمنع، والهدى، والنصر، والتنزيل، و نحو ذلك تتعدى إلى مفعول))( ).
((فيدخل في ذلك – أي في آيات إثبات قدرته – سبحانه – أفعال العباد( )، وغير أفعال العباد)). ومما ((يدخل في ذلك أفعال نفسه. وقد نطقت النصوص بهذا، وهذا كقوله – تعالى – ﴿: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم﴾ [يس: 81]، ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ [القيامة: 40]، ﴿ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾ [القيامة: 4]، ونظائره كثيرة))( ).
وقد اختلف الناس في متعلق القدرة، والذي عليه أهل السنة ((أن الله – تعالى – على كل شيء قدير، وكل ممكن فهو مندرج في هذا))( )، ((فكل ما يصلح أن يشاء فهو عليه قدير، وإن شئت قلت: قدير على ما يصلح أن يقدر عليه))( ).
وأما الممتنع ((المحال لذاته مثل كون الشيء الواحد موجوداً معدوماً فهذا لا حقيقة له، ولا يتصور وجوده، ولا يسمى شيئاً باتفاق العقلاء، ومن هذا الباب: خلق مثل نفسه، وأمثال ذلك))( )، ولذلك فإن الممتنع لنفسه غير داخل في عموم قوله – تعالى –: ﴿إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 20] ( ).
وفي الآية الثانية إثبات أنه – سبحانه – الرزاق، وأنه سبحانه – المتين.
والرزاق في صفاته يشمل ما كان على يد رسول صلى الله عليه وسلم من رزق القلوب بالعلم، والإيمان، ورزق الأبدان الذي لا تبعة فيه. ويتضمن أيضاً الرزق العام لكل أحد كما قال – تعالى –: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا﴾ [هود: 6] ( ).
أما المتين فمعناه الشديد القوي فهو يفيد التناهي في القوة والقدرة.
  
وقوله: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]،
وقوله: ﴿ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 58]،
في هاتين الآيتين إثبات صفتي السمع والبصر لله – تعالى-. ((وقد دل الكتاب، والسنة واتفاق سلف الأمة، ودلائل العقل على أنه سميع بصير))( )، والسمع الذي أثبته الله – سبحانه، وتعالى – لنفسه في الكتاب، والسنة نوعان:
النوع الأول: السمع العام، ((ويراد به إدراك الصوت، ويراد به معرفة المعنى))( )، فسمع الله – تبارك، وتعالى – شامل لجميع الأصوات؛ ((لأنه سميع لكل مسموع))( )، قالت عائشة رضي الله عنها: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا في جانب الحجرة يخفى علي بعض كلامها، فأنزل الله قوله: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا﴾ [المجادلة: 1] ( ).
النوع الثاني: السمع الخاص، ((وهو سمع الإجابة، والقبول))( ).
وهذا النوع متعلق بمشيئة الله – تعالى-، وقدرته( ). وذلك ((كقوله: سمع الله لمن حمده، وقول الخليل:  ﴿ إن ربي لسميع الدعاء ﴾ [إبراهيم: 39]، وقوله: ﴿إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ﴾ [سبأ: 50]))( )، ((والمراد أنه يستجيب الدعاء))( ).
أما البصر فهو إدراك جميع المبصرات، فالله – جل وعلا – قد أحاط بصره جميع المبصرات لا تخفى عليه خافية، فكل ((ما خلقه الرب – تعالى-، فإنه يراه))( ).
ومعنى سمع الله، وبصره الذي يثبته أهل السنة والجماعة ((ليس هو مجرد العلم بالمسموعات، والمرئيات))( )، وذلك ((لأن الله فرق بين العلم، وبين السمع والبصر، وفرق بين السمع والبصر، وهو لا يفرق بين علم وعلم؛ لتنوع المعلومات؛ قال – تعالى-: ﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأعراف: 200]، وفي موضع آخر: ﴿ إنه هو السميع العليم ﴾ [فصلت: 36]، وقال: ﴿وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 227] ذكر سمعه لأقوالهم، وعلمه؛ ليتناول باطن أحوالهم، وقال لموسى، وهارون: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ [طه: 46]، وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ على المنبر: ﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 58]، ووضع إبهامه على أذنه؛ وسبابته على عينه( ).
ولا ريب أن مقصوده تحقيق الصفة لا تمثيل الخالق بالمخلوق، فلو كان السمع، والبصر العلم لم يصح ذلك))( )، وبهذا يتبين خطأ من أول هاتين الصفتين بالعلم.
  
وقوله: ﴿وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ﴾ [الكهف: 39]،
وقوله: ﴿ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ [البقرة: 253]،
وقوله: ﴿ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ﴾ [المائدة: 1]، وقوله: ﴿ فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء ﴾ [الأنعام: 125]،
في هذه الآيات الكريمات إثبات صفة الإرادة لله – تعالى-، وهي ((في كتاب الله نوعان))( ):
النوع الأول: ((إرادة شرعية دينية تتضمن محبته، ورضاه))( ). ((فالإرادة الشرعية الأمرية لا تتعلق إلا بالطاعات))( ). ((وهي المقارنة للأمر، والنهي، والحب، والبغض، والرضا، والغضب))( )، ((كقوله – تعالى: -﴿يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، وقوله: ﴿يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: 26]، إلى قوله:  يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ، [النساء: 28] وقوله: ﴿مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾ [المائدة: 6] وقوله: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب: 33]))( ). وهذه الإرادة ((قد يقع مرادها، وقد لا يقع))( ).
النوع الثاني: إرادة كونية خلقية، وهي ((المشيئة الشاملة لجميع الحوادث))( ). ((فالإرادة الكونية هي مشيئة لما خلقه، وجميع المخلوقات داخلة في مشيئته، وإرادته الكونية))( ). ((وهي المقارنة للقضاء، والقدر، والخلق، والقدرة))( )، ((كقوله – تعالى –: ﴿ فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّماء﴾ [الأنعام: 125]، وقول نوح: ﴿وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ﴾ [هود: 34].
ومن هذا النوع قول المسلمين: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. ومن النوع الأول قولهم لمن يفعل القبائح: هذا يفعل ما لا يريده الله))( ). وهذه الإرادة مستلزمة لوقوع المراد( )، فما أراده الله – تعالى – كوناً فلا بد من وقوعه.
  
وقوله: ﴿وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195]،
وقوله: ﴿وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات: 9]،
وقوله: ﴿فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة: 7]،
وقوله: ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: 222]،
وقوله: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾ [آل عمران: 31]،
وقوله: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾ [المائدة: 54]،
وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾ [الصف: 4]، وقوله: ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ﴾ [البروج: 14]،
في هذه الآيات الكريمات: ((إثبات محبة الله – تعالى – لعباده المؤمنين، ومحبتهم له، وهذا أصل دين الخليل صلى الله عليه وسلم إمام الحنفاء))( )، وهذا هو ((الذي جاء به الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة، وعليه مشايخ المعرفة، وعموم المسلمين: أن الله يُحِب، ويُحَب))( ).
وفي هذه الآيات أيضاً أن من الأعمال ما يحبه الله – تعالى-. و ((الأعمال التي يحبها من الواجبات، والمستحبات الظاهرة، والباطنة كثيرة ومعروفة))( ).
((وهذه الآيات، وأشباهها تقتضي أن الله يحب أصحاب هذه الأعمال))( ).
واسمه – سبحانه – الودود معناه: المحب، فإنه ((هو الذي يود))( ) من شاء من خلقه.
وصفة المحبة من الصفات الفعلية الاختيارية، فإن كل ((ما تعلق بالمشيئة مما يتصف به الرب فهو من الصفات الاختيارية))( ) الفعلية؛ ((مثل كلامه، و سمعه، وبصره، وإرادته، ومحبته، ورضاه، ورحمته، وغضبه، وسخطه؛ ومثل: خلقه، وإحسانه، وعدله؛ ومثل: استوائه، ومجيئه، وإتيانه، ونزوله، ونحو ذلك من الصفات التي نطق بها الكتاب العزيز، والسنة))( ). ولا يشكل عليك في هذا التمثيل ذكر الكلام، والسمع، والبصر، والإرادة حيث إنهم يمثلون بها للصفات الذاتية، فهي كذلك باعتبار النوع، وهي فعلية باعتبار الآحاد، والأفراد فتنبه( ).
وأهل السنة يثبتون هذا النوع من الصفات كسائر ما وصف الله به نفسه( )، فإن ((من أعظم الأصول معرفة الإنسان بما نعت الله به نفسه من الصفات الفعلية))( ). ((أما من ينفي الصفات من الجهمية، والمعتزلة فهم ينفون قيام الفعل به))( )، وكذلك ينفيها طائفة من مثبتة الصفات، ((فإن ابن كلاب، والأشعري، وغيرهما ينفونها))( ).
و ((أول من عرف في الإسلام أنه أنكر أن الله يُحِبُّ، ويُحَبُّ الجهم بن صفوان، وشيخه الجعد بن درهم))( ). والمخالفون للسلف في هذه الصفة الجليلة طائفتان في الجملة:
الأولى: من أنكر أن يُحِبَّ الله عباده، أو يحبه عباده، وهذا مذهب الجهمية، فقد ((أنكرت الجهمية حقيقة المحبة من الطرفين))( ).
الثانية: من أثبت محبة العبد ربه، وأنكر محبة الله لعباده، وهذا قول الأشعرية( )، ((و طائفة أخرى من الصفاتية))( )، وهم من يثبت لله – تعالى – الصفات في الجملة.
((ثم هؤلاء الذين أنكروا حقيقة المحبة لم يمكنهم إنكار لفظها؛ لأنه جاء في الكتاب، والسنة))( )، فأول الجهمية محبة العبد ربه((بعبادته، وطاعته، وامتثال أمره، أو محبة أوليائه ))( )، وأما محبة الله – تعالى – لعباده فقد((تأول الجهمية، ومن اتبعهم من أهل الكلام – محبة الله لعبده على أنها الإحسان إليه، فتكون من الأفعال، وطائفة أخرى من الصفاتية قالوا: هي إرادة الإحسان))( ).
  
وقوله: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [النمل: 30].
وقوله: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا﴾ [غافر: 7].
وقوله: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: 43].
وقوله: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: 156].
وقوله: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام: 54].
وقوله: ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [يونس: 107].
وقوله: ﴿فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 64].
في هذه الآيات الشريفة إثبات رحمة الله – تعالى-، وأنه الرحمن الرحيم ((الذي يرحم العباد بمشيئته، وقدرته))( )، وهذا أمر بين واضح اتفق عليه السلف والأئمة( )، وجرى عليه أهل السنة والجماعة( ).
ورحمة الله – سبحانه – ((اسم جامع لكل خير))( ).
وأما ((أهل البدع، والضلالة من الجهمية، ونحوهم))( )، ((فهم يجحدون حقيقة كونه الرحمن أو أن يرحم))( )، ثم إنهم فسروا الرحمة ((بالإرادة القديمة، أو صفة أخرى قديمة))( )، وهذا تحريف للكلم عن مواضعه، فأنكروا هذه الصفة العظيمة من صفات الله – تعالى-.
وأما الفرق بين هذين الاسمين الكريمين الرحمن، الرحيم فهو ((أن الرحمن دال على الصفة القائمة به – سبحانه-، والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم، فكان الأول للوصف-، والثاني للفعل، فالأول دال على أن الرحمة صفته، والثاني دال على أنه يرحم خلقه. وإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾  [الأحزاب: 43]، ﴿إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: 117]، ولم يجئ قط رحمن بهم، فعلم أن الرحمن هو الموصوف بالرحمة، والرحيم هو الراحم برحمته))( ).
  
وقوله: ﴿رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ [البينة: 8]،
في هذه الآية الكريمة إثبات صفة الرضا، وهي من الصفات الفعلية التي أثبتها أهل السنة والجماعة لله – تعالى-، فإنها من ((صفات الكمال، وأضدادها صفات نقص))( ).
وقد أنكر هذه الصفة من ينكر ثبوت الصفة الفعلية الاختيارية لله – تعالى – من الكلابية، والأشعرية، ونحوهم.
  
وقوله: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ﴾ [النساء: 93]،
وقوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ﴾ [محمد: 28]،
وقوله: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾ [الزخرف: 55]،
وقوله: ﴿وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ﴾ [التوبة: 46]،
وقوله: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: 3]،
في هذه الآيات الكريمات إثبات صفة الغضب، والسخط، والأسف، والكره، والمقت. وهي من صفات الفعل التي يثبتها أهل السنة والجماعة لله – تعالى – على الوجه اللائق به – سبحانه( ) – والغضب المثبت له – جل، وعلا – لا نقص فيه بوجه من الوجوه، فإن ((الغضب على من يستحق الغضب عليه، من القادر على عقوبته، صفة كمال))( ).
((والرسل – صلوات الله عليهم أجمعين – إنما جاؤوا بإثبات هذا الأصل، وهو أن الله يحب بعض الأمور المخلوقة، ويرضاها، ويسخط بعض الأمور، ويمقتها، وأن أعمال العباد ترضيه تارة، وتسخطه أخرى))( ) كما في الآيات المتقدمة، وغيرها.
أما معنى الأسف المذكور في الآية الأخيرة فقال ((ابن عباس: أغضبونا، قال ابن قتيبة: الأسف الغضب، يقال: أسفت أسفاً أي: غضبت))( ).
وهذه الآيات دالة على أن الفعل حادث بعد أن لم يكن، ((فإن الجزاء لا يكون قبل العمل، والقرآن صريح بأن أعمالهم ﴿كانت سبباً لذلك كقوله: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾ [الزخرف: 55]، وقوله ﴿: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: 28]، وقوله: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾ [آل عمران: 31]، وأمثال ذلك))( ).
وقد أنكر هذه الصفات من ينكر قيام الأفعال بالله – تعالى-، فقالوا: ((هذه كلها أمور مخلوقة بائنة عنه ترجع إلى الثواب، والعقاب ))( )، ومنهم من قال: ما ثم ((إلا إرادة قديمة، أو ما يشبهها))( )، فأوَلَ جميع الصفات الفعلية بذلك.
  
وقوله: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ﴾ [البقرة: 210]،
وقوله: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ﴾ [الأنعام: 158]،
وقوله: ﴿ كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا  وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ [الفجر 21-22]،
وقوله: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً﴾ [الفرقان: 25]،
وفي هذه الآيات المباركات إثبات إتيان الله ومجيئه يوم القيامة. ((والأحاديث المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في إتيان الرب يوم القيامة كثيرة، وكذلك إتيانه لأهل الجنة يوم الجمعة))( )، وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي اتفاق الكلمة من المسلمين على أنه ينزل يوم القيامة لفصل القضاء، ولم يشكوا في ذلك، وأن الإتيان المذكور، والمضاف إلى الله أنه إتيان الله بنفسه يوم القيامة( ).
وقد ضل في هذه الصفة طوائف فإن ((النفاة المعطلة ينفون المجيء، والإتيان بالكلية، ويقولون: ما ثم إلا ما يحدث في المخلوقات، والحلولية يقولون: إنه يأتي، ويجيء بحيث يخلو منه مكان، ويشغل آخر، فيخلو منه ما فوق العرش، ويصير بعض المخلوقات فوقه، فإذا أتى، وجاء لم يصر على قولهم العلي الأعلى، ولا كان هو العلي العظيم، لا سيما إذا قالوا: إنه يحويه بعض المخلوقات، فتكون أكبر منه، سبحانه وتعالى عما يقول هؤلاء علواً عظيماً ( ).
  
وقوله: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾ [الرحمن: 27]،
وقوله: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾ [القصص: 88]،
في هاتين الآيتين الكريمتين إثبات الوجه لله – تعالى-، ((وثبوت الوجه، والصورة لله قد جاء في نصوص كثيرة من الكتاب، والسنة، واتفق على ذلك سلف الأمة))( ). وهو من الصفات الخبرية ((السمعية التي لا تعلم إلا بالسمع))( ).
ومن المعلوم أن ((أئمة أهل السنة، والحديث من أصحاب الأئمة الأربعة يثبتون الصفات الخبرية))( )، ((كالوجه، واليدين، والعينين))( ).
وما ذكر من إثبات الأشعرية للصفات الخبرية إنما هو قول متقدميهم، أما المتأخرون منهم فينفونها( ).
  
وقوله: ﴿مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: 75]،
وقوله: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء﴾ [المائدة: 64]،
في هاتين الآيتين إثبات اليدين لله – تعالى-، ((وإثبات اليدين له موجود في التوراة، وسائر النبوات كما هو موجود في القرآن))( )، وأهل السنة والجماعة على إثباتها( ).
وقد ورد ذكر هذه الصفة في الكتاب، والسنة بصيغة الإفراد، وبصيغة التثنية، وبصيغة الجمع( ). ولا إشكال في ذلك، ((فلغة العرب متنوعة في إفراد المضاف، وتثنيته، وجمعه بحسب أحوال المضاف إليه))( )، فلا تعارض بين ذلك، فإن ((المفرد المضاف يراد به ما هو أكثر من واحد))( )، و ((كثيراً ما يراد به الجنس فيتناوله سواء كان واحداً، أو اثنين، أو ثلاثة))( )، فلا يعارض الإفراد التثنية، والجمع. أما صيغة الجمع فإن ((صيغة الجمع تقتضي التعظيم الذي يستحقه))( ) – سبحانه-، ((ومثل هذا كثير في القرآن يسمي الرب نفسه من الأسماء المضمرة بصيغة الجمع على سبيل التعظيم لنفسه كقوله – تعالى -: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا﴾ [الفتح: 1]، وقوله: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الزخرف: 32]( ). و((أما صيغة التثنية فإنها نص في مسماها، لأنها من أسماء العدد، وأسماء الأعداد نصوص))( )، وهذا يدل على صحة ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة من إثبات اليدين له – سبحانه-.
وقد أنكر هذه الصفة متأخرو الأشعرية، وحرفوها بتحريفات باردة ( ).
  
وقوله: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ [الطور: 48]،
وقوله: ﴿وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ﴾ [القمر: 13 – 14]، وقوله: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ [طه: 39]،
في هذه الآيات إثبات العين لله – تعالى –، و هذا ما عليه أهل السنة والجماعة( ).
وقد جاء إثبات هذه الصفة في القرآن بلفظ الجمع، وبلفظ المفرد( )، ((وأما لفظ عينين فليس هو في القرآن، ولكن جاء فيه حديث))( )، ((كما قال عطاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد إذا قام في الصلاة قام بين عيني الرحمن)، فإذا التفت قال له ربه: (إلى من تلتفت إلى خير لك مني)( )، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ربكم ليس بأعور)( ) صريح في أنه ليس المراد إثبات عين واحدة ليس إلا، فإن ذلك عور ظاهر، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً)( ).
  
وقوله: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا﴾ [المجادلة: 1]،
وقوله: ﴿لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء﴾ [آل عمران: 181]،
وقوله: ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُون﴾ [الزخرف: 80]،
وقوله: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ [طه: 46].
وقوله: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ [العلق: 14].
وقوله: ﴿الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ  وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ  إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الشعراء: 218 – 220].
وقوله: ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: 105].
في هذه الآيات الكريمات إثبات السمع، والرؤية لله – تعالى – وقد تقدم ذلك في أول سياق الآيات، وقد ذكر في هذه الآيات حكم هاتين الصفتين( )، وفيها أن الله – جل شأنه –((قد يخص بالنظر، والاستماع بعض المخلوقات ))( ). و ((هذا التخصيص ثابت بالكتاب، والسنة، وهو تخصيص بمعنى يقوم بذاته بمشيئته، وقدرته))( ).
وفيها أيضاً أن الله – تبارك، وتعالى – يسمع الأقوال، ويبصر الأعمال بعد أن خلقت، ووجدت، ((وهذا قطعي لا حيلة فيه))( )، ((فإذا وجدت الأقوال، والأعمال سمعها، ورآها))( )، ((وعلى ذلك يدل الكتاب، والسنة مع الكتب المتقدمة: التوراة، والإنجيل، والزبور. فقد اتفق عليها نصوص الأنبياء، وأقوال السلف، وأئمة العلماء، ودلت عليها صرائح المقولات))( ). فإن ((السمع والبصر لا يتعلق بالمعدوم، فإذا خلق الأشياء رآها، وإذا دعاه عباده سمع دعاءهم وسمع نجواهم))( ).
وما ذكره الله – تبارك، وتعالى – من ((رؤيته الأعمال، وعلمه بها، وإحصائه لها يتضمن الوعيد بالجزاء عليها. . . . ))( )، فذكر الله – سبحانه – سمعه ورؤيته في هذه الآيات، ونظائرها يراد منه((إثبات علمه بذلك، وأنه يعلم هل ذلك خير، أو شر، فيثيب على الحسنات، ويعاقب على السيئات ))( )، ((فمدلول اللفظ مراد منه، وقد أريد أيضاً لازم ذلك المعنى))( ).
  
وقوله: ﴿وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾ [الرعد: 13]،
وقوله: ﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [آل عمران: 54]،
وقوله: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُم لاَ يَشْعُرُونَ﴾ [النمل: 50]،
وقوله: ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا ﴾ [الطارق: 15- 16]،
في هذه الآيات الكريمات إثبات المحال، والمكر، والكيد لله – تعالى-، لكن ((لما كان غالب استعمال هذه الألفاظ في المعاني المذمومة ظن العاطلون أن ذلك هو حقيقتها، فإذا أطلقت لغير الذم كانت مجازاً))( )،
((وزعموا أنه مسمى باسم ما يقابله على طريق المجاز، وليس كذلك، بل مسميات هذه الأسماء إذا فعلت بمن لا يستحق العقوبة كانت ظلماً له، وإذا فعلت بمن فعلها بالمجني عليه عقوبة له بمثل فعله كانت عدلاً))( )، ولذلك فإن ((الله – سبحانه – لم يصف نفسه بالكيد، والمكر، والخداع، إلا على وجه الجزاء لمن فعل ذلك بغير حق، وقد علم أن المجازاة على ذلك حسنة من المخلوق، فكيف من الخالق – سبحانه-؟))( ).
والِمحَال المذكور في الآية ((فسِّر بالكيد، والمكر))( ). وهذا يدل على أن ((إطلاق هذه الألفاظ عليه – سبحانه – لا يتوقف على إطلاقها على المخلوق))( )، ومن ذلك قوله: ﴿أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُون﴾ [الأعراف: 99]( )، ومنه أيضاً قوله – تعالى –: ﴿إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [القلم: 45]، أما من حيث الأفعال، والأسماء ((فلا يجوز إطلاق أفعالها على الله مطلقاً، فلا يقال: إنه – تعالى – يمكر، ويخادع، ويستهزئ، ويكيد))، و ((كذلك بطريق الأولى لا يشتق له منها أسماء يسمى بها))( )، فإن أسماءه كلها حسنى.
  
وقوله: ﴿إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ [النساء: 149]،
وقوله: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [النور: 22]،
وقوله: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: 8]،
وقوله عن إبليس: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص: 82]،
في هذه الآيات إثبات صفة العفو، والمغفرة، والرحمة لله – تعالى-، فإنه ((لما كان قد ثبت بالقرآن أنه غفار للتائبين، رحيم بالمؤمنين، علم أنه موصوف بالمغفرة، والرحمة))( ).
وفيها إثبات العزة لله – تعالى _، ومعنى هذه الصفة الكريمة دائر على القوة والامتناع والغلبة، فإن ((العرب تقول: عز يعز بالفتح إذا قوي وصلب، عز يعز بالكسر إذا امتنع، وعز يعز بالضم إذا غلب))( ).
  
وقوله:  تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ  [الرحمن: 78]،
في هذه الآية الكريمة إثبات ((أن اسم الله مبارك تنال معه البركة))( )، وفيها إثبات الجلال، والإكرام لله – تعالى-، وهذا يستلزم كمال صفاته، فإنه ((إذا كان مستحقاً للإجلال، والإكرام لزم أن يكون متصفاً في نفسه بما يوجب ذلك))( ). ((والإجلال يتضمن التعظيم، والإكرام يتضمن الحب والحمد))( ).
  
وقوله: ﴿فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم: 65]،
وقوله: ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 4]،
وقوله: ﴿فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 22]،
وقوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ﴾ [البقرة: 165]،
وقوله: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ﴾ [الإسراء: 111]،
وقوله: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التغابن: 1]،
وقوله: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان 1- 2]،
وقوله: ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُون  عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [المؤمنون: 91- 92]،
وقوله: ﴿فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 74]،
وقوله: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 33]،
في هذه الآيات الكريمات نزه الله – تعالى – نفسه عن النقائص ((تارة بنفيها، وتارة بإثبات أضدادها))( ). وقد تقدم أن((مجرد النفي ليس فيه مدح، ولا كمال، لأن النفي المحض عدم محض))( )، ولذلك فإن ((كل نفي لا يستلزم ثبوتاً، هو مما لم يصف الله به نفسه))( ).
وقد نفى الله – تبارك، وتعالى- في هذه الآيات الكفء، والند، والمثل، والسمي، والشريك، والولي من الذل، ونفى عنه الولد، كل ذلك؛ لإثبات غاية الكمال له في الأسماء، والصفات، والأفعال.
وقد سبح نفسه – تعالى-، وتسبيحه نفسه ((يتضمن مع نفي صفات النقص عنه، إثبات ما يلزم ذلك من عظمته، فكان في التسبيح تعظيم له مع تبرئته من السوء))( ).
ونفي الولي عنه – سبحانه – ليس مطلقاً في الآية؛ فهو ((لا يوالي أحداً، لذلته، بل هو العزيز بنفسه، ومن كان يريد العزة فلله العزة جميعاً، وإنما يوالي عباده المؤمنين، لرحمته، ونعمته، وحكمته، وإحسانه، وجوده، وفضله، وإنعامه))( ).
  
وقوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ في سبعة مواضع:
في سورة الأعراف قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف: 54]،
وقال في سورة يونس: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [يونس: 3]،
وقال في سورة الرعد: ﴿اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الرعد: 2]،
وقال في سورة طه: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]،
وقال في سورة الفرقان:﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الفرقان: 59]،
وقال في سورة ألم السجدة: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [السجدة: 4]،
وقال في سورة الحديد: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الحديد: 4]،
في هذه الآيات الكريمات إثبات استواء الله – تعالى – على عرشه، وقد دل على هذه الصفة ((نصوص الكتاب، والسنة، وإجماع سلف الأمة، وأئمة السنة، بل على ذلك جميع المؤمنين الأولين، والآخرين))( ).
((والآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، وسائر علماء الأمة متواترة عند من تتبعها قد جمع العلماء فيها مصنفات صغاراً، وكباراً))( ). ((بل من أكثر النظر في آثار الرسول صلى الله عليه وسلم علم بالاضطرار أنه ألقى إلى الأمة أن ربكم الذي تعبدونه فوق كل شيء، وعلى كل شيء، فوق العرش، وفوق السماوات، وعلم أن عامة السلف كان هذا عندهم مثل ما عندهم أن الله بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير))( ). فأدلة ثبوت صفتي الاستواء على العرش، والعلو كثيرة جداً، فهي ((مما لا يحصيه إلا الله مما هو أبلغ المتواترات اللفظية، والمعنوية))( ).
وصفة ((الاستواء من الصفات السمعية المعلومة بالخبر))( )، وهي من الصفات الفعلية. وهذا ((قول أئمة أهل الحديث والسنة))( ). والمنقول عن السلف في معنى الاستواء لا يخرج عن أربعة معان( ). قد ذكرها ابن القيم – رحمه الله – في نونيته عند كلامه على الاستواء فقال: -
(( ولهم  عبارات  عليه  أربـع         قد حصلت للفارس الطعان
وهي  استقر وقد  علا  وكذلك         ار تفع الذي ما فيه من نكران
وكذاك قد صعد الذي هو رابع        . . . . . . . . . . . . . . . ))
وهذه المعاني كلها منقولة عن السلف، وهم ((وإن اختلفت عباراتهم فمقصودهم واحد، وهو إثبات علو الله على عرشه))( )، فإنهم قد ((فسروا الاستواء بما يتضمن الارتفاع فوق العرش))( ).
واستواء الله – تعالى – على عرشه هو علوه عليه، لكن ((الاستواء علو خاص، فكل مستو على شيء عال عليه، وليس كل عال على شيء مستوياً عليه، ولهذا لا يقال لكل ما كان عالياً على غيره إنه مستو عليه، واستوى عليه، ولكن كل ما قيل فيه: إنه استوى على غيره فإنه عال عليه، والذي أخبر الله أنه كان بعد خلق السماوات، والأرض الاستواء لا مطلق العلو)) ((فالأصل أن علوه على المخلوقات وصف لازم له كما أن عظمته وكبرياءه، وقدرته كذلك، وأما الاستواء فهو فعل يفعله – سبحانه، وتعالى – بمشيئته، وقدرته))( ). ((فالاستواء من الألفاظ المختصة بالعرش لا تضاف إلى غيره لا خصوصاً، ولا عموماً))( ). ولذلك ((اتفق المسلمون على أن يقال: استوى على العرش، ولا يقال استوى على هذه الأشياء))( ) أي: على البحار، والأرض، وغيرها.
وقد ضل في هذه الصفة طوائف، فأنكروا الاستواء، وسبب ذلك ((أن عامة من ينكر هذه الصفة، وأمثالها إذا بحثت عن الوجه الذي أنكروه وجدتهم قد اعتقدوا أن ظاهر هذه الآية كاستواء المخلوقين، أو استواء يستلزم حدوثاً، ونقصاً، ثم يقولون: فيتعين تأويله: إما بالاستيلاء، أو بالظهور، والتجلي، أو بالفضل، والرجحان الذي هو علو القدر، والمكانة))( ).
وتأويل الاستواء بالاستيلاء مردود من عدة وجوه، فهو باطل من حيث اللغة، واللسان، ومن حيث ما نقل عن السلف، فإن ((أهل السنة، وسلف الأمة متفقون على أن من تأول استوى بمعنى استولى، أو بمعنى آخر ينفي أن يكون الله فوق سماواته فهو جهمي ضال))( ).
وهذا((أمر بين واضح لكل ذي عين بصيرة، وقلب سليم))( ).
وقد ضل في هذه الصفة أيضاً نفاة الصفات الاختيارية صفات الفعل عن الله – تعالى-، ((ولهذا كان قول ابن كلاب، والأشعري، والقلانسي، ومن وافقهم من أتباع الأئمة، وغيرهم من أصحاب أحمد وغيرهم أن الاستواء فعل يفعله الرب في العرش، ومعنى ذلك أنه يحدث في العرش قرباً فيصير مستوياً عليه من غير أن يقوم به – نفسه – فعل اختياري))( ).
والقائلون بمنع قيام الصفات الاختيارية حجتهم داحضة وشبهتهم واهية( ). فإن ((السلف، والأئمة يثبتون ما يقوم بذاته من الصفات، والأفعال مطلقاً))( ). ((والنصوص الإلهية متظاهرة باتصاف الرب بالصفات، والأفعال. وهذا معلوم بالضرورة لمن سمع الكتاب والسنة))( ).
  
وقوله: ﴿يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ﴾ [آل عمران: 55]،
وقوله: ﴿بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ﴾ [النساء: 158]،
وقوله: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: 10]،
وقوله: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذبا ً﴾ [غافر: 36- 37]،
وقوله: ﴿أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ  أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ﴾ [الملك: 16- 17]،
هذه الآيات الكريمات فيها إثبات علو الله – تعالى – على خلقه. وذلك ((معلوم بالاضطرار من الكتاب، والسنة، وإجماع سلف الأمة))( )، بل ((قد اتفقت الكلمة من المسلمين، والكافرين أن الله في السماء))( ). وهو ((أمر معلوم بالفطرة الضرورية التي يشترك فيها جميع بني آدم))( ).
((فإن فطرهم مقرة بأن الله فوق العالم ))( )، كما أن ((العقل دل على أن الله – تعالى – فوق العالم))( )، ولا عجب في ذلك، فإن ((من أبين ما شهدت به الفطر، والعقول، والشرائع علوه – سبحانه – فوق جميع العالم، وأما تقرير ذلك بالأدلة العقلية الصريحة فمن طرق كثيرة جداً))( ).
فدل على علو الرب – تبارك، وتعالى – على خلقه الكتاب، والسنة، والإجماع، والفطرة، والعقل، ((ولهذا كان السلف مطبقين على تكفير من أنكر ذلك، لأنه عندهم معلوم بالاضطرار من الدين))( ).
فالله – تبارك اسمه – هو العلي ((الأعلى بجميع معاني العلو. وقد اتفق الناس على أنه علي على كل شيء بمعنى أنه قاهر له، قادر عليه، متصرف فيه، كما قال: ﴿إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [المؤمنون: 91]. وعلى أنه عالٍ عن كل عيب ونقص، فهو عالٍ عن ذلك، منزه عنه، كما قال-تعالى-: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا  أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا  وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا  قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً  سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: 39– 43] فقرن تعاليه عن ذلك بالتسبيح))( )، فدل على أنه منزه عن كل عيب، ونقص – تبارك وتعالى-.
أما علو الله بذاته على خلقه فهو محل الخلاف بين أهل السنة والجماعة، وبين غيرهم من الفرق، فإن ((المنازع يسلم أنه موصوف بعلو المكانة، وعلو القهر، وعلو المكانة معناه أنه أكمل من العالم، وعلو القهر مضمونه أنه قادر على العالم))( ).
والمخالفون لأهل السنة في صفة علو الله – تعالى –، ثلاث فرق:
الأولى: معطلة الجهمية، ((وهم الذين يقولون: لا داخل العالم، ولا خارجه، ولا مباين له، ولا محايث له، فينفون الوصفين المتقابلين اللذين لا يخلو موجود عن أحدهما، كما يقول ذلك أكثر المعتزلة ومن وافقهم من غيرهم))( ).
الثانية: حلولية الجهمية، وهم ((الذين يقولون: إنه بذاته في كل مكان))( ).
الثالثة: طائفة من أهل الكلام، والتصوف، وهم الذين يقولون: ((إن الله بذاته فوق العالم، وهو بذاته في كل مكان))( ).
والجواب عليهم مفصل في موضعه، فإنه قول باطل يلزم عليه لوازم فاسدة ينزه الله عنها( ).
  
وقوله: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الحديد: 4]،
وقوله: ﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [المجادلة: 7]،
وقوله: ﴿لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة: 40]،
وقوله: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ [طه: 46]،
وقوله: ﴿إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾ [النحل: 128]،
وقوله: ﴿وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: 46]،
وقوله: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 249]،
في هذه الآيات الكريمات إثبات معية الله – تعالى – لخلقه. ((والمعية في كتاب الله على وجهين: عامة، وخاصة.
فالعامة كقوله – تعالى –: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ [الحديد: 4]، وقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [المجادلة: 7].
فهذه معية عامة لكل متناجيين، وكذلك الأولى عامة لجميع الخلق))( ).
((و أما المعية الخاصة ففي قوله – تعالى –: ﴿إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾ [النحل: 128]، وقوله – تعالى – لموسى: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ [طه: 46]، وقال – تعالى-:﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة: 40] يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر رضي الله عنه فهو مع موسى، وهارون دون فرعون، ومع محمد، وصاحبه دون أبي جهل، وغيره من أعدائه، ومع الذين اتقوا، والذين هم محسنون دون الظالمين المعتدين))( ).
وقد دل على معية الله – تعالى – لخلقه كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع ((الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، ولم يخالفهم فيه أحد يعتد بقوله))( ).
و ((لفظ المعية قد استعمل في الكتاب، والسنة في مواضع يقتضي في كل موضع أموراً لا يقتضيها في الموضع الآخر))( ).
فالمعية العامة التي في مثل قوله – تعالى-: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ [الحديد: 4] وفي قوله: ﴿إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا﴾ [المجادلة: 7] قد ((دل ظاهر الخطاب أن حكم هذه المعية، ومقتضاها، أنه مطلع عليكم، شهيد عليكم، ومهيمن عالم بكم، وهذا معنى قول السلف: إنه معهم بعلمه))( ).
أما المعية الخاصة فقد دل سياق آياتها ((على أن المقصود ليس مجرد علمه، وقدرته، بل هو معهم في ذلك بتأييده، ونصره، وأنه يجعل للمتقين مخرجاً، ويرزقهم من حيث لا يحتسبون))( )، فهو – سبحانه – ((معهم بالنصر، والتأييد، والإعانة على عدوهم))( ). وهذه المعية التي يثبتها أهل السنة والجماعة ((ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب – عز وجل – مختلطة بالخلق))( )، أو ((أنه بذاته في كل مكان، أو أن وجوده عين وجود المخلوقات، ونحو ذلك من مقالات الجهمية))( ) كما سيأتي بيانه.
  
وقوله: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا﴾[النساء: 87]،
وقوله: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً﴾ [النساء: 122]،
وقوله: ﴿إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ﴾ [المائدة: 110]،
وقوله: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً﴾ [الأنعام: 115]،
وقوله: ﴿وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء: 164]،
وقوله: ﴿مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ﴾ [البقرة: 253]،
وقوله: ﴿وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾ [الأعراف: 143]،
في هذه الآيات إثبات صفة الكلام لله – تعالى-، وهي صفة جليلة ثابتة، ((بالإجماع، والنقل المتواتر عن الأنبياء صلى الله عليهم وسلم))( )، وقد مضى على هذا سلف الأمة، وأئمتها. ((فالسلف، والأئمة نصوا على أن الرب – تعالى – لم يزل متكلماً إذا شاء وكما شاء، كما نص على ذلك عبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل، وغيرهم من أئمة الدين، وسلف المسلمين))( ).
وإنكار هذه الصفة، وتحريفها أمر خطير، فهو ((في الحقيقة تكذيب للرسل الذين إنما أخبروا الأمم بكلام الله الذي أنزل إليهم))( ). ((فالإيمان بكلام الله داخل في الإيمان برسالة الله إلى عباده، والكفر بذلك هو الكفر بهذا، فتدبر هذا الأصل، فإنه فرقان هذا الاشتباه، ولهذا كان من يكفر بالرسل، تارة يكفر بأن الله له كلام أنزله على البشر كما أنه قد يكفر برب العالمين مثل فرعون، وقومه، قال الله – تعالى –: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ﴾ [يونس: 2] الآية، وقال – تعالى – عن نوح، وهود: ﴿أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ﴾ [الأعراف: 63]، وقال: ﴿وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 91] إلى آخر الكلام))( ).
وهذه الصفة كسائر الصفات في الكتاب، والسنة لا يلزم من إثباتها أي لازم باطل، بل ((كلام الله – تعالى – لا يماثل كلام المخلوقين كما لا يماثل في شيء من صفاته صفات المخلوقين))( ).
  
وقوله: ﴿وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾ [مريم: 52]،
وقوله: ﴿وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [الشعراء: 10]،
وقوله: ﴿وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ﴾ [الأعراف: 22]،
وقوله: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ [القصص: 62]،
وقوله: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص: 65]،
في هذه الآيات ((إثبات النداء لله – تعالى – وقد أخبر الله – تعالى – في القرآن بندائه لعباده في أكثر من عشرة مواضع، والنداء لا يكون إلا صوتاً باتفاق أهل اللغة، وسائر الناس))( )، وقد ((استفاضت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة، والتابعين، ومن بعدهم من أئمة السنة أنه – سبحانه – ينادي بصوت: نادى موسى، وينادي عباده يوم القيامة بصوت، ويتكلم بصوت))( ).
((والنداء في لغة العرب هو صوت رفيع؛ لا يطلق النداء على ما ليس بصوت لا حقيقة، ولا مجازاً))( ) ((باتفاق أهل اللغة))( ). و((هذا مما اتفق عليه سلف المسلمين وجمهورهم))( ).
وهذه الآيات تدل على أن الله – تعالى – يوصف بالصفات الاختيارية الفعلية، فإنه – سبحانه – لما ذكر النداء فيها وقته ((بظرف محدود، فدل على أن النداء يقع في ذلك الحين دون غيره من الظروف، وجعل الظرف للنداء لا يسمع النداء إلا فيه))( ).
وهذا يدل لصحة ما ذهب إليه السلف، وأئمة السنة من أن صفة الكلام ((صفة ذات، وفعل))( )، فالله – جل وعلا – ((لم يزل متكلماً إذا شاء، كيف شاء))( )، والآيات بينة الدلالة على هذا، فإن النداء المذكور في قصة موسى ((إنما ناداه حين جاء لم يكن النداء في الأزل كما يقول الكلابية))( ) ، ونداؤه آدم، وحواء، لما أكلا من الشجرة إنما كان ((لما أكلا منها ناداهما، لم ينادهما قبل ذلك))( )، وكذلك النداء يوم القيامة، فإنه ((في يوم معين، وذلك اليوم حادث كائن بعد أن لم يكن، وهو حينئذ يناديهم، لم ينادهم قبل ذلك))( ).
  
وقوله: ﴿أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ﴾ [التوبة: 6]،
وقوله: ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 75]،
وقوله: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ﴾ [الفتح: 15]،
وقوله: ﴿وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾ [الكهف: 27]،
وقوله: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [النمل: 76]،
وقوله: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ [الأنعام: 155]،
وقوله: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [الحشر: 21]،
وقوله: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ  قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ  وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾ [النحل: 101 – 103]،
في هذه الآيات إثبات أن القرآن المجيد كلام الله – تعالى-. فإن الله – تبارك وتعالى – قد أضافه إلى نفسه – سبحانه-، فدل على أنه كلامه الذي تكلم به، إذ ((لا يعرف قط أنه أضيف إلى الله كلام إلا كلام تكلم الله به))( ).
وأخبر في هذه الآيات بأن القرآن منزل منه – سبحانه-. و ((النزول في كتاب الله – عز وجل – ثلاثة أنواع: نزول مقيد بأنه منه، ونزول مقيد بأنه من السماء، ونزول غير مقيد لا بهذا، ولا بهذا))( )، والأول منها هو المتعلق بهذه الصفة.
((فالأول لم يرد إلا في القرآن، كما قال – تعالى-: ﴿وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ﴾ [الأنعام: 114]، وقال تعالى: ﴿نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ﴾ [النحل: 102]، وقال تعالى: ﴿تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [الزمر: 1]. . . . ))( ). ((ولهذا قال السلف: القرآن كلام الله ليس بمخلوق منه بدأ، قال أحمد وغيره: وإليه يعود، أي هو المتكلم به، وقال: كلام الله من الله ليس ببائن منه، أي لم يخلقه في غيره فيكون مبتدأ منزلاً من ذلك المخلوق، بل هو منزل من الله، كما أخبر به، ومن الله بدأ لا من المخلوق فهو الذي تكلم به لخلقه))( ).
((فأخبر – سبحانه – أنه منزل من الله، ولم يخبر عن شيء أنه منزل من الله إلا كلامه))( ).
وقد وصف الله – سبحانه – كلامه بأنه يقص، ووصفه في غير هذه الآيات بأنه يحكم ويفتي ((كقوله: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء﴾ [النساء: 127]، أي: وما يتلى عليكم يفتيكم فيهن. وقوله: ﴿وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ﴾ [البقرة: 213]، وإذا أضيف الحكم، والقصص، والإفتاء إلى القرآن الذي هو كلام الله، فالله هو الذي حكم به، وأفتى، وقضى به كما أضاف ذلك إلى نفسه في غير موضع))( ).
  
وقوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ  إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 22- 23]،
وقوله: ﴿عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ﴾ [المطففين: 23]،
وقوله: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: 26]،
وقوله: ﴿لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ [ق: 35].
في هذه الآيات إثبات رؤية المؤمنين ربهم – جل وعلا-( )، وأن الله – سبحانه – يرى عياناً بالأبصار يوم القيامة، ففي الآية الأولى ((إضافة النظر إلى الوجه الذي هو محله، وتعديته بأداة إلى الصريحة في نظر العين))( )، فإن تعدية النظر بإلى معناه المعاينة بالأبصار، ((وقد نقل أن كثيراً من السلف فهموا الرؤية))( ) من هذه الآية.
وكذلك في قوله: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: 26]، فالزيادة ((هي النظر إلى الله – سبحانه –))( ).
وكذا في قوله: ﴿وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ [ق: 35]، ((وهو ما لم يبلغه علمهم ليشتهوه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)))( )، ((وروى ابن بطة بإسناد صحيح عن الأسود بن عامر قال: ذكر لي عن شريك عن أبي اليقظان عن أنس ﴿وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ [ق: 35] قال: يتجلى لهم كل جمعة))( ).
وسيأتي مزيد كلام على هذه الصفة، إن شاء الله.
  
وهذا الباب في كتاب الله – تعالى – كثير.
ووجه كثرة آيات الصفات في كتاب الله – تعالى – أنه ((كلما كانت حاجة الناس إلى معرفة الشيء، وذكره أشد، وأكثر كانت معرفتهم به، وذكرهم له أعظم، وأكثر، وكانت طرق معرفته أكثر، وأظهر، وكانت الأسماء المعرفة له أكثر، وكانت على معانيه أدل))( )، ((ولما كانت حاجة النفوس إلى معرفة ربها أعظم الحاجات كانت طرق معرفتهم له أعظم من طرق معرفة ما سواه، وكان ذكرهم لأسمائه أعظم من ذكرهم لأسماء ما سواه))( )، ((فإن أصل عبادته معرفته بما وصف به نفسه في كتابه، وما وصفه به رسله))( )– صلوات الله وسلامه عليهم.
  
من تدبر القرآن طالباً للهدى منه تبين له طريق الحق.
وذلك ((أن الكتاب، والسنة يحصل منه كمال الهدى، والنور لمن تدبر كتاب الله، وسنة نبيه، وقصد اتباع الحق، وأعرض عن تحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في أسماء الله، وآياته))( ).
وما ضل من ضل في هذا الباب، وغيره إلا لإعراضهم عن الكتاب، ومعارضتهم له. فهم ((لا يطلبون الهدى منه، بل إما أن يعرضوا عن فهمه، وتدبره كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، وإما أن يحرفوه بالتأويلات الفاسدة))( )، فيحرمون الانتفاع بالقرآن العظيم.
  

فصل
فالسنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه، وما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم به ربه – عز وجل – من الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول، وجب الإيمان بها كذلك.
فسنة النبي صلى الله عليه وسلم ((مفسرة للقرآن مبينة له كما قال – تعالى – له:  وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ  [النحل: 44]، فبين ما أنزل الله لفظه، ومعناه. فصار معاني القرآن التي اتفق عليها المسلمون اتفاقاً ظاهراً مما توارثته الأمة عن نبيها كما توارثت عنه ألفاظ القرآن))( ). و ((قد اتفق الصحابة، والتابعون لهم بإحسان، وسائر أئمة الدين أن السنة تفسر القرآن وتبينه، وتدل عليه، وتعبر عن مجمله، وأنها تفسر مجمل القرآن من الأمر، والخبر))( )، ((فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بين للناس لفظ القرآن، ومعناه))( ).
((والأحاديث جاءت في هذا الباب كما جاءت الآيات مع زيادة تفسير في الحديث، كما أن أحاديث الأحكام تجيء موافقة لكتاب الله مع تفسيرها لمجمله، ومع ما فيها من الزيادات التي لا تعارض القرآن، فإن الله-سبحانه وتعالى – أنزل على نبيه الكتاب، والحكمة. . . ))( )، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإني أوتيت الكتاب، ومثله معه)( ). وفي رواية: (ألا إنه مثل القرآن، وأكثر)( )، ((فالحكمة التي أنزلها الله عليه مع القرآن، وعلمها لأمته تتناول ما تكلم به في الدين من غير القرآن من أنواع الخبر، والأمر))( ).
  
مثل:
قوله صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟) متفق عليه( ).
في هذا الحديث الشريف إثبات نزول الله – تعالى – إلى السماء الدنيا. و ((قد استفاضت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، واتفق سلف الأمة، وأئمتها، وأهل العلم بالسنة، والحديث على تصديق ذلك، وتلقيه بالقبول))( )، وهذا الحديث حديث مشهور ((رواه عامة الصحابة))( )، ومع هذا الإثبات يصان – جل وعلا – عن الظنون الفاسدة، فإن ((مذهب سلف الأمة أنه مع نزوله إلى سماء الدنيا لا يزال فوق العرش لا يكون تحت المخلوقات، ولا تكون المخلوقات محيطة به قط، بل هو العلي الأعلى، العلي في دنوه، القريب في علوه))( ).
وقد تأول هذه الصفة أهل الكلام بأنواع من التحريف المخالف لما عليه أهل السنة والجماعة( ).
وفيه إثبات صفة الكلام لله – تعالى-، وقد تقدم تقرير ذلك في الكلام على الآيات، وسيأتي مزيد بحث فيه إن شاء الله – تعالى –.
  
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لله أشد فرحاً بتوبة عبده المؤمن التائب من أحدكم براحلته))متفق عليه( ).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة))متفق عليه( ).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غيره ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب))حديث حسن( ).
في هذه الأحاديث إثبات الفرح، والضحك، والعجب لله – تعالى – وجميعها من الصفات الاختيارية الفعلية.
فالفرح قد جاء في الحديث الأول، وهو دال على محبة الله – تعالى – للتوبة ((إذ الفرح إنما يكون بحصول المحبوب))( ). ((وهذا الحديث مستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من غير وجه من حديث ابن مسعود، وأبي هريرة، وأنس، وغيرهم))( ).
وأما الضحك فأحاديثه ((متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم ))( ). ولا يلزم من إثباته لله – تعالى – نقص، فإن ((الضحك في موضعه المناسب له صفة مدح، وكمال))( )، ((ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينظر إليكم الرب قنطين، فيظل يضحك، يعلم أن فرجكم قريب)، فقال أبو رزين العقيلي: يا رسول الله أو يضحك الرب؟ قال: (نعم) قال: لن نعدم من رب يضحك خيراً( ).
فجعل الأعرابي العاقل بصحة فطرته ضحكه دليلاً على إحسانه، وإنعامه، فدل على أن هذا الوصف مقرون بالإحسان المحمود، وأنه من صفات الكمال))( ).
وأما التعجب فقد جاء في القرآن الكريم، ((قال – تعالى-: ﴿بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ﴾ [الصافات: 12] على قراءة الضم))( )، وقد جاء في أحاديث عديدة( ). ولا يلزم من إثباته أي لازم باطل، فالعجب الموصوف به الله – تعالى –ليس مقروناً بجهل، ((بل يتعجب لخروجه عن نظائره تعظيماً له، والله-تعالى- يعظم ما هو عظيم؛ إما لعظمة سببه، أو لعظمته))( ). وأما قوله في حديث التعجب: ((وقرب غيره))، فالمراد ((قرب تغيره من الجدب إلى الخصب))( ).
ولم يثبت أهل الكلام هذه الصفات جميعاً؛ لتوهم النقص فيها( )، ولعدم إثباتهم الصفات الاختيارية معتمدين في ذلك على أوهام كاذبة، وظنون فاسدة.
  
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال جهنم يلقى فيها وهي تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها رجله))، وفي رواية: ((عليها قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض، فتقول: قط قط))متفق عليه( ).
في هذا الحديث إثبات القدم، والرجل لله – تعالى-، وهي صفة خبرية يثبتها أهل السنة والجماعة على الوجه اللائق بالله – تعالى-.
وقول جهنم: ((هل من مزيد؟ على سبيل الطلب، أي: هل من زيادة تزاد فيّ؟ والمزيد ما يزيده الله فيها من الجن، والإنس))( ).
وقولها: ((قط، قط))أي: ((حسبي، حسبي))( ).
  
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله – تعالى-: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار)). متفق عليه( ).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه، وبينه ترجمان))( ).
في هذين الحديثين: ((أن الله – تعالى – متكلم بصوت كما جاءت به الأحاديث الصحاح))( )، وأنه ((– سبحانه – يتولى كلام عباده يوم القيامة))( ).
وظاهر حديث تكليم الله لعباده يوم القيامة عموم تكليمه لكل أحد حتى الكفار. و ((القرآن، والحديث يدلان على أن الله يكلمهم تكليم توبيخ، وتقريع، وتبكيت لا تكليم تقريب، وتكريم، ورحمة، وإن كان من العلماء من أنكر تكليمهم جملة))( )، وقد وردت أحاديث صحاح، وحسان ((تصرح بأن جميع الناس ذكورهم، وإناثهم مشتركون))( )، في تكليم الله – تعالى – لهم( ).
وقد تقدم البحث في صفة الكلام، وسيأتي مزيد إن شاء الله – تعالى-.
  
وقوله صلى الله عليه وسلم في رقية المريض: ((ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء، اجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا، وخطايانا أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك على هذا الوجع، فيبرأ))حديث حسن رواه أبو داود وغيره( ).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء))حديث صحيح( ).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه))حديث حسن رواه أبو داود وغيره( ).
وقوله صلى الله عليه وسلم للجارية: ((أين الله؟))، قالت: في السماء، قال: ((من أنا؟))قالت: أنت رسول الله، قال: ((أعتقها فإنها مؤمنة))رواه مسلم( ).
في هذه الأحاديث إثبات علو الله – تعالى-، وفوقيته على جميع الخلق( )، وقد تواترت بذلك الأحاديث، وقد تقدم الكلام على هذا وسيأتي مزيد إن شاء الله – تعالى-.
وفي حديث الجارية ((دليل على أنها لو لم تؤمن بأن الله في السماء كما قال الله، ورسوله لم تكن مؤمنة))( ).
  
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيث ما كنت))حديث حسن( ).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فلا يبصق قبل وجهه، ولا عن يمينه، ولكن عن يساره، أو تحت قدمه))متفق عليه( ).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم رب السماوات السبع، ورب العرش العظيم، ربنا، ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة، والإنجيل، والقرآن، أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته. أنت الأول، فليس قبلك شيء، وأنت الآخر، فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن، فليس دونك شيء، اقض عني الدين، وأغنني من الفقر))رواه مسلم( ).
وقوله صلى الله عليه وسلم لما رفع أصحابه أصواتهم بالذكر: ((أيها الناس اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم، ولا غائباً إنما تدعون سميعاً بصيراً، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته))متفق عليه( ).
في هذه الأحاديث إثبات معية الله – تعالى – لخلقه، وفيها إثبات سعته، وإحاطته بكل شيء، فهو الأول الآخر الظاهر الباطن، وفيها إثبات قربه من عبده الداعي.
ففي الحديث الأول: إثبات معية الله – تعالى – لعباده، وهذه هي المعية العامة.
وفي الحديث الثاني: إثبات قربه من عبده المصلي مع علوه – سبحانه-( )، فإن ((العبد إذا قام إلى الصلاة، فإنه يستقبل ربه، وهو فوقه، فيدعوه من تلقائه لا من يمينه، ولا من شماله، ويدعوه من العلو لا من السفل))( )، فالحديث ((حق على ظاهره، وهو – سبحانه- فوق العرش، وهو قبل وجه المصلي، بل هذا الوصف يثبت للمخلوقات، فإن الإنسان لو أنه يناجي السماء، أو يناجي الشمس، والقمر لكانت السماء، والشمس، والقمر فوقه، وكانت أيضاً قبل وجهه))( ).
وفي الحديث الثالث: إثبات أوليته، وآخريته، وظاهريته، وباطنيته، فإنه – سبحانه – قد ((سبق كل شيء بأوليته، وبقي بعد كل شيء بآخريته، وعلا على كل شيء بظهوره، وأحاط بكل شيء ببطونه))( )، وقد تقدم الكلام على هذه الصفات.
وفي الحديث الرابع: إثبات قربه – جل وعلا – من عبده إذا دعاه( ).
  
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها، فافعلوا))متفق عليه( ).
في هذا الحديث إثبات رؤية الله – تعالى – يوم القيامة ((وقد تواترت فيه الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم عند علماء الحديث))( ). ((وهذا الحديث متفق عليه من طرق كثيرة، وهو مستفيض، بل متواتر عند أهل العلم بالحديث اتفقوا على صحته))( ).
وفي الحديث ((شبه رؤيته برؤية أظهر المرئيات، إذا لم يكن ثم حجاب منفصل عن الرائي يحول بينه، وبين المرئي))( )، وذلك لبيان أنه ((– سبحانه – يتجلى تجلياً ظاهراً، فيرونه كما يرون الشمس والقمر))( ).
وأما قوله في الحديث: ((لا تضامون))فإنه ((يروى بالتخفيف: أي لا يلحقكم ضيم في رؤيته كما يلحق الناس عند رؤية الشيء الحسن كالهلال))( )، ((وقيل: لا تضامون، بالتشديد، أي: لا ينضم بعضكم إلى بعض كما يتضام الناس عند رؤية الشيء الخفي كالهلال))( )، فالمعنى: ((لا يلحقكم ضير ولا ضيم))( )، وهذا كله ((بيان لرؤيته في غاية التجلي والظهور بحيث لا يلحق الرائي ضير، ولا ضيم كما يلحقه عند رؤية الشيء الخفي، والبعيد، والمحجوب، ونحو ذلك))( ).
إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه بما يخبر به، فإن أهل السنة والجماعة يؤمنون بذلك كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه العزيز من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل.
وقد تقدم تفصيل هذا، وبيانه، ولله الحمد.
  
بل هم وسط في فرق الأمة، كما أن الأمة هي الوسط بين الأمم.
وبيان هذا أن ((أهل السنة والجماعة في الإسلام كأهل الإسلام في أهل الملل))( )، وسيأتي ذكر نماذج لوسطية أهل السنة في بعض مسائل العقيدة، وليس ذلك خاصاً بهذه الأبواب التي ذكرها المؤلف رحمه الله، بل هم ((كذلك في سائر أبواب السنة هم وسط، لأنهم متمسكون بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين، والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان))( )، فهم، ولله الحمد ((متوسطون في جميع الأمور))( ).
 أما وسطية أمة الإسلام بين الأمم فلا يشك منصف ((أن المسلمين هم عدل، متوسطون، لا ينحرفون إلى غلو، ولا إلى تقصير. أما اليهود، والنصارى فهم على طرفي نقيض، هؤلاء ينحرفون إلى جهة، وهؤلاء ينحرفون إلى الجهة التي تقابلها كتقابلهم في النسخ، وكذلك تقابلهم في التحريم، والتحليل، والطهارة، والنجاسة))( ). فالمسلمون ((وسط كما قال – تعالى – فيهم: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143] أي: عدلاً خياراً))( )، وهذا في الحقيقة ((باب يطول وصفه))( ).
  
فهم وسط في باب صفات الله – سبحانه، وتعالى – بين أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة،
وبيان هذا أن أهل السنة والجماعة في: ((باب أسماء الله، وآياته، وصفاته وسط بين أهل التعطيل الذين يلحدون في أسماء الله، وآياته ويعطلون حقائق ما نعت الله به نفسه، حتى يشبهوه بالعدم، والموات، وبين أهل التمثيل الذين يضربون له الأمثال، ويشبهونه بالمخلوقات))( ) فأهل السنة ((يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسله من غير تعطيل، ولا تمثيل، إثباتاً لصفات الكمال، وتنزيهاً له عن أن يكون له فيها أنداد، وأمثال، إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل))( ).
  
وهم وسط في باب أفعال الله – تعالى – بين الجبرية، والوعيدية من القدرية، وغيرهم،
بيان ذلك أن أهل السنة والجماعة ((وسط في باب أفعال الله – عز وجل – بين المعتزلة المكذبين بالقدر))( )، ((الذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة، ومشيئته الشاملة، وخلقه لكل شيء))( )، وبين ((الجبرية النافين لحكمة الله، ورحمته، وعدله، والمعارضين بالقدر أمر الله، ونهيه، وثوابه، وعقابه))( )، و ((المفسدين لدين الله الذين يجعلون العبد ليس له مشيئة، ولا قدرة، ولا عمل، فيعطلون الأمر، والنهي، فيصيرون بمنزلة المشركين الذين قالوا: ﴿لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 148].
فيؤمن أهل السنة بأن الله على كل شيء قدير، فيقدر أن يهدي العباد، ويقلب قلوبهم، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في ملكه ما لا يريد، ولا يعجز عن إنفاذ مراده، وأنه خالق كل شيء من الأعيان، والصفات، والحركات، ويؤمنون أن العبد له قدرة ومشيئة، وعمل، وأنه مختار، ولا يسمونه مجبوراً، إذ المجبور من أكره على خلاف اختياره، والله – سبحانه – جعل العبد مختاراً لما يفعله، فهو مختار مريد، والله خالقه، وخالق اختياره، وهذا ليس له نظير، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله))( ).
  
وفي باب وعيد الله بين المرجئة، والوعيدية من القدرية، وغيرهم.
وبيان ذلك أن أهل السنة والجماعة وسطٌ ((في باب الوعد، والوعيد بين الوعيدية الذين يقولون بتخليد عصاة المسلمين في النار))( )، و ((يكذبون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم))( )، و ((بين المرجئة الذين يجحدون بعض الوعيد، وما فضل الله به الأبرار على الفجار))( )، و ((مسألة الوعد والوعيد من أكبر مسائل العلم))( ). ((فيؤمن أهل السنة والجماعة بأن فساق المسلمين لا يخلدون في النار، بل يخرج منهم من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، أو مثقال خردلة من إيمان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ادخر شفاعته لأهل الكبائر من أمته))( ). ((فأهل السنة والجماعة لا يوجبون العذاب في حق كل من أتى كبيرة، ولا يشهدون لمسلم بعينه بالنار لأجل كبيرة واحدة عملها، بل يجوز عندهم أن صاحب الكبيرة يدخله الله الجنة بلا عذاب، إما لحسنات تمحو كبيرته منه، أو من غيره؛ وإما لمصائب كفرتها عنه، وإما لدعاء مستجاب منه، أو من غيره فيه؛ وإما لغير ذلك. والوعيدية من الخوارج، والمعتزلة يوجبون العذاب في حق أهل الكبائر لشمول نصوص الوعيد لهم))( )، ((فعارضهم غالية المرجئة بنصوص الوعد، فقال الأولون: لا تتناول إلا مؤمناً، وهؤلاء ليسوا بمؤمنين، وقال الآخرون: نصوص الوعيد لا تتناول إلا كافراً، وكل من القولين خطأ))( ).
((والتحقيق أن يقال: الكتاب، والسنة مشتملان على نصوص الوعد، والوعيد، وكل من النصوص يفسر الآخر، ويبينه، فكما أن نصوص الوعد على الأعمال الصالحة مشروطة بعدم الكفر المحبط؛ لأن القرآن قد دل على أن من ارتد فقد حبط عمله، فكذلك نصوص الوعيد للكفار، والفساق مشروطة بعدم التوبة؛ لأن القرآن قد دل على أن الله يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب، وهذا متفق عليه بين المسلمين))( ).
ومما ينبغي أن يعلم في هذا الباب أن ((تناول نصوص الوعد للشخص مشروط بأن يكون عمله خالصاً لوجه الله، موافقاً للسنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل ليقال؛ فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)( ).
وكذلك تناول نصوص الوعيد للشخص مشروط بأن لا يكون متأولاً، ولا مجتهداً مخطئاً، فإن الله عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان))( ).
  
وفي باب أسماء الإيمان، والدين بين الحرورية، والمعتزلة، وبين المرجئة، والجهمية.
((والمراد بالأسماء: أسماء الدين مثل: مؤمن، ومسلم، وكافر، وفاسق ))( ). فأهل السنة والجماعة((وسط بين الوعيدية الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار، ويخرجونهم من الإيمان بالكلية، وبين المرجئة الذين يقولون: إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء))( ).
((فيؤمن أهل السنة والجماعة بأن فساق المسلمين معهم بعض الإيمان، وأصله، وليس معهم جميع الإيمان الواجب الذي يستوجبون به الجنة))( ).
وأما الحرورية، وهم الخوارج، وكذلك المعتزلة فيقولون: ((صاحب الكبائر الذي لم يتب منها مخلد في النار، ليس معه شيء من الإيمان، ثم الخوارج تقول: هو كافر. والمعتزلة توافقهم على الحكم لا على الاسم))( )، فيقولون فيه: ((بل ينزل منزلة بين المنزلتين، فنسميه فاسقاً لا مسلماً، ولا كافراً))( ).
وأما المرجئة والجهمية فعندهم أن صاحب الكبيرة مؤمن كامل الإيمان( )، فهؤلاء ((وافقوا أهل السنة على أنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد، ثم ظنوا أن هذا لا يكون إلا مع وجود كمال الإيمان))( ).
((فقالوا: كل فاسق فهو كامل الإيمان))( )، وسيأتي مزيد بحث لهذا إن شاء الله – تعالى-.
  
وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرافضة والخوارج.
وبيان ذلك أن أهل السنة والجماعة ((وسط في أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم بين الغالي في بعضهم، الذي يقول بإلهية أو نبوة أو عصمة، والجافي فيهم الذي يكفر بعضهم أو يفسقه، وهم خيار هذه الأمة))( ).
فهم ((وسط بين الغالية الذين يغالون في علي رضي الله عنه، فيفضلونه على أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، ويعتقدون أنه الإمام المعصوم دونهما، وأن الصحابة ظلموا، وفسقوا وكفروا الأمة بعدهم كذلك، وربما جعلوه نبياً أو إلهاً، وبين الجافية الذين يعتقدون كفره، وكفر عثمان رضي الله عنه، ويستحلون دماءهما، ودماء من تولاهما، ويستحبون سب علي، وعثمان، ونحوهما، ويقدحون في خلافة علي رضي الله عنه وإمامته))( ).
وليعلم ((أن أهل السنة في كل مقام أصح نقلاً، وعقلاً من غيرهم؛ لأن ذلك من تمام ظهور ما أرسل الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من الهدى، ودين الحق ليظهره على الدين كله، ظهوره بالحجة، وظهوره بالقدرة))( ). فأهل((السنة نقاوة المسلمين))( )، والحمد لله رب العالمين.
  

وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله، الإيمان بما أخبر الله به في كتابه، وتواتر عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه سلف الأمة من أنه – سبحانه – فوق سماواته على عرشه، علي على خلقه.
وبيان ذلك أن ((كتاب الله – تعالى – من أوله إلى آخره، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة، والتابعين، ثم كلام سائر الأئمة: مملوء بما هو إما نص، وإما ظاهر في أن الله – سبحانه وتعالى – هو العلي الأعلى، وهو فوق كل شيء، وهو على كل شيء، وأنه فوق العرش، وأنه فوق السماء))( ). وأدلة هذا في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ((مما لا يحصيه إلا الله مما هو من أبلغ المتواترات اللفظية، والمعنوية التي تورث علماً يقيناً من أبلغ العلوم الضرورية أن الرسول صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله ألقى إلى أمته المدعوين أن الله – سبحانه – على العرش وأنه فوق السماء))( ). والمنقول ((عن السلف في ذلك – أي إثبات ما تقدم – من الأقوال ما لو جمع لبلغ مئين أو ألوفاً.
ثم ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من سلف الأمة – لا من الصحابة، ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا عن الأئمة الذين أدركوا زمن الأهواء، والاختلاف – حرف واحد يخالف ذلك، لا نصاً، ولا ظاهراً))( ). ((بل أهل السنة، والحديث، وسلف الأمة متفقون على أنه فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه، ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، وعلى ذلك نصوص الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة، وأئمة السنة، بل على ذلك جميع المؤمنين، والأولين، والآخرين


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق