الاثنين، 7 سبتمبر 2015

قال المصنف رحمه الله تعالى : وقوله : '4 : 36' "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً" .

ش : قال العماد ابن كثير رحمه الله فى هذه الآية : يأمر الله تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له ، فإنه الخالق الرازق المتفضل على خلقه فى جميع الحالات ، وهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئاً من مخلوقاته . انتهى .
وهذه الاية هى التى تسمى آية الحقوق العشرة ، وفى بعض النسخ المعتمدة من نسخ هذا الكتاب تقديم هذه الآية على آية الأنعام ، ولهذا قدمتها لمناسبة كلام ابن مسعود الآتي لآية الأنعام ، ليكون ذكره بعدها أنسب .

قال المصنف رحمه الله تعالى : وقوله تعالى :'6 : 151-153' " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا " الآيات .
ش : قال العماد ابن كثير رحمه الله : يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم (قل) لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله ، وحرموا ما رزقهم الله (تعالوا) أي هلموا وأقبلوا (أتل) أقص عليكم (ماحرم ربكم عليكم) حقاً ، لا تخرصاً ولا ظناً ، بل وحياً منه وأمراً من عنده (ألا تشركوا به شيئاً) وكأن في الكلام محذوفاً دل عليه السياق تقديره : وصاكم ألا تشركوا به شيئاً ، ولهذا قال في آخر الآية (ذلكم وصاكم به) ا هـ .
قلت : فيكون المعنى : حرم عليكم ما وصاكم بتركه من الإشراك به ، وفي المغني لابن هشام فى قوله تعالى " أن لا تشركوا به شيئا " سبعة أقوال ، أحسنها : هذا الذى ذكره ابن كثير ، ويليه : بين لكم ذلك لئلا تشركوا ، فحذفت الجملة من أحدهما ، وهى (وصاكم) وحرف الجر وما قبله من الأخرى . ولهذا إذا سئلوا عما يقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : يقول اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ، واتركوا ما يقول آباؤكم كما قال أبو سفيان ، لهرقل وهذا هو الذى فهمه أبو سفيان وغيره من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم قولوا لا اله إلا الله تفلحوا .
وقوله تعالى : "وبالوالدين إحساناً" قال القرطبى : الإحسان إلى الوالدين برهما وحفظهما وصيانتهما وامتثال أمرهما ، وإزالة الرق عنهما ، وترك السلطنة عليهما ، و(إحساناً) نصب على المصدرية ، وناصبه فعل من لفظه تقديره : وأحسنوا بالوالدين إحساناً .
وقوله "ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم" إلاملاق : الفقر ، أى لا تئدوا بناتكم خشية العيلة والفقر ، فإنى رازقكم وإياهم ، وكان منهم من يفعل ذلك بالذكور خشية الفقر ، ذكره القرطبى . وفى الصحيحين "عن ابن مسعود رضى الله عنه (قلت : يا رسول الله ، أى الذنب أعظم عند الله ؟ قال : أن تجعل لله نداً وهو خلقك . قلت : ثم أى ؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك . قلت : ثم أي ؟ قال : أن تزاني بحليلة جارك . ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم '25 : 68 - 70' " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما " " .
وقوله : "ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن" قال ابن عطية : نهي عام عن جميع أنواع الفواحش ، وهى المعاصى .
و(ظهر) و (بطن) حالتان تستوفيان أقسام ما جلتا له من الأشياء . انتهى .
وقوله : " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق " فى الصحيحين : "عن ابن عباس رضى الله عنه مرفوعاً : لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزانى ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة" .
وقوله : "ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون" قال ابن عطية : (ذلكم) إشارة إلى هذه المحرمات والوصية الأمر المؤكد المقرر . وقوله (لعلكم تعقلون) (لعل) للتعليل أى إن الله تعالى وصانا بهذه الوصايا لنعقلها عنه ونعمل بها ، وفى تفسير الطبرى الحنفى : ذكر أو لا (تعقلون) في (تذكرون) ثم (تتقون) لأنهم إذا عقلوا تذكروا وخافوا واتقوا .
وقوله : " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده " قال ابن عطية : هذا نهى عام عن القرب الذى يعم وجوه التصرف وفيه سد الذريعة ، ثم استثنى ما يحسن وهو السعى فى نمائه ، قال مجاهد : التي هي أحسن ، إشارة فيه ، وفي قوله : (حتى يبلغ أشده) قال مالك وغيره : هو الرشد وزوال السفه مع البلوغ ، روى نحو هذا عن زيد بن أسلم والشعبى وربيعة وغيرهم .
وقوله : "وأوفوا الكيل والميزان بالقسط " قال ابن كثير : يأمر تعالى بإقامة العدل فى الأخذ والإعطاء " لا نكلف نفساً إلا وسعها " أي من اجتهاد بأداء الحق وأخذه ، فإن أخطأ بعد استفراغ الوسع وبذل جهده فلا حرج عليه .
وقوله : "وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى" هذا أمر بالعدل فى القول والفعل على القريب والبعيد . قال الحنفي : العدل فى القول فى حق الولى والعدو لا يتغير فى الرضى والغضب بل يكون على الحق وإن كان ذا قربى فلا يميل إلى الحبيب والقريب '5: 8' " ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى " .
وقوله "وبعهد الله أوفوا" قال ابن جرير : وبوصية الله تعالى التي وصاكم بها فأوفوا . وإيفاء ذلك بأن يطيعوه بما أمرهم به ونهاهم عنه . وأن يعملوا بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ذلك هو الوفاء بعهد الله . وكذا قال غيره ، وقوله "ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون" تتعظون وتنتهون عما كنتم فيه .
وقوله : "وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" قال القرطبي : هذه آية عظيمة عطفها على ما تقدم . فإنه نهي وأمر وحذر عن اتباع غير سبيله على ما بينته الأحاديث الصحيحة وأقاويل السلف . و (أن) فى موضع نصب . أي أتلو أن هذا صراطي ، عن الفراء و الكسائي . ويجوز أن يكون خفضاً . أي وصاكم به وبأن هذا صراطي . قال: والصراط الطريق الذي هو دين الإسلام . (مستقيماً) نصب على الحال ومعناه مستوياً قيماً لا اعوجاج فيه . فأمر باتباع طريقه الذي طرقه على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وشرعه ونهايته الجنة وتشعبت منه طرق ، فمن سلك الجادة نجا ، ومن خرج إلى تلك الطرق أفضت به إلى النار . قال الله تعالى : "ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون" أي يميل . انتهى .
وروى الإمام أحمد  والنسائي و الدارمي و ابن أبي حاتم و الحاكم - وصححه - "عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً بيده ، ثم قال هذا سبيل الله مستقيماً ، ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال : وهذه سبل ليس منها سبيل إلا وعليه شيطان يدعو إليه ، ثم قرأ "وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل " الآية " . وعن مجاهد : ولا تتبعوا السبل ، قال : البدع والشهوات .
قال ابن القيم رحمه الله : ولنذكر في الصراط المستقيم قولاً وجيزاً فإن الناس قد تنوعت عباراتهم عنه بحسب صفاته ومتعلقاته ، وحقيقته شئ واحد ، وهو طريق الله الذي نصبه لعباده موصلاً لهم إليه ولا طريق إليه سواه ، بل الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا طريقه الذي نصبه على ألسن رسله ، وجعله موصلاً لعبادة الله وهو إفراده بالعبادات ، وإفراد رسله بالطاعة ، فلا يشرك به أحداً في عبادته ولا يشرك برسوله صلى الله عليه وسلم أحداً في طاعته . فيجرد التوحيد ، ويجرد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا كله مضمون شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله فأي شئ فسر به الصراط المستقيم فهو داخل في هذين الأصلين . ونكتة ذلك ، أن تحبه بقلبك وترضيه بجهدك كله ، فلا يكون في قلبك موضع إلا معموراً بحبه ، ولا يكون لك إرادة متعلقة بمرضاته . فالأول يحصل بتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله ، والثاني يحصل بتحقيق شهادة أن محمداً رسول الله . وهذا هو الهدى ودين الحق ، وهو معرفة الحق والعمل به ، وهو معرفة ما بعث الله به رسوله والقيام به ، وقل ما شئت من العبارات التى هذا آخيتها وقطب رحاها . قال : وقال سهل بن عبد الله : عليكم بالأثر والسنة ، فإنى أخاف ، إنه سيأتي عن قليل زمان إذا ذكر إنسان النبى صلى الله عليه وسلم والاقتداء به فى جميع أحواله ذموه ونفروا عنه وتبرأوا منه ، وأذلوه وأهانوه . ا هـ .

قال المصنف رحمه الله تعالى : قال ابن مسعود : من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التى عليها خاتمه فليقرأ : "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم "- إلى قوله - " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه " الآية .
ش : قوله : ابن مسعود هو عبد الله بن مسعود بن غافل - بمعجمة وفاء - ابن حبيب الهذلى أبو عبد الرحمن ، صحابى جليل من السابقين الأولين ، وأهل بدر وأحد والخندق وبيعة الرضوان من كبار علماء الصحابة ، أمر عمر على الكوفة ، ومات سنة اثنتين وثلاثين رضى الله عنه .
وهذا الأثر رواه الترمذي وحسنه ، وابن المنذر وابن أبى حاتم والطبرانى بنحوه . وقال بعضهم : معناه من أراد أن ينظر إلى الوصية التى كأنها كتب وختم عليها فلم تغير ولم تبدل فليقرأ : (قل تعالوا -إلى آخر الآيات) شبهها بالكتاب الذى كتب ثم ختم فلم يزد فيه ولم ينقص . فإن النبى صلى الله عليه وسلم لم يوص إلا بكتاب الله ، كما قال فيما رواه مسلم : "وإنى تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله" وقد روى عبادة بن الصامت قال : "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيكم يبايعنى على هؤلاء الآيات الثلاث ؟ ثم تلا قوله تعالى : "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم" حتى فرغ من الثلاث الآيات . ثم قال من وفى بهن فأجره على الله ، ومن انتقص منهن شيئاً فأدركه الله به فى الدنيا كانت عقوبته ، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه وإن شاء عفا عنه " رواه ابن أبي حاتم و الحاكم وصححه و محمد بن نصر فى الاعتصام .
قلت : ولأن النبى صلى الله عليه وسلم لم يوص أمته إلا بما وصاهم الله تعالى به على لسانه . وفى كتابه الذى أنزله '16 : 89' " تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين " وهذه الآيات وصية الله تعالى ووصية رسوله صلى الله عليه وسلم .

قال المصنف رحمه الله تعالى : وعن معاذ بن جبل قال : كنت رديف النبى صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لى : يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد ، وما حق العباد على الله ؟ . قلت : الله ورسوله أعلم . قال :  حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً  ، قلت : يا رسول الله أفلا أبشر الناس ؟ قال : لا تبشرهم فيتكلوا " . أخرجاه فى الصحيحين .
ش : هذا الحديث فى الصحيحين من طرق . وفى بعض رواياته نحو مما ذكره المصنف .
و معاذ بن جبل رضى الله عنه هو ابن عمرو بن أوس الأنصارى الخزرجى أبو عبد الرحمن صحابى مشهور من أعيان الصحابة ، شهد بدراً وما بعدها . وكان إليه المنتهى فى العلم والأحكام والقرآن رضي الله عنه . وقال النبى صلى الله عليه وسلم معاذ يحشر يوم القيامة أمام العلماء برتوة أي بخطوة ، قال فى القاموس والرتوة الخطوة وشرف من الأرض ، وسويعة من الزمان ، والدعوة ، والفطرة ، ورمية بسهم أو نحو ميل أو مدى البصر . والراتي العالم الربانى . انتهى
وقال فى النهاية أنه يتقدم العلماء برتوة أي برمية سهم . وقيل : بميل ، وقيل : مد البصر . وهذه الثلاثة أشبه بمعنى الحديث. مات معاذ سنة ثمانى عشرة بالشام فى طاعون عمواس . وقد استخلفه صلى الله عليه وسلم على أهل مكة يوم الفتح يعلمهم دينهم.
قوله : (كنت رديف النبى صلى الله عليه وسلم) فيه جواز الإرداف على الدابة ، وفضيلة معاذ رضى الله عنه .
قوله : (على حمار) فى رواية اسمه عفير ، قلت : أهداه إليه المقوقس صاحب مصر .
وفيه : تواضعه صلى الله عليه وسلم لركوب الحمار والإرادف عليه ، خلافاً لما عليه أهل الكبر .
قوله : (أتدرى ما حق الله على العباد) أخرج السؤال بصيغة الاستفهام ليكون أوقع في النفس وأبلغ في فهم المتعلم وحق الله على العباد وهو ما يستحقه عليهم وحق العباد على الله معناه أنه متحقق لا محالة ، لأنه وعدهم ذلك جزاء لهم على توحيده '30 : 6' "وعد الله لا يخلف الله وعده" .
قال شيخ الإسلام : كون المطيع يستحق الجزاء هو استحقاق إنعام وفضل ، ليس هو استحقاق مقابلة ، كما يستحق المخلوق على المخلوق ، فمن الناس من يقول : لا معنى للاستحقاق ، إلا أنه أخبر بذلك ووعده صدق ، ولكن أكثر الناس يثبتون استحقاقاً زائداً على هذا ، كما دل عليه الكتاب والسنة قال تعالى '30 : 47' "وكان حقاً علينا نصر المؤمنين" لكن أهل السنة يقولون : هو الذي كتب على نفسه الرحمة وأوجب على نفسه الحق ، ولم يوجبه عليه مخلوق ، والمعتزلة يدعون أنه واجب عليه بالقياس على المخلوق وأن العباد هم الذين أطاعوه بدون أن يجعلهم مطيعين له ، وأنهم يستحقون الجزاء بدون أن يكون هو الموجب ، وغلطوا في ذلك ، وهذا الباب غلطت فيه الجبرية والقدرية أتباع جهم والقدرية النافية .
قوله (قلت الله ورسوله أعلم) فيه حسن الأدب من المتعلم ، وأنه ينبغي لمن سئل عما لا يعلم أن يقول ذلك ، بخلاف أكثر المتكلفين .
قوله : (أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً) أي يوحدوه بالعبادة . ولقد أحسن العلامة ابن القيم رحمه الله حيث عرف العبادة بتعريف جامع فقال :
وعبادة الرحمن غاية حبه    مع ذل عابده هما قطبان
ومداره بالأمر - أمر رسوله-    لا بالهوى والنفس والشيطان
قوله : (ولا يشركوا به شيئاً) أى يوحدوه بالعبادة ، فلابد من التجرد من الشرك فى العبادة ، ومن لم يتجرد من الشرك لم يكن آتياً بعبادة الله وحده ، بل هو مشرك قد جعل لله نداً . وهذا معنى قول المصنف رحمه الله :
(وفيه أن العبادة هى التوحيد ، لأن الخصومة فيه ، وفى بعض الآثار الإلهية :  إنى والجن والانس فى نبأ عظيم ، أخلق ويعبد غيرى ، وأرزق ويشكر سواى ، خيري إنى العباد نازل ، وشرهم إلى صاعد ، أتحبب إليهم بالنعم ، ويتبغضون إلى بالمعاصى) .
قوله : (وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً) قال الحافظ : اقتصر على نفي الإشراك لأنه يستدعي التوحيد بالاقتضاء ، ويستدعى إثبات الرسالة باللزوم ، إذ من كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كذب الله ، ومن كذب الله فهو مشرك وهو مثل قول القائل : ومن توضأ صحت صلاته ، أى مع سائر الشروط . ا هـ .
قوله : (أفلا أبشر الناس) فيه استحباب بشارة المسلم بما يسره ، وفيه ما كان عليه الصحابة من الاستبشار بمثل هذا . قال المصنف رحمه الله .
قوله (لا تبشرهم فيتكلوا) أى يعتمدوا على ذلك فيتركوا التنافس فى الأعمال . وفى رواية : فأخبر بها معاذ عند موته تأثماً أى تحرجاً من الإثم . قال الوزير أبو المظفر : لم يكن يكتمها إلا عن جاهل يحمله جهله على سوء الأدب بترك الخدمة فى الطاعة ، فأما الأكياس الذين إذا سمعوا بمثل هذا زادوا فى الطاعة ، ورأوا أن زيادة النعم تستدعى زيادة الطاعة ، فلا وجه لكتمانها عنهم.
وفى الباب من الفوائد غير ما تقدم ، الحث على إخلاص العبادة لله وأنها لا تنفع مع الشرك ، بل لا تسمى عبادة . والتنبيه على عظمة حق الوالدين . وتحريم عقوقهما . والتنبيه على عظمة الآيات المحكمات فى سورة الأنعام . وجواز كتمان العلم للمصلحة .
قوله : (أخرجاه) أى البخارى ومسلم. و البخارى رحمه الله هو الإمام محمد ابن إسماعيل بن إبراهيم بن بردزبه الجعفي مولاهم، الحافظ الكبير صاحب الصحيح والتاريخ والأدب المفرد وغير ذلك من مصنفاته . روى عن الإمام أحمد بن حنبل والحميدى وابن المدينى وطبقتهم . وروى عنه مسلم والنسائي والترمذي والفربرى رواى الصحيح . ولد سنة أربع وتسعين ومائة ومات سنة ست وخمسين ومائتين .
و مسلم رحمه الله هو ابن حجاج بن مسلم أبو الحسين القشيرى النيسابورى صاحب الصحيح والعلل والوجدان وغير ذلك روى عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبى خيثمة وابن أبى شيبة وطبقتهم . وروى عن البخاري . وروى عنهالترمذي وإبراهيم بن محمد بن سفيان راوى الصحيح وغيرهما . ولد سنة أربع ومائتين . ومات سنة إحدى وستين ومائتين بنيسابور رحمهما الله .

فضل التوحيد
قوله : (باب بيان فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب)
باب خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا (قلت) ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره هذا . و ما يجوز أن تكون موصولة والعائد محذوف ، أي وبيان الذي يكفره من الذنوب ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي وتكفيره الذنوب ، وهذا الثانى أظهر .
قوله : وقول الله تعالى : '6 : 82' "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون" قال ابن جرير : حدثنى المثنى - وساق بسنده - عن الربيع ابن أنس قال : الإيمان الإخلاص لله وحده ) .
وقال ابن كثير فى الآية : أى هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده ولم يشركوا به شيئاً هم الآمنون يوم القيامة ، المهتدون فى الدنيا والاخرة . وقال زيد بن أسلم وابن إسحاق : هذا من الله على فصل القضاء بين إبراهيم وقومه .
وعن ابن مسعود : (لما نزلت هذه الآية قالوا : فأينا لم يظلم نفسه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس بذلكم ، ألم تسمعوا إلى قول لقمان : "إن الشرك لظلم عظيم" ) .
وساقه البخارى بسنده فقال "حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنى إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال :  لما نزلت : "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم" قلنا : يا رسول الله ، أينا لا يظلم نفسه ؟ قال : ليس كما تقولون ، لم يلبسوا إيمانهم بظلم ، بشرك . أو لم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه : " يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم " " .
ولأحمد بنحوه عن "عبد الله قال : ( لما نزلت "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم" شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله : فأينا لا يظلم نفسه ؟ قال : إنه ليس الذى تعنون . ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح : " يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم " إنما هو الشرك) " . وعن عمر أنه فسره بالذنب . فيكون المعنى : الأمن من كل عذاب . وقال الحسن والكلبي : أولئك لهم الأمن ، فى الآخرة ، وهم مهتدون فى الدنيا .
قال شيخ الإسلام : والذى شق عليهم أنهم ظنوا أن الظالم المشروط عدمه هو ظلم العبد نفسه ، وأنه لا أمن ولا اهتداء إلا لمن لم يظلم نفسه ، فبين لهم النبى صلى الله عليه وسلم ما دلهم على أن الشرك ظلم فى كتاب الله ، فلا يحصل الأمن وإلاهتداء إلا لمن يلبس إيمانه بهذا الظلم ، فإن من لم يلبس إيمانه بهذا الظلم كان من أهل الأمن والاهتداء ، كما كان من أهل الاصطفاء فى قوله : '35 : 32' "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير" وهذا لا ينفى أن يؤاخذ أحدهم بظلمه لنفسه بذنب إذا لم يتب كما قال تعالى : '99 : 7 ، 8' " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " وقد " سأل أبو بكر الصديق رضى الله عنه النبى صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أينا لم يعمل سوءاً ؟ فقال : يا أبا بكر ألست تنصب ؟ ألست تحزن ؟ أليس يصيبك اللأواء ؟ فذلك ما تجزون به" فبين أن المؤمن إذا مات دخل الجنة قد يجزى بسيئاته فى الدنيا بالمصائب . فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة : الشرك ، وظلم العباد . وظلمه لنفسه بما دون الشرك . كان له الأمن التام والاهتداء التام . ومن لم يسلم من ظلمه لنفسه كان له الأمن والاهتداء المطلق . بمعنى أنه لابد أن يدخل الجنة كما وعد بذلك فى الآية الأخرى : وقد هداه الله إلى الصراط المستقيم الذى تكون عاقبته فيه إلى الجنة . ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه لنفسه وليس مراد النبى صلى الله عليه وسلم بقوله إنما هو الشرك أن من لم يشرك الشرك الأكبر يكون له الأمن التام والاهتداء التام . فإن أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن تبين أن أهل الكبائر معرضون للخوف ، لم يحصل لهم الأمن التام والاهتداء التام اللذين يكونون بهما مهتدين إلى الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم الله عليهم ، من غير عذاب يحصل لهم . بل معهم أصل الاهتداء إلى هذا الصراط ، ومعهم أصل نعمة الله عليهم ولابد لهم من دخول الجنة . وقوله إنما هو الشرك إن أراد الأكبر ، فمقصوده أن من لم يكن من أهله فهو آمن مما وعد به المشركون من عذاب الدنيا والآخرة . وإن كان مراده جنس الشرك . يقال ظلم العبد نفسه، كبخله لحب المال ببعض الواجب - هو شرك أصغر . وحبه ما يبغضه الله تعالى حتى يقدم هواه على محبة الله الشرك أصغر ونحو ذلك . فهذا فاته من الأمن والاهتداء بحسبه . ولهذا كان السلف يدخلون الذنوب فى هذا الشرك بهذا الاعتبار ملخصاً .
وقال ابن القيم رحمه الله : قوله : "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون" قال الصحابة : وأينا يا رسول الله لم يلبس إيمانه بظلم ؟ قال : ذلك الشرك . ألم تسمعوا قول العبد الصالح "إن الشرك لظلم عظيم"  لما أشكل عليهم المراد بالظلم فظنوا أن ظلم النفس داخل فيه .
وأن من ظلم نفسه أى ظلم كان لم يكن آمناً ولا مهتدياً . أجابهم صلوات الله وسلامه عليه بأن الظلم الرافع للأمن والهداية على الإطلاق هو الشرك . وهذا والله هو الجواب ، الذى يشفي العليل ويروي الغليل. فإن الظلم المطلق التام هو الشرك . الذى هو وضع العبادة فى غير موضعها . والأمن والهدى المطلق : هما الأمن فى الدنيا والآخرة.
والهدى إلى الصراط المستقيم . فالظلم المطلق التام رافع للأمن والاهتداء المطلق التام . ولا يمنع أن يكون الظلم مانعاً من مطلق الأمن ومطلق الهدى . فتأمله . فالمطلق للمطلق ، والحصة للحصة ا هـ ملخصاً .

حديث عبادة من شهد أن لا إله إلا الله إلخ
وقوله ("عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه . والجنة حق ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل " . أخرجاه) .
عبادة بن الصامت بن قيس الأنصارى الخزرجى ، أبو الوليد ، أحد النقباء بدرى مشهور مات بالرملة سنة أربع وثلاثين وله اثنتان وسبعون سنة ، وقيل : عاش إلى خلافة معاوية رضى الله عنه .
قوله (من شهد أن لا إله إلا الله) أى من تكلم بها عارفاً لمعناها ، عاملاً بمقتضاها ، باطناً وظاهراً ، فلابد فى الشهادتين من العلم واليقين والعمل بمدلولها ، كما قال الله تعالى : '7 4 : 19'"فاعلم أنه لا إله إلا الله" وقوله '43 : 86' "إلا من شهد بالحق وهم يعلمون" أما النطق بها من غير معرفة لمعناها ولا يقين ولا عمل بما تقتضيه : من البراءة من الشرك ، وإخلاص القول والعمل : قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح - فغير نافع بالإجماع .
قال القرطبى فى المفهم على صحيح مسلم : باب لا يكفى مجرد التلفظ بالشهادتين بل لابد من استيقان القلب - هذه الترجمة تنبيه على فساد مذهب غلاة المرجئة ، القائلين بأن التلفظ بالشهادتين كاف فى الإيمان . وأحاديث هذا الباب تدل على فساده . بل هو مذهب معلوم الفساد من الشريعة لمن وقف عليها . ولأنه يلزم منه تسويغ النفاق ، والحكم للمنافق بالإيمان الصحيح . وهو باطل قطعاً ا هـ .
وفى هذا الحديث ما يدل على هذا . وهو قوله : من شهد فإن الشهادة لا تصح إلا إذا كانت عن علم ويقين وإخلاص وصدق .
قال النووي : هذا حديث عظيم جليل الموقع ، وهو أجمع - أو من أجمع - الأحاديث المشتملة على العقائد . فإنه صلى الله عليه وسلم جمع فيه ما يخرج من ملل الكفر على اختلاف عقائدههم وتباعدها . فاقتصر صلى الله عليه وسلم فى هذه الأحرف على ما يباين جميعهم ا هـ .

معنى لا إله إلا الله
ومعنى لا إله إلا الله لا معبود بحق إلا الله . وهو فى غير موضع من القرآن ، ويأتيك فى قول البقاعى صريحا قوله (وحده) تأكيد للإثبات (لا شريك له) تأكيد للنفى . قال الحافظ : كما قال تعالى : '2 : 163'"وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم" وقال : '21 : 25' " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " وقال : '7 : 65' "وإلى عاد أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره" فأجابوه رداً عليه بقولهم : " أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا " وقال تعالى : '22 : 62' " ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير " .
فتضمن ذلك نفى الإلهية عما سوى الله ، وهي العبادة . وإثباتها لله وحده لا شريك له ، والقرآن من أوله إلى آخره يبين هذا ويقرره ويرشد إليه .
فالعبادة بجميع أنواعها إنما تصدر عن تأله القلب بالحب والخضوع والتذلل رغباً ورهباً ، وهذا كله لا يستحقه إلا الله تعالى ، كما تقدم فى أدلة هذا الباب وما قبله . فمن صرف من ذلك شيئاً لغير الله فقد جعله لله نداً ، فلا ينفعه مع ذلك قول ولا عمل .
(ذكر كلام العلماء ، فى معنى لا إله إلا الله)
قد تقدم كلام ابن عباس ، وقال الوزير أبو المظفر فى الإفصاح : قوله : شهادة أن لا إله إلا الله يقتضى أن يكون الشاهد عالماً بأنه لا إله إلا الله ، كما قال تعالى : "فاعلم أنه لا إله إلا الله" قال: واسم (الله) بعد (إلا) من حيث أنه الواجب له الإلهية ، فلا يستحقها غيره سبحانه . قال : وجملة الفائدة فى ذلك : أن تعلم أن هذه الكلمة مشتملة على الكفر بالطاغوت والإيمان بالله ، فإنك لما نفيت الإلهية وأثبت الإيجاب لله سبحانه كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن بالله .
وقال ابن القيم فى البدائع رداً لقول من قال : إن المستثنى مخرج من المستثنى منه . قال ابن القيم : بل هو مخرج من المستثنى منه وحكمه ، فلا يكون داخلاً فى المستثنى ، إذ لو كان كذلك لم يدخل الرجل فى الإسلام بقوله : لا إله إلا الله لأنه لم يثبت الإلهية لله تعالى . وهذه أعظم كلمة تضمنت بالوضع نفى الإلهية عما سوى الله وإثباتها له بوصف الاختصاص . فدلالتها على إثبات إلهيته أعظم من دلالة قولنا : (الله إله) ولا يستريب أحد فى هذا البتة . انتهى بمعناه .
وقال أبو عبد الله القرطبي فى تفسيره (لا إله إلا الله) أى لا معبود إلا هو . وقال الزمخشرى : الإله من أسماء الأجناس . كالرجل والفرس ، يقع على كل معبود بحق أو باطل ، ثم غلب على المعبود بحق .
وقال شيخ الإسلام : الإله هو المعبود المطاع ، فإن الإله هو المألوه ، والمألوه هو الذى يستحق أن يعبد . وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التى تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب ، المخضوع له غاية الخضوع ، قال : فإن الإله هو المحبوب المعبود الذى تألهه القلوب بحبها ، وتخضع له وتذل له ، وتخافه وترجوه ، وتنيب إليه فى شدائدها ، وتدعوه فى مهماتها ، وتتوكل عليه فى مصالحها ، وتلجأ إليه وتطمئن بذكره ، وتسكن إلى حبه ، وليس ذلك إلا لله وحده ، ولهذا كانت (لا إله إلا الله) أصدق الكلام ، وكان أهلها أهل الله وحزبه ، والمنكرون لها أعداءه وأهل غضبه ونقمته ، فإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق ، وإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له فى علومه وأعماله .
وقال ابن القيم : (الإله) هو الذى تألهه القلوب محبة وإجلالاً وإنابة ، وإكراماً وتعظيماً وذلاً وخضوعاً وخوفاً ورجاء وتوكلاً .
وقال ابن رجب : (الإله) هو الذى يطاع فلا يعصى ، هيبة له وإجلالاً ، ومحبة وخوفاً ورجاء ، وتوكلاً عليه ، وسؤالاً منه ودعاء له ، ولا يصلح هذا كله إلا الله عز وجل ، فمن أشرك مخلوقاً فى شئ من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان ذلك قدحاً في إخلاصه فى قول (لا إله إلا الله) وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب مافيه من ذلك .
وقال البقاعي : لا إله إلا الله ، أى انتفاء عظيماً أن يكون معبود بحق غير الملك الأعظم ، فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة ، وإنما يكون علماً إذا كان نافعاً ، وإنما يكون نافعاً إذا كان مع الإذعان والعمل بما تقتضيه ، وإلا فهو جهل صرف .
وقال الطيبي : (الإله) فعال بمعنى مفعول ، كالكتاب بمعنى المكتوب ، من أله إلهة أى عبد عبادة . قال الشارح : وهذا كثير فى كلام العلماء وإجماع منهم .
فدلت (لا إله إلا الله) على نفي الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى كائناً ما كان ، وإثبات الإلهية لله وحده دون كل ما سواه ، و هذا هو التوحيد الذى دعت إليه الرسل ودل عليه القرآن من أوله إلى آخره ، كما قال تعالى عن الجن : '72 : 1' " قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا " فلا إله إلا الله لا تنفع إلا من عرف مدلولها نفياً وإثباتاً ، واعتقد ذلك وقبله وعمل به . وأما من قالها من غير علم واعتقاد وعمل ، فقد تقدم فى كلام العلماء أن هذا جهل صرف ، فهى حجة عليه بلا ريب .
فقوله فى الحديث وحده لا شريك له تأكيد وبيان لمضمون معناها . وقد أوضح الله ذلك وبينه فى قصص الأنبياء والمرسلين في كتابه المبين ، فما أجهل عباد القبور بحالهم ! وما أعظم ما وقعوا فيه من الشرك المنافى لكلمة الاخلاص لا إله إلا الله ! فإن مشركي العرب ونحوهم جحدوا لا إله إلا الله لفظاً ومعنى . وهؤلاء المشركون أقروا بها لفظاً وجحدوها معنى ، فتجد أحدهم يقولها وهو يأله غير الله بأنواع العبادة ، كالحب والتعظيم ، والخوف والرجاء والتوكل والدعاء ، وغير ذلك من أنواع العبادة . بل زاد شركهم على شرك العرب بمراتب ، فإن أحدهم إذا وقع فى شدة أخلص الدعاء لغير الله تعالى ، ويعتقدون أنه أسرع فرجاً من الله ، بخلاف حال المشركين الأولين ، فإنهم يشركون في الرخاء ، وأما في الشدائد فإنما يخلصون لله وحده ، كما قال تعالى '29 : 65' " فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون " الآية . فبهذا يتبين أن مشركي أهل هذه الأزمان أجهل بالله وبتوحيده من مشركي العرب ومن قبلهم .

معنى محمد رسول الله
وقوله : (وأن محمداً عبده ورسوله) أي وشهد بذلك ، وهو معطوف على ما قبله على نية تكرار العامل ، ومعنى العبد هنا المملوك العابد ، أي أنه مملوك لله تعالى . والعبودية الخاصة وصفه ، كما قال تعالى : '39 : 26' "أليس الله بكاف عبده" فأعلى مراتب العبد العبودية الخاصة والرسالة فالنبى صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق فى هاتين الصفتين الشريفتين . وأما الربوبية والإلهية فهما حق الله تعالى ، لا يشركه فى شئ منهما ملك مقرب ولا نبى مرسل . وقوله : عبده ورسوله أتى بهاتين الصفتين وجمعهما دفعاً للإفراط والتفريط ، فإن كثيراً ممن يدعى أنه من أمته أفرط بالغلو قولاً وعملاً ، وفرط بترك متابعته ، واعتمد على الآراء المخالفة لما جاء به ، وتعسف فى تأويل أخباره وأحكامه ، بصرفها عن مدلولها والصدوف عن الانقياد لها مع إطراحها فإن شهادة أن محمداً رسول الله تقتضى الإيمان به وتصديقه فيما أخبر ، وطاعته فيما أمر ، والانتهاء عما عنه نهى وزجر ، وأن يعظم أمره ونهيه ، ولا يقدم عليه قول أحد كائناً من كان . والواقع اليوم وقبله - ممن يتنسب إلى العلم من القضاة والمفتين - خلاف ذلك ، والله المستعان . وروى الدارمى فى مسنده عن "عبد الله بن سلام رضى الله عنه أنه كان يقول : إنا لنجد صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين ، أنت عبدي ورسولي ، سميته المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخاب بالأسواق ، ولا يجزى بالسيئة مثلها ، ولكن يعفو ويتجاوز ، ولن أقبضه حتى يقيم الملة المتعوجة بأن يشهد أن لا إله إلا الله ، يفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً  " قال عطاء بن يسار : وأخبرنى أبو واقد الليثى أنه سمع كعباً يقول مثل ما قال ابن سلام .

معنى أن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته
قوله : (وأن عيسى عبد الله ورسوله) أى خلافاً لما يعتقده النصارى أنه الله أو ابن الله ، أو ثالث ثلاثة . تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً '23 : 91'"ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله" فلا بد أن يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله على علم ويقين بأنه مملوك لله ، خلقه من أنثى بلا ذكر ، كما قال تعالى : '3 : 59'"إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون" فليس رباً ولا إلهاً . سبحان الله عما يشركون . قال تعالى '19 : 29 - 36'" فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا * قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا * وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا * والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا * ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون * ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون * وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم " وقال : '4 : 172'"لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً " ويشهد المؤمن أيضاً ببطلان قول أعدائه اليهود : أنه ولد بغى ، لعنهم الله تعالى . فلا يصح إسلام أحد علم ما كانوا يقولونه حتى يبرأ من قول الطائفتين جميعاً في عيسى عليه السلام ، ويعتقد ما قاله الله تعالى فيه : أنه عبد الله ورسوله .
قوله : (وكلمته) إنما سمى عيسى عليه السلام كلمة لوجوده بقوله تعالى : كن كما قاله السلف من المفسرين . قال الإمام أحمد فى الرد على الجهمية بالكلمة التى ألقاها إلى مريم حين قال له كن فكان عيسى بكن وليس عيسى هو كن ولكن بكن كان . فكن من الله تعالى قول ، وليس كن مخلوقاً ، وكذب النصارى والجهمية على الله فى أمر عيسى انتهى .
قوله : (ألقاها إلى مريم) قال ابن كثير : خلقه بالكلمة التى أرسل بها جبريل إلى مريم فنفخ فيها من روحه بأمر ربه عز وجل : فكان عيسى بإذن الله عز وجل ، فهو ناشىء عن الكلمة التي قال له كن فكان والروح التى أرسل بها : هو جبريل عليه السلام .
وقوله : (وروح منه) قال أبى بن كعب : عيسى روح من الأرواح التى خلقها الله تعالى واستنطقها بقوله : '7 : 271' "ألست بربكم قالوا بلى" بعثه الله إلى مريم فدخل فيها  رواه عبد بن حميد وعبد الله بن أحمد فى زوائد المسند ، وابن جرير وابن أبى حاتم وغيرهم . قال الحافظ : ووصفه بأنه منه ، فالمعنى أنه كائن منه ، كما فى قوله تعالى'45 : 12'" وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه " فالمعنى أنه كائن منه ، كما أن معنى الأية الأخرى أنه سخر هذه الأشياء كائنة منه أي أنه مكون ذلك وموجده بقدرته وحكمته .
قال شيخ الإسلام : المضاف إلى الله تعالى إذا كان معنى لا يقوم بنفسه ولا بغيره من المخلوقات وجب أن يكون صفة لله تعالى قائمة به ، وامتنع أن تكون إضافته إضافة مخلوق مربوب . وإذا كان المضاف عيناً قائمة بنفسها كعيسى وجبريل عليهما السلام وأرواح بني آدم امتنع أن تكون صفة لله تعالى ، لأن ما قام بنفسه لا يكون صفة لغيره .
لكن الأعيان المضافة إلى الله تعالى على وجهين :
أحدهما : أن تضاف إليه لكونه خلقها وأبدعها ، فهذا شامل لجميع المخلوقات ، كقولهم : سماء الله ، وأرض الله . فجميع المخلوقين عبيد الله ، وجميع المال مال الله .
الوجه الثانى : أن يضاف إليه لما خصه به من معنى يحبه ويأمر به ويرضاه ، كما خص البيت العتيق بعبادة فيه لا تكون فى غيره. وكما يقال فى مال الخمس والفىء : هو مال الله ورسوله . ومن هذا الوجه : فعباد الله هم الذين عبدوه وأطاعوا أمره . فهذه إضافة تتضمن ألوهيته وشرعه ودينه ، وتلك إضافة تتضمن ربوبيته وخلقه . ا . هـ ملخصاً .
قوله : (والجنة حق والنار حق) أى وشهد أن الجنة التى أخبر بها الله تعالى فى كتابه أنه أعدها للمتقين حق ، أى ثابتة لا شك فيها ، وشهد أن النار التى أخبر بها تعالى فى كتابه أنه أعدها للكافرين حق كذلك ثابتة ، كما قال تعالى : '57 :1' " سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم " وقال تعالى : '2 : 24'" فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين " وفى الآيتين ونظائرهما دليل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن ، خلافا للمبتدعة . وفيهما الإيمان بالمعاد .
وقوله : (أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) هذه الجملة جواب الشرط وفى رواية : أدخله الله من أى أبواب الجنة الثمانية شاء . قال الحافظ : معنى قوله : على ما كان من العمل أى من صلاح أو فساد ، لأن أهل التوحيد لابد لهم من دخول الجنة ، ويحتمل أن يكون معنى قوله : على ما كان من العمل أن يدخله الجنه على حسب أعمال كل منهم فى الدرجات .
قال القاضى عياض : ما ورد فى حديث عبادة يكون مخصوصاً لمن قال ما ذكره صلى الله عليه وسلم وقرن بالشهادتين حقيقة الإيمان والتوحيد الذي ورد في حديثه فيكون له من الأجر ما يرجح على سيئاته ويوجب له المغفرة والرحمة ودخول الجنة لأول وهلة .

حديث عتبان بن مالك : أن الله حرم على النار
(قال : ولهما في حديث عتبان فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله) .
قوله : (ولهما) أي البخاري ومسلم في صحيحيهما بكماله . وهذا طرف من حديث طويل أخرجه الشيخان .
وعتبان بكسر المهملة بعدها مثناة فوقية ثم موحدة ، ابن مالك بن عمرو بن العجلان الأنصاري ، من بنى سالم بن عوف ، صحابي مشهور ، مات فى خلافة معاوية .
وأخرج البخاري فى صحيحه بسنده "عن قتادة قال : حدثنا أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل قال :  يا معاذ ، قال : لبيك يا رسول الله وسعديك . قال : يا معاذ ، قال لبيك يا رسول الله وسعديك . قال : يا معاذ ، قال : لبيك يا رسول الله وسعديك - ثلاثاً - قال : ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله تعالى على النار ، قال : يا رسول الله أفلا أخبر به الناس فيستبشروا ؟ قال : إذاً يتكلوا ، فأخبر بها معاذ عند موته تأثماً " . وساق بسند آخر : "حدثنا معتمر قال : سمعت أبي ، قال : سمعت أنساً قال : ذكر لي أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ ابن جبل :  من لقى الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة . قال : ألا أبشر الناس ؟ قال : لا ، إنى أخاف أن يتكلوا " .
قلت : فتبين بهذا السياق معنى شهادة أن لا إله إلا الله ، وأنها تتضمن ترك الشرك لمن قالها بصدق ويقين وإخلاص .
قال شيخ الإسلام وغيره : فى هذا الحديث ونحوه أنها فيمن قالها ومات عليها ، كما جاءت مقيدة بقوله : خالصاً من قلبه غير شاك فيها بصدق ويقين  فإن حقيقة التوحيد انجذاب الروح إلى الله تعالى جملة ، فمن شهد أن لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة ، لأن الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله تعالى بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحاً ، فإذا مات على تلك الحال نال ذلك فإنه قد تواترت الأحاديث بأنه "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله ، وكان فى قلبه من الخير ما يزن شعيرة ، وما يزن خردلة ، وما يزن ذرة" وتواترت بأن كثيراً ممن يقول لا إله إلا الله يدخل النار ثم يخرج منها ، وتواترت بأن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم ، فهؤلاء كانوا يصلون ويسجدون لله ، وتواترت بأنه يحرم على النار من قال لا إله إلا الله ، ومن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، لكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال ، وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص ، وأكثر من يقولها إنما يقولها تقليداً أو عادة ، ولم تخالط حلاوة الإيمان بشاشة قلبه . وغالب من يفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء ، كما فى الحديث "سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته" وغالب أعمال هؤلاء إنما هى تقليد واقتداء بأمثالهم ، وهم من أقرب الناس من قوله تعالى : '43 : 23' "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون" .
وحينئذ فلا منافاة بين الأحاديث ، فإنه إذا قالها بإخلاص ويقين تام لم يكن فى هذه الحال مصراً على ذنب أصلاً ، فإن كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شئ ، فإذاً لا يبقى فى قلبه إرادة لما حرم الله ، ولا كراهة لما أمر الله . وهذا هو الذي يحرم على النار وإن كانت له ذنوب قبل ذلك ، فإن هذا الإيمان وهذا الإخلاص ، وهذه التوبة وهذه المحبة وهذا اليقين ، لا تترك له ذنباً إلا محي عنه كما يمحو الليل النهار ، فإذا قالها على وجه الكمال المانع من الشرك الأكبر والأصغر ، فهذا غير مصر على ذنب أصلاً ، فيغفر له ويحرم على النار ، وإن قالها على وجه خلص به من الشرك الأكبر دون الأصغر ، ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك ، فهذه الحسنة لا يقاومها شئ من السيئات فيرجح بها ميزان الحسنات ، كما فى حديث البطاقة فيحرم على النار ، ولكن تنقص درجته فى الجنة بقدر ذنوبه ، وهذا بخلاف من رجحت سيئاته بحسناته ومات مصراً على ذلك ، فإنه يستوجب النار . وإن قال لا إله إلا الله وخلص بها من الشرك الأكبر ولكنه لم يمت على ذلك ، بل أتى بعدها بسيئات رجحت على حسنة توحيده ، فإنه فى حال قولها كان مخلصاً لكنه أتى بذنوب أوهنت ذلك التوحيد والإخلاص فأضعفته ، وقويت نار الذنوب حتى أحرقت ذلك بخلاف المخلص المستيقن ، فإن حسناته لا تكون إلا راجحة على سيئاته ولا يكون مصراً على سيئات ، فإن مات على ذلك دخل الجنة .
وإنما يخاف على المخلص أن يأتى بسيئة راجحة فيضعف إيمانه فلا يقولها بإخلاص ويقين مانع من جميع السيئات ، ويخشى عليه من الشرك الأكبر والأصغر ، فإن سلم من الأكبر بقي معه من الأصغر فيضيف إلى ذلك سيئات تنضم إلى هذا الشرك فيرجح جانب السيئات فإن السيئات تضعف الإيمان واليقين ، فيضعف قول لا إله إلا الله ، فيمتنع الإخلاص بالقلب ، فيصير المتكلم بها كالهاذى أو النائم ، أو من يحسن صوته بالآية من القرآن من غير ذوق طعم وحلاوة ، فهؤلاء لم يقولوها بكمال الصدق واليقين ، بل يأتون بعدها بسيئات تنقض ذلك بل يقولونها من غير يقين وصدق ويحيون على ذلك ، ويموتون على ذلك ، ولهم سيئات كثيرة تمنعهم من دخول الجنة . فإذا كثرت الذنوب ثقل على اللسان قولها وقسا القلب عن قولها ، وكره العمل الصالح وثقل عليه سماع القرآن ، واستبشر بذكر غير الله ، واطمأن إلى الباطل ، واستحلى الرفث ، ومخالطة أهل الغفلة ، وكره مخالطة أهل الحق ، فمثل هذا إذا قالها قال بلسانه ما ليس فى قلبه ، وبفيه ما لا يصدقه عمله .
قال الحسن :  ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ، ولكن ما وقر فى القلوب وصدقته الأعمال . فمن قال خيراً وعمل خيراً قبل منه ، ومن قال خيراً وعمل شراً لم يقبل منه .
وقال بكر بن عبد الله المزنى : ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة ولكن بشئ وقر في قلبه .
فمن قال : لا إله إلا الله ولم يقم بموجبها بل اكتسب مع ذلك ذنوباً ، وكان صادقاً فى قولها موقناً بها ، لكن له ذنوب أضعفت صدقه ويقينه ، وانضاف إلى ذلك الشرك الأصغر العملي ، فرجحت هذه السيئات على هذه الحسنة ، ومات مصراً على الذنوب ، بخلاف من يقولها بيقين وصدق ، فإنه إما أن لا يكون مصراً على سيئة أصلاً ، ويكون توحيده المتضمن لصدقه ويقينه رجح حسناته. والذين يدخلون النار ممن يقولها : إما أنهم لم يقولوها بالصدق واليقين التام المنافيين للسيئات أو لرجحانها ، أو قالوها واكتسبوا بعد ذلك سيئات رجحت على حسناتهم ، ثم ضعف لذلك صدقهم ويقينهم ، ثم لم يقولوها بعد ذلك بصدق ويقين تام ، لأن الذنوب قد أضعفت ذلك الصدق واليقين من قلوبهم ، فقولها من مثل هؤلاء لا يقوي على محو السيئات فترجح سيئاتهم على حسناتهم . انتهى ملخصاً .
وقد ذكر هذا كثير من العلماء كابن القيم و ابن رجب وغيرهم .
قلت : وبما قرره شيخ الاسلام تجتمع الأحاديث .
قال : وفي الحديث دليل على أنه لا يكفي في الإيمان النطق من غير اعتقاد وبالعكس، وفي تحريم النار على أهل التوحيد الكامل وفيه إن العمل لا ينفع إلا إذا كان خالصاً لوجه الله تعالى على ما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم .
(تنبيه) قال القرطبي في تذكرته : قوله في الحديث  من إيمان أي من أعمال الإيمان التي هي من أعمال الجوارح ، فيكون فيه دلالة على أن الأعمال الصالحة من الإيمان ، والدليل على أنه أراد بالإيمان ما قلناه ، ولم يرد مجرد الإيمان الذي هو التوحيد ونفي الشركاء والإخلاص بقول لا إله إلا الله ما في الحديث نفسه من قوله أخرجوا - ثم بعد ذلك يقبض سبحانه قبضة فيخرج قوماً لم يعملوا خيراً قط يريد بذلك التوحيد المجرد من الأعمال ا هـ ملخصاً من شرح سنن ابن ماجة .
قال المصنف رحمه الله ("وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :  قال موسى عليه السلام : يا رب علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به ، قال : قل يا موسى لا إله إلا الله . قال : كل عبادك يقولون هذا ، قال : يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ، ولا إله إلا الله في كفة ، مالت بهن لا إله إلا الله رواه ابن حبان والحاكم وصححه") .
أبو سعيد : اسمه سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري الخزرجي ، صحابي جليل وأبوه كذلك ، استصغر أبو سعيد بأحد وشهد ما بعدها ، مات بالمدينة سنة ثلاث أو أربع أو خمس وستين وقيل سنة أربع وستين .
قوله (أذكرك) أي أثني عليك به (وأدعوك) أي اسألك به .
قوله (قل يا موسى لا إله إلا الله) فيه أن الذاكر بها يقولها كلها ، ولا يقتصر على لفظ الجلالة ، ولا على هو كما يفعله غلاة جهال المتصوفة ، فإن ذلك بدعة وضلال .
قوله : (كل عبادك يقولون هذا) ثبت بخط المصنف بالجمع ، والذى فى الأصول يقول بالإفراد مراعاة للفظة كل وهو فى المسند من حديث عبد الله بن عمر بلفظ الجمع كما ذكره المصنف على معنى كل ومعنى قوله كل عبادك يقولون هذا أي إنما أريد شيئاً تخصني به من بين عموم عبادك ، وفى رواية بعد قوله كل عبادك يقولون هذا - قل لا إله إلا الله ، قال لا إله إلا أنت يارب، إنما أريد شيئاً تخصنى به .
ولما كان بالناس - بل بالعالم كله - من الضرورة إلى لا إله إلا الله ما لا نهاية له ، كانت من أكثر الأذكار وجوداً ، وأيسرها حصولاً ، وأعظمها معنى . والعوام والجهال يعدلون عنها إلى الدعوات المبتدعة التى ليست في الكتاب ولا في السنة .
قوله (وعامرهن غيري) هو بالنصب عطف على السموات ، أي لو أن السموات السبع ومن فيهن من العمار غير الله تعالى ، والأرضين السبع ومن فيهن ، وضعوا فى كفة الميزان ولا إله إلا الله في الكفة الأخرى ، مالت بهن لا إله إلا الله .
وروى الإمام أحمد عن "عبد الله بن عمرو عن النبى صلى الله عليه وسلم أن نوحاً عليه السلام قال لابنه عند موته : آمرك بلا إله إلا الله ، فإن السموات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة ، ولا إله إلا الله فى كفة رجحت بهن لا إله إلا الله ، ولو أن السموات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة لقصمتهن لا إله إلا الله " .
قوله : (في كفة) هو بكسر الكاف وتشديد الفاء ، أي كفة الميزان .
قوله : (مالت بهن) أي رجحت . وذلك لما اشتملت عليه من نفي الشرك ، وتوحيد الله الذي هو أفضل الأعمال . وأساس الملة والدين ، فمن قالها بإخلاص ويقين ، وعمل بمقتضاها ولوازمها وحقوقها ، واستقام على ذلك ، فهذه الحسنة لا يوازنها شئ ، كما قال الله تعالى : '46 : 13' "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون" .
ودل الحديث على أن لا إله إلا الله أفضل الذكر . كحديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً : خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلى : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير رواه أحمد والترمذي ، وعنه أيضا مرفوعاً يصاح برجل من أمتى على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلاً ، كل سجل منها مد البصر ثم يقال : أتنكر من هذا شيئا ؟ أظلمك كتبتى الحافظون فيقول : لا يارب . فيقال : أفلك عذر أو حسنة ؟ فيهاب الرجل فيقول : لا ، فيقال : بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم ، فيخرج له بطاقة فيها : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله . فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقال : إنك لا تظلم ، فتوضع السجلات في كفة ، والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة رواه الترمذي وحسنه .
والنسائى وابن حبان والحاكم . وقال : صحيح على شرط مسلم ، وقال الذهبي في تلخيصه : صحيح .
قال ابن القيم رحمه الله : فالأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها ، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب ، فتكون صورة العملين واحدة وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض . قال : وتأمل حديث البطاقة التى توضع فى كفة ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً كل سجل منها مدى البصر ، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات ، فلا يعذب . ومعلوم أن كل موحد له هذه البطاقة وكثير منهم يدخل النار بذنوبه .
قوله : (رواه ابن حبان والحاكم) ابن حبان اسمه محمد بن حبان - بكسر المهملة وتشديد الموحدة - ابن أحمد بن حبان بن معاذ ، أبو حاتم التميمي البستي الحافظ صاحب التصانيف : كالصحيح ، والتاريخ ، والضعفاء ، والثقات وغير ذلك . قال الحاكم : كان من أوعية العلم في الفقه واللغة والحديث والوعظ ، ومن عقلاء الرجال . مات سنة أربع وخمسين وثلاثمائة بمدينة بست - بضم الموحدة وسكون المهملة .
وأما الحاكم فاسمه محمد بن عبد الله بن محمد النيسابورى أبوعبد الله الحافظ ويعرف بابن البيع ولد سنة إحدى وعشرين وثلثمائة، وصنف التصانيف ، كالمستدرك وتاريخ نيسابور وغيرهما ، ومات سنة خمس وأربعمائة .

علو الله على عرشه

حديث : لو أتيتني بقراب الأرض خطايا
قال المصنف رحمه الله (وللترمذي - وحسنه - "عن أنس : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله تعالى يا بن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة") .
ذكر المصنف رحمه الله الجملة الأخيرة من الحديث ، وقد رواه الترمذي بتمامه فقال : "عن أنس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله تبارك وتعالى : يا بن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي ، يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالى يا بن آدم ، إنك لو أتيتني - الحديث ".
الترمذي : اسمه محمد بن عيسى بن سورة - بفتح المهملة - بن موسى بن الضحاك السلمي أبو عيسى ، صاحب الجامع وأحد الحفاظ ، كان ضرير البصر ، روى عن قتيبة وهناد والبخاري وخلق . مات سنة تسع وسبعين ومائتين .
وأنس : هو ابن مالك بن النضر الأنصاري الخزرج] ، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم خدمه عشر سنين ، وقال له : اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة مات سنة اثنتين وقيل : ثلاث وتسعين ، وقد جاوز المائة .
والحديث قد رواه الإمام أحمد من حديث أبي ذر بمعناه ، وهذا لفظه "ومن عمل قراب الأرض خطيئة ثم لقيني لا يشرك بي جعلت له مثلها مغفرة" ورواه مسلم ، وأخرجه الطبرانى من حديث ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم .
قوله : (لو أتيتني بقراب الأرض) بضم القاف : وقيل بكسرها والضم أشهر وهو ملؤها أو ما يقارب ملئها .
قوله : (ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً) شرط ثقيل فى الوعد بحصول المغفرة ، وهو السلامة من الشرك : كثيره وقليله ، صغيره وكبيره . ولا يسلم من ذلك إلا من سلم الله تعالى ، وذلك هو القلب السليم كما قال تعالى : '26 : 89' " يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم " .
قال ابن رجب : من جاء مع التوحيد بقراب الأرض خطايا لقيه الله بقرابها مغفرة -إلى أن قال - فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه لله تعالى فيه ، وقام بشروطه بقلبه ولسانه وجوارحه ، أو بقلبه ولسانه عند الموت ، أعقب ذلك مغفرة ما قد سلف من الذنوب كلها ومنعه من دخول النار بالكلية . فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه أخرجت منه كل ما سوى الله : محبة وتعظيماً ، وإجلالاً ومهابة وخشية وتوكلاً ، وحينئذ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها ، وإن كانت مثل زبد البحر ا هـ ملخصاً .
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى فى معنى الحديث : ويعفى لأهل التوحيد المحض الذي لم يشوبوه بالشرك ما لا يعفى لمن ليس كذلك . فلو لقى الموحد الذي لم يشرك بالله شيئاً ألبته ربه بقراب الأرض خطايا أتاه بقرابها مغفرة ، ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده . فإن التوحيد الخالص الذى لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب ، لأنه يتضمن من محبة الله وإجلاله وتعظيمه ، وخوفه ورجائه وحده ما يوجب غسل الذنوب ولو كانت قراب الأرض ، فالنجاسة عارضة والدافع لها قوى . ا هـ .
وفى هذا الحديث : كثرة ثواب التوحيد ، وسعة كرم الله وجوده ورحمته والرد على الخوارج الذين يكفرون المسلم بالذنوب ، وعلى المعتزلة القائلين بالمنزلة بين المنزلتين ، وهي الفسوق ، ويقولون ليس بمؤمن ولا كافر ، ويخلد في النار . والصواب قول أهل السنه : أنه لا يسلب عنه اسم الإيمان ، و لا يعطاه على الإطلاق ، بل يقال هو مؤمن عاص ، أو مؤمن بإيمانه ، فاسق بكبيرته . وعلى هذا يدل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة . و "عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال :  لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهي به إلى سدرة المنتهى ، فأعطي ثلاثاً : أعطى الصلوات الخمس ، وخواتيم سورة البقرة ، وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئاً : المقحمات " رواه مسلم .
قال ابن كثير فى تفسيره : وأخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والنسائى "عن أنس ابن مالك قال : قرأ رسول الله صلى الله عليبه وسلم هذه الآية '74 : 56' "هو أهل التقوى وأهل المغفرة" وقال : قال ربكم : أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله ، فمن اتقى أن يجعل معي إلهاً كان أهلاً أن أغفر له " .
قال المصنف رحمه الله : (تأمل الخمس اللواتي فى حديث عبادة فإنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان تبين لك معنى قوله :  لا إله إلا الله وتبين لك خطأ المغرورين .
وفيه أن الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله والتنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات ، مع أن كثيراً ممن يقولها يخف ميزانه . وفيه إثبات الصفات خلافاً للمعطلة . وفيه أنك إذا عرفت حديث أنس وقوله فى "حديث عتبان  إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغى بذلك وجه الله " تبينت لك أن ترك الشرك في قولها باللسان فقط .

من حقق التوحيد دخل الجنة
قوله : (باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب) أي ولا عذاب .
(قلت) تحقيقه تخليصه وتصفيته من شوائب الشرك والبدع والمعاصى .

معنى أن إبراهيم كان أمة
قال الله تعالى : '16 : 120' "إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين" وصف إبراهيم عليه السلام بهذه الصفات التي هي الغاية فى تحقيق التوحيد .
الأولى : أنه كان أمة ، أي قدوة وإماماً معلماً للخير . وما ذاك إلا لتكميله مقام الصبر واليقين الذين تنال بهما الإمامة فى الدين .
الثانية : قوله قانتاً قال شيخ الإسلام : القنوت دوام الطاعة ، والمصلي إذا أطال قيامه أو ركوعه أو سجوده فهو قانت . قال تعالى : '39 : 9' "أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه" ا هـ . ملخصاً .

الثالثة : أنه كان حنيفاً (قلت) قال العلامة ابن القيم الحنيف المقبل على الله ، المعرض عن كل ما سواه ا . هـ .

الرابعة : أنه كان من المشركين ، أي لصحة إخلاصه وكمال صدقه ، وبعده عن الشرك .

قلت : يوضح هذا قوله تعالى : '60 : 4' "قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه" أي على دينه من إخوانه المرسلين ، قاله ابن جرير رحمه الله تعالى : " إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء " وذكر تعالى عن خليله عليه السلام أنه قال لأبيه آزر : '19 : 48 ، 49' " وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق