الرد على )المنامات) الصوفية=لقد رصد "المازَري" المتوفى سنة (536 هـ)، أقوال من سبقوا "فرويد" إلى شبيه هذا الكلام من معاصريه، فقال -رحمه الله تعالى-:
"كثُر
كلام الناس في حقيقة الرؤيا، وقال فيها غير الإسلاميين أقاويل كثيرة
منكرة، لأنهم حاولوا الوقوف على حقائق لا تُدْرَك بالعقل، ولا يقوم عليها
برهان، وهم لا يصدقون بالسمع، فاضطربت أقوالهم" (1). اهـ.
إن قطع النفس
عن عالم الروح وعن الغيب؛ وعن الصلة بخالقها -عز وجل- يُضَيِّق الرؤية
أمامنا في موضوع الرؤية، ويحرمنا فرصة الفهم العميق، والإدراك الصحيح
الدقيق (2).
ويقول الدكتور عمر الأشقر -حفظه اللَّه-:
"وكثيرٌ
من الناس اليوم يُبَادِرُونَ بالتكذيب بالرؤى والأحلام، ويزعمون أن الرؤى
المنامية ليست إلا انعكاسات لما يَجُولُ في فكر الإنسان في حال يقظته، وما
يُخْتَزَنُ في فكره الباطن، فإذا ما استسلم للرقاد، وطاف في أودية الكرى،
فإن عقله الباطن يعمل، فيحقق المرء في نومه ما لم يَسْتَطِعْ تحقيقه في
عالم اليقظة.
ونحن لا نُنْكِرُ أن قِسْمًا كبيرًا من الرؤى ليس إلا
انعكاسات لأحاديث النفس وخواطرها التي تمر بها في اليقظة، ولكننا نرفض
رفضًا قاطعًا أن تكون جميع الرؤى كذلك، ونقول: إن هذا تَحكُّمٌ يَعْلَمُ
كَذِبَهُ كلُّ من تفكر في رؤاه التي مرت به، أو التي سمع الناس يروونها،
ويُحَدِّثُونَ بها عن أنفسهم، كيف بالله نُفَسِّرُ رؤيا امرأة رأت وليدها
يسقط من سطح منزل، وفي الصباح يخرج فلا يعود؛ لأن سيارة داهمته، وأودت
بحياته؟!
وكيف نُفَسِّرُ رؤيا رجل يري نفسه وقد سافر إلى بلد، وسكن منزلًا معينًا رأي في المنام معالمه، فلا تمضي شهور حتى يكون في ذلك المنزل الذي رآه في منامه؟
وكيف نُفَسِّرُ رؤيا رجل رأى أنه سافر، وتعطلت سيارته على صورة ما،
وينسى
الرؤيا، ولا يذكرها إلا حينما يرى المشهد الذي رآه في المنام حقيقة
ماثلة؟! أذكر أن "محمد أسد"؛ وكان كاتبًا يهوديًّا، ثم اعتنق الإسلام،
حَدَّثَ في كتابه "الطريق إلى مكة" عن رؤيا رآها قبل إسلامه، وقام من
منامه، وسَجَّلَهَا، وقد تحققت فيما بَعْدُ، على الرغم من طولها، وكثرة
أحداثها.
إذن، ليس كل الرؤى انعكاسات لأحاديث النفس وخواطرها وهواجسها، بل الأمر أعمق من ذلك.
والإنسان
ليس بِمُطيقٍ بعقله وفكره أن يصل إلى أعماق نفسه؛ ففي النفس الإنسانية
مَجَاهِيلُ يعجز الإنسان عن الإحاطة بها، علي الرغم من أنها أقرب الأمور
إليه.
والرؤى لها علاقة بالنفوس الإنسانية، وفيها جانب غيبي، لا يخضع للعلم المادي المبني على النظر والتأمل والبحث المادي" (1) القول الفصل، والمنهج الوسط في شأن الرؤى
قال
تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا
هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ
الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ
لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) (1)} [يونس: 62
- 64].
وعن عبادة بن الصامت -رضي اللَّه عنه- قال: سألت رسول اللَّه
-صلى الله عليه وسلم- عن قوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا} قال: "هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو تُرى له" (2).
وعن
ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: كشف رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-
السِّتْرَ ورأسه معصوب في مرضه الذي مات فيه، فقال: "اللهم هل بلغت؟ -ثلاث
مرات- إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا يراها العبد الصالح أو تُرى
له" (3).
وعن أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه- قال رسول اللَّه -صلى
اللَّه عليه وسلم-: "إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا
نبيَّ"، قال: فَشَقَّ ذلك على الناس، فقال: "لكن المُبَشِّراتُ"، قالوا:
"يا رسول اللَّه، وما المبشرات؟ " قال: "رؤيا المسلم، وهي جزء من أجزاء
النبوة" (4).
وعن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-
قال: "الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة" (1).
وقد
أَغْنَانَا الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- عن إتعاب النفس في هذا الموضوع،
وقال لنا فيه الكلمة الحق؛ وهي الكلمة الفصل التي لا نحتاج معها إلي غيرها
(2)؛ وذلك أنها تمثل الحقيقة، وتُفَسِّرُ الأمر تفسيرًا يدرك الإنسان صدقه
عندما ينظر إلى رؤاه، ورؤى الناس في ضوء ما أخبر به المصطفى -صلى اللَّه
عليه وسلم-.
يقول الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديث الذي يرويه ابن ماجه:
"إنَّ
الرُّؤيَا ثَلَاثٌ: مِنْهَا أَهَاوِيلُ مِنَ الشَّيْطَانِ ليَحْزُنَ بِهَا
ابْنَ آدَمَ، وَمِنْهَا مَا يَهمُّ بِهِ الرَّجُلُ في يَقَظَتِهِ
فَيَرَاهُ في مَنَامِهِ، ومِنْهَا جُزْءٌ مِنْ ستَّةٍ وأَرْبَعينَ جُزْءًا
مِنَ النُّبُوَّةِ" (3).
وفي الحديث الآخر عند الترمذي: "الرُّؤيَا
ثَلَاث: الحْسَنَةُ بُشْرَى مِنَ اللَّهِ، والرُّؤيَا يُحَدِّثُ الرَّجُلُ
بِهَا نَفْسَهُ، والرُّؤيَا تَحْزِين مِنَ الشَّيْطَانِ" (4).
الذي قَرَّرَهُ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في الرؤيا أنها ثلاثة:
الأول:
حَديث النفس؛ وهي التي أسماها العلماء المادِّيُّونَ بالانعكاسات النفسية؛
وهي خواطر النفس، وتطلعاتها التي تصبو إلى تحقيقها في واقع الحياة، فتراها
في المنام، إذ تحلم بممارسة أمور لم تستطع تحقيقها في واقع الحياة.
النَّوْعُ الثَّانِي: من الرؤى التي أخبر بها الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-:
هي
الرؤيا التي يسببها الشيطان؛ فإنه قد يُمَثِّل للإنسان في منامه رؤيا
مفزعة، تبلبل خواطره، وتُرْهِق نفسه، وتَجْعَلُهُ يجول في عوالِمَ بعيدة،
حَذِرًا متخوفًا، وفي الحديث: "الرُّؤيَا الصَّالحِةُ مِنَ اللَّهِ،
والحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا رَأي أَحَدُكم ما يحبُّ، فلا
يُحدِّثْ بهِ إلَّا مَن يُحِب، وإذا رأى مَا يَكْرَهُ فَلْيَتَعَوَّذْ
بِاللهِ مِنْ شَرِّهَا، وشَرِّ الشَّيْطَانِ، وَلْيَتْفُلْ ثَلَاثًا، وَلَا
يُحَدِّثْ بِهَا أَحَدًا، فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ" متفق عليه (1).
وقد
جاء رجل إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "رَأَيْتُ في المنَامِ
كَأَنَّ رَأسِي قَدْ قُطِع، قَالَ: فَضَحِكَ النَّبِيُّ -صلى اللَّه عليه
وسلم-، وقَالَ: "إِذَا لَعِبَ الشَّيْطَانُ بِأَحَدِكمْ في مَنَامِهِ فَلَا
يُحَدِّثْ بِهِ النَّاسَ" رواه مسلم (2).
والشيطان لديه القدرة على
الوسوسة في صدور الناس {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي
يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)} [الناس: 4 - 5]، وفي الحديث: "إنَّ
الشَيْطَانَ يَجْرِي مِن ابْنِ آدمَ مَجْرَى الدَّمِ"، فلديه القدرة على أن
يُمَثِّلَ للنفس في منامها أمورًا تفْزِغهَا وتَحْزُنُهَا.
النَّوْعُ
الثَّالِثُ: رؤيا لم يُفَكِّرْ بِهَا صاحبها يومًا، ولم تخطر على باله، وهي
بَعِيدَةٌ كل البعد عن تفكيره، وقد يراها بصورة جلية، لا تحتاج إلي تفسير
ولا إلىتأويل، وقد تكون أمثالًا مضروبة، وأحداثًا مسبوكة، تحتاج إلي علم وتقدير،
وفهم ثاقب، ونظر بعيد، وما كل من رُزِقَ علمًا رُزِقَ فَهْمًا بتأويل
الأحلام والرؤى.
وهذا النوع من الرؤى هو البقية الباقية من حقيقة
النبوة، فالوحي قد انقطع، والنبوة قد خُتِمَتْ، ولم يَبْقَ إلا هذه الرؤى،
وهي المبشرات، يَقُولُ الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَمْ يَبْقَ مِنَ
النُّبُوَّةِ إِلَّا المُبَشّرَاتُ"، قَالُوا: وَمَا المُبَشِّرَاتُ؟
قَالَ: "الرُّويَا الصَّالِحةُ" رواه البخاري (1).
وزاد مالك برواية عطاء بن يسار: "يَرَاهَا الرَّجُلُ المُسْلِمُ، أوْ تُرَى لَهُ".
وعن
أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه
وسلم-: "الرُّويَا الصَّالحِةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا
مِنَ النُّبُوَّةِ" متفق عليه (2).
وإذا كانت الرؤيا من الرسول
والأنبياء فهي حق لا تُكذَّبُ، بل هي وحي إلهي، وقد بادر خليل الرحمن
إبراهيم إلى ذبح ولده عندما رأي في المنام أنه يذبحه، وما ذلك إلا لأن
رؤياه وحي.
وغير الأنبياء تقع له الرؤيا الحق، وتكون دلائل الصدق عليها
بينة، إلا أننا لا نستطيع أن نجزم بأنها رؤيا حق إلا إذا تحققت على النحو
الذي رآه صاحبه في منامه.
تنبيه: حول معنى كون الرؤيا جزءًا من النبوة:
معنى كون الرؤيا الصادقة أو الصالحة جزءًا من أجزاء النبوة: أنها شابهتها، أو شاركتها في الصلاح، والإخبار عن أمرٍ غيبي مستقبل (1).
ولا
يُفهم من هذا أن رؤيا الكافر إذا كانت صادقة -كرؤيا الملك التي فسرها له
يوسف -عليه السلام-، وكذلك رؤيا صاحبيه في السجن- أنَّها تكون من أجزاء
النبوة، فإن أكثر الروايات جاءت مقيدة بالمسلم أو المؤمن.
ثم إنه ليس كل من صدق في حديث عن غيب كان ذلك من أجزاء النبوة، أو كان ذلك دليلًا على صلاحه واستقامته، وإلا لكان الكهان كذلك؟!
قال
أبو العباس القرطبي: والرؤيا لا تكون من أجزاء النبوة إلا إذا وقعت من
مسلم صادق صالح، وهو الذي يُناسب حاله حال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-
فأُكرِم بنوع مما أُكرم به الأنبياء، وهو الاطِّلاع على شيء من علم الغيب،
كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا
الرؤيا الصادقة في النوم، يراها الرجل الصالح أو تُرى له" (2).
فإن
الكافر والكاذب والمخلِّط -وإن صدقت رؤياهم في بعض الأوقات- لا تكون من
الوحي ولا من النبوة، إذ ليس كل من صدق في حديث عن غيب يكون خبره ذلك نبوة،
وقد قدمنا أن الكاهن يُخبر بكلمة الحق وكذلك المنجم قد يحدِس فيصدق، لكن
على الندور والقلِّة" (3). غلو المُفرِطين في شأن الرُّؤى
بإزاء أهل
"الجفاء والتفريط" الماديين في شأن الرؤى، وُجد على الطرف الآخر -وكلا
طَرَفَيْ قصدِ الأمورِ ذميمُ- فريق الغلو والإفراط، وهؤلاء غَلَوْا في شأن
الرؤى، وتمدد سلطانها، وتضخم تأثيرها على مسار حياتهم، كأنها وحي معصوم،
فترى الواحد منهم ينتظر -في كل موقف- رؤيا تشير عليه بالطريق (1)، بل منهم
من رأى أن الرؤية حجة شرعية يستمد منها الأحكام التكليفية تمامًا كما
يستمدها علماء الشرع من القرآن والسنة.
(تضايق ناسٌ من وجود حاكم من
الحُكَّام، وأصبحوا يتحدثون عن أمراضه، وقرب وفاته، فإذا بكثير منهم يرى في
المنام أنه سيموت في شهر كذا، أو قبل شهر كذا، ثم يؤولها لهم واحد ممن على
شاكلتهم، فيجزمون أنه لا يصلي العيد مع المسلمين، ويؤكدون بأن هذه الرؤى
تواطأت، وأنه لا يمكن تكذيبها أو جحدها، ولا يمكن التشكيك في حصولها، فما
الذي حدث؟ لقد صلى العيد وأعيادًا أخرى بعده.
وآخرون ثَقُلَ عليهم ما
يُعَانيهِ المسلمون من اليهود فطاشت نفوسهم إلي أحلام رأوا فيها أن معارك
واجتياحات يهودية لبلدان المسلمين؛ سوف تحصل في عام كذا وكذا، وبدءوا يضعون
الخطط والاستراتيجيات، والتوقعات، لمواجهة هذا العدوان في هذا التاريخ)
(2).
(وفي بعض الجمعيات الإسلامية انشق فريق من أعضائها على قيادتهم، وناصبوها العِدْاء بناءً على رؤى رآها بعضهم، كأنما اعتبروها وحيًا.
وحكى
أحد الصحافيين أن أحد حكام المسلمين -بعد أن قرر إجراء الانتخابات في بلده
في موعد معين- عاد فألغاها نتيجة رؤيا رآها، حذَّرته من عواقبها. هكذا
امتد سلطان المنامات لتتحكم في الدين والسياسة وسائر شئون الحياة) (1).
لقد
كان من أسباب افتتان بعض الناس، ومتابعتهم لأولئك الذين احتلوا الحرم
المكي، واعتصموا به، تلك الرؤى التي رآها بعض الكبار والصغار، والنساء
والرجال، وهي في جملتها تشير إلى أن المدعو محمد عبد اللَّه القحطاني هو
المهدي الذي بَشَّرَ به الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- (2)، وقد تبين للناس
اليوم أن تلك الرؤى لم تكن صادقة؛ لأن ذلك الرجل ليس هو المهدي، وإلا لو
كان هو لم يقتل، ولبقي حتى يملأ الأرض عدلا كما مُلِئَتْ جورًا وظُلْمًا؛
فذلك من علاماته الثابتة في الأحاديث، ولو كان فينا رسول اللَّه -صلى
اللَّه عليه وسلم- لعرَّفَنا بالرؤيا الباطلة إذا اشتبهت الأمور، أما ونحن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق