الاثنين، 7 سبتمبر 2015


من سحر فقد أشرك


قوله :  وللنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : " من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر . ومن سحر فقد أشرك . ومن تعلق شيئاً وكل إليه "  هذا حديث ذكره المصنف من حديث أبي هريرة وعزاه للنسائي . وقد رواه النسائي مرفوعاً وحسنه ابن مفلح .


قوله :  وللنسائي  هو الإمام الحافظ أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر بن دينار أبو عبد الرحمن صاحب السنن وغيرها . وروى عن محمد بن المثنى وابن بشار وقتيبة وخلق ، وكان إليه المنتهي في العلم بعلل الحديث ، مات سنة ثلاث وثلثمائة ، وله ثمان وثمانون سنة رحمه الله تعالى .


قوله :  من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر اعلم أن السحرة إذا أرادوا عمل السحر عقدوا الخيوط ونفثوا على كل عقدة ، حتى ينعقد ما يريدون من السحر ، قال الله تعالى : " ومن شر النفاثات في العقد " يعني السواحر اللاتي يفعلن ذلك ، والنفث هو النفخ مع الريق ، وهو دون التفل . والنفث فعل الساحر ، فإذا تكيفت نفسه بالخبث والشر الذي يريده المسحور ويستعين عليه بالأرواح الخبيثة نفخ في تلك العقيدة نفخاً معه ريق . فيخرج من نفسه الخبيثة نفس ممازج للشر والأذى مقارن للريق الممارج لذلك ، وقد يتساعد هو والروح الشيطانية على أذى المسحور فيصيبه بإذن الله الكونى القدرى لا الشرعي ، قاله ابن القيم رحمه الله تعالى .


قوله :  ومن سحر فقد أشرك  نص في أن الساحر مشرك ، إذا لا يتأتى السحر بدون الشرك كما حكاه الحافظ عن بعضهم .


قوله :  ومن تعلق شيئاً وكل إليه  أي من تعلق قلبه شيئاً : بحيث يعتمد عليه ويرجوه وكله الله إلى ذلك الشئ . فمن تعلق على ربه وإلهه وسيده ومولاه رب كل شئ ومليكه ، كفاه ووقاه وحفظه وتولاه . فنعم المولى ونعم النصير . قال تعالى: ' 39 : 36 ' " أليس الله بكاف عبده " ومن تعلق على السحرة والشياطين وغيرهم من المخلوقين وكله الله إلى من تعلق فهلك . ومن تأمل ذلك في أحوال الخلق ونظر بعين البصيرة رآى ذلك عياناً ، وهذا من جوامع الكلم . والله أعلم .


قال :  وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا هل أنبئكم ما العضه ؟ هي النميمة ، القالة بين الناس " رواه مسلم  .


قوله :  ألا هل أنبئكم  أخبركم و العضه  بفتح المهملة وسكون المعجمة ، قال أبو السعادات : هكذا يروي في كتب الحديث . والذي في كتب الغريب  ألا أنبئكم ما العضه  بكسر العين وفتح الضاد . قال الزمخشري : أصلها  العضهة  فعلة من العضة وهو البهت . فحذفت لامه ، كما حذفت من السنة والشفة ، وتجمع على عضين ثمن فسره بقوله : هي النميمة القالة بين فأطلق عليها العضه لأنها لا تنفك من الكذب والبهتان غالباً . ذكره القرطبي .


وذكر ابن عبد البر عن يحيى بن أبي كثير قال :  يفسد النمام والكذاب في ساعة ما لا يفسد الساحر في سنة  . وقال أبو الخطاب في عيون المسائل : ومن السحر السعي بالنميمة والإفساد بين الناس . قال في الفروع : ووجهه أن يقصد الأذى بكلامه وعمله على وجه المكر والحيلة ، أشبه السحر ، وهذا يعرف بالعرف والعادة أنه يؤثر وينتج ما يعمله السحر ، أو أكثر فيعطى حكمه تسوية بين المتماثلين أو المتقاربين . لكن يقال : الساحر إنما يكفر لوصف السحر وهو أمر خاص ودليله خاص ، وهذا ليس بساحر . وإنما يؤثر عمله ما يؤثره فيعطي حكمه إلا فيما اختص به من الكفر وعدم قبول التوبة . انتهى ملخصاً .


وبه يظهر مطابقة الحديث للترجمة . وهو يدل على تحريم النميمة ، وهو مجمع عليه قال ابن حزم رحمه الله : اتفقوا على تحريم الغيبة والنميمة في غير النصيحة الواجبة . وفيه دليل على أنها من الكبائر .


قوله :القالة بين الناس  قال أبو السعادات : أي كثرة القول وإيقاع الخصومة بين الناس ومنه الحديث : "فشت القالة بين الناس".


 


إن من البيان لسحراً


قال :  ولهما عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن من البيان لسحر "  البيان البلاغة والفصاحة . قال صعصعة بن صوحان :  صدق نبي الله ، فإن الرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق ، فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق وقال ابن عبد البر تأوله طائفة على الذم . لأن السحر مذموم ، وذهب أكثر أهل العلم وجماعة أهل الأدب إلى أنه على المدح . لأن الله تعالى مدح البيان . قال : وقد قال عمر بن عبد العزيز لرجل سأله عن حاجة فأحسن المسألة فأعجبه قوله . قال : هذا ولله السحر الحلال انتهى . والأول أصح والمراد به البيان الذي فيه تمويه على السامع وتلبيس ، كما قال بعضهم :


في زخرف القول تزيين لباطله    والحق قد يعتريه سوء تعبير


مأخوذ من قول الشاعر :


تقول : هذا مجاج النحل ، تمدحه    وإن تشأ قلت : ذا قيء الزنابير


مدحاً وذماً ، وما جاوزت وصفهما    والحق قد يعتريه سوء تعبير


قوله :  إن من البيان لسحراً  هذا من التشبيه البليغ ، لكون ذلك يعمل عمل السحر ، فيجعل الحق في قالب الباطل ، والباطل في قالب الحق . فيستميل به قلوب الجهال ، حتى يقبلوا الباطل وينكروا الحق ، ونسأل الله الثبات والاستقامة على الهدى .


وأما البيان الذي يوضح الحق ويقرره ، ويبطل الباطل ويبينه . فهذا هو الممدوح . وهكذا حال الرسل وأتباعهم ، ولهذا علت مراتبهم في الفضائل وعظمت حسناتهم .


وبالجملة فالبيان لا يحمد إلا إذا لم يخرج إلى حد الإسهاب والإطناب ، وتغطية الحق ، وتحسين الباطل . فإذا خرج إلى هذا فهو مذموم . وعلى هذا تدل الأحاديث كحديث الباب وحديث " إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها " رواه أحمد وأبو داود .


 


باب ما جاء في الكهانة


قوله : ( باب ما جاء في الكهان ونحوهم )


 الكاهن  هو الذي يأخذ عن مسترق السمع ، وكانوا قبل المبعث كثيراً . وأما بعد المبعث فإنهم قليل . لأن الله تعالى حرس السماء بالشهب . وأكثر ما يقع في هذه الأمة ما يخبر به الجن أولياءهم من الإنس عن الأشياء الغائبة بما يقع في الأرض من الأخبار ، فيظنه الجاهل كشفاً وكرامة ، وقد اغتر بذلك كثير من الناس يظنون المخبر لهم بذلك عن الجن ولياً لله . وهو من أولياء الشيطان ، كما قال تعالى : ' 6 : 128 ' " ويوم يحشرهم جميعاً يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم " .


 


من أتى عرافاً فصدقه لا تقبل له صلاة


قوله :  روى مسلم في صحيحه  عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أتى عرافاً فسأله عن شئ ، فصدقه بما يقول ، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً "  .


قوله : عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم  هي حفصة ، ذكره أبو مسعود الثقفي . لأنه ذكر هذا الحديث في الأطراف في مسندها .


قوله :  من أتى عرافاً  سيأتي بيان العراف إن شاء الله تعالى . وظاهر هذا الحديث أن الوعيد مرتب على مجيئه وسؤاله ، سواء صدقه أو شك في خبره . فإن في بعض روايات الصحيح "من أتى عرافاً فسأله عن شئ لم تقبل له صلاة أربعين ليلة " .


قوله :  لم تقبل له صلاة  إذا كانت هذه حال السائل ، فكيف بالمسئول ؟ قال النووي وغيره : معناه أنه لا ثواب له فيها ، وإن كانت مجزئة بسقوط الفرض عنه ، ولا بد من هذا التأويل في هذا الحديث ، فإن العلماء متفقون على أنه لا يلزم من أتى العراف إعادة صلاة أربعين ليلة . ا هـ ملخصاً .


وفي الحديث النهي عن إتيان الكاهن ونحوه . قال القرطبي : يجب على من قدر على ذلك من محتسب وغيره أن يقيم من يتعاطى شيئاً من ذلك من الأسواق وينكر عليهم أشد النكير ، وعلى من يجيء إليهم ، ولا يغتر بصدقهم في بعض الأمور ولا بكثرة من يجيء إليهم من ينتسب إلى العلم ، فإنهم غير راسخين في العلم بل من الجهال بما في إتيانهم من المحذور .


 


من أتى كاهناً فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد


قال :  عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم " رواه أبو داود  .


وفي رواية أبي داود  أو أتى امرأة ـ قال مسدد : امرأته حائضاً ـ أو أتى امرأة . قال مسدد : امرأته في دبرها ـ فقد بريء مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم  فناقل هذا الحديث من السنن حذف منه هذه الجملة واقتصر على ما يناسب الترجمة .


قال :  وللأربعة والحاكم ـ وقال صحيح على شرطهما عن النبي صلى الله عليه وسلم من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم  .


هكذا بيض المصنف لاسم الراوي . وقد رواه أحمد والبيهقي والحاكم عن أبي هريرة مرفوعاً .


قوله :  من أتى كاهناً  قال بعضهم لا تعارض بين هذا وبين حديث من أتى عرافاً فسأله عن شئ لم تقبل له صلاة أربعين ليلة هذا على قول من يقول هو كفر دون كفر ، أما على قول من يقول بظاهر الحديث فيسأل عن وجه الجمع بين الحديثين . وظاهر الحديث أن يكفر متى اعتقد صدقه بأي وجه كان . وكان غالب الكهان قبل النبوة إنما كانوا يأخذون عن الشياطين .


قوله :فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم قال القرطبي : المراد بالمنزل الكتاب والسنة . ا هـ . وهل الكفر في هذا الموضع كفر دون كفر ، فلا ينقل عن الملة ، أم يتوقف فيه ، فلا يقال يخرج عن الملة ولا يخرج ؟ وهذا أشهر الروايتين عن أحمد رحمه الله تعالى .



قال :  ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله مرفوعاً  .


أبو يعلى اسمه أحمد بن علي بن المثنى الموصلى الإمام صاحب التصانيف كالمسند  وغيره . روى عن يحيى بن معين وأبى بكر بن أبي شيبة وخلق . وكان من الأئمة الحفاظ ، مات سنة سبع وثلاثمائة ، وهذا الأثر رواه البزار أيضاً ولفظه : من أتى كاهناً أو ساحراً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وفيه دليل على كفر الكاهن والساحر لأنهما يدعيان علم الغيب وذلك كفر ، والمصدق لهما يعتقد ذلك ويرضى به وذلك كفر أيضاً .


 


التحذير من الطيرة . والكهانة والسحر


قال :وعن عمران بن حصين رضي الله عنه مرفوعاً " ليس منا من تطير أو تطير له ، أو تكهن أو تكهن له ، أو سحر أو سحر له. ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم " رواه البزار بإسناد جيد ، ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله :  ومن أتى كاهناً  ....  الحديث .


قوله :  ليس منا  فيه وعيد شديد يدل على أن هذه الأمور من الكبائر وتقدم أن الكهانة والسحر كفر .


قوله : من تطير أي فعل الطيرة  أو تطير له أي قبل قول المتطير له وتابعه كذا معنى أو تكهن أو تكهن له كالذي يأتي الكاهن ويصدقه ويتابعه ، وكذلك من عمل الساحر له السحر .


فكل من تلقى هذه الأمور عمن تعاطاها فقد بريء منه رسول الله صلى الله عليه وسلم لكونها إما شركاً ، كالطيرة ، أو كفراً كالكهانة والسحر ، فمن رضي بذلك وتابع عليه فهو كالفاعل لقبوله الباطل واتباعه .


قوله : رواه البزار هو أحمد بن عمر بن عبد الخالق ، أبو بكر البزار البصري صاحب المسند الكبير  . وروى عن ابن بشار وابن المثنى وخلق ، مات سنة اثنتين وتسعين ومائتين .


قوله :  قال البغوي إلى آخره  البغوي ـ بفتحتين ـ هو الحسين بن مسعود الفراء الشافعي ، صاحب التصانيف  وعالم أهل خراسان ، كان ثقة ، فقيهاً زاهداً ، مات في شوال سنة ست عشرة وخمسمائة رحمه الله تعالى .


 


من هو الكاهن والعراف


قوله : العراف : الذي يدعى معرفة الأمور ظاهرة : أن العراف هو الذي يخبر عن الوقائع كالسرقة وسارقها والضالة ومكانها .


وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : إن العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ، كالحارز الذي يدعى علم الغيب أو يدعى الكشف .


وقال أيضاً : والمنجم يدخل في اسم العراف ، وعند بعضهم هو معناه .


وقال أيضاً : والمنجم يدخل في اسم الكاهن عند الخطابي وغيره من العلماء ، وحكى ذلك عن العرب . وعند آخرين هو من جنس الكاهن ، وأسوء حالاً منه ، فيلحق به من جهة المعنى .


وقال الإمام أحمد : العرافة طرف من السحر . والساحر أخبث .


وقال أبو السعادات : العراف المنجم ، والحارز الذي يدعى علم الغيب ، وقد استأثر الله تعالى به .


وقال ابن القيم رحمه الله تعالى : من اشتهر بإحسان الزجر عندهم سموه عائفاً ، وعرافاً .


والمقصود من هذا : معرفة أن من يدعى معرفة علم الشئ من المغيبات فهو إما داخل في اسم الكاهن ، وإما مشارك له في المعنى فيلحق به . وذلك أن إصابة المخبر ببعض الأمور الغائبة في بعض الأحيان يكون بالكشف . ومنه ما هو من الشياطين ويكون بالفأل والزجر والطيرة والضرب بالحصى والخط في الأرض والتنجيم والكهانة والسحر ، ونحو هذا من علوم الجاهلية ، ونعنى بالجاهلية كل من ليس من أتباع الرسل عليهم السلام ، كالفلاسفة والكهان والمنجمين ، وجاهلية العرب الذين كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن هذا علوم لقوم ليس لهم علم بما جاءت به الرسل صلى الله عليهم وسلم ، وكل هذه الأمور تسمى صاحبها كاهناً أو عرافاً أو في معناهما ، فمن أتاهم فصدقهم بما يقولون لحقه الوعيد . وقد ورث هذه العلوم عنهم أقوام فادعوا بها علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه ، وادعوا أنهم أولياء وأن ذلك كرامة .


ولا ريب أن من ادعى الولاية ، واستدل بإخباره ببعض المغيبات فهو من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن ، إن الكرامة أمر يجريه الله على يد عبده المؤمن التقى ، إما بدعاء أو أعمال صالحة لا صنع للولي فيها ، ولا قدرة له عليها ، بخلاف من يدعى أنه ولي ويقول للناس : اعلموا أني أعلم المغيبات ، فإن هذه الأمور قد تحصل بما ذكرنا من الأسباب ، وإن كانت أسباباً محرمة كاذبة في الغالب ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصف الكهان :  فيكذبون معها مائة كذبة  فبين أنهم يصدقون مرة ويكذبون مائة ، وهكذا حال من سلك سبيل الكهان ممن يدعى الولاية تزكية النفس المنهي عنها بقوله : ' 53 : 32 ' " فلا تزكوا أنفسكم " وليس هذا من شأن الأولياء ، فإن شأنهم الإزراء على نفوسهم وعيبهم لها ، وخوفهم من ربهم ، فكيف يأتون الناس ويقولون : اعرفوا أننا أولياء ، وأنا نعلم الغيب ؟ وفي ضمن ذلك طلب المنزلة في قلوب الخلق واقتناص الدنيا بهذه الأمور. وحسبك بحال الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ، وهم سادات الأولياء ، أفكان عندهم من هذه الدعاوى والشطحات شئ ؟ لا والله بل كان أحدهم لا يملك نفسه من البكاء إذا قرآ القرآن ، كالصديق رضي الله عنه ، وكان عمر رضي اله عنه يسمع نشيجه من وراء الصفوف يبكي في صلاته ، وكان يمر بالآية في ورده من الليل فيمرض منها ليالي يعودونه ، وكان تميم الداري يتقلب على فراشه ولا يستطيع النوم إلا قليلاً خوفاً من النار ثم يقوم إلى صلاته . ويكفيك في صفات الأولياء ما ذكره الله تعالى في صفاتهم في سورة الرعد والمؤمنين والفرقان والذاريات والطور فالمتصفون بتلك الصفات هم الأولياء الأصفياء ، لا أهل الدعوى والكذب ومنازعة رب العالمين فيما اختص به من الكبرياء والعظمة وعلم الغيب ، بل مجرد دعواه علم الغيب كفر . فكيف يكون المدعى لذلك ولياً لله ؟ ولقد عظم الضرر واشتد الخطب بهؤلاء المفترين الذين ورثوا هذه العلوم عن المشركين ، ولبسوا بها على خفافيش القلوب : نسأل الله السلامة والعافية في الدنيا والآخرة .


قوله :وقال ابن عباس في قوم يكتبون أبا جاد إلى آخره  هذا الأثر رواه الطبراني عن ابن عباس مرفوعاً . وإسناده ضعيف . ولفظه " رب معلم حروف أبي جاد دارس في النجوم ليس له عند الله خلاق يوم القيامة " ورواه حمد بن زنجويه عنه بلفظ  رب ناظر في النجوم ومتعلم حروف أبي جاد ليس له عند الله خلاق  .


قوله :  ما أرى  بجوز فتح الهمزة بمعنى : لا أعلم . ويجوز ضمها بمعنى : لا أظن وكتابه  أبي جاد  وتعلمها لمن يدعى بها علم الغيب هو الذي يسمى علم الحرف ، وهو الذي جاء في الوعيد ، فأما تعلمها للتهجي وحساب الحمل فلا بأس به .


قوله : وينظرون في النجوم أي يعتقدون أن لها تأثيراً كما سيأتي في باب التنجيم . وفيه من الفوائد عدم الاغترار بما يؤتاه أهل الباطل من معارفهم وعلومهم كما قال تعالى : ' 40 : 83 ' " فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون " .


 


باب ما جاء في النشرة ، وما هي النشرة


قوله : ( باب : ما جاء في النشرة )


بضم النون ، كما في القاموس ، قال أبو السعادات : النشرة ضرب من العلاج والرقية ، يعالج به من يظن أن به مساً من الجن ، سميت نشرة لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء ، أي يكشف ويزال .


قال الحسن : النشرة من السحر . وقد نشرت عنه تنشيراً ، ومنه الحديث : فلعل طباً أصابه ، ثم نشره بقل أعوذ برب الناس أي رقاه .


وقال ابن الجوزي : النشرة حل السحر عن المسحور . ولا يكاد يقدر عليه إلا من يعرف السحر .


قال : عن جابر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة ؟ فقال : " هي من الشيطان " رواه أحمد بسند جيد . وأبو داود وقال : سئل أحمد عنها فقال : ابن مسعود يكره هذا كله  .


هذا الحديث رواه أحمد ورواه عنه أبو داود في سننه . والفضل بن زياد في كتاب المسائل عن عبد الرزاق عن عقيل بن معقل بن منبه عن جابر فذكره قال ابن مفلح : إسناد جيد ، وحسن الحافظ إسناده .


قوله : سئل عن النشرة والألف واللام فيالنشرة للعهد أي النشرة المعهودة التي كان أهل الجاهلية يصنعونها هي من عمل الشيطان .


قوله :  وقال : سئل أحمد عنها فقال : ابن مسعود يكره هذا كله  أراد أحمد رحمه الله أن ابن مسعود يكره النشرة التي هي من عمل الشيطان كما يكره تعليق التمائم مطلقاً .


قوله :  وللبخاري عن قتادة : قلت لابن المسيب  رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته أيحل عنه ، أو ينشر ؟ قال : لا بأس به : إنما يريدون به الإصلاح فأما ما ينفع فلم ينه عنه  .


قوله :  عن قتادة  هو ابن دعامة ـ بكسر الدال ـ الدوسي ثقة فقيه من أحفظ التابعين . قالوا إنه ولد أكمه . مات سنة بضع عشرة ومائة .


قوله :  رجل به طب  بكسر الطاء . أي سحر ، يقال : طب الرجل ـ بالضم ـ ذا سحر . ويقال : كنوا عن السحر بالطب تفاؤلاً . كما يقال للديغ : سليم .


وقال ابن الأنباري : الطب من الأضداد . يقال لعلاج الداء طب ، والسحر من الداء يقال له طب .


قوله :  يؤخذ  بفتح الواو مهموزة وتشديد الخاء المعجمة وبعدها ذال معجمة . أي يحبس عن امرأته ولا يصل إلى جماعها . والأخذة ـ بضم الهمزة ـ الكلام الذي يقوله الساحر .


قوله :  أيحل  بضم الياء وفتح الحاء مبنى للمفعول .


قوله :  أو ينشر  بتشديد المعجمة .


قوله :  لا بأس به  يعني أن النشرة لا بأس بها لأنهم يريدون بها الإصلاح ، أي إزالة السحر ، ولم ينه عما يراد به الإصلاح ، وهذا من ابن المسيب يحمل على نوع من النشرة لا يعلم أنه سحر .


قوله :  وروى الحسن أنه قال :  لا يحل السحر إلا ساحر  هذا الأثر ذكره ابن الجوزي في جامع المسانيد  .


والحسن هو ابن أبي الحسن واسمه : يسار ـ بالتحتية والمهملة ـ البصرى الأنصاري : مولاهم . ثقة فقيه ، إمام من خيار التابعين . مات سنة عشرة ومائة رحمه الله ، وقد قارب التسعين .


قوله * :  قال ابن القيم : النشرة حل السحر عن المسحور ، وهي نوعان ، حل بسحر مثله ، وهو الذي من عمل الشيطان ـ إلى آخره  * ومما جاء في صفة النشرة الجائزة : ما رواه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ليث بن أبي سليم قال :  بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن الله ، تقرأ في إناء فيه ماء ، ثم يصب على رأس المسحور : الآية التي في سورة يونس : ' 10 : 81 ، 82 ' " فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين * ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون " وقوله : ' 7 : 118 ـ 120 ' " فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون " إلى آخر الآيات الأربع . وقوله : ' 20 : 69 ' " إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى " .


وقال ابن بطال : في كتاب وهب بن منبه : أنه يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ثم يضربه بالماء ويقرأ فيه آية الكرسي والقواقل ثم يحسو منه ثلاث حسوات ثم يغتسل به يذهب عنه كل مابه ، هو جيد للرجل إذا حبس عن أهله .


قلت : قول العلامة ابن القيم  والثاني النشرة بالرقية والتعوذات والدعوات والأدوية المباحة فهو جائز  يشير رحمه الله إلى مثل هذا ، وعليه يحمل كلام من أجاز النشرة من العلماء .


والحاصل : أن ما كان منه بالسحر فيحرم ، وما كان بالقرآن والدعوات والأدوية المباحة فجائز : والله أعلم .


 


ما هي النشرة


 


باب ما جاء في التطير


قوله : ( باب : ما جاء في التطير )


أي من النهي عنه والوعيد فيه ، مصدر تطير يتطير ، و الطيرة بكسر الطاء وفتح الياء ، وقد تسكن اسم مصدر من تطير طيرة ، كما يقال تخير خيرة ، ولم يجيء في المصادر على هذه الزنة غيرهما ، وأصله التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء وغيرهما ، وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم ، فنفاه الشارع وأبطله ، وأخبر أنه لا تأثير له في جلب نفع ولا دفع ضر .


قال المدائني  سألت رؤبه بن العجاج قلت : ما السانح ؟ قال : ما ولاك ميامنه . قلت : فما البارح ؟ قال : ما ولاك مياسره . والذي يجيء من أمامك فهو الناطح والنطيح ، والذي يجيء من خلفك فهو القاعد والقعيد  .


ولما كانت الطيرة من الشرك المنافي لكمال التوحيد الواجب لكونها من إلقاء الشيطان وتخويفه ووسوسته ذكرها المصنف رحمه الله في كتاب التوحيد تحذيراً مما ينافي كما التوحيد الواجب .


قوله :  وقول الله تعالى : ' 7 : 131 ' " ألا إنما طائرهم عند الله " ... الآية  ذكر تعالى هذه الآية في سياق قوله : " فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه " الآية . المعنى : أن آل فرعون كانوا إذا أصابتهم الحسنة ، أي الخصب والسعة والعافية ، كما فسره مجاهد وغيره ـ قالوا : لنا هذه ، أي نحن الجديرون والحقيقيون به ، ونحن أهله . وإن تصبهم سيئة . أي بلاء وقحط تطيروا بموسى ومن معه ، فيقولون : هذا بسبب موسى وأصحابه أصابنا بشؤمهم فقال الله تعالى : " ألا إنما طائرهم عند الله " قال ابن عباس  طائرهم : ماقضى عليهم وقدر لهم  وفي رواية  شؤمهم عند الله ومن قبله  أي إنما جاءهم الشؤم من قبله بكفرهم وتكذيبهم بآياته ورسله .


قوله : " ولكن أكثرهم لا يعلمون " أي أن أكثرهم جهال لا يدرون . ولو فهموا وعقلوا لعلموا أنه ليس فيما جاء به موسى عليه السلام إلى الخير والبركة والسعادة والفلاح لمن آمن به واتبعه .


قوله :  وقوله تعالى : ' 36 : 19 ' " قالوا طائركم معكم " الآية المعنى ـ والله أعلم ـ حظكم وما نابكم من شر معكم ، بسبب أفعالكم وكفركم ومخالفتكم الناصحين ، ليس هو من أجلنا ولا بسببنا . بل ببغيكم وعدوانكم . فطائر الباغي الظالم معه ، فما وقع به من الشر فهو سببه الجالب له . وذلك بقضاء الله وقدره وحكمته وعدله ، كما قال تعالى : 7 68 : 35 ، 36 ' " أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون " ويحتمل أن يكون المعنى : طائركم معكم . أي راجع عليكم ، فالتطير الذي حصل لكم إنما يعود عليكم . وهذا من باب القصاص في الكلام . ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام : " إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا : وعليكم " ذكره ابن القيم رحمه الله .


قوله تعالى : " أإن ذكرتم " أي من أجل أنا ذكرناكم وأمرناكم بتوحيد الله قابلتمونا بهذا الكلام " بل أنتم قوم مسرفون " قال قتادة : أئن ذكرناكم بالله تطيرتم بنا ؟


ومناسبة الآيتين للترجمة : أن التطير من عمل أهل الجاهلية والمشركين . وقد ذمهم الله تعالى به ومقتهم ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التطير وأخبر أنه شرك . كما سيأتي في أحاديث الباب .


 


حديث : لا عدوى ولا طيرة إلخ


قال * :  وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر " أخرجاه . زاد مسلم : " ولا نوء ولا غول " .


قال أبو السعادات :  العدوى اسم من الإعداء . كالدعوى . يقال : أعداء الداء يعديه إعداد إذا أصابه مثل ما بصاحب الداء .


وقال غير : لا عدوى هو اسم من الإعداد ، وهو مجاوزة العلة من صاحبها إلى غيره والمنفي نفس سراية العلة أو إضافتها إلى العلة . والأول هو الظاهر .


وفي رواية لمسلم أن أبا هريرة كان يحدث بحديث لا عدوى ، ويحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يورد ممرض على مصح " ثم إن أبا هريرة اقتصر على حديث :  لا يورد ممرض على مصح  وأمسك عن حديث  لا عدوى  فراجعوه وقالوا : سمعناك تحدث به ، فأبى أن يعترف به . قال أبو مسلمة ـ الراوي عن أبي هريرة : فلا أدري أنسى أبو هريرة أو نسخ أحد القولين الآخر ؟


وقد روى حديث  لا عدوى جماعة من الصحابة : أنس بن مالك ، وجابر بن عبد الله ، والسائب بن يزيد ، وابن عمر ، وغيرهم ، وفي بعض روايات هذا الحديث وفر من المجذوم كما تفر من الأسد .


وقد اختلف العلماء في ذلك . وأحسن ما قيل فيه : قول البيهقي ، وتبعه ابن الصلاح وابن القيم ، وابن رجب ، وابن مفلح وغيرهم : أن قوله : لا عدوىعلى الوجه الذي يعتقده أهل الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى ، وإن هذه الأمور تعدى بطبعها . وإلا فقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح من به شئ من الأمراض سبباً لحدوث ذلك ، ولهذا قال :  فر من المجذوم كما تفر من الأسد  وقال :  لا يورد ممرض على مصح  وقال في الطاعون :  من سمع به في أرض فلا يقدم عليه  وكل ذلك بتقدير الله تعالى . ولأحمد والترمذي عن ابن مسعود مرفوعاً : " لا يعدي شئ قالها ثلاثاً  فقال أعرابي يا رسول الله إن النقبة من الجرب تكون بمشفر البعير أو بذنبه في الإبل العظيمة فتجرب كلها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فمن أجرب الأول ؟ لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ، خلق الله كل نفس وكتب حياتها ومصائبها ورزقها " فأخبر صلى الله عليه وسلم أن ذلك كله قضاء الله وقدره ، والعبد مأمور باتقاء أسباب الشر إذا كان في عافية . فكما أنه يؤمر أن لا يلقى نفسه في الماء والنار ، مما جرت العادة أن يهلك أو يضر . فكذلك اجتنب مقاربة المريض كالمجذوم ، والقدوم على بلد الطاعون . فإن هذه كلها أسباب للمرض والتلف ، فالله سبحانه هو خالق الأسباب ومسبباتها . لا خالق غيره ولا مقدر غيره . وأما إذا قوى التوكل على الله والإيمان بقضاء الله وقدره فقويت النفس على مباشرة بعض هذه الأسباب اعتماداً على الله ورجاء منه أن لا يحصل به ضرر ، ففي هذه الحال تجوز مباشرة ذلك ، لاسيما إذا كانت مصلحة عامة أو خاصة ، وعلى هذا يحمل الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي : " أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم فأدخلها معه في القصعة ، ثم قال كل بسم الله ثقة بالله وتوكلاً عليه " وقد أخذ به الإمام أحمد . وروى ذلك عن ابن عمر وابنه وسلمان رضي الله عنهم . ونظير ذلك ما روى عن خالد بن الوليد رضي الله عنه أنه أكل السم ومنه مشى سعد بن أبي وقاص وأبي مسلم الخولاني على متن البحر ، قاله ابن رجب رحمه الله .


قوله : ولا طيرة قال ابن القيم رحمه الله تعالى : يحتمل أن يكون نفياً أو نهياً أي لا تطيروا ، ولكن قوله في الحديث :  لا عدوي ولا صفر ولا هامة  يدل على أن المراد النفي وإبطال هذه الأمور التي كانت الجاهلية تعانيها . والنفي في هذا أبلغ من النهي . لأن النفي يدل على بطلان ذلك وعدم تأثيره ، والنهي إنما يدل على المنع منه .


وفي صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم " ومنا أناس يتطيرون . قال : ذلك شئ يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم " فأخبر أن تأذيه وتشاؤمه بالطيرة إنما هو في نفسه وعقدته ، لا في المتطير به ، فوهمه وخوفه وإشراكه هو الذي يطيره ويصده لما رآه وسمعه ، فأوضح صلى الله عليه وسلم لأمته الأمر ، وبين لهم فساد الطيرة ليعلموا أن الله سبحانه لم يجعل لهم عليه علامة ، ولا فيها دلالة ، ولا نصبها سبباً لما يخافونه ويحذرونه ، ولتطمئن قلوبهم ، وتسكن نفوسهم إلى وحدانيته تعالى التي أرسل بها رسله ، وأنزل بها كتبه ، وخلق لأجلها السماوات والأرض ، وعمر الدارين الجنة والنار بسبب التوحيد فقطع صلى الله عليه وسلم علق الشرك في قلوبهم ، لئلا يبقى فيها علقة منها ، ولا يتلبسوا بعمل من أعمال أهل النار البتة .


فمن استمسك بعروة التوحيد الوثقى ، واعتصم بحبله المتين ، وتوكل على الله ، قطع هاجس الطيرة من قبل استقرارها ، وبادر خواطرها من قبل استكمانها . قال عكرمة : كنا جلوساً عند ابن عباس ، فمر طائر يصيح ، فقال رجل من القوم : خير خير . فقال له ابن عباس : لاخير ولا شر .فبادره بلإنكار عليه لئلا يعتقد تأثيره في الخير والشر . وخرج طاوس مع صاحب له في سفر ، فصاح غراب ، فقال الرجل : خير . فقال طاوس : وأي خير عند هذا ؟ لا تصحبي . ا هـ ملخصاً .


وقد جاءت أحاديث ظن بعض الناس أنها تدل على جواز الطيرة ، كقوله :  الشؤم في ثلاث : في المرأة ، والدابة ، والدار  ونحو هذا .


قال ابن القيم رحمه الله تعالى : إخباره صلى الله عليه وسلم بالشؤم في هذه الثلاثة ليس فيه إثبات الطيرة التي نفاها الله سبحانه ، وإنما غايته أن الله سبحانه قد يخلق منها أعياناً مشؤومة على من قاربها وساكنها ، وأعياناً مباركة لا يلحق من قاربها شؤم ولا شر ، وهذا كما يعطي سبحانه الوالدين ولداً مباركاً يريان الخير على وجهه ، ويعطى غيرهما ولداً مشؤوماً يريان الشر على وجهه ، وكذلك ما يعطاه العبد من ولاية وغيرها ، فكذلك الدار والمرأة والفرس . والله سبحانه خالق الخير والشر والسعود والنحوس ، فيخلق بعض هذه الأعيان سعوداً مباركة ، ويقضي بسعادة من قاربها وحصول اليمن والبركة له. ويخلق بعضها نحوساً يتنحس بها من قاربها . وكل ذلك بقضائه وقدره ، كما خلق سائر الأسباب وربطها بمسبباتها المتضادة والمختلفة . كما خلق المسك وغيره من الأرواح الطيبة ولذذ بها من قاربها من الناس . وخلق ضدها وجعلها سبباً لألم من قاربها من الناس ، والفرق بين هذين النوعين مدرك بالحس ، فكذلك الديار والنساء والخيل . فهذا لون والطيرة الشركية لون . انتهى .


قوله :  ولا هامة  بتخفيف الميم على الصحيح . قال الفراء : الهامة طير من طير الليل . كأنه يعني البومة . قال ابن الأعرابي : كانوا يتشاءمون بها إذا وقعت على بيت أحدهم ، يقول : نعت إلى نفسي أو أحداً من أهل داري ، فجاء الحديث بنفي ذلك وإبطاله .


قوله :  ولا صفر  بفتح الفاء ، روى أبو عبيدة في غريب الحديث عن رؤبة أنه قال : هي حية تكون في البطن تصيب الماشية والناس ، وهي أعدى من الجرب عند العرب . وعلى هذا فالمراد بنفيه ما كانوا يعتقدونه من العدوى وممن قال بهذا سفيان بن عيينة والإمام أحمد والبخاري وابن جرير .


وقال آخرون : المراد به شهر صفر ، والنفي لما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسيء وكانوا يحلون المحرم ويحرمون صفر مكانه، وهو قول مالك .


وروى أبو داود عن محمد بن راشد عمن سمعه يقول : إن أهل الجاهلية يتشاءمون بصفر ، ويقولون : إنه مشؤوم ، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك . قال ابن رجب : ولعل هذا القول أشبه الأقوال ، والتشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهي عنها ، وكذلك التشاؤم بيوم من الأيام كيوم الأربعاء وتشاؤم أهل الجاهلية بشوال في النكاح فية خاصة .


 


لا نوء ولا غول


قوله :  ولا نواء  النوء واحد الأنواء ، وسيأتي الكلام عليه في بابه إن شاء الله تعالى .


قوله :  ولا غول  هو بالضم اسم ، وجمعه أغوال وغيلان ، وهو المراد هنا .


قال أبو السعادات : الغول واحد الغيلان ، وهو جنس من الجن والشياطين كانت العرب تزعم أن الغول في الفلاة تتراءى للناس ، تتلون تلوناً في صور شتى وتغولهم ، أي تضلهم عن الطريق وتهلكهم ، فنفاه النبي صلى الله عليه وأبطله .


فإن قيل :  ما معنى النفي وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان " .


أجيب عنه : بأن ذلك كان في الإبتداء ، ثم دفعها الله عن عباده . أو يقال : المنفى ليس وجود الغول ، بل ما يزعمه العرب من تصرفه في نفسه ، أو يكون المعنى بقوله  لا غول  أنها لا تستطيع أن تضل أحداً مع ذكر الله والتوكل عليه . ويشهد له الحديث الآخر " لا غول ولكن السعالى سحرة الجن " أي ولكن في الجن سحرة لهم تلبيس وتخييل . ومنه الحديث " إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان " أي ادفعوا شرها بذلك بذكر الله .


وهذا يدل على أنه لم يرد بنفيها أو عدمه . ومنه حديث أبي أيوب " كان لي تمر في سهوة فكانت الغول تجي فتأخذ " .


 


أحسنها الفأل


قوله : " ولهما عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا عدوى ولا طيرة ، ويعجبني الفأل ، قالوا : وما الفأل ؟ قال : الكلمة الطيبة " .


قوله :  ويعجبني الفأل  قال أبو السعادات : الفأل ، مهموز فيما يسر ويسوء ، والطيرة لا تكون إلا فيما يسوء ، وربما استعملت فيما يسر . يقال : تفاءلت بكذا وتفاولت ، على التحقيق والقلب ، وقد أولع الناس بترك الهمزة تخفيفاً ، وإنما أحب الفأل لأن الناس إذا أملوا فائدة الله ورجوا عائدته عند كل سبب ضعيف أو قوى فهم على خير ، وإذا قطعوا آمالهم ورجاءهم من الله تعالى كان ذلك من الشر . وأما الطيرة فإن فيها سوء الظن بالله وتوقع البلاء ، والتفاؤل : أن يكون رجل مريض فيسمع آخر يقول : يا سالم ، أو يكون طالب ضالة فيسمع آخر يقول : يا واجد ، فيقع في ظنه أنه يبرأ من مرضه ويجد ضالته . ومنه الحديث : "قيل يا رسول الله ما الفأل ؟ قال : الكلمة الطيبة " .


قوله :  قالوا : وما الفأل ؟ قال : الكلمة الطيبة  بين صلى الله عليه وسلم أن الفأل يعجبه فدل على أنه ليس من الطيرة المنهى عنها .


قال ابن القيم رحمه الله تعالى : ليس في الإعجاب بالفأل ومحبته شئ من الشرك ، بل ذلك إبانة عن مقتضى الطبيعة وموجب الفطرة الإنسانية التي تميل إلى ما يوافقها ويلائمها ، كما أخبرهم صلى الله عليه وسلم أنه حبب إليه من الدنيا النساء والطيب ، وكان يحب الحلواء والعسل ، ويحب حسن الصوت بالقرآن والأذان ويستمع إليه ويحب معالي الأخلاق ومكارم الشيم . بالجملة يحب كل كمال وخير ما يفضي إليهما ، والله سبحانه قد جعل في غرائز الناس الإعجاب بسماع الإسم الحسن ومحبته ، وميل نفوسهم إليه ، وكذلك جعل فيها الارتياح والاستبشار والسرور باسم الفلاح والسلام والنجاح والتهنئة والبشرى والفوز والظفر ونحو ذلك ، فإذا قرعت هذه الأسماء الأسماع استشبرت بها النفوس وانشرح لها الصدر وقوى بها القلب ، وإذا سمعت أضدادها أوجب لها ضد هذه الحال . فأحزنها ذلك ، وأثار لها خوفاً وطيرة وانكماشاً وانقباضاً عما قصدت له وعزمت عليه ، فأورث لها ضرراً في الدنيا ونقصاً في الإيمان ومقارفة الشرك .


وقال الحليمي : وإنما كان صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل لأن التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق ، والتفاؤل حسن ظن به ، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال .


قوله :  ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر قال :  ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أحسنها الفأل ، ولا ترد مسلماً ، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل : اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ، ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك " .


قوله :  عن عقبة بن عامر  هكذا وقع في نسخ التوحيد ، وصوابه : عن عروة ابن عامر كذا أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما . وهو مكي اختلف في نسبه ، فقال أحمد : عن عروة بن عامر القرشي ، وقال غيره : الجهني . واختلف في صحبته ، فقال الماوردي : له صحبة ، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين ، وقال المزي : لا صحبة له تصح .


قوله :  فقال أحسنها الفأل  قد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الفأل . وروى الترمذي وصححه عن أنس رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج لحاجته يحب أن يسمع : يا نجيح ، يا راشد " وروى أبو داود عن بريدة  أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتطير من شئ ، وكان إذا بعث عاملاً سأله عن اسمه فإذا أعجبه فرح به ، وإن كره اسمه رؤي كراهية ذلك في وجهه  وإسناده حسن . وهذا فيه استعمال الفأل .


قال ابن القيم : أخبر صلى الله عليه وسلم أن الفأل من الطيرة وهو خيرها ، فأبطل الطيرة وأخبر أن الفأل منها ولكنه خير منها ، ففصل بين الفأل والطيرة لما بينهما من الامتياز والتضاد ، ونفع أحدهما ومضرة الآخر ، ونظير هذا : منعه من الرقي بالشرك وإذنه في الرقية إذا لم يكن فيها شرك ، لما فيها من المنفعة الخالية من المفسدة .


قوله :  ولا ترد مسلماً  قال الطيبي : تعريض بأن الكافر بخلافه .


قوله :  اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت  أي لا تأتي الطيرة الحسنة ولا تدفع المكروهات ، بل أنت وحدك لا شريك لك الذي تأتي بالحسنات ، وتدفع السيئات ، و الحسنات  هنا النعم ، و  السيئات  المصائب ، كقوله ' 4 : 78 ، 79 ' " وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا * ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك " ففيه نفي تعليق القلب بغير الله في جلب نفع أو دفع ضر ، وهذا هو التوحيد ، وهو دعاء مناسب لمن وقع في قلبه شئ من الطيرة وتصريح بأنها لا تجلب نفعاً ولا تدفع ضراً ، ويعد من اعتقدها سفيهاً مشركاً .


قوله :  ولا حول ولا قوة إلا بك  استعانة بالله تعالى على فعل التوكل وعدم الالتفات إلى الطيرة التي قد تكون سبباً لوقوع المكروه عقوبة لفاعلها . وذلك الدعاء إنما يصدر عن حقيقة التوكل الذي هو أقوى الأسباب في جلب الخيرات ودفع المكروهات .


و  الحول  التحول والإنتقال من حال إلى حال ، و  القوة  على ذلك بالله وحده لا شريك له . ففيه التبري من الحول والقوة والمشيئة بدون حول الله وقوته ومشيئته . وهذا هو التوحيد في الربوبية ، وهو الدليل على توحيد الإلهية الذي هو إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة ، وهو توحيد القصد والإرادة ، وقد تقدم بيان ذلك بحمد الله .


قوله :  وعن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً : " الطيرة شرك ، والطيرة شرك . وما منا إلا ، ولكن الله يذهبه بالتوكل " رواه أبو داود والترمذي وصححه . وجعل آخر من قول ابن مسعود  .


ورواه ابن ماجه وابن حبان . ولفظ أبي داود  الطيرة شرك ، الطيرة شرك ، الطيرة شرك . ثلاثاً  وهذا صريح في تحريم الطيرة ، وأنها من الشرك لما فيها من تعلق القلب على غير الله تعالى .


قال ابن حمدان : تكره الطيرة ، وكذا قال غيره من أصحاب أحمد .


قال ابن مفلح : والأولى القطع بتحريمها لأنها شرك ، وكيف يكون الشرك مكروهاً الكراهية الإصطلاحية ؟


قال في  شرح السنن: وإنما جعل الطيرة من الشرك لأنهم كانوا يعتقدون أن الطيرة تجلب لهم نفعاً أو تدفع عنهم ضراً إذا عملوا بموجبها ، فكأنهم أشركوا مع الله تعالى .


قوله :  وما منا إلا  قال أبو القاسم الأصبهاني ، والمنذري : في الحديث إضمار . التقدير : وما منا إلا وقد وقع في قلبه شئ من ذلك . ا هـ .


وقال الخلخاني : حذف المستثنى لما يتضمنه من الحالة المكروهة . وهذا من أدب الكلام .


قوله :  ولكن الله يذهبه بالتوكل  أي لكن لما توكلنا على الله في جلب النفع ودفع الضر أذهبه الله عنا بتوكلنا عليه وحده .


قوله :  وجعل آخره من قول ابن مسعود  قال ابن القيم : وهو من الصواب ، فإن الطيرة نوع من الشرك .


 


من ردته الطيرة فقد أشرك


قال :  ولأحمد من حديث ابن عمر :" ومن ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك . قالوا فما كفارة ذلك ؟ قال : أن تقول : اللهم لا خير إلا خيرك ، ولا طير إلا طيرك ، ولا إله غيرك " .


هذا الحديث رواه أحمد والطبراني عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وفي إسناده ابن لهيعة وبقية رجاله ثقات .


قوله :من حديث ابن عمرو وهو عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل السهمي أبو محمد . وقيل أبو عبد الرحمن ، أحد السابقين المكثرين من الصحابة وأحد العبادلة الفقهاء . مات في ذي الحجة ليالي الحرة على الأصح بالطائف .


قوله : من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك وذلك أن الطيرة هي التشاؤم بالشئ المرئي أو المسموع ، فإذا رده شئ من ذلك عن حاجته التي عزم عليها كإرادة السفر ونحوه ، فمنعه عما أراده وسعى فيه ما رأى وما سمع تشاؤماً ، فقد دخل في الشرك . كما تقدم ، فلم يخلص توكله على الله بالتفاته إلى ما سواه فيكون للشيطان منه نصيب .


قوله :  فما كفارة ذلك ؟  إلى آخره . فإذا قال ذلك وأعرض عما وقع في قلبه ، ولم يلتفت إليه ، كفر الله عنه ما وقع في قلبه ابتداء لزواله عن قلبه بهذا الدعاء المتضمن للاعتماد على الله وحده ، والإعراض عما سواه .


وتضمن الحديث أن الطيرة لا تضر من كرهها ومضى في طريقه ، وأما من لا يخلص توكله على الله واسترسل مع الشيطان في ذلك ، فقد يعاقب بالوقوع فيما يكره ، لأنه أعرض عن واجب الإيمان بالله ، وأن الخير كله بيده ، فهو الذي يجلبه لعبده بمشيئته وإرادته ، وهو الذي يدفع عنه الضر وحده بقدرته ولطفه وإحسانه ، فلا خير إلا منه ، وهو الذي يدفع الشر عن عبده فما أصابه من ذلك فبذنبه ، كما قال تعالى : ' 4 : 79 ' " ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك " .


قوله :  وله من حديث الفضل بن عباس  إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك  .


هذا الحديث عند الإمام أحمد من حديث الفضل بن عباس قال : " خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً ، فبرح ظبي ، فمال في شقه فاحتضنته ، فقلت : يا رسول الله تطيرت ، فقال : إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك " وفي إسناده انقطاع ، أي بين مسلمة رواية وبين الفضل ، وهو الفضل بن العباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم . قال ابن معين : قتل يوم اليرموك . وقال غيره : قتل يوم مرج الصفر سنة ثلاث عشرة وهو ابن اثنتين وعشرين سنة . وقال أبو داود : قتل بدمشق . كان عليه درع رسول الله صلى الله عليه وسلم .


قوله :  إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك  هذا حد الطيرة المنهى عنها : أنها ما يحمل الإنسان على المضمي فيما أراده ، ويمنعه من المضي فيه كذلك . وأما الفأل الذي كان يحبه النبي صلى الله عليه وسلم فيه نوع من بشارة ، فيسر به العبد ولا يعتمد عليه بخلاف ما يمضيه أو يرده ، فإن للقلب عليه نوع اعتماد . فافهم الفرق والله أعلم .


 


باب ما جاء في التنجيم


قوله : ( باب : ما جاء في التنجيم )


قال شيخ الإسلام رحمه الله : التنجيم هو الاستدلال بالأحوال الفكلية على الحوادث الأرضية .


وقال الخطابي : علم النجوم المنهى عنه هو ما يدعيه أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث التي ستقع في مستقبل الزمان ، كأوقات هبوب الرياح ومجيء المطر ، وتغير الأسعار ، وما في معناها من الأمور التي يزعمون أنها تدرك معرفتها بمسير الكواكب في مجاريها ، واجتماعها وافتراقها ، يدعون أن لها تأثيراً في السفليات ، وهذا منهم تحكم على الغيب ، وتعاط لعلم قد استأثر الله به ، ولا يعلم الغيب سواه .


قوله :  قال البخاري في صحيحه : قال قتادة : خلق الله هذه النجموم لثلاث : زينة للسماء ، ورجوماً للشياطين ، وعلامات يهتدى بها ، فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه ، وتكلف ما لا علم له به  .


هذا الأثر علقه البخاري في صحيحه . وأخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وغيرهم . وأخرجه الخطيب في  كتاب النجوم عن قتادة ، ولفظه قال :  إنما جعل الله هذه النجوم لثلاث خصال : جعلها زينة للسماء ، وجعلها يهتدى بها ، وجعلها رجوماً للشيطاطين . فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد قال برأيه ، وأخطأ حظه وأضاع نصيبه ، وتكلف ما لا علم له به ، وإن ناساً جهلة بأمر الله قد أحدثوا في هذه النجوم كهانة : من أعرس بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا ، ومن سافر بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا . ولعمري ما من نجم إلا يولد به الأحمر والأسود والطويل والقصير والحسن والدميم ، وما علم هذه النجوم وهذا الدابة وهذا الطائر بشئ من هذا الغيب ولو أن أحداً علم الغيب لعلمه آدم الذي خلقه الله بيده وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شئ  انتهى .


فتأمل ما أنكره هذا الإمام مما حدث من المنكرات في عصر التابعين ، وما زال الشر يزداد في كل عصر بعدهم حتى بلغ الغاية في هذه الأعصار ، وعمت به البلوى في جميع الأمصار فمقل ومستكثر ، وعز في الناس من ينكره ، وعظمت المصيبة به في الدين . فإنا لله وإنا إليه راجعون .


قوله :  خلق الله هذه النجوم لثلاث  قال تعالى : ' 67 : 5 ' " ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين " وقال تعالى : ' 16 : 16 ' " وعلامات وبالنجم هم يهتدون " وفيه إشارة إلى أن النجوم في السماء الدنيا ، كما روى ابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أما السماء الدنيا فإن الله خلقها من دخان وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً ، وزينها بمصابيح وجعلها رجوماً للشياطين ، وحفظاً من كل شيطان رجيم " .


قوله :  وعلامات  أي دلالات على الجهات  يهتدي بها  أي يهتدي بها الناس في ذلك . كما قال تعالى : ' 6 : 97 ' " وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر " أي لتعرفوا بها جهة قصدكم ، وليس المراد أن يهتدي بها في علم الغيب ، كما يعتقده المنجمون ، وقد تقدم وجه بطلانه وأنه لا حقيقة له كما قال قتادة :  فمن تأول فيها غير ذلك  أي زعم فيها غير ما ذكر الله في كتابه من هذه الثلاث فقد أخطأ . حيث زعم شيئاً ما أنزل الله به من سلطان ، وأضاع نصيبه من كل خير ، لأنه شغل نفسه بما يضره ولا ينفعه .


فإن قيل : المنجم قد يصدق ؟ قيل : صدقه كصدق الكاهن ، ويصدق في كلمة ويكذب في مائة . وصدقه ليس عن علم ، بل قد يوافق قدراً ، فيكون فتنة في حق من صدقه .


وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : ' 16 : 15 ' " وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون * وعلامات " فقوله :  علامات  معطوف على ما تقدم مما ذكره في الأرض ، ثم استأنف فقال : " وبالنجم هم يهتدون " ذكره ابن جرير عن ابن عباس بمعناه .


وقد جاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بإبطال علم التنجيم ، كقوله : " من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر . زاد ما زاد " .


وعن رجاء بن حيوة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن مما أخاف على أمتي : التصديق بالنجوم ، والتكذيب بالقدر ، وحيث الأئمة " رواه عبد بن حميد . وعن أبي محجن مرفوعاً : " أخاف على أمتي ثلاثاً : حيف الأئمة ، وإيماناً بالنجوم وتكذيباً للقدر " رواه ابن عساكر وحسنه السيوطي .


وعن أنس رضي الله مرفوعاً "أخاف على أمتي بعدي خصلتين : تكذيباً بالقدر ، وإيمان بالنجوم " رواه أبو يعلي وابن عدي والخطاب في كتاب النجوم  وحسنه السيوطي أيضاً . والأحاديث في ذم التنجيم والتحذير منه كثيرة .


 


ما جاء في تعلم علم الفلك


قوله :  وكره قتادة تعلم منازل القمر . ولم يرخص ابن عيينة فيه . ذكره حرب عنهما . ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق  .


قال الخطابي : أما علم النجوم الذي يدرك من طريق المشاهدة والخبر الذي يعرف به الزوال ، وتعلم به جهة القبلة فإنه غير داخل فيما نهى عنه . وذلك أن معرفة رصد الظل ليس شيئاً أكثر من أن الظل ما دام متناقصاً فالشمس بعد صاعدة نحو وسط السماء من الأفق الشرقي ، وإذا أخد في الزيادة فالشمس هابطة من وسط السماء نحو الأفق الغربي ، وهذا علم يصح إدراكه بالمشاهدة ، إلا أن أهل هذه الصناعة قد دبروها بما اتخذوه من الآلات التي يستغنى الناظر فيها عن مراعاة مدته ومراصدته . وأما ما يستدل به من النجوم على جهة القبلة فإنها كواكب رصدها أهل الخبرة من الأئمة الذين لا نشك في عنايتهم بأمر الدين ومعرفتهم بها وصدقهم فيما أخبروا به عنها ، مثل أن يشاهدها بحضرة الكعبة ويشاهدها على حال الغيبة عنها ، فكان إدراكهم الدلالة منها بالمعاينة ، وإدراكنا ذلك بقبول خبرهم إذ كانوا عندنا غير مهتمين في دينهم ، ولا مقصرين في معرفتهم . انتهى .


وروى ابن المنذر عن مجاهد أنه كان لا يرى بأساً أن يتعلم الرجل منازل القمر . وروى عن إبراهيم أنه كان لا يرى بأساً أن يتعلم الرجل من النجوم ما يهتدي به . قال ابن رجب : والمأذون في تعلمه التسيير لا علم التأثير فإنه باطل محرم ، قليله وكثيره . وأما علم التسيير فيتعلم ما يحتاج إليه منه للاهتداء ومعرفة القبلة والطرق جائز عند الجمهور .


قوله :  ذكره حرب عنهما  هو الإمام الحافظ حرب بن إسماعيل أبو محمد الكرماني الفقيه من جلة أصحاب الإمام أحمد . روى عن أحمد وإسحاق وابن المديني وابن معين وغيرهم . وله كتاب المسائل التي سئل عنها الإمام أحمد وغيره ، مات سنة ثمانين ومائتين . وأما إسحاق فهو ابن إبراهيم بن مخلد أبو أيوب الحنظلي النيسابوري ، الإمام المعروف بابن راهويه . روى عن ابن المبارك وأبي أسامة وابن عيينة وطبقتهم . قال أحمد : إسحاق عندنا إمام من أئمة المسلمين . روى عنه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم . وروى هو أيضاً عن أحمد . مات سنة تسع وثلاثين ومائتين .


قال :  وعن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة لا يدخلون الجنة : مدمن الخمر ، وقاطع الرحم ، ومصدق بالسحر " رواه أحمد وابن حبان في صحيحه  .


هذا الحديث رواه أيضاً الطبراني والحاكم وقال : صحيح . وأقره الذهبي . وتمامه ومن مات وهو يدمن الخمر سقاه الله من نهر الغوطة : نهر يجري من فروج المومسات ، يؤذي أهل النار ريح فروجهن  .


قوله :  وعن أبي موسى  هو عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار ـ بفتح المهملة وتشديد الضاد ، أبي موسى الأشعري . صحابي جليل . مات سنة خمسين .


قوله :  ثلاثة لا يدخلون الجنة  هذا من نصوص الوعيد التي كره السلف تأويلها . وقالوا : أمروها كما جاءت ، وعن تأولها فهو على خطر من القول على الله بلا علم . وأحسن ما يقال : إن كل عمل دون الشرك والكفر المخرج على ملة الإسلام فإنه يرجع إلى مشيئة الله ، فإن عذبه فقد استوجب العذاب ، وإن غفر له فبفضله وعفوه ورحمته .


قوله :  مدمن الخمر  أي المداوم على شربها .


قوله :  وقاطع الرحم  يعني القرابة كما قال تعالى : ' 47 : 22 ' " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم   " الآية .


قوله :  ومصدق بالسحر  أي مطلقاً . ومنه التنجيم ، لما تقدم من الحديث . وهذا وجه مطابقة الحديث للترجمة .


قال الذهبي في الكبائر : ويدخل فيه تعلم السيميا وعملها ، وعقد المرء عن زوجته ومحبة الزوج لامرأته وبغضها وبغضه . وأشباه ذلك بكلمات مجهولة . قال : وكثير من الكبائر ـ بل عامتها إلا الأقل ـ يجهل خلق من الأمة تحريمه ، وما بلغه الزجر فيه ، ولا الوعيد عليه ا هـ .


 


الاستسقاء بالنجوم


قوله : ( ما جاء في الاستسقاء بالأنواء )


أي من الوعيد ، والمراد : نسبة السقيا ومجيء المطر إلى الأنواء . جمع  نوء  وهي منازل القمر . قال أبو السعادات : وهي ثمان وعشرون منزلة . ينزل القمر كل ليلة منها . ومنه قوله تعالى : ' 36 : 39 ' " والقمر قدرناه منازل " يسقط في الغرب كل ثلاث عشرة ليلة منزلة طلوع الفجر ، وتظلع أخرى مقابلتها ذلك الوقت من المشرق ، فتقضي جميعها مع انقضاء السنة . وكانت العرب تزعم أن مع سقوط المنزلة وطلوع رقيبها يكون مطر ، وينسبونه إليها ، ويقولون  مطرنا بنوء كذا وكذا  وإنما سمى نوءاً لأنه إذا سقط الساقط منها ناء الطالع بالمشرق ، أي نهض وطلع .


قال :  وقوله تعالى ' 56 : 82 ' " وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون "  روى الإمام أحمد والترمذي ـ وحسنه ـ وابن جرير وابن أبي حاتم والضياء في المختارة عن علي رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " وتجعلون رزقكم " يقول : شكركم " أنكم تكذبون " تقولون : مطرنا بنوء كذا وكذا : بنجم كذا وكذا " وهذ أولى ما فسرت به الآية . وروى ذلك عن علي وابن عباس وقتادة والضحاك وعطاء الخراساني وغيرهم وهو قول جمهور المفسرين وبه يظهر وجه استدلال المصنف رحمه الله بالآية .


قال ابن القيم رحمه الله : أي تجعلون حظكم من هذا الرزق الذي به حياتكم : التكذيب به ، يعني القرآن . قال الحسن : تجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذبون قال : وخسر عبد لا يكون حظه من القرآن إلا التكذيب .


قوله :  عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر بالأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة " . وقال : " النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب " رواه مسلم  . أبو مالك اسمه الحرث بن الحرث الشامي . صحابي تفرد عنه بالرواية أبو سلام . وفي الصحابة أبو مالك الأشعري اثنان غير هذا .


قوله :  أربع في أمتي من أمر بالجاهلية لا يتركونهن  ستفعلها هذه الأمة إما مع العلم بتحريمها أو مع الجهل بذلك ، مع كونها من أعمال الجاهلية المذمومة المكروهة المحرمة . والمراد بالجاهلية هنا : ما قبل المبعث ، سموا ذلك لفرط جهلهم . وكل ما يخالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو جاهلية ، فقد خالفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من أمورهم أو أكثرها . وذلك يدرك بتدبر القرآن ومعرفة السنة . ولشخنا رحمه الله مصنف لطيف ذكر فيه ما خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أهل الجاهلية ، بلغ مائة وعشرين مسألة .



قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : أخبر أن بعض أمر الجاهلية لا يتركه الناس كلهم ذماً لمن لم يتركه ، وهذا يقتضي أن كل ما كان من أمر الجاهلية وفعلهم فهو مذموم في دين الإسلام ، وإلا لم يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذم لها ، ومعلوم أن إضافتها إلى الجاهلية خرج مخرج الذم ، وهذا كقوله تعالى : ' 33 : 33 ' " ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى " فإن في ذلك ذماً للتبرج وذماً لحال الجاهلية الأولى ، وذلك يقتضي المنع من مشابهتهم في الجملة .


قوله :  الفخر بالأحساب  أي التعاظم على الناس بالآباء ومآثرهم ، وذلك جهل عظيم ، إذ لا كرم إلا بالتقوى ، كما قال تعالى : ' 49 : 13 ' " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " وقال تعالى : ' 34 : 37 ' " وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون " .


ولأبي داود عن أبي هريرة مرفوعاً : " إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء ، إنما هو مؤمن تقي ، أو فاجر شقي ، الناس بنو آدم وآدم من تراب ، ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما فحم من فحم جهنم ، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان " .


قوله :  والطعن في الأنساب  أي الوقوع فيها بالعيب والتنقص . ولما عير أبو ذر رضي الله عنه رجلاً بأمه قال له النبي صلى الله عليه وسلم :" أعيرته بأمه ؟ إنك امرؤ فيك جاهلية " متفق عليه . فدل على أن الطعن في الأنساب من عمل الجاهلية ، وأن المسلم قد يكون فيه شئ من هذه الخصال بجاهلية ويهودية ونصرانية ، ولا يوجب ذلك كفره ولا فسقه . قاله شيخ الإسلام رحمه الله.


قوله : والاستسقاء بالنجوم أي نسبة المطر إلى النوء وهو سقوط النجم . كما أخرج الإمام أحمد وابن جرير السوائي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" أخاف على أمتي ثلاثاً : استسقاء بالنجوم . وحيف السلطان . وتكذيباً بالقدر " .


فإذا قال قائلهم : مطرنا بنجم كذا أو بنوء كذا . فلا يخلوا إما أن يعتقد أن له تأثيراً في إنزال المطر . فهذا شرك وكفر . وهو الذي يعتقده أهل الجاهلية كاعتقادهم أن دعاء الميت والغائب يجلب لهم نفعاً ، أو يدفع عنهم ضراً . أو أنه يشفع بدعائهم إياه ، فهذا هو الشرك الذي بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالنهي عنه وقتال من فعله . كما قال تعالى : ' 8 : 39 ' "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله " والفتنة الشرك ، وإما أن يقول : مطرنا بنوء كذا مثلا ، لكن مع اعتقاده أن المؤثر هو الله وحده . لكنه أجرى العادة بوجود المطر عند سقوط ذلك النجم ، والصحيح : أنه يحرم نسبة ذلك إلى النجم ولو على طريق المجاز ، فقد صرح ابن مفلح في الفروع : بأنه يحرم قول  مطرنا بنوء كذا  وجزم في الإنصاف بتحريمه ولو على طريق المجاز ، ولم يذكر خلافاً . وذلك أن القائل لذلك نسب ما هو من فعل الله تعالى الذي لا يقدر عليه غيره إلى خلق مسخر لا ينفع ولا يضر ولا قدرة له على شئ ، فيكون ذلك شركاً أصغر . والله أعلم .


 


عقوبة النائحة إذا لم تتب


قوله :  والنياحة  أي رفع الصوت بالندب على الميت لأنها تسخط بقضاء الله ، وذلك ينافي الصبر الواجب ، وهي من الكبائر لشدة الوعيد والعقوبة .


قوله :  والنائحة إذا لم تتب قبل موتها  فيه تنبيه على أن التوبة تكفر الذنب وإن عظم ، هذا مجمع عليه في الجملة ، ويكفر أيضاً الحسنات الماحية والمصائب ، ودعاء المسلمين بعضهم لبعض ، وبالشفاعة بإذن الله ، وعفو الله عمن شاء ممن لا يشرك به شيئاً وفي الحديث عن ابن عمر مرفوعاً :" إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر" رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان .


قوله :  تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب قال القرطبي  : السربال واحد السرابيل ، وهي الثياب والقميص، يعني أنهن يلطخن بالقطران ، فيكون لهم كالقمص ، حتى يكون اشتعال النار بأجسادهن أعظم ، ورائحتهن أنتن ، وألمهن بسبب الجرب أشد . وروى عن ابن عباس : إن القطران هو النحاس المذاب .


قال : "ولهما عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال : صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل ، فلما انصرف أقبل على الناس فقال : أتدرون ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب " .


زيد بن خالد الجهني صحابي مشهور ، مات سنة ثمان وستين ، وقيل : غير ذلك ، وله خمس وثمانون سنة .


قوله :  صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم  أي بنا ، فاللام بمعنى الباء . قال الحافظ : وفيه إطلاق ذلك مجازاً . وإنما الصلاة لله .


قوله :  بالحديبية  بالمهملة المضمومة وتخفيف يائها وتثقل .


قوله :  على إثر سماء كانت من الليل  بكسر الهمزة وسكون المثلثة على المشهور ، وهو ما يعقب الشئ .


قوله :  سماء  أي مطر . لأنه ينزل من السحاب ، والسماء يطلق على كل ما ارتفع .


قوله :  فلما انصرف  أي من صلاته ، أي التفت إلى المأمومين ، كما يدل عليه قوله :  أقبل على الناس  ويحتمل أنه أراد السلام .


قوله :  هل تدرون  لفظ استفهام ومعناه التنبيه . وفي النسائي :  ألم تسمعوا ما قال ربكم الليلة ؟ وهذا من الأحاديث القدسية. وفيه إلقاء العالم على أصحابه المسألة ليختبرهم .


قوله : قالوا الله ورسوله أعلم  فيه حسن الأدب للمسئول عما لا يعلم أن يكل العلم إلى عالمه . وذلك يجب .


قوله :  أصبح من عبادي  الإضافة هنا للعموم بدليل التقسيم إلى مؤمن وكافر كقوله تعالى : ' 64 : 2 ' " هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن " .


قوله :  مؤمن بي وكافر  إذا اعتقد أن للنوء تأثيراً في إنزال المطر فهذا كفر لأنه أشرك في الربوبية . والمشرك كافر . وإن لم يعتقد ذلك فهو من الشرك الأصغر ، لأنه نسب نعمة الله إلى غيره ، ولأن الله لم يجعل النوء سبباً لإنزال المطر فيه ، وإنما هو فضل من الله ورحمته يحبسه إذا شاء وينزله إذا شاء .


ودل هذا الحديث على أنه لا يجوز لأحد أن يضيف أفعال الله إلى غيره ولو على سبيل المجاز . وأيضاً الباء تحتمل معاني ، وكلها لا تصدق بهذا اللفظ ، فليست للسببية ولا للاستعانة ، لما عرفت من أن هذا باطل . ولا تصدق أيضاً على أنها للمصاحبة ، لأن المطر قد يجيء في هذا الوقت وقد لا يجيء فيه ، وإنما يجيء المطر في الوقت الذي أراد الله مجيئه فيه برحمته وحكمته وفضله . فكل معنى تحمل عليه الباء في هذا اللفظ المنهى عنه فاسد . فيظهر على هذا تحريم هذه اللفظة مطلقاً لفساد المعنى . وقد تقدم القطع بتحريمه في كلام صاحب الفروع والإنصاف .


قال المصنف رحمه الله :  وفيه التفطن للإيمان في هذا الموضع  يشير إلى أنه الإخلاص .


قوله : فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته  فالفضل والرحمة صفتان لله ، ومذهب أهل السنة والجماعة : أن ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله من صفات الذات : كالحياة والعلم ، وصفات الأفعال ، كالرحمة التي يرحم بها عباده . كلها صفات لله قائمة بذاته ليست قائمة بغيره ، فتفطن لهذا فقط غلط فيه طوائف .


وفي هذا الحديث : إن نعم الله لا يجوز أن تضاف إلا إليه وحده ، وهو الذي يحمد عليها ، وهذه حال أهل التوحيد .


قوله :  وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا  إلى أخره ، تقدم ما يتعلق بذلك .


قال المصنف رحمه الله :  وفيه التفطن للكفر في هذا الموضع  .


يشير إلى أنه نسبة النعمة إلى غير الله كفر ، ولهذا قطع بعض العلماء بتحريمه ، وإن لم يعتقد تأثير النوء بإنزال المطر ، فيكون من كفر النعم ، لعدم نسبتها إلى الذي أنعم بها ، ونسبتها إلى غيره ، كما سيأتي في قوله تعالى : ' 16 : 83 ' " يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها " .


قال القرطبي في شرح حديث زيد بن خالد : وكانت العرب إذا طلع نجم من الشرق وسقط آخر من المغرب فحدث عند ذلك مطر أو ريح ، فمنهم من ينسبه إلى الطالع ، ومنهم من ينسبه إلى الغارب نسبة إلى إيجاد واختراع ، ويطلقون ذلك القول المذكور في الحديث . فنهى الشارع عن إطلاق ذلك لئلا يعتقد أحد اعتقادهم ولا يتشبه بهم في نطقهم . انتهى .


قوله : فمنهم من ينسبه نسبة إيجاد ـ يدل على أن بعضهم كان لا يعتقد ذلك ، كما قال تعالى : ' 29 : 63 ' " ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون " فدل على أن منهم من يعرف ويقر بأن الله هو الذي أوجد المطر ، وقد يعتقد هؤلاء أن النوء فيه شيئاً من التأثير ، والقرطبي في شرحه لم يصرح أن العرب كلهم يعتقدون ذلك المعتقدالذي ذكره . فلا اعتراض عليه بلآية للاحتمال المذكور .


قوله :  ولهما من حديث ابن عباس معناه ، وفيه :  قال بعضهم : لقد صدق نوء كذا وكذا . فأنزل الله هذه الآيات : ' 56 : 75 -82 ' " فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون عظيم * إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون * تنزيل من رب العالمين * أفبهذا الحديث أنتم مدهنون * وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون " . وبلفظه عن ابن عباس قال : مطر الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" أصبح من الناس شاكر ، ومنهم كافر . قالوا : هذه رحمة الله . وقال بعضهم : لقد صدق نوء كذا وكذا " . فقال : فنزلت هذه الآية : " فلا أقسم بمواقع النجوم " .


هذا قسم من الله عز وجل ، يقسم بما شاء من خلقه على ما شاء . وجواب القسم : " إنه لقرآن كريم " فتكون  لا صلة لتأكيد النفي ، فتقدير الكلام ، ليس الأمر كما زعمتم في القرآن أنه سحر ، أو كهانة ، بل هو قرآن كريم . قال ابن جرير : قال بعض أهل العربية : معنى قوله : فلا أقسم  فليس الأمر كما تقولون ، ثم استؤنف القسم بعد فقيل : أقسم بمواقع النجوم . قال ابن عباس : يعني نجوم القرآن ، فإنه نزل جملة ليلة القدر من السماء الدنيا ، ثم نزل مفرقاً في السنين بعد ، ثم قرأ ابن عباس هذه الآية . ومواقعها : نزولها شيئاً بعد شئ . وقال مجاهد : مواقع النجوم مطالعها ومشارقها . واختاره ابن جرير . وعلى هذه فتكون المناسبة بين المقسم به والمقسم عليه ـ وهو القرآن ـ من وجوه : أحدها : أن النجوم جعلها الله يهتدي بها في ظلمات البر والبحر ، وآيات القرآن يهتدي بها في ظلمات الغي والجهل . فتلك هداية في الظلمات الحسية ، والقرآن هداية في الظلمات المعنوية . فجمع بين الهدايتين مع ما في النجوم من الزينة الظاهرة . وفي القرآن من الزينة الباطنة ، ومع ما في النجوم من الرجوم للشياطين ، وفي القرآن من رجوم شياطين الجن والإنس. والنجوم آياته المشهودة العيانية ، والقرآن آياته المتلوة السمعية ، مع ما في مواقعها عند الغروب من العبرة والدلالة على آياته القرآنية ومواقعها عند النزول ذكره ابن القيم رحمه الله .


وقوله : " وإنه لقسم لو تعلمون عظيم " قال ابن كثير : أي وإن هذا القسم الذي أقسمت به لقسم عظيم لو تعلمون عظمته لعظمتم المقسم به عليه .


وقوله : " إنه لقرآن كريم " هذا هو المقسم عليه ، وهو القرآن ، أي إنه وحي الله وتنزيله وكلامه ، لا كما يقول الكفار : إنه سحر أو كهانة ، أو شعر . بل هو قرآن كريم أي عظيم كثير الخير لأنه كلام الله .


قال ابن القيم رحمه الله تعالى : فوصفه بما يقتضي حسنه وكثرة خيره ومنافعه وجلالته ، فإن الكريم هو البهي الكثير الخير العظيم ، وهو من كل شئ أحسنه وأفضله . والله سبحانه وتعالى وصف نفسه بالكرم ووصف به كلامه ، ووصف به عرشه ، ووصف به ما كثر خيره وحسن منظره من النبات وغيره ولذلك فسر السلف  الكريم  بالحسن قال الأزهري: الكريم اسم جامع لما يحمد، والله تعالى كريم جميل الفعال ، وإنه لقرآن كريم يحمد لما فيه من الهدى والبيان والعلم والحكمة .


وقوله : " في كتاب مكنون " أي في كتاب معظم محفوظ موقر ، قاله ابن كثير .


وقال ابن القيم رحمه الله تعالى : اختلف المفسرون في هذا ، فقيل : هو اللوح المحفوظ والصحيح أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة ، وهو المذكور في قوله : ' 80 : 13 ـ 16 ' " في صحف مكرمة * مرفوعة مطهرة * بأيدي سفرة * كرام بررة " ويدل على أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة قوله : " لا يمسه إلا المطهرون " فهذا يدل على أنه بأيديهم يمسونه .


 


" لا يمسه إلا المطهرون "


قوله : " لا يمسه إلا المطهرون " قال ابن عباس رضي الله عنهما :  لا يمسه إلا المطهرون . قال : الكتاب الذي في السماء  وفي رواية  لا يمسه إلا المطهرون يعني الملائكة  وقال قتادة :  لا يمسه عند الله إلا المطهرون  فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوسي النجس والمنافق الرجس واختار هذا القول كثيرون ، منهم ابن القيم رحمه الله ورجحه ، وقال ابن زيد : زعمت قريش أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين ، فأخبر الله تعالى أنه لا يمسه إلا المطهرون كما قال تعالى : ' 26 : 210 ـ 212 ' " وما تنزلت به الشياطين * وما ينبغي لهم وما يستطيعون * إنهم عن السمع لمعزولون " قال ابن كثير : هذا قول جيد . وهو لا يخرج عن القول قبله . وقال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه  في هذه الآية :  لا يجد طعمه إلا من آمن به  .


قال ابن القيم رحمه الله : هذا من إشارة الآية وتنبيهها ، وهو أنه لا يلتذ به وبقراءته وفهمه وتدبره إلا من يشهد أنه كلام الله تكلم به حقاً ، وأنزله على رسوله وحياً . لا ينال معانيه إلا من لم يكن في قلبه حرج منه بوجه من الوجوه .


وقال آخرون : " لا يمسه إلا المطهرون " أي من الجنابة والحديث . قالوا : ولفظ الآية خبر معناه الطلب . قالوا : والمراد بالقرآن ههنا المصحف . واحتجوا على ذلك بما رواه مالك في الموطأ عن عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم :  إن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم : أن لا يمس القرآن إلا طاهر  .


وقوله :" تنزيل من رب العالمين " قال ابن كثير : هذا القرآن منزل من رب العالمين وليس كما يقولون إنه سحر أو كهانة أو شعر، بل هو الحق الذي لا مرية فيه ، وليس وراءه حق نافع . وفي هذه الآية : أنه كلام الله تكلم به .


قال ابن القيم رحمه الله : ونظيره : ' 32 : 13 ' " ولكن حق القول مني " وقوله : ' 16 : 102 ' " قل نزله روح القدس من ربك بالحق " هو إثبات علو الله تعالى على خلقه . فإن النزول والتنزيل الذي تعقله العقول وتعرفه الفطر هو وصول الشئ من أعلى إلى أسفل ولا يرد عليه قوله : ' 39 :6 ' " وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج" لأنا نقول : إن الذي أنزلها فوق سماواته . فأنزلها لنا بأمره .


قال ابن القيم رحمه الله : وذكر التنزيل مضافاً إلى ربوبيته للعالمين المستلزمة لملكه لها وتصرفه فيهم ، وحكمه عليهم ، وإحسانه إليهم ، وإنعامه عليهم ، وأن من هذا شأنه مع الخلق كيف يليق به مع ربوبيته التامة أن يتكرهم سدى ، ويدعهم هملاً ، ويخلقهم عبثاً . لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يثيبهم ولا يعاقبهم ؟ فمن أقر بأنه رب العالمين أقر بأن القرآن تنزيله على رسوله . واستدل بكونه رب العالمين على ثبوت رسالة رسوله وصحة ما جاء به ، وهذا الاستدلال أقوى وأشرف من الاستدلال بالمعجزات والخوارق . وإن كانت دلالتها أقرب إلى أذهان عموم الناس . وذلك إنما تكون لخواص العقلاء .


قوله : " أفبهذا الحديث أنتم مدهنون " قال مجاهد : أتريدون أن تمالئوهم فيه وتركنوا إليهم ؟ .


قال ابن القيم رحمه الله تعالى : ثم وبخهم على وضعهم الإدهان في غير موضعه ، وأنهم يداهنون فيما حقه أن يصدع به ويعرف به ، ويعض عليه بالنواجذ ، وتثني عليه الخناصر ، وتعقد عليه القلوب والأفئدة ، ويحارب ويسالم لأجله ، ولا يلتوى عنه يمنة ولا يسرة ، ولا يكون للقلب التفات إلى غيره ، ولا محاكمة إلا إليه ، ولا مخاصمة إلا به ، ولا اهتداء في طرق المطالب العالية إلا بنوره، ولا شفاء إلا به ، فهو روح الوجود ، وحياة العالم ، ومدار السعادة ، وقائد الفلاح ، وطريق النجاة ، وسبيل الرشاد، ونور البصائر. فكيف تطلب المداهنة بما هذا شأنه ، ولم ينزل للمداهنة ، وإنما نزل بالحق وللحق ، والمداهنة إنما تكون في باطل قوى لا تمكن إزالته ، أو في حق ضعيف لا تمكن إقامته ، فيحتاج المداهن إلى أن يترك بعض الحق ويلتزم بعض الباطل ، فأما الحق الذي قام به كل حق فكيف يداهن به ؟


قوله : " وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون " تقدم الكلام عليها أول الباب ، والله تعالى أعلم .


 


ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً


قوله : باب


 قول الله تعالى : ' 2 : 165 ' " ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله "  .


لما كانت محبته سبحانه هي أصل دين الإسلام الذي يدور عليه قطب رحاه ، فبكمالها يكمل ، وبنقصها ينقص توحيد الإنسان ، نبه المصنف على ذلك بهذه الترجمة .


قوله تعالى : " ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا " الآية . قال في شرح المنازل : أخبر تعالى أن من أحب من دون الله شيئاً كما يحب الله تعالى فهو ممن اتخذ من دون الله أنداداً ، فهذا ند في المحبة لا في الخلق والربوبية ، فإن أحداً من أهل الأرض لا يثبت هذا الند ، بخلاف ند المحبة . فإن أكثر أهل الأرض قد اتخذوا من دون الله أنداداً في الحب والتعظيم. ثم قال تعالى: " يحبونهم كحب الله " وفي تقدير الآية قولان :


أحدهما : والذين آمنوا أشد حباً لله من أصحاب الأنداد لأندادهم وآلهتهم التي يحبونها ويعظمونها من دون الله .


وروى ابن جرير عن مجاهد في قوله تعالى : " يحبونهم كحب الله " مباهاة ومضاهاة للحق بالأنداد " والذين آمنوا أشد حباً لله" من الكفار لأوثانهم . ثم روى عن ابن زيد قال : هؤلاء المشركون أندادهم آلهتهم التي عبدوا مع الله يحبونهم كما يحب الذين آمنوا الله ، والذين آمنوا أشد حباً لله من حبهم آلهتهم . انتهى .


والثاني : والذين آمنوا أشد حباً لله من المشركين بالأنداد لله ، فإن محبة المؤمنين خالصة ، ومحبة أصحاب الأنداد قد ذهبت أندادهم بقسط منها ، والمحبة الخالصة أشد من المشتركة . والقولان مرتبان على القولين في قوله تعالى : " يحبونهم كحب الله " فإن فيها قولين أيضاً :


أحدهما : يحبونهم كما يحبون الله . فيكون قد أثبت لهم محبة الله . ولكنها محبة أشركوا فيها مع الله تعالى أندادهم .


والثاني : أن المعنى يحبون أندادهم كما يحب المؤمنون الله ، ثم بين تعالى أن محبة المؤمنين لله أشد من محبة أصحاب الأنداد لأندادهم .


وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يرجح القول الأول ويقول : إنما ذموا بأن شركوا بين الله وبين أندادهم في المحبة ولم يخلصوها لله كمحبة المؤمنين له ، وهذه التسوية المذكورة في قوله تعالى حكاية عنهم ، وهم في النار أنهم يقولون لآلهتهم وأندادهم وهي محضرة معهم في العذاب ' 26 : 97 ، 98 ' " تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين " ومعلوم أنهم ما سووهم برب العالمين في الخلق والربوبية وإنما سووهم به في المحبة والتعظيم، وهذا أيضاً هو العدل المذكور في قوله تعالى : ' 6 : 1 ' " الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون " به غيره في العبادة التي هي المحبة والتعظيم .


وقال تعالى : ' 3 : 31 ' " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله " وهذه تسمى آية المحنة . قال بعض السلف : ادعى قوم محبة الله فأنزل الله تعالى آية المحنة : " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله " إشارة إلى دليل المحبة وثمرتها وفائدتها ، فدليلها وعلامتها : اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وفائدتها وثمرتها ، محبة المرسل لكم ، فما لم تحصل منكم المتابعة فمحبتكم له غير حاصلة ، ومحبته لكم منتفية .


وقال تعالى : ' 5 : 54 ' " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم " ذكر لها أربع علامات :


إحداهما : أنهم أذلة على المؤمنين ، قيل : معناه أرقاء رحماء مشفقين عاطفين عليهم ، فلما ضمن أذلة هذا المعنى عداه بأداة على. قال عطاء رحمه الله : للمؤمنين كالولد لوالده وكالعبد لسيده ، وعلى الكافرين كالأسد على فريسته ، " أشداء على الكفار رحماء بينهم " .


العلامة الثالثة : الجهاد في سبيل الله بالنفس واليد والمال واللسان . وذلك تحقيق دعوى المحبة .


العلامة الرابعة : إنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم . وهذه علامة صحة المحبة . فكل محب أخذه اللوم على محبوبه فليس بمحب على الحقيقة . وقال تعالى : ' 17 : 57 ' " أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه " فذكر المقامات الثلاثة : الحب . وهو ابتغاء القرب إليه ، والتوسل إليه بالأعمال الصالحة . والرجاء والخوف يدل على أن ابتغاء الوسيلة أمر زائد على رجاء الرحمة وخوف العذاب ، ومن المعلوم قطعاً أنه لا يتنافس إلا في قرب من يحب قربه ، وحب قربه تبع لمحبة ذاته ، بل محبة ذاته أوجبت محبة القرب منه . وعند الجهمية والمعطلة : ما من ذلك كله شئ فإنه عندهم لا تقرب ذاته من شئ ، ولا يقرب من ذاته شئ ، ولا يحب ، فأنكروا حياة القلوب ، ونعيم الأرواح وبهجة النفوس ، وقرة العيون وأعلى نعيم الدنيا والآخرة . ولذلك ضربت قلوبهم بالقسوة وضرب دونهم ودون الله حجاب على معرفته ومحبته، فلا يعرفونه ولا يحبونه ولا يذكرونه إلى عند تعطيل أسمائه وصفاته، فذكرهم أعظم آثامهم وأوزارهم ، بل يعاقبون من يذكره بأسمائه وصفاته ونعوت جلاله ويرمونهم بالأدواء التي هم أحق بها وأهلها . وحسب ذي البصيرة وحياة القلب ما يرى على كلامهم من القسوة والمقت والتنفير عن محبة الله تعالى ومعرفته وتوحيده والله المستعان .


وقال رحمه الله تعالى أيضاً : لا تحد المحبة بحد أوضح منها ، فالحدود لا تزيدها إلا خفاء. فحدها وجودها ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة ، وإنما يتكلم الناس في أسبابها وموجباتها وعلاماتها وشواهدها وثمراتها وأحكامها . وأجمع ما قيل في ذلك : ما ذكره أبو بكر الكتاني عن الجنيد .


 


محبة الله


قال أبو بكر :  جرت مسألة في المحبة بمكة ـ أعزها الله في أيام الموسم ـ فتكلم الشيوخ فيها ، وكان الجنيد أصغرهم سناً ، فقالوا : هات ما عندك يا عراقي ، فأطرق رأسه ودمعت عيناه ، ثم قال : عبد ذاهب عن نفسه ، متصل بذكر ربه ، قائم بأداء حقوقه ، ناظر إليه بقلبه ، أحرق قلبه أنوار هيبته ، وصفا شرابه من كأس مودته ، وانكشف له الحياء من أستار غيبه ، فإن تكلم فبالله ، وإن نطق فعن الله ، وإن تحرك فبأمر الله ، وإن سكن فمع الله ، فهو لله وبالله ومع الله . فبكى الشيوخ وقالوا: ما على هذا مزيد ، جبرك الله يا تاج العارفين  .


وذكر رحمه الله تعالى : أن الأسباب الجالبة للمحبة عشرة :


أحدهما : قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به .


الثاني : التقرب إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض .


الثالث : دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال فنصيبه من المحبة على قدر هذا .


الرابع : إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى .


الخامس : مطالعة القلب لأسمائه ومشاهدتها وتقلبه في رياض هذه المعرفة وميادينها .


السادس : مشاهدة بره وإحسانه ونعمه الظاهرة والباطنة .


السابع : وهو أعجبها ـ إنكسار القلب بين يديه .


الثامن : الخلوة وقت النزول الإلهي وتلاوة كتابه ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة .


التاسع : مجالسة المحبين الصادقين ، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم ، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام وعلمت أن فيه مزيداً لحالك ومنفعة لغيرك .


العاشرة : مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل .


فمن هذه الأسباب العشرة وصل المحبون إلى منازل المحبة ودخلوا على الحبيب .


قوله :  وقول الله تعالى : ' 9 : 24 ' " قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين "  .


أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتوعد من أحب أهله وماله وعشيرته وتجارته ومسكنه فآثارها ، أو بعضها على فعل ما أوجبه الله عليه من الأعمال التي يحبها الله تعالى ويرضاها ، كالهجرة والجهاد ونحو ذلك .


قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى : أي إن كانت هذه الأشياء " أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا " أي انتظروا ما يحل بكم من عقابه . روى الإمام أحمد وأبو داود ـ واللفظ له ـ من حديث أبي عبد الرحمن السلمي عن عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إذا تبايعتم بالعينة ، وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتهم بالزرع ، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم " .


فلا بد من إيثار ما أحبه الله من عبده وأراده على ما يحبه العبد ويريده ، فيحب ما يحبه الله ويبغض ما يبغضه ، ويوالي فيه ويعادي فيه ويتابع رسوله صلى الله عليه وسلم كما تقدم في آية المحنة ونظائرها .


 


محبة النبي


قوله :  وعن أنس رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين " أخرجاه  أي البخاري ومسلم .


قوله :  لا يؤمن أحدكم  أي الإيمان الواجب ، والمراد كماله ، حتى يكون الرسول أحب إلى العبد من ولده ووالده والناس أجمعين ، بل ولا يحصل هذا الكمال إلا بأن يكون الرسول أحب إليه من نفسه ، كما في الحديث : " أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شئ إلا من نفسي . فقال : والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك ، فقال له عمر : فإنك الآن أحب إلي من نفسي ، فقال : الآن يا عمر " رواه البخاري .


فمن قال : إن المنفي هو الكمال ، فإن أراد الكمال الواجب الذي يذم تاركه ويعرض للعقوبة فقد صدق ، وإن أراد أن المنفي الكمال المستحب ، فهذا لم يقع قط في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم . قاله شيخ الإسلام رحمه الله .


فمن ادعى محبة النبي صلى الله عليه وسلم بدون متابعة وتقديم قوله على قول غيره فقد كذب كما قال تعالى : ' 24 : 47 ' " ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين " فنفى الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، لكن كل مسلم يكون محباً بقدر ما معه من الإسلام وكل مسلم لا بد أن يكون مؤمناً وإن لم يكن مؤمناً الإيمان المطلق . لأن ذلك لايحصل إلا لخواص المؤمنين .


قال شيخ الإسلام رحمه الله : وعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر ، أو ولدوا على الإسلام والتزموا شرائعه وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله . فهم مسلمون ومعهم إيمان مجمل ، لكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم يحصل شيئاً فشيئاً إن أعطاهم الله ذلك ، وإلا فكثير من الناس لا يصلون إلى اليقين ولا إلى الجهاد ، ولو شككوا لشكوا ، ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا . إذ ليس عندهم من علم اليقين ما يدرأ الريب ، ولا عندهم من قوة الحب لله ورسوله ما يقدمونه على الأهل والمال ، فهؤلاء إن عرفوا من المحنة ماتوا ودخلوا الجنة ، وإن ابتلوا بمن يدخل عليهم شبهات توجب ريبهم فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب وإلا صاروا مرتابين ، وانتقلوا إلى نوع من النفاق . انتهى .


وفي هذا الحديث : أن الأعمال من الإيمان . لأن المحبة عمل القلب .


وفيه : أن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة تابعة لمحبة الله لازمة لها ، فإنها لله ولأجله ، تزيد بزيادة محبة الله في قلب المؤمن وتنقص بنقصها ، وكل من كان محباً لله فإنما يحب في الله ولأجله كما يحب الإيمان والعمل الصالح . وهذه المحبة ليس فيها شئ من شوائب الشرك كالاعتماد عليه ورجائه في حصول مرغوب منه أو دفع مرهوب منه . وما كان فيها ذلك فمحبته مع الله لما فيها من التعلق على غيره والرغبة إليه من دون الله ، فبهذا يحصل التمييز بين المحبة في الله ولأجله ، التي هي من كمال التوحيد ، وبين المحبة مع الله التي هي محبة الأنداد من دون الله لما يتعلق في قلوب المشركين من الإلهية التي لا تجوز إلا لله وحده .


قوله :  ولهما عنه ـ أي البخاري ومسلم ، عن أنس رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف بالنار " وفي رواية :  لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله ... إلخ  .


قوله : ثلاث  أي ثلاث خصال .


قوله :  من كن فيه  أي وجدت فيه تامة .


قوله :  وجد بهن حلاوة الإيمان  الحلاوة هنا هي التي يعبر عنها بالذوق لما يحصل به من لذة القلب ونعيمه وسروره وغذائه ، وهي شئ محسوس يجده أهل الإيمان في قلوبهم .


قال السيوطي رحمه الله في التوشيح : وجد حلاوة الإيمان فيه استعارة تخييلية . شبه رغبة المؤمن في الإيمان بشئ حلو، وأثبت له لازم ذلك الشئ ، وأضافه إليه .


وقال النووي: معنى حلاوة الإيمان استلذاذ الطاعات وتحمل المشاق وإيثار ذلك على أغراض الدنيا ، ومحبة العبد لله بفعل طاعته وترك مخالفته . وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم .


قال يحيى بن معاذ : حقيقة الحب في الله : أن لا يزيد بالبر ولا ينقص بالجفاء .


قوله :  أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما  يعني بالسوى : ما يحبه الإنسان بطبعه ، كمحبة الولد والمال والأزواج ونحوها . فتكون  أحب  هنا على بابها .


وقال الخطابي : المراد بالمحبة هنا حب الاختيار لا حب الطبع كذا قال .


وأما المحبة الشركية التي قد تقدم بيانها فقليلها وكثيرها ينافي محبة الله ورسوله وفي بعض الأحاديث :"أحبوا الله بكل قلوبكم" فمن علامات محبة الله ورسوله : أن يحب ما يحبه الله ويكره ما يكرهه الله ، ويؤثر مرضاته على ما سواه ، ويسعى في مرضاته ما استطاع ، ويبعد عما حرمه الله ويكرهه أشد الكراهة ، ويتابع رسوله ويمتثل أمره ويترك نهيه ، كما قال تعالى : ' 4 : 80 ' " من يطع الرسول فقد أطاع الله " فمن آثر أمر غيره على أمره وخالف ما نهى عنه ، فذلك أحب الله وأطاعه أحب الرسول وأطاعه . ومن لا فلا ، كما في آية المحنة ، ونظائرها . والله المستعان .


قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان . لأن وجود الحلاوة للشئ يتبع المحبة له فمن أحب شيئاً واشتهاه ، إذا حصل له مراده فإنه يجد الحلاوة واللذة والسرور بذلك ، واللذة أمر يحصل عقيب إدراك الملائم الذي هو المحبوب أو المشتهى . قال : فحلاوة الإيمان المتضمنة للذة والفرح تتبع كمال محبة العبد لله . وذلك بثلاثة أمور : تكميل هذه المحبة وتفريغها ، ودفع ضدها . فتكميلها أن يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما ، فإن محبة الله ورسوله لا يكتفى فيها بأصل الحب ، بل أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما .


قلت : ومحبة الله تعالى تستلزم محبة طاعته ، فإنه يحب من عبده أن يطيعه . والمحب يحب ما يحبه محبوبه ولا بد .


ومن لوازم محبة الله أيضاً : محبة أهل طاعته ، كمحبة أنبيائه ورسله والصالحين من عباده . فمحبة ما يحبه الله ومن يحبه الله من كمال الإيمان ، كما في حديث ابن عباس الآتي .


قال : وتفريغها . أن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، قال : ودفع ضدها أن يكره ضد الإيمان كما يكره أن يقذف في النار . انتهى .


قوله :  أحب إليه مما سواهما  فيه جمع ضمير الله تعالى وضمير رسوله صلى الله عليه وسلم وفيه قولان :


أحدهما : أنه ثنى الضمير هنا إيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين ، لا كل واحدة فإنها وحدها لاغية . وأمر بالإفراد في حديث الخطيب إشعاراً بأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزام الغواية إذ العطف في تقدير التكرير ، والأصل استقلال كل من المعطوفين في الحكم .


الثاني : حمل حديث الخطيب على الأدب والأولى ، وهذا هو الجواز .


وجواب ثالث : وهو أن هذا وارد على الأصل ، وحديث الخطيب ناقل فيكون أرجح .


قوله :  كما يكره أن يقذف في النار أي يستوى عنده الأمران . وفيه رد على الغلاة الذين يتوهمون أن صدور الذنب من العبد نقص في حقه مطلقاً وإن تاب منه .


والصواب : أنه إن لم يتب كان نقصاً وإن تاب فلا ، ولهذا كان المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم أفضل هذه الأمة مع كونهم في الأصل كفاراً فهداهم الله إلى الإسلام ، والإسلام يمحو ما قبله ، وكذلك الهجرة . كما صح الحديث بذلك .


قوله :  وفي رواية : لا يجد أحد  هذه الرواية أخرجها البخاري في الأدب من صحيحه . ولفظها :  لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلى لله ، وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه ، وحتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما  .


وقد تقدم أن المحبة هنا عبارة عما يجده المؤمن من اللذة والبهجة والسرور والإجلال والهيبة ولوازم ذلك ، قال الشاعر :


أهابك إجلالاً . وما بك قدرة     على ، ولكن ملء عين حبيبها


 


من أحب الله أبغض في الله ووالى في الله


قوله :  وعن ابن عباس رضي الله عنهما : "من أحب في الله ، وأبغض في الله ، ووالى في الله ، وعادى في الله ، فإنما تنال ولاية الله بذلك ، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك . وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا ، وذلك لا يجدي على أهله شيئاً " رواه ابن جرير  .


وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم الجملة الأولى منه فقط .


 قوله :  ومن أحب في الله  أي أحب أهل الإيمان بالله وطاعته من أجل ذلك .


قوله :  وأبغض في الله  أي أبغض من كفر بالله وأشرك به وفسق عن طاعته لأجل ما فعلوه مما يسخط الله وإن كانوا أقرب الناس إليه ، كما قال تعالى : ' 58 : 22 ' " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله " الآية .


قوله :  ووالى في الله  هذا والذي قبله من لوازم محبة العبد لله تعالى ، فمن أحب فيه ، ووالى أولياءه ، وعادى أهل معصيته وأبغضهم ، وجاهد أعداءه ونصر أنصاره . وكلما قويت محبة العبد لله في قلبه قويت هذه الأعمال المترتبة عليها ، وبكمالها يكمل توحيد العبد ، ويكون ضعفها على قدر ضعف محبة العبد لربه ، فمقل ومستكثر ومحروم .


قوله :  فإنما تنال ولاية الله بذلك  أي توليه لعبده . و ولاية بفتح الواو لا غير : أي الأخوة والمحبة والنصرة ، وبالكسر الإمارة ، والمراد هنا الأول . ولأحمد والطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله . فإذا أحب لله وأبغض لله ، فقد استحق الولاية لله " وفي حديث آخر : " أوثق عري الإيمان الحب في الله ، والبغض في الله عز وجل " رواه الطبراني .


قوله :  ولن يجد عبد طعم الإيمان  إلى آخره . أي لا يحصل له ذوق الإيمان ولذته وسروره وإن كثرت صلاته وصومه ، حتى يكون كذلك ، أي حتى يحب في الله ويبغض في الله ، ويعادي في الله ، ويوالي فيه .


وفي حديث أبي أمامة مرفوعاً : " من أحب الله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان " رواه أبو داود .


قوله :  وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا . وذلك لا يجدي على أهله شيئاً  أي لا ينفعهم ، بل يضرهم كما قال تعالى : ' 43 ، 67 ' " الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين " فإذا كانت البلوى قد عمت بهذا في زمن ابن عباس خير القرون فما زاد الأمر بعد ذلك إلا شدة ، حتى وقعت الموالاة على الشرك والبدع والفسوق والعصيان . وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم بقوله : " بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ " . وقد كان الصحابة رضي الله عنهم من المهاجرين والأنصار في عهد نبيهم صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما يؤثر بعضهم بعضاً على نفسه محبة في الله وتقرباً إليه ، كما قال تعالى : ' 59 : 9 ' " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال :  لقد رأيتنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما منا أحد يرى أنه أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم  رواه ابن ماجه .


قوله :  وقال ابن عباس في قوله تعالى : ' 2 : 166 ' " وتقطعت بهم الأسباب " قال : المودة  هذا الأثر رواه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه .


قوله :  قال المودة  أي التي كانت بينهم في الدنيا خانتهم أحوج ما كانوا إليها ، وتبرأ بعضهم من بعض ، كما قال تعالى : ' 29 : 25 ' " وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً ومأواكم النار وما لكم من ناصرين " .


قال العامة ابن القيم في قوله تعالى : ' 2 : 166 ، 167 ' " إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب " الآيتين فهؤلاء المتبوعون كانوا على الهدى وأتباعهم ادعوا أنهم على طريقهم ومناهجهم ، وهم مخالفون لهم سالكون غير طريقهم ، ويزعمون أن محبتهم لهم تنفعهم مع مخالفتهم ، فيتبرآون منهم يوم القيامة فإنهم اتخذوهم أولياء من دون الله . وهذا حال كل من اتخذ من دون الله أولياء ، يوالي لهم ، ويعادي لهم ، ويرضى لهم ، ويغضب لهم ، فإن أعماله كلها باطلة ، يراها يوم القيامة حسرات عليه مع كثرتها وشدة تعبه فيها ونصبه ، إذ لم يجرد موالاته ومعاداته وحبه وبغضه وإنتصاره وإيثاره لله ورسوله ، فأبطل الله عز وجل ذلك العمل كله . وقطع تلك الأسباب . فينقطع يوم القيامة كل سبب وصلة ووسيلة ومودة كانت لغير الله ، ولا يبقى إلا السبب الواصل بين العبد وربه . وهو حظه من الهجرة إليه وإلى رسوله وتجريده عبادته لله وحده ولوازمها : من الحب والبغض ، والعطاء والمنع ، والموالاة والمعاداة ، والتقرب والإبعاد ، وتجريد ومتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم تجريداً محضاً بريئاً من شوائب الالتفات إلى غيره ، فضلاً عن الشرك بينه وبين غيره ، فضلاً عن تقديم قول غيره عليه . فهذا السبب هو الذي لا ينقطع بصاحبه . وهذه هي النسبة التي بين العبد وربه ، وهي نسبة العبودية المحضة ، وهي آخيته التي يجول ما يجول وإليها مرجعه ، ولا تتحقق إلا بتجريده متابعة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ، إذ هذه العبودية إنما جاءت على ألسنتهم ، وما عرفت إلا بهم ولا سبيل إليها إلا بمتابعتهم . وقد قال تعالى : ' 25 : 23 ' " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً " فهذه هي الأعمال التي كانت في الدنيا على غير سنة رسله وطريقتهم ولغير وجهه ، يجعلها الله هباءً منثوراً لا ينتفع منها صحابها بشئ أصلاً . وهذا من أعظم الحسرات على العبد يوم القيامة : أن يرى سعيه ضائعاً . وقد سعد أهل السعي النافع بسعيهم . انتهى ملخصاً .


 


قول الله : إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه


قوله : باب


 قول الله تعالى : ' 3 : 175 ' " إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين " .


الخوف من أفضل مقامات الدين وأجلها ، وأجمع أنواع العبادة التي يجب إخلاصها لله تعالى . قال تعالى : ' 21 : 28 ' " وهم من خشيته مشفقون " وقال تعالى : ' 16 : 50 ' " يخافون ربهم من فوقهم " وقال تعالى : ' 55 : 46 ' " ولمن خاف مقام ربه جنتان " وقال تعالى : ' 16 : 51 ' " فإياي فارهبون " وقال تعالى : ' 5 : 44 ' " فلا تخشوا الناس واخشون " وأمثال هذه الآيات في القرآن كثير .


 


أقسام الخوف


والخوف من حيث هو على ثلاثة أقسام :


أحدها : خوف السر ، وهو أن يخاف من غير الله من وثن أو طاغوت أن يصيبه بما يكره ، كما قال تعالى عن قوم هود عليه السلام إنهم قالوا له : ' 11 : 54 ' " إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون * من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون " وقال تعالى : ' 39 : 36 ' " ويخوفونك بالذين من دونه " وهذا هو الواقع من عباد القبور ونحوها من الأوثان يخافونها ، ويخوفون بها أهل التوحيد إذا أنكروا عبادتها وأمروا بإخلاص العبادة لله ، وهذا ينافي التوحيد .


الثاني : أن يترك الإنسان ما يجب عليه ، خوفاً من بعض الناس ، فهذا محرم وهو نوع من الشرك بالله المنافى لكمال التوحيد . وهذا هو سبب نزول هذه الآية . كما قال تعالى : ' 3 : 173 ـ 175 ' " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم* إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه " الآية . وفي الحديث : " إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة : ما منعك إذ رأيت المنكر أن لا تغيره ؟ فيقول : رب خشية الناس . فيقول : إباي كنت أحق أن تخشى " .


الثالث : الخوف الطبيعي ، وهو الخوف من عدو أو سبع أو غير ذلك . فهذا لا يذم . كما قال تعالى في قصة موسى عليه السلام : '28 : 21 ' " فخرج منها خائفا يترقب " الآية .


ومعنى قوله : " إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه " أي يخوفكم أولياءه " فلا تخافوهم وخافون " وهذا نهى من الله تعالى للمؤمنين أن يخافوا غيره ، وأمر لهم أن يقصروا خوفهم على الله ، فلا يخافون إلا إياه . وهذا هو الإخلاص الذي أمر به عباده ورضيه منهم . فإذا أخلصوا له الخوف وجميع العبادة أعطاهم ما يرجون وأمنهم من مخاوف الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : ' 39 : 36 ' " أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه " الآية .


قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى : ومن كيد عدو الله : أنه يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه ، لئلا يجاهدوهم ، لا يأمروهم بمعروف ، ولا ينهوم عن منكر . وأخبر تعالى أن هذا من كيد الشيطان وتخويفه . ونهانا أن نخافهم . قال : والمعنى عند جميع المفسرين : يخوفهم بأوليائه . قال قتادة : يعظمهم في صدوركم . فكلما قوى إيمان العبد زال خوف أولياء الشيطان من قلبه ، وكلما ضعف إيمانه قوى خوفه منهم . فدلت هذه الآية على أن إخلاص الخوف من كمال شروط الإيمان .


 


" إنما يعمر مساجد الله " الآية


قوله :  وقول الله تعالى : ' 9 : 18 ' " إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين " .


أخبر تعالى أن مساجد الله لا يعمرها إلا أهل الإيمان بالله واليوم الآخر ، الذين آمنوا بقلوبهم وعملوا بجوارحهم ، وأخلصوا له الخشية دون من سواه ، فأثبت لهم عمارة المساجد بعد أن نفاها عن المشركين . لأن عمارة المساجد بالطاعة والعمل الصالح ، والمشرك وإن عمل فعمله : ' 24 : 30 ' " كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا " أو ' 14 : 18 ' " كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف " وما كان كذلك فالعدم خير منه ، فلا تكون المساجد عامرة إلا بالإيمان الذي معظمه التوحيد مع العمل الصالح الخالص من شوائب الشرك والبدع ، وذلك كله داخل في مسمى الإيمان المطلق عند أهل السنة والإجماع .


قوله : " ولم يخش إلا الله " قال ابن عطية : يريد خشية التعظيم والعبادة والطاعة ، ولا محالة أن الإنسان يخشى المحاذير الدنيوية ، وينبغي في ذلك كله قضاء الله وتصريفه .


وقال ابن القيم رحمه الله : الخوف عبودية القلب . فلا يصلح إلا لله ، كالذل والإنابة والمحبة والتوكل والرجاء وغيرها من عبودية القلب .


قوله : " فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين " قال بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما :  يقول : إن أولئك هم المهتدون ، وكل  عسى  في القرآن فهي واجبة وفي الحديث : " إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان قال الله تعالى : " إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر " " رواه أحمد والترمذي والحاكم عن أبي سعيد الخدري .


 


" ومن الناس من يقول آمنا بالله " فإذا أوذي إلخ


قوله : ' 29 : 10 ' " ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله " .


قال ابن كثير رحمه الله تعالى : يقول تعالى مخبراً عن صفات قوم من المكذبين يدعون الإيمان بألسنتهم ، ولم يثبت في قلوبهم : أنهم إذا جاءتهم محنة وفتنة في الدنيا اعتقدوا أنها من نقمة الله بهم ، فارتدوا عن الإسلام . قال ابن عباس رضي الله عنهما :  يعني فتنة أن يرتد عن دينه إذا أوذي في الله  .


وقال ابن القيم رحمه الله تعالى : الناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين : إما أن يقول أحدهم : آمنا ، وإما أن لا يقول ذلك . بل يستمر على السيئات والكفر ، فمن قال : آمنا امتحنه ربه وابتلاه وفتنه . والفتنة : الإبتلاء والاختبار ، ليتبين الصادق من الكاذب ، ومن لم يقل : آمنا . فلا يحسب أنه يعجر الله ويفوته ويسبقه . فمن آمن بالرسل وأطاعهم عاداه أعداؤهم وآذوه وابتلى بما يؤلمه ، ومن لم يؤمن بهم ولم يطعهم عوقب في الدنيا والآخرة وحصل له ما يؤلمه ، وكان هذا الألم أعظم وأدوم من ألم أتباعهم . فلا بد من حصول الألم لكل نفس ، آمنت أو رغبت عن الإيمان ، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة ، والمعرض عن الإيمان تحصل له اللذة ابتداء ثم يصير في الألم الدائم ، والإنسان لا بد أن يعيش مع الناس ، والناس لهم إرادات وتصورات ، فيطلبون منه أن يوافقهم عليها ، وإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه ، وإن وافقهم حصل له العذاب تارة منهم وتارة من غيرهم ، كمن عنده دين وتقي حل بين قوم فجار ظلمة لا يتمكنون من فجورهم وظلمهم إلا بموافقته لهم أو سكوته عنهم ، فإن وافقهم أو سكت عنهم سلم من شرهم في الإبتداء ، ثم يتسلطون عليه بالإهانة والأذى أضعاف ما كان يخافه ابتداء لو أنكر عليهم وخالفهم ، وإن سلم منهم فلا بد أن يهان ويعاقب على يد غيرهم .


فالحزم كل الحزم بما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لمعاوية رضي الله عنه : " من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس . ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا من الله شيئاً ".


فمن هداه الله وألهمه رشده ووقاه شر نفسه امتنع من الموافقة على فعل المحرم وصبر على عداوتهم ، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة ، كما كانت للرسل وأتباعهم .


ثم أخبر تعالى عن حال الداخل في الإيمان بلا بصيرة وأنه إذا أوذي في الله جعل فتنة الناس له ، وهي أذاهم ونيلهم إياه بالمكروه ، وهو الألم الذي لا بد أن ينال الرسل وأتباعهم ممن خالفهم ، جعل ذلك في فراره منه وتركه السبب الذي يناله به : كعذاب الله الذي فر منه المؤمنون بالإيمان .


فالمؤمنون لكمال بصيرتهم فروا من ألم عذاب الله إلى الإيمان ، وتحملوا ما فيه من الألم الزائل المفارق عن قرب . وهذا لضعف بصيرته فر من ألم أعداء الرسل إلى موافقتهم ومتابعتهم ، ففر من ألم عذابهم إلى ألم عذاب الله . فجعل ألم فتنة الناس في الفرار منه بمنزلة عذاب الله . وغبن كل الغبن إذ استجار من الرمضاء بالنار . وفر من ألم ساعة إلى ألم الأبد ، وإذا نصر الله جنده وأولياءه قال : إني كنت معكم ، والله أعلم بما انطوى عليه صدره من النفاق . انتهى .


وفي الآية رد على المرجئة والكرامية ، ووجهه : أنه لم ينفع هؤلاء قولهم : آمنا بالله . مع عدم صبرهم على أذى من عاداهم في الله ، فلا ينفع القول والتصديق بدون العمل . فلا يصدق الإيمان الشرعي على الإنسان إلا باجتماع الثلاثة : التصديق بالقلب وعمله ، والقول باللسان ، والعمل بالأركان . وهذا قول أهل السنة والجماعة سلفاً وخلفاً ، والله سبحانه وتعالى أعلم .


وفيه الخوف من مداهنة الخلق في الحق . والمعصوم من عصمه الله .


 


من ضعف اليقين أن ترضى الناس بسخط الله


قوله : عن أبي سعيد مرفوعاً :  إن من ضعف اليقين أن ترضى الناس بسخط الله ، وأن تحمدهم على رزق الله ، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله ، إن رزق الله لا يجره حرص حريص ، ولا يرده كراهية كاره  .


هذا الحديث رواه أبو نعيم في الحلية والبيهقي ، وأعله بمحمد بن مروان السدى وقال : ضعيف ، وفيه أيضاً عطية العوفي : ذكره الذهبي الضعفاء والمتروكين ، ومعنى الحديث صحيح ، وتمامه : " وإن الله بحكمته جعل الروح والفرح في الرضى واليقين ، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط " .


قوله :  إن من ضعف اليقين  الضعف يضم ويحرك ، ضد القوة ، ضعف ككرم ونصر ، ضعفاً ، وضعفة ، وضعافية ، فهو ضعيف وضعوف وضعفان ، والجمع : ضعاف وضعفاء وضعفة وضعفى ، أو الضعف ـ بالفتح ـ في الرأي وبالضم في البدن ، فهي ضعيفة وضعوف .  اليقين  كمال الإيمان . قال ابن مسعود :  اليقين الإيمان كله ، والصبر نصف الإيمان  رواه أبو نعيم الحلية ، والبيهقي في الزهد من حديثه مرفوعاً . قال : ويدخل في ذلك تحقيق الإيمان بالقدر السابق ، كما في حديث ابن عباس مرفوعاً : " فإن استطعت أن تعمل بالرضى في اليقين فافعل ، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً " وفي رواية : " قلت يا رسول الله كيف أصنع باليقين ؟ قال : أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وما أخطأك لم يكن ليصيبك " .


قوله :  أن ترضى الناس بسخط الله  أي تؤثر رضاهم على رضى الله ، وذلك إذا لم يقم بقلبه من إعظام الله وإجلاله وهيبته ما يمنعه من استجلاب رضى المخلوق بما يجلب له سخط خالقه وربه ومليكه الذي يتصرف في القلوب ويفرج الكروب ويغفر الذنوب . وبهذا الاعتبار يدخل في نوع من الشرك . لأنه آثر رضى المخلوق على رضى الله . وتقرب إليه بما يسخط الله . ولا يسلم من هذا إلا من سلمه الله . ووفقه لمعرفته ومعرفة ما يجوز على الله من إثبات صفاته على ما يليق بجلاله ، وتنزيهه تعالى عن كل ما ينافي كماله ، ومعرفة توحيده من ربوبيته وإلهيته وبالله التوفيق .


قوله :  وأن تحمدهم على رزق الله  أي على ما وصل إليك من أيديهم ، بأن تضيفه إليهم وتحمدهم عليه . فإن المتفضل في الحقيقة هو الله وحده الذي قدره لك وأوصله إليك ، وإذا أراد أمراً قيض له أسباباً . ولا ينافي هذا حديث : " من لا يشكر الناس لا يشكر الله " لأن شكرهم إنما هو بالدعاء لهم لكون الله ساقه على أيديهم فتدعو لهم أو تكافئهم ، لحديث : " ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه ، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه " . فإضافة الصنيعة إليهم لكونهم صاروا سبباً في إيصال المعروف إليك ، والذي قدره وساقه هو الله وحده .


قوله :  وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله لأنه لم يقدر لك ما طلبته على أيديهم فلو قدره لك لساقته المقادير إليك . فمن علم أن المتفرد بالعطاء والمنع هو الله وحده وأنه هو الذي يرزق العبد بسبب وبلا سبب ، ومن حيث لا يحتسب ، لم يمدح مخلوقاً على رزق ولم يذمه على منع ، ويفوض أمره إلى الله ، ويعتمد عليه في أمر دينه ودنياه . وقد قرر النبي هذا المعنى بقوله في الحديث : " إن رزق الله لا يجره حرص حريص ولا يرده كراهية كاره " كما قال تعالى : ' 35 : 2 ' " ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم " .


قال شيخ الإسلام رحمه الله : اليقين يتضمن اليقين في القيام بأمر الله وما عدا الله أهل طاعته ، ويتضمن اليقين بقدر الله وخلقه وتدبيره ، فإذا أرضيتهم بسخط الله لم تكن موقناً لا بوعده ولا برزقه ، فإنه إنما يحمل الإنسان على ذلك إما ميل إلى ما في أيديهم فيترك القيام فيهم بأمر الله لما يرجوه منهم ، وإما ضعف تصديقه بما وعد الله أهل طاعته من النصر والتأييد والثواب في الدنيا والآخرة . فإنك إذا أرضيت الله نصرك ورزقك وكفاك مؤونتهم . وإرضاؤهم بما يسخطه إنما يكون خوفاً منهم ورجاءً لهم وذلك من ضعف اليقين . وإذا لم يقدر لك ما تظن يفعلونه معك فالأمر في ذلك إلى الله لا لهم . فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، فإذا ذممتهم على ما لم يقدر كان ذلك من ضعف يقينك ، فلا تخفهم ولا ترجهم ولا تذمهم من جهة نفسك وهواك ، ولكن من حمده الله ورسوله منهم فهو المحمود ، ومن ذمه الله ورسوله منهم فهو المذموم . ولما قال بعض وفد بني تميم : " أي محمد أعطني . فإن حمدي زين وذمي شين ، قال النبي صلى الله عليه وسلم ذاك الله " ودل الحديث على أن الإيمان يزيد وينقص وأن الأعمال من مسمى الإيمان .


قوله :  وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ، ومن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس " رواه ابن حبان في  صحيحه  .


هذا الحديث رواه ابن حبان بهذا اللفظ ، ورواه الترمذي عن رجل من أهل المدينة قال :  كتب معاوية رضي الله عنه إلى عائشة رضي الله عنها : أن اكتبي لي كتاباً توصيني فيه ، ولا تكثري علي ، فكتبت عائشة رضي الله عنها : إلى معاوية ، سلام عليك، أما بعد فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس ، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس . والسلام عليك " ورواه أبو نعيم في الحلية .


قوله :  من التمس  أي طلب .


قال شيخ الإسلام : وكتبت عائشة إلى معاوية ، وروي أنها رفعته : " من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس ، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئاً " هذا لفظ المرفوع . ولفظ الموقوف : " من أرضى الله بسخط الناس رضى الله عنه وأرضى عنه الناس ، ومن أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس له ذماً " وهذا من أعظم الفقه في الدين فإن من أرضى الله بسخطهم كان قد اتقاه وكان عبده الصالح ، والله يتولى الصالحين ، والله كاف عبده : ' 65 : 2 ، 3 ' " ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب " . والله يكفيه مؤنة الناس بلا ريب . وأما كون الناس كلهم يرضون عنه قد لا يحصل ذلك ، لكن يرضون عنه إذا سلموا من الأغراض وإذا تبين لهم العاقبة .  ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئاً  كالظالم الذي يعض يديه . وأما كون حامده ينقلب ذاماً ، فهذا يقع كثيراً ويحصل في العاقبة . فإن العاقبة للتقوى لا تحصل ابتداء عند أهوائهم . ا هـ .


وقد أحسن من قال :


إذا صح منك الود يا غاية المنى    فكل الذي فوق التراب تراب


قال ابن رجب رحمه الله : فمن تحقق أن كل مخلوق فوق التراب فهو تراب فكيف يقدم طاعة من هو تراب على طاعة رب الأرباب ؟ أم كيف يرضى التراب بسخط الملك الوهاب ؟ إن هذا لشئ عجاب .


وفي الحديث : عقوبة من خاف الناس وآثرهم رضاهم على الله ، وأن العقوبة قد تكون في الدين . عياذاً بالله من ذلك . كما قال تعالى : ' 9 : 78 ' " فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون " .


 


وعلى الله فتوكلوا إلخ


قوله : باب


قوله الله تعالى : ' 5 : 23 ' " وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين " .


قال أبو السعادات : يقال : توكل بالأمر . إذا ضمن القيام به ، ووكلت أمري إلى فلان . إذا اعتمدت عليه ، ووكل فلان فلاناً إذا استكفاه أمره ثقة بكفايته ، أو عجزاً عن القيام بأمر نفسه . ا هـ .


وأراد المصنف رحمه الله بهذه الترجمة بالآية بيان أن التوكل فريضة يجب إخلاصه لله تعالى ، فإن تقديم المعمول يفيد الحصر . أي وعلى الله فتوكلوا لا على غيره ، فهو من أجمع أنواع العبادة وأعظمها ، لما ينشأ عنه من الأعمال الصالحة ، فإنه إذا اعتمد على الله في جميع أموره الدينية والدنيوية ، دون كل من سواه صح إخلاصه ومعاملته مع الله تعالى ، فهو من أعظم منازل " إياك نعبد وإياك نستعين " فلا يحصل كمال التوحيد بأنواعه الثلاثة إلا بكمال التوكل على الله ، كما في هذه الآية ، وكما قال تعالى : ' 10 : 84 ' " إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين " وقوله : ' 73 : 9 ' " رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً " الآيات في الأمر به كثيرة جداً . قال الإمام أحمد رحمه الله :  التوكل عمل القلب  .


وقال ابن القيم في معنى الآية المترجم بها : فجعل التوكل على الله شرطاً في الإيمان فدل على إنتفاء الإيمان عند انتفائه ، وفي الآية الآخرى : ' 10 : 84 ' " قال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين " فجعل دليل صحة الإسلام التوكل ، وكلما قوى إيمان العبد كان توكله أقوى ، وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل وإذا كان التوكل ضعيفاً كان دليلاً على ضعف الإيمان ولا بد . والله تعالى يجمع بين التوكل والعبادة ، وبين التوكل والإيمان ، وبين التوكل والتقوى ، وبين التوكل والإسلام ، وبين التوكل والهداية .


فظهر أن التوكل أصل جميع مقامات الإيمان والإحسان ، ولجميع أعمال الإسلام ، وأن منزلته منها كمنزلة الجسد من الرأس ، فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن فكذلك لا يقوم الإيمان ومقاماته وأعماله إلا على ساق التوكل .


قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : وما رجا أحد مخلوقاً ولا توكل عليه إلا خاب ظنه فيه ، فإنه مشرك : ' 22 : 31 ' " ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق " .


قال الشارح رحمه الله تعالى : قلت : لكن التوكل على الله قسمان :


أحدهما : التوكل في الأمور التي لا يقدر الله ، كالذين يتوكلون على الأموات والطواغيت في رجاء مطالبهم من نصر ، أو حفظ أو رزق أو شفاعة . فهذا شرك أكبر .


الثاني : التوكل في الأسباب الظاهرة ، كمن يتوكل على أمير أو سلطان فيما أقدره الله تعالى عليه من رزق ، أو دفع أذى ونحو ذلك ، فهو نوع شرك أصغر . والوكالة الجائزة هي توكيل الإنسان الإنسان في فعل ما يقدر عليه نيابة عنه ، لكن ليس له أن يعتمد في حصوله ما وكل فيه ، بل يتوكل على الله في تيسير أمره الذي يطلبه بنفسه أو نائبه ، وذلك من جملة الأسباب التي يجوز فعلها ، ولا يعتمد عليها بل يعتمد على المسبب الذي أوجد السبب والمسبب .


 


" إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم "


قال :  وقول الله تعالى : ' 8 : 2 ' " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " الآيات  .


قال ابن عباس في الآية :  المنافقون لا يدخل في قلوبهم شئ من ذكر الله عند أداء فرائضه ولا يؤمنون بشئ من آيات الله ، ولا يتوكلون على الله ، ولا يصلون إذا غابوا ، ولا يؤدون زكاة أموالهم ، فأخبر الله أنهم ليسوا بمؤمنين ، ثم وصف المؤمنين فقال : " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " فأدوا فرائضه  رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ، ووجل القلب من الله مستلزم القيام بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه : قال السدى :" الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم" هو الرجل يريد أن يظلم ، أو قال يهم بمعصية ، فيقال له : اتق الله ، فيجل قلبه رواه ابن أبي شيبة وابن جرير .


قوله : " وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً " استدل الصحابة رضي الله عنهم والتابعون ومن تبعهم من أهل السنة بهذه الآية ونظائرها على زيادة الإيمان ونقصانه .


قال عمير بن حبيب الصحابي : " إن الإيمان يزيد وينقص ، فقيل له : وما زيادته ونقصانه ؟ قال : إذا ذكرنا الله وخشيناه فذلك زيادته . وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه " . رواه ابن سعد .


وقال مجاهد :  الإيمان يزيد وينقص وهو قول وعمل  رواه ابن أبي حاتم .


وحكى الإجماع على ذلك الشافعي وأحمد وأبو عبيد وغيرهم رحمهم الله تعالى .


قوله : " وعلى ربهم يتوكلون " أي يعتمدون عليه بقلوبهم مفوضين إليه أمورهم فلا يرجون سواه ولا يقصدون إلا إياه ، ولا يرغبون إلا إليه ، يعلمون أن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وأنه المتصرف في الملك وحده ، والمعبود وحده ، لا شريك له . وفي الآية وصف المؤمنين حقاً بثلاث مقامات من مقامات الإحسان ، وهي : الخوف ، وزياة الإيمان ، والتوكل على الله وحده . وهذه المقامات تقتضي كمال الإيمان وحصول أعماله الباطنة والظاهرة مثال ذلك الصلاة ، فمن أقام الصلاة وحافظ عليها وأدى الزكاة كما أمره الله استلزم ذلك العمل بما يقدر عليه من الواجبات وترك جميع المحرمات ، كما قال تعالى : ' 29 : 45 ' " إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر " .


 


معنى : حسبك الله ومن ابتعك من المؤمنين


قال وقوله : ' 8 : 64 ' " يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين " قال ابن القيم رحمه الله : أي الله وحده كافيك وكافي أتباعك : فلا تحتاجون معه إلى أحد ، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .


وقيل : المعنى حسبك الله وحسبك المؤمنون .


قال ابن القيم رحمه الله : وهذا خطأ محض لا يجوز حمل الآية عليه ، فإن الحسب والكفاية لله وحده كالتوكل والتقوى والعبادة . قال الله تعالى : ' 8 : 62 ' " وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين " ففرق بين الحسب والتأييد ، فجعل الحسب له وحده وجعل التأييد له بنصره وبعباده ، وأثنى على أهل التوحيد من عباده حيث أفردوه بالحسب ، فقال تعالى : ' 3 : 173 ' " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل " ولم يقولوا : حسبنا الله ورسوله . ونظير هذا قوله سبحانه : ' 9 : 59 ' " وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون " . فتأمل كيف جعل الإيتاء لله والرسول ، وجعل الحسب له وحده . فلم يقل : وقالوا حسبنا الله ورسوله ، بل جعله خالص حقه ، كما قال " إنا إلى الله راغبون " فجعل الرغبة إليه وحده، كما قال تعالى "وإلى ربك فارغب" فالرغبة والتوكل والإنابة والحسب لله وحده ، كما أن العبادة والتقوى والسجود والنذر والحلق لا يكون إلا له سبحانه وتعالى . انتهى .


وبهذا يتبين مطابقة الآية للترجمة . فإذا كان هو الكافي لعبده وجب ألا يتوكل إلا عليه ، ومتى التفت بقلبه إلى سواه وكله الله إلى من التفت إليه ، كما في الحديث : " من تعلق شيئاً وكل إليه " .


قال :  وقول الله تعالى : ' 65 : 3 ' " ومن يتوكل على الله فهو حسبه "  .


قال ابن القيم رحمه الله وغيره : أي كافيه . ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه ولا يضره إلا أذى لا بد منه ، كالحر والبرد والجوع والعطش . وأما أن يضره بما يبلغ به مراده منه فلا يكون أبداً ، وفرق بين الأذى الذي هو الظاهر إيذاء وفي الحقيقة إحسان وإضرار بنفسه ، وبين الضرر الذي يتشفى به منه . قال بعض السلف : جعل الله لكل عمل جزاء من نفسه ، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته ، فقال : " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " فلم يقل : فله كذا وكذا من الأجر كما قال في الأعمال ، بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه . فلو توكل العبد على الله حق توكله ، وكادته السموات والأرض ومن فيهن ، لجعل الله له مخرجاً وكفاه رزقه ونصره . انتهى .


وفي أثر رواه أحمد في الزهد عن وهب بن منبه قال : " قال الله عز وجل في بعض كتبه : بعزتي إنه من اعتصم بي فكادته السموات بمن فيهن والأرضون بمن فيهن ، فإني أجعل له من ذلك مخرجاً ، ومن لم يعتصم بي فإني أقطع يديه من أسباب السماء وأخسف من تحت قدميه الأرض ، فأجعله في الهواء ثم أكله إلى نفسه . كفى بي لعبدي مآلاً . إذا كان عبدي في طاعتي أعطيه قبل أن يسألني ، وأستجيب له قبل أن يدعوني . فأنا أعلم بحاجته التي نرفق به منه " .


وفي الآية دليل على فضل التوكل ، وأنه أعظم الأسباب في جلب المنافع ودفع المضار . لأن الله تعالى علق الجملة الأخيرة على الأولى وتعليق الجزاء على الشرط . فيمتنع أن يكون وجود الشرك كعدمه ، لأنه الله تعالى رتب الحكم على الوصف المناسب له ، فعلم أن توكله هو سبب كون الله حسباً له .


وفيها تنبيه على القيام بالأسباب مع التوكل ، لأنه تعالى ذكر التقوى ثم ذكر التوكل ، كما قال تعالى : ' 5 : 11 ' " واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون " فجلع التوكل مع التقوى الذي هو قيام الأسباب المأمور بها. فالتوكل بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجز محض ، وإن كان مشوباً بنوع من التوكل فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكله عجزاً ولا عجزه توكلاً ، بل يجعل توكله من جملة الأسباب التي لا يتم المقصود إلا بها كلها . ذكره ابن القيم بمعناه .


قال :  وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " حسبنا الله ونعم الوكيل " ، قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار ، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له : " إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل " رواه البخاري .


قوله :  حسبنا الله  أي كافينا . فلا نتوكل إلا عليه . قال تعالى ' 39 : 36 ' " أليس الله بكاف عبده ؟ " .


قوله :  ونعم الوكيل  أي نعم الموكل إليه ، كما قال تعالى : ' 22 : 78 ' " واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير " ومخصوص نعم محذوف تقديره هو .


قال ابن القيم رحمه الله : هو حسب من توكل عليه وكافى من لجأ إليه ، وهو الذي يؤمن خوف الخائف ، ويجير المستجير ، فمن تولاه واستنصر به وتوكل عليه ، وانقطع بكليته إليه ، تولاه وحفظه وحرسه وصانه . ومن خافه واتقاه ، أمنه مما يخاف ويحذر ، ويجلب إليه ما يحتاج إليه من المنافع .


 


ما قال إبراهيم حين ألقى في النار


قوله :  قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار  قال تعالى : ' 21 : 68 ـ 70 ' " قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين * قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم * وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين " .


قوله :  وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له : " إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل "  وذلك بعد منصرف قريش والأحزاب من أحد " بلغه أن أبا سفيان ومن معه قد أجمعوا الكرة عليهم ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في سبعين راكباً حتى انتهى إلى حمراء الأسد ، فألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان . فرجع إلى مكة بمن معه ، ومر به ركب من عبد القيس فقال : أين تريدون ؟ قالوا : نريد المدينة . قال : فهل أنتم مبلغون محمداً عني رسالة ؟ قالوا : نعم . قال فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم . فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد ، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان . فقال : حسبنا الله ونعم الوكيل " ففي هاتين القصتين فضل هذه الكلمة العظيمة وأنها قول الخليلين عليهما الصلاة والسلام في الشدائد . وجاء في الحديث : " إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل " .


 


ما قال إبراهيم حين ألقى في النار


قوله :  قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار  قال تعالى : ' 21 : 68 ـ 70 ' " قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين * قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم * وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين " .


قوله :  وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له : " إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل "  وذلك بعد منصرف قريش والأحزاب من أحد " بلغه أن أبا سفيان ومن معه قد أجمعوا الكرة عليهم ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في سبعين راكباً حتى انتهى إلى حمراء الأسد ، فألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان . فرجع إلى مكة بمن معه ، ومر به ركب من عبد القيس فقال : أين تريدون ؟ قالوا : نريد المدينة . قال : فهل أنتم مبلغون محمداً عني رسالة ؟ قالوا : نعم . قال فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم . فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد ، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان . فقال : حسبنا الله ونعم الوكيل " ففي هاتين القصتين فضل هذه الكلمة العظيمة وأنها قول الخليلين عليهما الصلاة والسلام في الشدائد . وجاء في الحديث : " إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل " .


 


 


باب قول الله " أفأمنوا مكر الله "


قوله : باب


قول الله تعالى : ' 7 : 99 ' " أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون " .


قصد المصنف رحمه الله بهذه الآية التنبيه على أن الأمن من مكر الله من أعظم الذنوب . وأنه ينافي كمال التوحيد ، كما أن القنوط من رحمه الله كذلك وذلك يرشد إلى أن المؤمن يسير إلى الله بين الخوف والرجاء ، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وأرشد إليه سلف الأمة والأئمة .


ومعنى الآية : أن الله تبارك وتعالى لما ذكر حال أهل القرى المكذبين للرسل بين أن الذي حملهم على ذلك هو الأمن مكر الله وعدم الخوف منه ، كما قال تعالى : ' 7 : 96 ـ 98 ' " أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون * أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون * أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون " . أي الهالكون . وذلك أنهم أمنوا مكر الله لما استدرجهم بالسراء والنعم ، فاستبعدوا أن يكون ذلك مكراً .


قال الحسن رحمه الله :  من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأى له  .


وقال قتادة :  بغت القوم أمر الله ، وما أخذ الله قوماً قط إلى عند سلوتهم ونعمتهم غرتهم . فلا تغتروا بالله  .


وفي الحديث : " إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج " رواه أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم .


وقال إسماعيل بن رافع : " من الأمن من مكر الله إقامة العبد على الذنب يتمنى على الله المغفرة " رواه ابن أبي حاتم .


وهذا هو تفسير المكر في قول بعض السلف :  يستدرجهم الله بالنعم إذا عصوه ، ويملى لهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر . وهذا هو معنى المكر والخديعة ونحو ذلك ، ذكره ابن جرير بمعناه .


قال :  وقول الله تعالى : ' 15 : 56 ' " ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون "  القنوط : استبعاد الفرج واليأس منه . وهو يقابل الأمن من مكر الله . وكلاهما ذنب عظيم . وتقدم ما فيه لمنافاته لكمال التوحيد .


وذكر المصنف رحمه الله تعالى هذه الآية مع التي قبلها تنبيهاً على أنه لا يجوز لمن خاف الله أن يقنط من رحمته ، بل يكون خائفاً راجياً ، يخاف ذنوبه ويعمل بطاعته ، ويرجو رحمته ، كما قال تعالى : ' 39 : 9 ' " أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه " وقال : ' 2 : 218 ' " إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم " فالرجاء مع المعصية وترك الطاعة غرور من الشيطان ، ليوقع العبد في المخاوف مع ترك الأسباب المنجية من المهالك ، بخلاف حال أهل الإيمان الذين أخذوا بأسباب النجاة خوفاً من الله تعالى وهرباً من عقابه ، وطمعاً في المغفرة ورجاء لثوابه .


والمعنى أن الله تعالى حكى قول خليله إبراهيم عليه السلام ، لما بشرته الملائكة بابنه إسحاق : ' 15 : 54 ' " قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون " لأن العادة أن الرجل إذا كبر سنه وسن زوجته استبعد أن يولد له منها . والله على كل شئ قدير ، فقالت الملائكة : " بشرناك بالحق " الذي لا ريب فيه . فإن الله إذا أراد شيئاً إنما يقول له كن فيكون : " فلا تكن من القانطين " أي من الأيسين ، فقال عليه السلام : " ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون " فإنه يعلم من قدرة الله ورحمته ما هو أبلغ من ذلك وأعظم ، لكنه ـ والله أعلم ـ قال ذلك على وجه التعجب .


قوله : " إلا الضالون " قال بعضهم : إلا المخطئون طريق الصواب ، أو إلا الكافرون . كقوله : ' 12 : 87 ' " إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون " .


 


اليأس من روح الله والأمن من مكر الله


قوله :  وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " سئل عن الكبائر ، فقال : الشرك بالله ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله " .


هذا الحديث رواه البزار وابن أبي حاتم من طريق شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس ورجاله ثقات إلا شبيب بن بشر . فقال ابن معين : ثقة . ولينه أبو حاتم . وقال ابن كثير : في إسناده نظر . والأشبه أن يكون موقوفاً .


قوله :  الشرك بالله  هو أكبر الكبائر . قال ابن القيم رحمه الله : الشرك بالله هضم للربوبية وتنقص للإلهية ، وسوء ظن برب العالمين . انتهى .


ولقد صدق ونصح . قال تعالى : ' 6 : 1 ' " ثم الذين كفروا بربهم يعدلون " وقال تعالى : ' 31 : 13 ' " إن الشرك لظلم عظيم " ولهذا لا يغفره الله إلا بالتوبة منه .


قوله :  واليأس من روح الله  أي قطع الرجاء الأول والأمل من الله فيما يخافه ويرجوه ، وذلك إساءة ظن بالله ، وجهل به وبسعة رحمته وجوده ومغفرته .


قوله :  والأمن من مكر الله  أي من استدراجه للعبد وسلبه ما أعطاه من الإيمان ، نعوذ بالله من ذلك . وذلك جهل بالله وبقدرته ، وثقة بالنفس وعجب بها .


واعلم أن هذا الحديث لم يرد به حصر الكبائر في الثلاث ، بل الكبائر كثير وهذه الثلاث من أكبر الكبائر المذكورة في الكتاب والسنة ، وضابطها ما قاله المحققون من العلماء : كل ذنب ختمه الله بنار أو لعنة أو غضب أو عذاب . زاد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : أو نفى الإيمان .


قلت : ومن برىء منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو قال : " ليس منا من فعل كذا وكذا " .


وعن ابن عباس رضي الله عنهما :  هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع ، غير أنه لا كبيرة مع الإستغفار ولا صغيرة مع الإصرار


قوله :  وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : " أكبر الكبائر الإشراك بالله . والأمن من مكر الله ، والقنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله " رواه عبد الرزاق  .


ورواه ابن جرير بأسانيد صحاح عن ابن مسعود رضي الله عنه .


قوله :  والقنوط من رحمة الله  قال أبو السعادات : هو أشد اليأس .


وفيه التنبيه على الرجاء والخوف ، فإذا خاف فلا يقنط ولا ييأس ، بل يرجو رحمة الله . وكان السلف يستحبون أن يقوى في الصحة الخوف ، وفي المرض الرجاء . وهذه طريقة أبي سليمان الداراني وغيره . قال : ينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف، فإذا غلب الرجاء الخوف فسد القلب . قال تعالى : ' 14 : 12 ' " إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير " وقال : ' 14 : 37 ' " يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار " قال تعالى : ' 23 : 60 ' " والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون *  أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون " وقال تعالى : ' 39 : 9 ' " أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه " الآية . قدم الحذر على الرجاء في هذه الآية .


 


باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله


قوله : ( باب من الإيمان بالله : الصبر على أقدار الله )


قال الإمام أحمد : ذكر الله تعالى الصبر في تسعين موضعاً من كتابه . وفي الحديث الصحيح : " الصبر ضياء " رواه أحمد ومسلم، وللبخاري ومسلم مرفوعاً : " ما أعطى أحد عطاء خيراً أوسع من الصبر " قال عمر رضي الله عنه :  وجدنا خير عيشنا بالصبر  رواه البخاري . قال علي رضي الله عنه : " إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ـ ثم رفع صوته ـ فقال : ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له " .


واشتقاقه : من صبر إذا حبس ومنع . والصبر حبس النفس عن الجزع ، وحبس اللسان عن التشكي والتسخط ، والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحوهما ذكره ابن القيم رحمه الله .


واعلم أن الصبر ثلاثة أقسام : صبر على ما أمر الله به ، وصبر عما نهى عنه ، وصبر على ما قدره من المصائب .


قوله :  وقول الله تعالى : ' 64 : 11 ' " ومن يؤمن بالله يهد قلبه "  .


وأول الآية : " ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله " أي بمشيئته وإرادته وحكمته ، كما قال في الآية الآخرى : ' 57 : 22 ' " ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير " وقال : ' 2 : 154 ' " وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون " .


 


معنى قول الله " ومن يؤمن بالله يهد قلبه "


قوله : " ومن يؤمن بالله يهد قلبه " قال ابن عباس في قوله : " إلا بإذن الله "  إلا بأمر الله  يعني عن قدره ومشيئته " ومن يؤمن بالله يهد قلبه " أي من صابته مصيبة فعلم أنها بقدر الله فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله هدى الله قلبه وعوضه عما فاته من الدنيا هدى في قلبه ، ويقيناً صادقاً . وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه .


قوله : " والله بكل شيء عليم " تنبيه على أن ذلك إنما يصدر عن علمه المتضمن لحكمته . وذلك يوجب الصبر والرضا .


قوله :  قال علقمة : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم  .


هذا الأثر رواه ابن جرير وابن أبي حاتم .


وعلقمة : هو قيس بن عبد الله النخعي الكوفي . ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، وسمع من أبي بكر وعثمان وعلي وسعد وابن مسعود وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم . وهو من كبار التابعين وأجلائهم وعلمائهم وثقاتهم مات بعد الستين .


قوله : هو الرجل تصيبه المصيبة  إلخ . هذا الأثر رواه الأعمش عن أبي ظبيان . قال : كنا عند علقمة فقرىء عليه هذه الآية : " ومن يؤمن بالله يهد قلبه " قال هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم . هذا سياق ابن جرير . وفي هذا دليل على أن الأعمال من مسمى الإيمان . قال سعيد بن جبير : " ومن يؤمن بالله يهد قلبه " يعني يسترجع . يقول إنا لله وإنا إليه راجعون . وفي الآية بيان أن الصبر سبب لهداية القلب وأنها من ثواب الصابرين .


قوله :  وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اثنتان في الناس هما بهم كفر : الطعن في النسب ، والنياحة على الميت " .


أي هما بالناس كفر حيث كانتا من أعمال الجاهلية ، وهما قائمتان بالناس ولا يسلم منهما إلا من سلمه الله تعالى ورزقه علماً وإيماناً يستضيء به . لكن ليس من قام بشعبة من شعب الكفر يصير كافراً كالكفر المطلق . كما أنه ليس من قام به شبعة من شعب الإيمان يصير مؤمناً الإيمان المطلق . وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله : " ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة " وبين كفر منكر في الإثبات .


قوله :  الطعن في النسب  أي عيبه ، يدخل فيه أن يقال : هذا ليس ابن فلان مع ثبوت نسبه .


قوله : والنياحة على الميت  أي رفع الصوت بالندب وتعداد فضائل الميت ، لما فيه من التسخط على القدر المنافي للصبر ، كقول النائحة : واعضداه ، واناصراه ، ونحو ذلك . وفيه دليل على أن الصبر واجب ، وأن الكفر ما لا ينقل عن الملة .


 


براءة الرسول صلى الله عليه وسلم من ضرب الخدود إلخ


قوله : ولهما عن ابن مسعود مرفوعاً : " ليس منا من ضرب الخدود ، وشق الجيوب ، ودعا بدعوى الجاهلية " .


هذا من نصوص الوعيد ، وقد جاء عن سفيان الثوري وأحمد كراهية تأويلها ليكون أوقع في النفوس ، وأبلغ في الزجر ، وهو يدل على أن ذلك ينافي كمال الإيمان الواجب .


قوله : من ضرب الخدود وقال الحافظ : خص الخد لكونه الغالب وإلا فضرب بقية الوجه مثله .


قوله : وشق الجيوب هو الذي يدخل فيه الرأس من الثوب ، وذلك من عادة أهل الجاهلية حزناً على الميت .


قوله : ودعا بدعوى الجاهلية  قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : هو ندب الميت . وقال غيره : هو الدعاء بالويل والثبور . وقال ابن القيم رحمه الله : الدعاء بدعوى الجاهلية كالدعاء إلى القبائل والعصبية، ومثله التعصب إلى المذاهب والطوائف والمشايخ، وتفضيل بعضهم على بضع ، يدعو إلى ذلك ويوالي عليه ويعادي ، فكل هذا من دعوى الجاهلية .


وعند ابن ماجه وصححه ابن حبان عن أبي أمامة : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الخامشة وجهها ، والشاقة جبيها ، والداعية بالويل والثبور " .


وهذا يدل على أن هذه الأمور من الكبائر ، وقد يعفى عنه الشئ اليسير من ذلك إذا كان صدقاً وليس على وجه النوح والتسخط نص عليه أحمد رحمه الله ، لما وقع لأبي بكر وفاطمة رضي الله عنهما لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم .


وليس في هذه الأحاديث ما يدل على النهي عن البكاء ، لما في الصحيح أن رسول الله صلى لله عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم قال : " تدمع العين ويحزن القلب ، ولا نقول إلا ما يرضي الرب ، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون " وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنه : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق إلى إحدى بناته ولها صبي في الموت ، فرفع إليه ونفسه تقعقع كأنها شن ، ففاضت عيناه ، فقال سعد : ما هذا يا رسول الله ؟ قال : هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده ، وإنما يرحم الله من عبادة الرحماء " .


 


من رحمته بالعبد تعجيل عقوبته في الدنيا


قوله : " وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا ، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة " .


هذا الحديث رواه الترمذي والحاكم وحسنه الترمذي . وأخرجه الطبراني والحاكم عن عبد الله بن مغفل ابن عدي عن أبي هريرة ، والطبراني عن عمار بن ياسر .


قوله :  إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا  أي يصب عليه البلاء والمصائب لما فرط من الذنوب منه ، فيخرج منها وليس عليه ذنب يوافى به يوم القيامة .


قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : المصائب نعمة ، لأنها مكفرات للذنوب ، وتدعو إلى الصبر فيثاب عليها . وتقتضي الإنابة إلى الله والذل له ، والإعراض عن الخلق ، إلى غير ذلك من المصالح العظيمة . فنفس البلاء يكفر الله به الذنوب والخطايا . وهذا من أعظم النعم . فالمصائب رحمة ونعمة في حق عموم الخلق إلا أن يدخل صاحبها بسببها في معاصي أعظم مما كان قبل ذلك فيكون شراً عليه من جهة ما أصابه في دينه ، فإن من الناس من إذا ابتلى بفقر أو مرض أو وجع حصل له من النفاق والجزع ومرض القلب والكفر الظاهر وترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات ما يوجب له الضرر في دينه ، فهذا كانت العافية خيراً له من جهة ما أورثته المصيبة لا من جهة نفس المصيبة ، كما أن من أوجبت له المصيبة صبراً وطاعة ، كانت في حقه نعمة دينية ، فهي بعينها فعل الرب عز وجل ورحمة للخلق والله تعالى محمود عليها ، فمن ابتلى فرزق الصبر كان الصبر عليه نعمة في دينه ، وحصل له بعد ما كفر من خطاياه رحمة ، وحصل له بثنائه على ربه صلاة ربه عليه ، قال تعالى : ' 2 : 156 ' " أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة " وحصل له غفران السيئات ورفع الدرجات . فمن قام بالصبر الواجب حصل له ذلك انتهى ملخصاً .


قوله : وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه  أي أخر عنه العقوبة بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة  وهو بضم الياء وكسر الفاء منصوباً بحتى مبنياً للفاعل . قال العزيزي : أي لا يخازيه بذنبه في الدنيا حتى يجيء في الآخرة مستوفر الذنوب وافيها ، فيستوفى ما يستحقه من العقاب . وهذه الجملة هي آخر الحديث . فأما قوله : وقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن عظم الجزاء مع عظم البلاء " إلى آخره فهو أول حديث آخر ، لكن لما رواهما الترمذي بإسناد واحد وصحابي واحد جعلهما المصنف كالحديث الواحد .


وفيه التنبيه على حسن الرجاء وحسن الظن بالله فيما يقضيه لك ، كما قال تعالى : ' 2 : 216' " وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون " .


قوله : وقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن عظم الجزاء مع عظم البلاء . وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضى ، ومن سخط فله السخط " حسنه الترمذي  .


قال الترمذي : حدثنا قتيبة ثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن سعد بن سنان عن أنس ، فذكر الحديث السابق ثم قال : وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن عظم الجزاء ... " الحديث . ثم قال حديث حسن غريب من هذا الوجه . ورواه ابن ماجه . وروى الإمام أحمد عن محمود بن لبيد رفعه: " إذا أحب الله قوماً ابتلاهم ، فمن صبر فله الصبر ، ومن جزع فله الجزع " قال المنذري : رواته ثقات .


قوله :إن عظم الجزاء بكسر العين وفتح الظاء فيها . ويجوز ضمها مع سكون الطاء . أي من كان ابتلاؤه أعظم كمية وكيفية .


وقد يحتج بهذا الحديث من يقول : إن المصائب يثاب عليها مع تكفير الخطايا ، ورجح ابن القيم أن ثوابها تكفير الخطايا فقط ، إلا إذا كانت سبباً لعمل صالح ، كالصبر والرضا والتوبة والإستغفار . فإنه حينئذ يثاب على ما تولد منها ، وعلى هذا يقال في معنى الحديث : إن عظم الجزاء مع عظم البلاء إذا صبر واحتسب .


قوله :  وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم  ولهذا ورد في حديث سعد : " سئل النبي صلى الله عليه وسلم : أي الناس أشد بلاء ؟ قال الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلي الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلابة اشتد بلاؤه ، وإن كان في دينه رقة ابتلى على قدر دينه ، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة " رواه الدرامى وابن ماجه والترمذي وصححه .


وهذا الحديث ونحوه من أدلة التوحيد ، فإذا عرف العبد أن الأنبياء والأولياء يصيبهم البلاء في أنفسهم الذي هو في الحقيقة رحمة ولا يدفعه عنهم إلا الله ، عرف أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا دفعاً ، فلأن لا يملكوه لغيرهم أولى وأحرى ، فيحرم قصدهم والرغبة إليهم في قضاء حاجة أو تفريج كربة ، وفي وقوع الإبتلاء بالأنبياء والصالحين من الأسرار والحكم والمصالح وحسن العاقبة ما لا يحصى .


قوله :  فمن رضى فله الرضاء  أي من الله تعالى ، والرضاء قد وصف الله تعالى به نفسه في مواضع من كتابه كقوله تعالى ' 98 : 8 ' " جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه " ومذهب السلف وأتباعهم من أهل السنة : إثبات الصفات التي وصف الله بها نفسه ووصفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بجلاله وعظمته إثباتاً بلا تمثيل وتنزيهاً بلا تعطيل : فإذا رضي الله تعالى عنه حصل له كل خير ، وسلم من كل شر ، والرضى هو أن يسلم العبد أمره إلى الله ، ويحسن الظن به ، ويرغب في ثوابه ، وقد يجد لذلك راحة وانبساطاً محبة لله وثقة به ، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه : إن الله بقسطه وعدله جعل الروح والفرح في اليقين والرضا ، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط .


قوله :  ومن سخط  وهو بكسر الخاء ، قال أبو السعادات : السخط الكراهية للشئ وعدم الرضا به . أي من سخط على الله فيما دبره فله السخط ، أي من الله ، وكفى بذلك عقوبة . وقد يستدل به على وجوب الرضا وهو اختيار ابن عقيل . واختار القاضي عدم الوجوب ، ورجحه شيخ الإسلام وابن القيم .


قال شيخ الإسلام : ولم يجيء الأمر به كما جاء الأمر بالصبر . وإنما جاء الثناء على أصحابه . قال : وأما ما يروى  من لم يصبر على بلائي ولم يرض بقضائي فليتخذ رباً سوائي  فهذا إسرائيلي لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم .


قال شيخ الإسلام : وأعلى من ذلك ـ أي من الرضا ـ أن يشكر الله على المصيبة لما يرى من إنعام الله عليه بها . ا هـ والله أعلم .


 


باب ما جاء في الرياء


قوله : ( باب : ما جاء في الرياء )


أي من النهي والتحذير . قال الحافظ : هو مشتق من الرؤية . والمراد بها إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمدون صاحبها . والفرق بينه وبين السمعة : أن الرياء لما يرى من العمل كالصلاة . والسمعة لما يسمع كالقراءة والوعظ والذكر ، ويدخل في ذلك التحدث بما عمله .


 


" قل إنما أنا بشر مثلكم " إلخ


قوله :  وقول الله تعالى : ' 18 : 110 ' " قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد " أي ليس لي من الربوبية ولا من الإلهية شئ ، بل ذلك كله وحده لا شريك له أوحاه إلى " فمن كان يرجو لقاء ربه " أي يخافه " فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً "، قوله أحداً نكرة في سياق النهي تعم ، وهذا العموم يتناول الأنبياء والملائكة والصالحين والأولياء وغيرهم .


قال شيخ الإسلام رحمه الله : أما اللقاء فقد فسره طائفة من السلف والخلف بما يتضمن المعاينة ، وقالوا : لقاء الله يتضمن رؤيته سبحانه وتعالى يوم القيامة ، وذكر الأدلة على ذلك .


قال ابن القيم رحمه الله في الآية : أي كما أن الله واحد لا إله سواه ، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده لا شريك له ، فكما تفرد بالإلهية يجب أن يفرد بالعبودية ، فالعمل الصالح : هو الخالص من الرياء المقيد بالسنة .


وفي الآية دليل على أن أصل الدين الذي بعث الله به رسول الله صلى الله عليه وسلم والمرسلين قبله ، هو إفراده تعالى بأنواع العبادة ، كما قال تعالى : ' 21 : 25 ' " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " والمخالف لهذا الأصل من هذه الأمة أقسام : إما طاغوت ينازع الله في ربوبيته وإلهيته ، ويدعو الناس إلى عبادته ، أو طاغوت يدعو الناس إلى عبادة الأوثان ، أو مشرك يدعو غير الله ويتقرب إليه بأنواع العبادة أو بعضها ، أو شاك في التوحيد : أهو حق أم يجوز أن يجعل لله شريك في عبادته ؟ أو جاهل يعتقد أن الشرك دين يقرب إلى الله ، وهذا هو الغالب على أكثر العوام لجلهم وتقليدهم من قبلهم ، لما اشتدت غربة الدين ونسى العلم بدين المرسلين .


 


الله أغنى الشركاء عن الشرك


قوله : وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : " قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك . من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه" رواه مسلم  .


قوله  : من عمل عملاً أشرك فيه غيري  أي من قصد بعمله غيري من المخلوقين تركته وشركه . ولابن ماجه فأنا بريء وهو الذي أشرك  قال الطيبي : الضمير المنصوب في قوله  تركته  يجوز أن يرجع إلى العمل .


 


أخوف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته من الرياء


قال ابن رجب رحمه الله : واعلم أن العمل لغير الله أقسام فتارة يكون رياء محضاً كحال المنافقين . كما قال تعالى : '4 :142 ' " وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا " وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر عن مؤمن في فرض الصلاة أو التي يتعدى نفعها ، فإن الإخلاص فيها عزيز ، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط ، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة .


وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء ، فإن شاركه من أضله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه ـ وذكر أحاديث تدل على ذلك منها : هذا الحديث وحديث شداد بن أوس مرفوعاً " من صلى يرائى فقد أشرك ، ومن صام يرائي فقد أشرك ، ومن تصدق يرائي فقد أشرك ، وإن الله عز وجل يقول : أنا خير قسم لمن أشرك بي ، فمن أشرك بي شيئاً فإن جدة عمله وقليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به . أنا عنه غني " رواه أحمد ، وذكر أحاديث في المعنى ثم قال : فإن خالط نية الجهاد مثلاً نية غير الرياء ، مثل أخذ أجرة الخدمة أو أخذ من الغنيمة أو التجارة نقص بذلك أجر جهاده ولم يبطل بالكلية .


قال ابن رجب : وقال الإمام أحمد رحمه الله : التاجر والمستأجر والمكرى أجرهم على قدر ما يخلص من نياتهم في غزواتهم ، ولا يكون مثل من جاهد بنفسه وماله لا يخلط به غيره .


وقال أيضاً فيمن يأخذ جعل الجهاد : إذا لم يخرج لأجل الدراهم فلا بأس كأنه خرج لدينه إن أعطى شيئاً أخذه . وروى عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : " إذا أجمع أحدكم على الغزو فعوضه الله رزقاً فلا بأس بذلك ، وأما إن أحدكم أعطى دراهم غزا وإن لم يعط لم يغز فلا خير في ذلك " . وروى عن مجاهد رحمه الله أنه قال في حج الجمال وحج الأجير ، وحج التاجر :  هو تام لا ينقص من أجرهم شئ  أي لأن قصدهم الأصلي كان هو الحج دون التكسب . قال : وأما إن كان أصل العمل لله ثم طرأ عليه نية الرياء ، فإن كان خاطراً ثم دفعه فلا يضره بغير خلاف ، وإن استرسل معه فهل يحبط عمله أم لا فيجازى على أصل نيته ؟ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف قد حكاه الإمام أحمد وابن جرير ، ورجحا أن عمله لا يبطل بذلك ، وأنه يجازي بنيته الأولى ، وهو مروى عن الحسن وغيره . وفي هذا المعنى جاء حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أنه سئل عن الرجل يعمل العمل من الخير يحمده الناس عليه ، فقال : تلك عاجل بشرى المؤمن " رواه مسلم . انتهى ملخصاً .


قلت : وتمام هذا المقام يتبين في شرح حديث أبي سعيد إن شاء الله تعالى .


قوله :  وعن أبي سعيد مرفوعاً " ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : الشرك الخفي : يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل " رواه أحمد  .


وروى ابن خزيمة في صحيحه عن محمود بن لبيد قال : " خرج عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أيها الناس ، إياكم وشرك السرائر ، قالوا يا رسول الله وما شرك السرائر ؟ قال : يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه . فذلك شرك السرائر " .


قوله :  عن أبي سعيد الخدري وتقدم .


قوله :  الشرك الخفي  سماه خفياً لأن صاحبه يظهر أن عمله لله وقد قصد به غيره ، أو شركه فيه بتزيين صلاته لأجله . وعن شداد بن أوس قال :  كنا نعد الرياء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر  رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص ، وابن جرير في التهذيب ، والطبراني والحاكم وصححه .


قال ابن القيم : وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء والتصنع للخلق والحلف بغير الله ، وقول الرجل للرجل ماشاء الله وشئت ، وهذا من الله ومنك ، وأنا بالله وبك ، وما لي إلا الله وأنت ، وأنا متوكل على الله وعليك ، ولولا الله وأنت لم يكن كذا وكذا . وقد يكون هذا شرك أكبر بحسب حال قائله ومقصده ، انتهى .


ولا خلاف أن الإخلاص شرط لصحة العمل وقبوله ، وكذلك المتابعة ، كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله في قوله تعالى : ' 67 : 2 ' " ليبلوكم أيكم أحسن عملاً " قال :  أيكم أخلصه ولم يكن صواباً لم يقبل ، وإذا كان صواباً لم يقبل ، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً ، فالخالص ما كان لله ، والصواب ما كان على السنة  .


وفي الحديث عن الفوائد : شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ونصحه لهم ، وأن الرياء أخوف على الصالحين من فتنة الدجال . فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم يخافه على سادات الأولياء مع قوة إيمانهم وعلمهم فغيرهم ممن هو دونهم بأضعاف أولى بالخوف من الشرك أصغره وأكبره .


 


باب من الشرك إرداة الإنسان بعمله الدنيا


قوله : ( باب : من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا )


فإن قيل : فما الفرق بين هذه الترجمة وبين ترجمة الباب قبله ؟


قلت : بينهما عموم وخصوص مطلق ، يجتمعان في مادة ، وهو ما إذا أراد الإنسان بعمله التزين عند الناس والتصنع لهم والثناء ، فهذا رياء كما تقدم بيانه ، كحال المنافقين . وهو أيضاً إرادة الدنيا بالتصنع عند الناس ، وطلب المدحة منهم والإكرام . ويفارق الرياء بكونه عمل عملاً صالحاً ، أراد به عرضاً من الدنيا ، كمن يجاهد ليأخذ مالاً ، كما في الحديث " تعس عبد الدينار " أو يجاهد للمغنم أو غير ذلك من الأمور التي ذكرها شيخنا عن ابن عباس رضي الله عنه وغيره من المفسرين في معنى قوله تعالى : ' 11 : 15 ' " من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها " .


وأراد المصنف رحمه الله بهذه الترجمة وما بعدها أن العمل لأجل الدنيا شرك ينافي كمال التوحيد الواجب ، ويحبط الأعمال ، وهو أعظم من الرياء ، لأن مريد الدنيا قد تغلب إرادته تلك على كثير من عمله ، وأما الرياء فقد يعرض له في عمل دون عمل ، ولا يسترسل معه ، والمؤمن يكون حذراً من هذا وهذا .


قال :  وقوله تعالى : ' 11 : 15 ، 16 ' " من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون "  .


قال ابن عباس رضي الله عنه : " من كان يريد الحياة الدنيا " أي ثوابها . وزينتها ، أي مالها . نوف ، أي نوفر لهم ثواب أعمالهم بالصحة والسرور في المال والأهل والولد : " وهم فيها لا يبخسون " لا ينقصون ، ثم نسختها : ' 17 : 18 ، 19 ' " من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد " الآيتين . رواه النحاس في ناسخه .


قوله :  ثم نسختها  أي قيدتها . فلم تبق الآية على إطلاقها .


وقال قتادة :  من كانت الدنيا همه وطلبته ونيته جازاه الله بحسناته في الدنيا ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطي بها جزاء ، وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة  ذكره ابن جرير بسنده ، ثم ساق حديث أبي هريرة عن ابن المبارك عن حيوة ابن شريح قال : حدثني الوليد بن أبي الوليد أبو عثمان أن عقبة بن مسلم حدثه أن شفى بن ماتع الأصبحي حدثه : ( أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس ، فقال : من هذا ؟ فقالوا : أبو هريرة . قال : فدنوت منه حتى قعدت بين يديه ، وهو يحدث الناس . فما سكت وخلا قلت : أنشدك بحق وبحق لما حدثتني حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته . قال : فقال أبو هريرة : أفعل ، لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت ما فيه أحد غيري وغيره ثم نشغ أبو هريرة نشغة ، ثم أفاق فقال : لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت ما فيه غيري أحد وغيره . ثم نشغ أبو هريرة نشغة أخرى ، ثم مال خاراً على وجهه ، واشتد به طويلاً . ثم أفاق فقال : حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة نزل إلى القيامة ليقضي بينهم ، وكل أمة جاثية . فأول من يدعو به رجل جمع القرآن ، ورجل قتل في سبيل الله ، ورجل كثير المال . فيقول الله تبارك وتعالى للقارىء : ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي ؟ قال : بلى يا رب . قال : فماذا عملت فيما علمت ؟ قال : كنت أقوم آناء الليل وآناء النهار . فيقول الله له : كذبت ، وتقول له الملائكة : كذبت ، ويقول الله له : بل أردت أن يقال فلان قارىء فقد قيل ذلك . ويؤتي بصاحب المال فيقول الله له : ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد ؟ قال : بلى يا رب ، قال : فما عملت فيما آتيتك ؟ قال : كنت أصل الرحم وأتصدق ، فيقول الله له : كذبت ، وتقول له الملائكة : كذبت ، ويقول الله : بل أردت أن يقال فلان جواد ، فقد قيل ذلك . ويؤتي بالذي قتل في سبيل الله فيقال له : فبماذا قتلت ؟ فيقول : أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت ، فيقول الله له : كذبت ، وتقول له الملائكة : كذبت ، ويقول الله له : بل أردت أن يقال فلان جريء فقد قيل ذلك . ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال : يا أبا هريرة ، أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة " .


وقد سئل شيخنا المصنف رحمه الله عن هذه الآية فأجاب بما حاصله : ذكر عن السلف فيها أنواع مما يفعله الناس اليوم ولا يعرفون معناه .


فمن ذلك : العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه الله : من صدقة وصلاة ، وصلة وإحسان إلى الناس ، وترك ظلم ، ونحو ذلك مما يفعله الإنسان أو يتركه خالصاً لله ، لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة ، إنما يريد أن يجازيه الله بحفظ ماله وتنميته ، أو حفظ أهله وعياله ، أو إدامة النعمة عليهم ، ولا همة له في طلب الجنة والهرب من النار ، فهذا يعطي ثواب عمليه في الدنيا وليس له في الآخرة من نصيب . وهذا النوع ذكره ابن عباس .


النوع الثاني : وهو أكبر من الأول وأخوف ، وهو الذي ذكره مجاهد في الآية : أنها نزلت فيه وهو أن يعمل أعمالاً صالحة ونيته رياء الناس ، لا طلب ثواب الآخرة .


النوع الثالث : أن يعمل أعمالاً صالحة يقصد بها مالاً ، مثل أن يحج لمال يأخذه أو يهاجر لدنيا يصيبها ، أو امرأة يتزوجها ، أو يجاهد لأجل المغنم ، فقد ذكر أيضاً هذا النوع في تفسير هذه الآية ، كما يتعلم الرجل لأجل مدرسة أهله أو مكسبهم أو رياستهم ، أو يتعلم القرآن ويواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد ، كما هو واقع كثيراً .


النوع الرابع : أن يعمل بطاعة الله مخلصاً في ذلك لله وحده لا شريك له لكنه على عمل يكفره كفراً يخرجه عن الإسلام ، مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا الله ، أو تصدقوا أو صاموا إبتغاء وجه الله والدار الآخرة ، ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم كفر أو شرك أكبر يخرجهم من الإسلام بالكلية ، إذا أطاعوا الله طاعة خالصة يريدون بها ثواب الله في الدار الآخرة ؟ لكنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام وتمنع قبول أعمالهم ، فهذا النوع أيضاً قد ذكر في هذه الآية عن أنس بن مالك وغيره ، وكان السلف يخافون منها ، قال بعضهم : لو أعلم أن الله تقبل مني سجدة واحدة لتمنيت الموت لأن الله تعالى يقول : ' 5 : 27 ' " إنما يتقبل الله من المتقين " .


ثم قال : بقي أن يقال : إذا عمل الرجل الصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج إبتغاء وجه الله ، طالباً ثواب الآخرة ، ثم بعد ذلك عمل أعمالاً قاصداً بها الدنيا ، مثل أن يحج فرضه لله ، ثم يحج بعده لأجل الدنيا كما هو واقع ، فهو لما غلب عليه منهما . وقد قال بعضهم : القرآن كثيراً ما يذكر أهل الجنة الخلص وأهل النار الخلص ، ويسكت عن صاحب الشائبتين ، وهو هذا وأمثاله ا هـ .


 


تعس عبد الدينار


قوله : ( في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم ، تعس عبد الخميصة ، تعس عبد الخميلة ، إن أعطى رضى ، وإن لم يعط سخط ، تعس وانتكس وإذا شك فلا انتقش . طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه ، مغبرة قدماه ، إن كان في الحراسة كان في الحراسة ، وإن كان في الساقة كان في الساقة . إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شفع لم يشفع له " .


قوله :  في الصحيح  أي صحيح البخاري .


قوله :  تعس  هو بكسر العين ويجوز الفتح أي سقط ، والمراد هنا هلك . قاله الحافظ ، وقال في موضع آخر : وهو ضد سعد . أي شقي . قال أبو السعادات : يقال تعس يتعس إذا عثر وانكب لوجهه . وهو دعاء عليه بالهلاك .


قوله :  عبد الدينار  هو المعروف من الذهب كالمثقال في الوزن .


قوله :  تعس عبد الدرهم  وهو من الفضة ، قدره الفقهاء بالشعير وزناً ، وعندنا منه درهم من ضرب بني أمية وهو زنة خمسين حبة شعير وخمسا حبة سماه عبداً له ، لكونه هو المقصود بعمله ، فكل من توجه بقصده لغير الله فقد جعله شريكاً له في عبوديته كما هو حال الأكثر .


قوله :  تعس عبد الخميصة  قال أبو السعادات : هي ثوب خز أو صوف معلم ، وقيل لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة، وتجمع على خمائص . والخميلة بفتح الخاء المعجمة وقال أبو السعادات : ذات الخمل ، ثياب لها خمل من أي شئ كان .


قوله :  تعس وانتكس  قال الحافظ : هو بالمهملة ، أي عاوده المرض . وقال أبو السعادات : أي انقلب على رأسه . وهو دعاء عليه بالخيبة . قال الطيبي : فيه الترقي بالدعاء عليه . لأنه إذا تعس انكب على وجهه . وإذا انتكس انقلب على رأسه بعد أن سقط .


قوله :  وإذا شيك  أي أصابته شوكة  فلا انتقش  أي فلا يقدر على إخراجها بالمنقاش قاله أبو السعادات .


والمراد أن من كانت هذه حاله فإنه يستحق أن يدعى عليه بما يسوءه في العواقب ، ومن كانت هذه حاله فلا بد أن يجد أثر هذه الدعوات في الوقوع فيما يضره في عاجل دنياه وآجل أخراه .


قال شيخ الإسلام رحمه الله :  فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الدينار والدرهم وعبد القطيفة وعبد الخميصة . وذكر فيه ما هو دعاء بلفظ الخبر وهو قوله :  تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش  وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه ولم يفلح ، لكونه تعس وانتكس ، فلا نال المطلوب ، ولا خلص من المكروه ، وهذا حال من عبد المال . وقد وصف ذلك بأنه :  إن أعطى رضى ، وإن منع سخط  كما قال تعالى : ' 8 : 58 ' " ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون " فرضاؤهم لغير الله ، وسخطهم لغير الله ، وهكذا حال من كان متعلقاً منها برياسة أو صورة ونحو ذلك من أهواء نفسه ، إن حصل له رضى ، وإن لم يحصل له سخط ، فهذا عبد ما يهواه من ذلك وهو رقيق له ، إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته ، فما استرق القلب واستعبده فهو عبده ـ إلى أن قال : ـ


وهكذا أيضاً طالب المال ، فإن ذلك يستعبده ويسترقه وهذه الأمور نوعان ، فمنها ما يحتاج إليه العبد ، كما يحتاج إلى طعامه وشرابه ومنكحه ومسكنه ونحو ذلك ، فهذا يطلب من الله ويرغب إليه فيه . فيكون المال عنده يستعمله في حاجته بمنزلة حماره الذي يركبه ، وبساطه الذي يجلس عليه من غير أن يستعبده فيكون هلوعاً .


ومنها : ما لا يحتاج إليه العبد ، فهذا ينبغي أن لا يعلق قلبه بها ، فإذا تعلق قلبه بها صار مستعبداً لها ، وربما صار مستعبداً متعمداً على غير الله فيها ، فلا يبقى معه حقيقة العبودية لله ولا حقيقة التوكل عليه ، بل فيه شعبة من العبادة لغير الله وشعبة من التوكل على غير الله ، وهذا من أحق الناس بقوله صلى الله عليه وسلم : " تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم ، تعس عبد الخميصة ، تعس عبد الخميلة " وهذا هو عبد لهذه الأمور ولو طلبها من الله ، فإن الله إذا أعطاه إياه رضى ، وإن منعه إياها سخط ، وإنما عبد الله من يرضيه ما يرضي الله ويسخطه ما يسخط الله ويحب ما أحبه الله ورسوله ويبغض ما أبغضه الله ورسوله ، ويوالى أولياء الله ويعادى أعداء الله  فهذا الذي استكمل الإيمان ، انتهى ملخصاً .


قوله :  طوبى لعبد  قال أبو السعادات : طوبى اسم الجنة ، وقيل : هي شجرة فيها ويؤيد هذا ما روى ابن وهب بسنده عن أبي سعيد قال : " قال رجل : يا رسول الله وما طوبى ؟ قال : شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة ، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها " ورواه الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى سمعت عبد الله بن لهيعة حدثنا دراج أبو السمح أن أبا الهيثم حدثه أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن رجلاً قال : يا رسول الله ، طوبى لمن رآك وآمن بك ، قال طوبى لمن رآني وآمن بي ، وطوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني . قال له رجل : وما طوبى ؟ قال : شجرة في الجنة مسيرة مائة عام ، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها " وله شواهد في الصحيحين  وغيرهما . وقد روى ابن جرير عن وهب بن منبه هاهناً أثراً غريباً عجيباً . قال وهب رحمه الله :  إن في الجنة شجرة يقال لها طوبى يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها : زهرها رياط ، وورقها برود وقضبانها عنبر ، وبطحاؤها ياقوت ، وترابها كافور ، ووحلها مسك ، يخرج من أصلها أنهار الخمر واللبن والعسل ، وهي مجلس لأهل الجنة ، بينما هم في مجلسهم إذا أتتهم الملائكة من ربهم يقودون نجباً مزمومة بسلاسل من ذهب ، وجوهها كالمصابيح من حسنها ، ووبرها كخز المرعزي من لينه ، عليها رحال ألواحها من ياقوت ، ودفوفها من ذهب وثيابها من سندس وإستبرق ، فينيخونها ويقولون : إن ربنا أرسل إليكم لتزوروه وتسلموا عليه قال : فيركبونها ، قال : فهي أسرع من الطائر ، وأوطأ من الفراش . خبا من غير مهنة ، يسير الراكب إلى جنب أخيه وهو يكلمه ويناجيه ، لا تصيب أذن راحلة منها أذن صاحبتها ، ولا برك راحلة برك صاحبتها ، حتى إن الشجرة لتنتحى عن طريقهم لئلا تفرق بين الرجل وأخيه . قال : فيأتون إلى الرحمن الرحيم فيسفر لهم عن وجهه الكريم حتى ينظروا إليه ، فإذا رأوه قالوا : اللهم أنت السلام ومنك السلام ، وحق لك الجلال والإكرام ، قال : فيقول تبارك وتعالى عند ذلك ، أنا السلام ومني السلام وعليكم حقت رحمتي ومحبتي ، مرحباً بعبادي الذين خشوني بالغيب وأطاعوا أمري . قال فيقولون : ربنا إنا لم نعبدك حق عبادتك ، ولم نقدرك ، فائذن لنا بالسجود قدامك . قال : فيقول الله : إنها ليست بدار نصب ولا عبادة ، ولكنها دار ملك ونعيم ، وإني قد رفعت عنكم نصب العبادة ، فسلوني ما شئتم ، بأن لكل رجل منكم أمنيته . فيسألونه ، حتى إن أقصرهم أمنية ليقول : ربي ، تنافس أهل الدنيا في دنياهم فتضايقوا فيها ، رب فآتني من كل شئ كانوا فيه من يوم خلقتها إلى أن انتهت الدنيا ، فيقول الله تعالى : لقد قصرت بك اليوم أمنيتك . ولقد سألت دون منزلتك . هذا لك منى وسأتحفك بمنزلتي لأن ليس في عطائي نكد ولا قصر يد . قال : ثم يقول : اعرضوا على عبادي ما لم تبلغ أمانيهم ولم يخطر على بال . قال : فيعرضون عليهم حتى تقصر بهم أمانيهم التي في أنفسهم ، فيكون فيما يعرضون عليهم براذين مقرنة على كل أربعة منها سرير من ياقوتة واحدة . على كل سرير منها قبة من ذهب مفزعة . في كل قبة منها فرش من فرش الجنة مظاهرة . في كل قبة منها جاريتان من الحور العين . على كل جارية منهن ثوبان من ثياب الجنة . وليس في الجنة لون إلا وهو فيهما . ولا ريح طيب إلا قد عبق بهما . ينفذ ضوء وجوههما غلظ القبة . حتى يظن من يراهما أنهما من دون القبة يرى مخهما من فوق سوقهما كالسلك الأبيض في يا قوته حمراء . يريان له من الفضل على صحابته كفضل الشمس على الحجارة أو أفضل . ويرى لهما مثل ذلك . ثم يدخل عليهما فيحييانه ويقبلانه ويعانقانه ويقولان له : والله ما ظننا أن الله يخلق مثلك . ثم يأمر الله تعالى الملائكة فيسيرون بهم صفاً في الجنة حتى ينتهي كل رجل منهم إلى منزلته التي أعدت له  .


وقد روى هذا الأثر ابن أبي حاتم بسنده عن وهب بن منبه وزاد :  فانظروا إلى مواهب ربكم الذي وهب لكم ، فإذا بقباب في الرفيق الأعلى ، وغرف مبنية بالدر والمرجان أبوابها من ذهب وسررها من ياقوت ، وفرشها من سندس واستبرق ، ومنابرها من نور ، يفور من أبوابها وعراصها نور مثل شعاع الشمس ، عنده مثل الكوكب الدري في النهار المضيء ، وإذا بقصور شامخة في أعلى عليين من الياقوت يزهو نورها . فلولا أنه مسخر إذاً لالتمع الأبصار ، فما كان من تلك القصور من الياقوت الأبيض فهو مفروش بالحرير الأبيض ، وما كان منها من الياقوت الأخضر فهو مفروش بالسندس الأخضر ، وما كان منها من الياقوت الأصفر فهو مفروش بالأرجوان الأصفر ، مبوبة بالزمرد الأخضر والذهب الأحمر والفضة البيضاء ، قوائمها وأركانها من الجوهر ، وشرفها من قباب من لؤلؤ ، وبروجها غرف من المرجان . فلما انصرفوا إلى ما أعطاهم ربهم قربت لهم براذين من ياقوت أبيض منفوخ فيها الروح ، تحتها الولدان المخلدون ، بيد كل وليد منهم حكمة برذون من تلك البراذين ولجمها وأعنتها من فضة بيضاء منظومة بالدر والياقوت ، سرر موضونة مفروشة بالسندس والإستبرق ، فانطلقت بهم تلك البراذين تزف فينظرون رياض الجنة فلما انتهوا إلى منازلهم وجدوا الملائكة قعدوا على منابر من نور ينتظرونهم ليزوروهم ويصافحوهم ويهنئوهم كرامة ربهم ، فلما دخلوا قصورهم وجدوا فيها جميع ما تطاول به عليهم وما سألوا وما تمنوا ، وإذا على باب كل قصر من تلك القصور أربعة جنان جنتان ذواتاً أفنان وجنتان مدهامتان وفيهما عينان نضاختان ، وفيهما من كل فاكهة زوجان ، وحور مقصورات في الخيام ، فلما تبوءوا منازلهم واستقروا قرارهم قال لهم ربهم : " هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً قالوا نعم " وربنا . قال : هل رضيتم ثواب ربكم ؟ قالوا: ربنا رضينا فارض عنا ، قال: فبرضائي عنكم أحللتكم داري ونظرتم إلى وجهي ، فعند ذلك قالوا : " الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور * الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب "  وهذا سياق غريب وأثر عجيب ولبعضه شواهد في  الصحيحين .


وقال خالد بن معدان :  إن في الجنة شجرة يقال لها طوبى ، ضروع كلها ، ترضع صبيان أهل الجنة ، وإن سقط المرأة يكون في نهر من أنهار الجنة يتقلب فيه حتى تقوم القيامة فيبعث ابن أربعين سنة  رواه ابن أبي حاتم .


قوله :  أخذ بعنان فرسه في سبيل الله  أي في جهاد المشركين .


قوله :  أشعث  مجرور بالفتحة لأنه اسم لا ينصرف للوصفية ووزن الفعل ، ورأسه مرفوع على الفاعلية ، وهو طائر الشعر ، شغله الجهاد في سبيل الله عن التنعم بالأدهان وتسريح الشعر .


قوله :  مغبرة قدماه  هو بالجر صفة ثانية لعبد .


قوله :  إن كان في الحراسة كان في الحراسة  هو بكسر الحاء أي حمى الجيش عن أن يهجم العدو عليهم .


قوله :  كان في الحراسة  أي غير مقصر فيها ولا غافل ، وهذا اللفظ يستعمل في حق من قام بالأمر على وجه الكمال .


قوله :  وإن كان في الساقة كان في الساقة  أي في مؤخرة الجيش ، يقلب نفسه في مصالح الجهاد ، فكل مقام يقوم فيه إن كان ليلاً أو نهاراً ، رغبة في ثواب الله وطلباً لمرضاته ومحبة لطاعته .


قال ابن الجوزي رحمه الله : وهو خامل الذكر لا يقصد السمو .


وقال الخلخالي : المعنى ائتماره بما أمر ، وإقامته حيث أقيم . لا يفقد من مقامه ، وإنما ذكر الحراسة والساقة لأنهما أشد مشقة . انتهى . وفيه فضل الحراسة في سبيل الله .


قوله :  إن استأذن لم يؤذن له  أي إن استأذن على الأمراء ونحوهم لم يؤذن له لأنه لا جاه له عندهم ولا منزلة . لأنه ليس من طلابها . وإنما يطلب ما عند الله لا يقصد بعمله سواه .


قوله :  وإن شفع  بفتح أوله وثانية  لم يشفع  بفتح الفاء مشددة . يعني لو ألجأته الحال إلى أن يشفع في أمر يحبه الله ورسوله لم تقبل شفاعته عند الأمراء ونحوهم .


وروى الإمام أحمد ومسلم عن أبي هريرة مرفوعاً : " رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره " .


وروى الإمام أحمد أيضاً عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير قال : قال عثمان رضي الله ـ وهو يخطب على منبره : " إني محدثكم حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يمنعني أن أحدثكم به إلا الظن بكم . سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها " .


وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن المبارك قال عبد الله بن محمد قاضي نصيبين حدثني محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة أنه أملى عليه عبد الله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس وواعده الخروج . وأنشدها معه إلى الفضيل بن عياض في سنة سبع وسبعين ومائة . قال :


يا عابد الحرمين لو أبصرتنا    لعلمت أنك في العبادة تلعب


من كان يخصب خده بدموعه    فنحورنا بدمائنا تتخضب


أو كان يتعب خيله في باطل    فخيولهم يوم الصبيحة تتعب


ريح العبير لكم ، ونحن عبيرنا     رهج السنابك والغبار الأطيب


ولقد أتانا من مقال نبينا    قول صحيح صادق لا يكذب


لا يستوي غبار خيل الليل في    أنف امرىء ودخان نار تلهب


هذا كتاب الله ينطق بيننا     ليس الشهيد بميت لا يكذب


قال : فلقيت الفضيل بكتابه في المسجد الحرام فلما قرأه ذرفت عيناه فقال : صدق أبو عبد الرحمن ونصحني ، ثم قال : أنت ممن يكتب الحديث ؟ قلت : نعم قال لي : اكتب هذا الحديث ، وأملى على الفضيل بن عياض : حدثنا منصور بن المعتمر عن أبي صالح عن أبي هريرة : "أن رجلاً قال : يا رسول الله علمني عملاً أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله ، فقال : هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر ، وتصوم فلا تفطر ؟ فقال : يا رسول الله أنا أضعف من أن أستطيع ذلك ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : فو الذي نفسي بيده لو طوقت ذلك ما بلغت فضل المجاهدين في سبيل الله ، أما علمت أن فرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له بذلك حسنات ؟ " .


 


باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله


قوله : ( باب : من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله ، فقد اتخذهم أرباباً من دون الله )


قول الله تعالى : ' 9 : 31 ' " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون" وتقديم تفسير هذا في أصل المصنف رحمه الله عند ذكر حديث عدي ابن حاتم رضي الله عنه .


قوله :  وقال ابن عباس رضي الله عنهما : " يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء . أقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون : قال أبو بكر وعمر ؟ " .


قوله :  يوشك  بضم أوله وكسر الشين المعجمة أي يقرب ويسرع .


وهذا القول من ابن عباس رضي الله عنهما جواب لمن قال :  إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لا يريان التمتع بالعمرة إلى الحج، ويريان أن إفراد الحج أفضل : أو ما هو معنى هذا ، وكان ابن عباس يرى أن التمتع بالعمرة إلى الحج واجب ويقول : إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط فقد حل من عمرته شاء أم أبى" لحديث سراقة بن مالك حين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلوها عمرة ويحلوا إذا طافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة ، فقال سراقة :  يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد ؟ فقال : بل للأبد " والحديث في الصحيحين ، وحينئذ فلا عذر لمن استفى أن ينظر في مذاهب العلماء وما استدل به كل إمام ويأخذ من أقوالهم ما دل عليه الدليل إذا كان له ملكة يقتدر بها على ذلك . كما قال تعالى : ' 4 : 59 ' " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا " .


وللبخاري ومسلم وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدى لأحللت " هذا لفظ البخاري في حديث عائشة رضي الله عنها . ولفظه في حديث جابر : " افعلوا ما أمرتكم به فلولا أني سقت الهدى لفعلت مثل الذي أمرتكم " في عدة أحاديث تؤيد قول ابن عباس .


وبالجملة فلهذا قال ابن عباس لما عارضوا الحديث برأي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما :  يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ....  الحديث .


وقال الإمام مالك رحمه الله تعالى :  ما منا إلا راد ومردود عليه ، إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم  .


وكلام الأئمة في هذا المعنى كثير .


وما زال العلماء رحمهم الله يجتهدون في الوقائع فمن أصاب منهم فله أجران ، ومن أخطأ فله أجر ، كما في الحديث ، لكن إذا استبان لهم الدليل أخذوا به وتركوا اجتهادهم . وأما إذا لم يبلغهم الحديث أو لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم عندهم فيه حديث ، أو ثبت وله معارض أو مخصص ونحو ذلك فحينئذ يسوغ للإمام أن يجتهد . وفي عصر الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى إنما كان طلب الأحاديث ممن هي عنده باللقى والسماع ، ويسافر الرجل في طلب الحديث إلى الأمصار عدة سنين . ثم اعتنى الأئمة بالتصانيف ودونوا الأحاديث ورووها بأسانيدها ، وبينوا صحيحها من حسنها من ضعيفها . والفقهاء صنفوا في كل مذهب ، وذكروا حجج المجتهدين . فسهل الأمر على طالب العلم . وكل إمام يذكر الحكم بدليله عنده ، وفي كلام ابن عباس رضي الله عنهما ما يدل على أن من يبلغه الدليل فلم يأخذ به ـ تقليداً لإمامه ـ فإنه يجب الإنكار عليه بالتغليظ لمخالفته الدليل .


وقال الإمام أحمد : حدثنا أحمد بن عمر البزار ، حدثنا زياد بن أيوب ، حدثنا أبو عبيدة الحداد عن مالك بن دينار عن عكرمة ابن عباس قال :  ليس منا أحد إلا يؤخذ من قوله ويدع غير النبي صلى الله عليه وسلم  .


وعلى هذا فيجب الإنكار على من ترك الدليل لقول أحد من العلماء كائناً من كان ، ونصوص الأئمة على هذا ، وأنه لا يسوغ التقليد إلا في مسائل الاجتهاد التي لا دليل فيها يرجع إليه من كتاب ولا سنة ، فهذا هو الذي عناه بعض العلماء بقوله : لا إنكار في مسائل الإجتهاد . وأما من خالف الكتاب والسنة فيجب الرد عليه كما قال ابن عباس والشافعي ومالك وأحمد ، وذلك مجمع عليه ، كما تقدم في كلام الشافعي رحمه الله تعالى .


 


قول الإمام أحمد : عجبت لقوم عرفوا الإسناد ويذهبون إلى رأي سفيان إلخ


قوله : وقال الإمام أحمد : عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته ، ويذهبون إلى رأي سفيان . والله تعالى يقول : ' 24 : 63 ' " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم " أتدرون ما الفتنة ؟ الفتنة الشرك ، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شئ من الزيغ فيهلك  .


هذا الكلام من الإمام أحمد رحمه الله رواه عنه الفضل بن زياد وأبو طالب . قال الفضل عن أحمد :  نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاث وثلاثين موضعاً ، ثم جعل يتلو : " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة " الآية ، فذكر من قوله :  الفتنة الشرك ـ إلى قوله ـ فيهلك  . ثم جعل يتلو هذه الآية : ' 4 : 65 ' " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً " .


وقال أبو طالب عن أحمد وقيل له :  إن قوماً يدعون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره ، فقال : أعجب لقوم سمعوا الحديث وعرفوا الإسناد وصحته يدعونه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره ، قال الله تعالى : " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم " أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة : الكفر . قال الله تعالى : ' 2 : 217 ' " والفتنة أكبر من القتل " فيدعون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي  ذكر ذلك عنه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى .


قوله : عرفوا الإسناد أي إسناد الحديث وصحته ، فإن صح إسناد الحديث فهو صحيح عند أهل الحديث وغيرهم من العلماء .


وسفيان : هو الثوري الإمام الزاهد العابد الثقة الفقيه ، وكان له أصحاب يأخذون عنه ، ومذهبه مشهور يذكره العلماء رحمهم الله في الكتب التي يذكر فيها مذاهب الأئمة ، كالتمهيد لابن عبد البر ، والاستذكار له ، وكتاب الإشراف على مذاهب الأشراف لابن المنذر ، والمحلى لابن حزم ، والمغنى لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة الحنبلي . وغير هؤلاء .


فقول الإمام أحمد رحمه الله :  عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته ... إلخ  إنكار منه لذلك . وأنه يؤول إلى زيع القلوب الذي يكون به المرء كافراً . وقد عمت البلوى بهذا المنكر خصوصاً ممن ينتسب إلى العلم ، نصبوا الحبائل في الصد عن الأخذ بالكتاب والسنة ، وصدوا عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيم أمره ونهيه ، فمن ذلك قولهم : لا يستدل بالكتاب والسنة إلا المجتهد . والاجتهاد قد انقطع ويقول : هذا الذي قلدته أعلم منك بالحديث وبناسخه ومنسوخه ، ونحو ذلك من الأقوال التي غايتها ترك متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى ، والاعتماد على قول من يجوز عليه الخطأ ، وغيره من الأئمة يخالفه ، ويمنع قوله بدليل ، فما من إمام إلا والذي معه بعض العلم لا كله . فالواجب على كل مكلف إذا بلغه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله وفهم معنى ذلك : أن ينتهي إليه ويعمل به ، وإن خالفه من خالفه ، كما قال تعالى : ' 7 : 3 ' " اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون " وقال تعالى ' 29 : 51 ' " أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون " وقد تقدم حكاية الإجماع على ذلك ، وبيان أن المقلد ليس من أهل العلم ، وقد حكى أيضاً أبو عمر ابن عبد البر وغيره الإجماع على ذلك .


قلت : ولا يخالف في ذلك إلا جهال المقلدة ، لجهلهم بالكتاب والسنة ، ورغبتهم عنها ، وهؤلاء وإن ظنوا أنهم قد اتبعوا الأئمة فإنهم في الحقيقة قد خالفوهم ، واتبعوا غير سبيلهم . كما قدمنا من قول مالك والشافعي وأحمد ، ولكن في كلام أحمد رحمه الله إشارة إلى أن التقليد قبل بلوغ الحجة لا يذم وإنما ينكر على من بلغته الحجة وخالفهم لقول إمام من الأئمة ، وذلك إنما ينشأ عن الإعراض عن تدبر كتاب الله وسنة رسوله والإقبال على كتب من تأخروا والإستغناء بها عن الوحيين ، وهذا يشبه ما وقع من أهل الكتاب الذي قال الله فيهم : ' 9 : 3 ' " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله " كما سيأتي بيان ذلك في حديث عدي بن حاتم ، فيجب على من نصح نفسه إذا قرأ كتب العلماء ونظر فيها وعرف أقوالهم أن يعرضها على ما في الكتاب والسنة ، فإن كل مجتهد من العلماء ومن تبعه وانتسب إلى مذهبه لا بد أن يذكر دليله ، والحق في المسألة واحد، والأئمة مثابون على اجتهادهم، فالمصنف يجعل النظر في كلامهم وتأمله طريقاً إلى معرفة المسائل واستحضارها ذهناً وتمييزاً للصواب من الخطأ بالأدلة التي يذكرها المستدلون ، ويعرف بذلك من هو أسعد بالدليل من العلماء فيتبعه ، والأدلة على هذا الأصل في كتاب الله أكثر وفي السنة كذلك ، كما أخرج أبو داود بسنده عن أناس من أصحاب معاذ : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذاً إلى اليمن قال : كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ قال : أقضي بكتاب الله تعالى ، قال : فإن لم تجد في كتاب الله ؟ قال : فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله ؟ قال : أجتهد رأيي ولا آلو ، قال : فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله" وساق بسنده عن الحارث بن عمر عن أناس من أصحاب معاذ بن جبل رضي الله عنه :  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن ـ بمعناه  .


والأئمة رحمهم الله لم يقصروا في البيان ، بل نهوا عن تقليدهم إذا استبانت السنة ، لعلمهم أن من العلم شيئاً لم يعلموه ، وقد يبلغ غيرهم ، وذلك كثير كما لا يخفى على من نظر في أقوال العلماء .


قال أبو حنيفة رحمه الله : إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين ، وإذا جاء عن الصحابة رضي الله عنهم فعلى الرأس والعين ، وإذا جاء عن التابعين فنحن رجال وهم رجال .


وقال : إذا قلت قولاً وكتاب الله يخالفه فاتركوا قولي لكتاب الله . قيل : إذا كان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالفه ؟ قال : اتركوا قولي لخبر الرسول صلى الله عليه وسلم . وقيل إذا كان قول الصحابة يخالفه ؟ قال : اتركوا قولي لصحابة .


وقال الربيع : سمعت الشافعي رحمه الله يقول : إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت .


وقال : إذا صح الحديث بما يخالف قولي فاضربوا بقولي الحائط .


وقال مالك : كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .


وتقدم له مثل ذلك ، فلا عذر لمقلد بعد هذا . ولو استقضينا كلام العلماء في هذا لخرج عما قصدناه من الاختصار ، وفيما ذكرناه كفاية لطالب الهدى .


قوله :  لعله إذا رد بعض قوله  أي قول الرسول صلى الله عليه وسلم  أي يقع في قلبه شئ من الزيغ فيهلك  نبه رحمه الله أن رد قول الرسول صلى الله عليه وسلم سبب لزيغ القلب ، وذلك هو الهلاك في الدنيا والآخرة كما قال تعالى : ' 61 : 5 ' " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين " .


قال شيخ الإسلام رحمه الله في معنى قول الله تعالى : ' 24 : 63 ' " فليحذر الذين يخالفون عن أمره " فإن كان المخالف لأمره قد حذر من الكفر والشرك ، أو من العذاب الأليم ، دل على أنه قد يكون مفضياً إلى الكفر والعذاب الأليم ، ومعلوم أن إفضاءه إلى العذاب الأليم هو مجرد فعل المعصية ، فإفضاؤه إلى الكفر إنما هو لما يقترن به من الاستخفاف في حق الأمر ، كما فعل إبليس لعنه الله تعالى ا هـ .


وقال أبو جعفر ابن جرير رحمه الله تعالى عن الضحاك : " فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة " قال :  يطبع على قلبه فلا يؤمن أن يظهر الكفر بلسانه فتضرب عنقه .


قال أبو جعفر بن جرير : أدخلت عن لأن معنى الكلام فليحذر الذين يلوذون عن أمره ويدبرون عنه معرضين .


قوله :  أو يصيبهم  في الدنيا عذاب من الله موجع على خلافهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .


 


اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله


قوله :  عن عدي بن حاتم رضي الله عنه : أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأهذه الآية : ' 9 : 31 ' " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم " الآية . فقلت : " إنا لسنا نعبدهم . قال : أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتحلونه ؟ فقلت : بلى ، قال : فتلك عبادتهم " رواه أحمد والترمذي وحسنه  .


هذا الحديث قد روى من طرق ، فرواه ابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني ، وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي .


قوله :  عن عدي بن حاتم  أي الطائي المشهور . وحاتم هو ابن عبد الله بن سعد بن الحشرج ـ بفتح الحاء ـ المشهور بالسخاء والكرم . قدم عدي على النبي صلى الله عليه وسلم في شعبان سنة تسع من الهجرة . فأسلم وعاش مائة وعشرين سنة .


وفي الحديث دليل على أن طاعة الأحبار والرهبان في معصية الله عبادة لهم من دون الله ، ومن الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله لقوله تعالى في آخر الآية : " وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون " ونظير ذلك في قوله تعالى : ' 6 : 121 ' " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون " وهذا قد وقع فيه كثير من الناس مع من قلدوهم ، لعدم إعتبارهم الدليل إذا خالف المقلد ، وهو من هذا الشرك . ومنهم من يغلو في ذلك ويعتقد أن الأخذ بالدليل والحالة هذه يكره ، أو يحرم ، فعظمت الفتنة . ويقول : هم أعلم منا بالأدلة . ولا يأخذ بالدليل إلا المجتهد ، وربما تفوهوا بذم من يعمل بالدليل ، ولا ريب أن هذا من غربة الإسلام كما قال شيخنا رحمه الله في المسائل :


فتغيرت الأحوال ، وآلت إلى هذه الغاية فصارت عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال ، ويسمونها ولاية ، وعبادة الأحبار هي العلم والفقه . ثم تغيرت الحال إلى أن عبد من ليس من الصالحين ، وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين .


وأما طاعة الأمراء ومتابعتهم فيما يخالف ما شرعه الله ورسوله فقد عمت بها البلوى قديماً وحديثاً في أكثر الولاة بعد الخلفاء الراشدين وهلم جرا . وقد قال تعالى : ' 28 : 50 ' " فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين " .


وعن زياد بن حدير قال : قال لي عمر رضي الله عنه : " هل تعرف ما يهدم الإسلام ؟ قلت : لا ، قال : يهدمه زلة العالم ، وجدال المنافق بالقرآن ، وحكم الأئمة المضلين " رواه الدارمى .


جعلنا الله وإياكم من الذين يهدون بالحق وبه يعدلون .


 


باب " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا " إلخ


قوله : باب


قول الله تعالى : ' 4 : 60 ' " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك " الآيات .


قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى : والآية ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل ، وهو المراد بالطاغوت ههنا .


وتقدم ما ذكره ابن القيم رحمه الله في حده للطاغوت ، وأنه كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع ، فكل من حاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقد حاكم إلى الطاغوت الذي أمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يكفروا به ، فإن التحاكم ليس إلا إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن كان يحكم بهما ، فمن تحاكم إلى غيرهما فقد تجاوز به حده ، وخرج عما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأنزله منزلة لا يستحقها . وكذلك من عبد شيئاً دون الله فإنما عبد الطاغوت ، فإن كان المعبود صالحاً صارت عبادة العابد له راجعة إلى الشيطان الذي أمره بها ، كما قال تعالى : ' 10 : 28 ـ 30 ' " يوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون * فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين * هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون " وكقوله : ' 34 : 40 ـ 41 ' " ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون * قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون " وإن كان ممن يدعو إلى عبادة نفسه أو كان شجراً أو حجراً أو قبراً وغير ذلك مما يتخذه المشركون أصناماً على صور الصالحين والملائكة وغير ذلك ، فهي من الطاغوت الذي أمر الله تعالى عباده أن يكفروا بعبادته ، ويتبرأوا منه ، ومن عبادة كل معبود سوى الله كائناً من كان ، وهذا كله من عمل الشيطان وتسويله ، فهو الذي دعا إلى كل باطل وزينة لمن فعل ، وهذا ينافي التوحيد الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله . فالتوحيد: هو الكفر بكل طاغوت عبده العابدون من دون الله ، كما قال تعالى : ' 60 : 4 ' " قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده " وكل من عبد غير الله فقد جاوز به حده وأعطاه من العبادة ما لا يستحقه .


قال الإمام مالك رحمه الله  الطاغوت ما عبد من دون الله  .


وكذلك من دعا إلى تحكيم غير الله ورسوله فقد ترك ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ورغب عنه ، وجعل لله شريكاً في الطاعة وخالف ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمره الله تعالى به في قوله : " وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك " وقوله تعالى : ' 4 : 65 ' " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً " فمن خالف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم بأن حكم بين الناس بغير ما أنزل الله ، أو طلب ذلك أتباعاً لما يهواه ويريده فقد خلع ربقة الإسلام والإيمان في عنقه . وإن زعم أنه مؤمن ، فإن الله تعالى أنكر على من أراد ذلك ، وأكذبهم في زعمهم الإيمان لما في ضمن قوله : " يزعمون " من نفى إيمانهم ، فإن " يزعمون " إنما يقال غالباً لمن ادعى دعوى هو فيها كاذب لمخالفته لموجبها وعمله بما ينافيها، يحقق هذا قوله: " وقد أمروا أن يكفروا به " لأن الكفر بالطاغوت ركن التوحيد ، كما في آية البقرة فإن لم يحصل هذا الركن لم يكن موحداً والتوحيد هو أساس الإيمان الذي تصلح به جميع الأعمال وتفسد بعدمه . كما أن ذلك بين في قوله تعالى : ' 2 : 256 ' " فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى " الآية . وذلك أن التحاكم إلى الطاغوت إيمان به .


وقوله : " ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً " يبين تعالى في هذه الآية أن التحاكم إلى الطاغوت مما يأمر به الشيطان ويزينه لمن أطاعه : ويبين أن ذلك مما أضل به الشيطان من أضله ، وأكده بالمصدر ، ووصفه بالبعد . فدل على أن ذلك من أعظم الضلال وأبعده عن الهدى .



ففي هذه الآية أربعة أمور . الأول : أنه إرادة الشيطان : الثاني : إنه ضلال . الثالث : تأكيده بالمصدر . الرابع : وصفه بالبعد عن سبيل الحق والهدى .


فسبحان الله ما أعظم هذا القرآن وما أبلغه ، وما أدله على أنه كلام رب العالمين ، أوحاه إلى رسوله الكريم ، وبلغه عبده الصادق الأمين . صلوات الله وسلامه عليه .


قوله : " وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً " بين تعالى أن هذه صفة المنافقين ، وأن من فعل ذلك أو طلبه ، وإن زعم أنه مؤمن فإنه في غاية البعد عن الإيمان .


قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى : هذا دليل على أن من دعى إلى تحكيم الكتاب والسنة فأبى أنه من المنافقين .


قوله : " ويصدون " لازم وهو بمعنى يعرضون ، لأن مصدره صدوداً  فما أكثر من اتصف بهذا الوصف ، خصوصاً ممن يدعى العلم ، فإنهم صدوا عما توجبه الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى أقوال من يخطىء كثيراً ممن ينتسب إلى الأئمة الأربعة في تقليدهم من لا يجوز تقليده ، واعتمادهم على قول من لا يجوز الاعتماد على قوله ، ويجعلون قوله المخالف لنص الكتاب والسنة وقواعد الشريعة هو المعتمد عندهم الذي لا تصح الفتوى إلا به . فصار المتبع للرسول صلى الله عليه وسلم بين أولئك غريباً ، كما تقدم التنبيه على هذا في الباب الذي قبل هذا .



فتدبر هذه الآيات وما بعدها يتبين لك ما وقع فيه غالب الناس من الإعراض عن الحق وترك العمل به في أكثر الوقائع . والله المستعان .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق