الجمعة، 11 سبتمبر 2015

الوسطية==ارد على الصوفية==وهو – سبحانه – معهم أينما كانوا يعلم ما هم عاملون، كما جمع بين ذلك في قوله: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الحديد: 4].
تقدم الكلام في إثبات معية الله – تعالى – العامة، والخاصة، وأن حكم معيته العامة، ومقتضاها أن الله – جل، وعلا – مع علوه وفوقيته على عباده، فإنه – سبحانه – يعلم ما الخلق عاملون، فقد أخبر – سبحانه وتعالى ((أنه فوق العرش، يعلم كل شيء، وهو معنا أينما كنا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال: (والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه)( ) ))( )، وفي الآية دليل على الجمع بين علوه – سبحانه-، ومعيته، وفيها إخباره – تعالى-: ((أنه خالق السماوات والأرض، وأنه استوى على عرشه، وأنه مع خلقه، يبصر أعمالهم من فوق عرشه، فعلوه لا يناقض معيته، ومعيته لا تبطل علوه، بل كلاهما حق))( ).
  
وليس معنى قوله: وَهُوَ مَعَكُمْ  أنه مختلط بالخلق، فإن هذا لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته، وهو موضوع في السماء، وهو مع المسافر، وغير المسافر أينما كان،
في هذا المقطع بيان بطلان ما توهمه الضالون، وشبه به المشبهون من أن إثبات المعية يقتضي أن تكون ذات الرب – جل وعلا – مختلطة بالخلق، وذلك من وجوه:
الأول: أن هذا التوهم لا توجبه اللغة، ((وذلك أن كلمة (مع) في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال))( ). فلفظة (((مع) في اللغة العربية إنما تدل على المصاحبة، والموافقة، والاقتران، ولا تدل على أن الأول مختلط بالثاني في عامة موارد الاستعمال))( )، ((كما في قوله: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ [الفتح: 29]، وقوله: ﴿فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النساء: 146]، وقوله: ﴿اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119]، وقوله: ﴿وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ﴾ [الأنفال: 75]))( )، ومثل هذا كثير في كلام الله – تعالى – وسائر الكلام العربي. وإذا كانت لفظة (((مع) إذا استعملت في كون المخلوق مع المخلوق لم تدل على اختلاط ذاته بذاته، فهي أن لا تدل على ذلك في حق الخالق بطريق الأولى))( ). ((فامتنع أن يكون قوله: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾ [الحديد: 4] يدل على أن ذاته مختلطة بذوات الخلق))( )؛ ((لأن جميع استعمالات (مع) في الكتاب، والسنة لا توجب اتصالاً، واختلاطاً))( ).
الثاني: أن هذا الوهم خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، فقد ((أجمع سلف الأمة، وأئمتها على أن الرب – تعالى – بائن من مخلوقاته))( ).
الثالث: أن هذا التوهم الفاسد خلاف ما فطر الله عليه الخلق، فعلم الخلق ((بأن الله فوق العالم علم ضروري فطري))، فإن ((الخلق كلهم إذا حزبهم شدة، أو حاجة في أمر وجهوا قلوبهم إلى الله يدعونه، ويسألونه))( ) ((حتى الصبيان الذين لم يبلغوا الحنث قد عرفوه بذلك، إذا حزب الصبي شيء يرفع يده إلى ربه يدعوه في السماء دون ما سواها، وكل أحد بالله، وبمكانه أعلم من الجهمية))( ). و ((لهذا تجد المنكر لهذه القضية يقر بها عند الضرورة، ولا يلتفت إلى ما اعتقده من المعارض لها، فالنفاة لعلو الله إذا حزب أحدهم شدة وجه قلبه إلى العلو يدعو الله))( ).
الرابع: أن مما يدفع هذا الخيال الفاسد، والتوهم الباطل من أن المعية تقتضي اختلاطه بخلقه ((أن القرآن قد جعل المعية خاصة أكثر مما جعلها عامة، ولو كان اختلاط ذاته بالمخلوقات لكانت عامة لا تقبل التخصيص))( )، ((فإنه قد علم أن قوله: ﴿لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40] أراد به تخصيصه-صلى الله عليه وسلم-، وأبا بكر دون عدوهم من الكفار، وكذلك قوله: ﴿إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾ [النحل: 128] خصهم بذلك دون الظالمين، والفجار))( ).
الخامس: أن مما يدفع هذا الوهم الفاسد المثل المضروب، فقد ضرب مثلاً بالقمر، وهو من أصغر مخلوقات الله السماوية، فهو فوق الناس، وهو مع المسافر، وغير المسافر، ولا يشك عاقل أنه غير مخالط للناس مع كونه معهم حقيقة، ((ولله المثل الأعلى، ولكن المقصود بالتمثيل بيان جواز هذا، وإمكانه لا تشبيه الخالق بالمخلوق))( ).
  
وهو – سبحانه – فوق العرش، رقيب على خلقه، مهيمن عليهم، مطلع إليهم إلى غير ذلك من معاني الربوبية، وكل هذا الكلام الذي ذكره الله – سبحانه – من أنه فوق العرش، وأنه معنا حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف،
في هذا بيان مقتضى معية الله لخلقه، وحكمها، ((فالله – تعالى – عالم بعباده، وهو معهم أينما كانوا، وعلمه بهم من لوازم المعية))( )، فمعية الله – تعالى – لخلقه لا تناقض علوه، وأنه – جل وعلا – فوق العرش، ((فالله مع خلقه حقيقة، وهو فوق عرشه حقيقة))( )، و((لا يحسب الحاسب أن شيئاً من ذلك يناقض بعضه بعضاً ألبتة))( ). قال الله – تعالى-: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيراً﴾ النساء: 82].
  
لكن يصان عن الظنون الكاذبة، مثل أن يظن أن ظاهر قوله: ﴿فِي السَّمَاء﴾ [الزخرف: 84] أن السماء تقله، أو تظله، وهذا باطل بإجماع أهل العلم والإيمان، فإن الله قد ﴿ وسع كرسيه السماوات والأرض﴾ [البقرة: 255]، وهو الذي ﴿يمسك السماوات والأرض أن تزولا﴾ [فاطر: 41]، ﴿ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه﴾[الحج: 65]، ﴿ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره﴾ [الروم: 25].
في هذا بيان وجوب صيانة النصوص عن الظنون الكاذبة، والأوهام الفاسدة، وذلك لأن خبر الله، ورسوله صلى الله عليه وسلم ((صدق، موافق لما هو الأمر عليه في نفسه، لا يجوز أن يكون شيء من أخباره باطلاً، ولا مخالفاً لما هو الأمر عليه في نفسه))( ). وعدم صيانة النصوص عن هذه الظنون، والأوهام يؤدي إلى أن تبقى ((النصوص معطلة عما دلت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله، فيبقى مع جنايته على النصوص، وظنه السيئ الذي ظنه بالله، ورسوله حيث ظن أن الذي يفهم من كلامهما هو التمثيل الباطل، قد عطل ما أودع الله، ورسوله في كلامهما من إثبات الصفات لله، والمعاني الإلهية اللائقة بجلال الله – تعالى –))( ).
وأما قوله – تعالى-: ﴿فِي السَّمَاء﴾[الزخرف: 84] فمعناه ((أنه فوق السماء؛ لأن (في) بمعنى فوق، قال الله – تعالى-: ﴿فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ﴾ [التوبة: 2] أي: فوقها))( )، ثم إن ((لفظ السماء في اللغة والقرآن اسم لكل ما علا، فهو اسم جنس للعالي))( ).
و ((لما كان قد استقر في نفوس المخاطبين أن الله هو العلي الأعلى، وأنه فوق كل شيء كان المفهوم من قوله: ﴿فِي السَّمَاء﴾ [الزخرف: 84] أنه في العلو، وأنه فوق كل شيء))( )، ((ثم من توهم أن كون الله في السماء بمعنى أن السماء تحيط به، وتحويه فهو كاذب إن نقله عن غيره، وضال إن اعتقده في ربه، وما سمعنا أحداً يفهمه من اللفظ، ولا رأينا أحداً نقله عن أحد ولو سئل سائر المسلمين هل يفهمون من قوله – سبحانه-، ورسوله: (إن الله في السماء) أن السماء تحويه؟ لبادر كل أحد منهم إلى أن يقول: هذا شيء لعله لم يخطر ببالنا، وإذا كان الأمر هكذا فمن التكلف أن يجعل ظاهر اللفظ شيئاً محالاً لا يفهمه الناس منه ثم يريد أن يتأوله))( ).
  


وقد دخل في ذلك الإيمان بأنه قريب من خلقه مجيب كما جمع بين ذلك في قوله: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ [البقرة: 186]، وقوله صلى الله عليه وسلم:
((إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته))( )، وما ذكر في الكتاب، والسنة من قربه، ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه، وفوقيته، فإنه – سبحانه – ليس كمثله شيء في جميع نعوته، وهو علي في دنوه، قريب في علوه.
هذا الفصل فيه إثبات قرب الله – تعالى – من بعض عباده، و((هذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه، ومجيئه يوم القيامة، ونزوله، واستواءه على العرش، وهذا مذهب أئمة السلف، وأئمة الإسلام المشهورين، وأهل الحديث. والنقل عنهم بذلك متواتر))( ).
ولفظ القرب المضاف إلى الله – تعالى – ذكر في الكتاب، والسنة ((تارة بصيغة المفرد كقوله: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُِ﴾ [البقرة: 186]، وفي الحديث: (اربعوا على أنفسكم) إلى قوله: (إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)( )، وتارة بصيغة الجمع كقوله: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق: 16]))( ).
والقرب الذي وصف الله به نفسه خاص لا عام، فإنه ((ليس في القرآن وصف الرب – تعالى – بالقرب من كل شيء أصلاً، بل قربه الذي في القرآن خاص لا عام، كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ [البقرة: 186]، فهو-سبحانه – قريب ممن دعاه.
وكذلك ما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير، فقال: (أيها الناس اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً قريباً، إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)( )، فقال: إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم، لم يقل إنه قريب إلى كل موجود، وكذلك قول صالح عليه السلام: ﴿فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ﴾ [هود: 61] هو كقول شعيب: ﴿وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ﴾ [هود: 90]، ومعلوم أن قوله:  قَرِيبٌ مُّجِيبٌ  [هود: 61] مقرون بالتوبة، والاستغفار، أراد به: قريب مجيب لاستغفار المستغفرين التائبين إليه، كما أنه رحيم ودود بهم، وقد قرن القريب بالمجيب، ومعلوم أنه لا يقال إنه مجيب لكل موجود، و إنما الإجابة لمن سأله ودعاه، فكذلك قربه – سبحانه، وتعالى –))( ).
وأما((قوله – تعالى – ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق: 16]، وقوله – تعالى-: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ﴾ [الواقعة: 85]، فإن ((سياق الآيتين يدل على أن المراد الملائكة. فإنه قال: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ  إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ  مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 16 – 18] فقيد القرب بهذا الزمان، وهو زمان تلقي المتلقيين: قعيد عن اليمين، وقعيد عن الشمال، وهما الملكان الحافظان اللذان يكتبان كما قال: ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد﴾ [ق: 18]. ومعلوم أنه لو كان المراد قرب ذات الرب لم يختص ذلك بهذه الحال ولم يكن لذكر القعيدين الرقيب والعتيد معنى مناسب.
وكذلك قوله في الآية الأخرى: ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ  فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ  وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ  وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ﴾ [الواقعة: 82-85] فلو أراد قرب ذاته لم يخص ذلك بهذه الحال، ولا قال: ﴿وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ﴾ [الواقعة: 85]، فإن هذا إنما يقال إذا كان هناك من يجوز أن يبصر في بعض الأحوال، ولكن نحن لا نبصره، والرب – تعالى – لا يراه في هذه الحال لا الملائكة، ولا البشر.
وأيضاً فإنه قال: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ﴾ [الواقعة: 85]، فأخبر عمن هو أقرب إلى المحتضر من الناس الذين عنده في هذه الحال، وذات الرب – سبحانه وتعالى – إذا قيل: هي في مكان، أو قيل: قريبة من كل موجود، لا يختص بهذا الزمان، والمكان، والأحوال، ولا يكون أقرب إلى شيء من شيء))( ).
وثبوت هذه الصفة للرب – جل جلاله – لا ينافي علوه، وفوقيته، فالرب ((–تعالى– لا يكون شيء أعلى منه قط، بل هو العلي الأعلى، ولا يزال هو العلي الأعلى مع أنه يقرب إلى عباده، ويدنو منهم، وينزل حيث شاء، ويأتي كما شاء، وهو في ذلك العلي الأعلى الكبير المتعالي، علي في دنوه قريب في علوه، فهذا وإن لم يتصف به غيره، فلعجز المخلوق أن يجمع بين هذا، وهذا كما يعجز أن يكون هو الأول، والآخر، والظاهر، والباطن))( ).
  

فصل
ومن الإيمان بالله، وكتبه الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق،
في هذا الفصل بيان عقيدة أهل السنة والجماعة في مسألة القرآن، ووجه كون الإيمان بأن القرآن كلام الله من الإيمان بالله فذلك لأن الكلام صفته – جل شأنه-، كما أن: ((الإيمان بكلام الله داخل في الإيمان برسالة الله إلى عباده، والكفر بذلك هو كفر بهذا، فتدبر هذا الأصل، فإنه فرقان هذا الاشتباه، ولهذا كان من يكفر بالرسل، تارة يكفر بأن الله له كلام أنزله على بشر، كما أنه قد يكفر برب العالمين: مثل فرعون، وقومه قال الله – تعالى-: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ﴾ [يونس: 2] الآية، وقال – تعالى – عن نوح، وهود: ﴿أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ﴾ [الأعراف: 63، 69]، وقال: ﴿وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 91] إلى آخر الكلام فإن في هذه الآيات تقرير قواعد، ، وقال عن التوحيد: ﴿إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ﴾ [المدثر: 25]، ولهذا كان أصل الإيمان الإيمان بما أنزله، قال – تعالى-: ﴿الم  ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ  الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ [البقرة: 1-3]. . ))( ) و ((لهذا عظم تقرير هذا الأصل في القرآن، فتارة يفتتح به السورة؛ إما إخباراً كقوله: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ [البقرة: 2]، وقوله: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ [يونس: 1]. . . ))( )، ((وإما ثناء بإنزاله كقوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ﴾ [الكهف: 1] ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ﴾ [الفرقان: 1] الآية. وأما في أثناء السور فكثير جداً))( ).
((ومذهب سلف الأمة، وأئمتها من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، وسائر المسلمين كالأئمة الأربعة، وغيرهم ما دل عليه الكتاب، والسنة، وهو الذي يوافق الأدلة العقلية الصريحة أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق))( ).
((فأئمة الدين كلهم متفقون على ما جاء به الكتاب، والسنة، واتفق عليه سلف الأمة))( ).
وهذا هو ((المستقر في فطر الناس الذي تلقته الأمة خلفاً عن سلف عن نبيها أن القرآن جميعه كلام الله))( ). ومن المعلوم ((بالاضطرار من دين الإسلام أن القرآن كلام الله))( ). فإن ((من تدبر الكتب المصنفة في آثار الصحابة، والتابعين بل المصنفة في السنة. . . . رأى في ذلك من الآثار الثابتة عن الصحابة، والتابعين ما يعلم معه بالاضطرار أن الصحابة، والتابعين كانوا يقولون بما يوافق هذه النصوص ومدلولها، وأنهم كانوا على قول أهل الإثبات المثبتين لعلو الله نفسه على خلقه المثبتين لرؤيته، القائلين بأن القرآن كلامه ليس بمخلوق بائن عنه))( ).
((فكان الصحابة، والتابعون لهم بإحسان على أن القرآن، والتوراة، والإنجيل، وغير ذلك من كلام الله، هو كلام الله الذي تكلم به، وأن الله أنزله، وأرسل به ملائكته، ليس هو مخلوقاً بائناً عنه خلقه في غيره))( )، وعلى هذا ((استقر أهل السنة، والجماعة، وجماهير الأمة، وأعلام الملة في شرقها وغربها))( ).
وهذه المسألة قد جرى فيها على أهل السنة فتنة عظيمة زمن الإمام أحمد – رحمه الله-، فكان أول من عرف أنه قال: القرآن مخلوق الجعد بن درهم، ((ولم يكن الناس إذ ذاك أحدثوا شيئاً من نفي الصفات إلى أن ظهر الجعد بن درهم، وهو أولهم، فضحى به خالد بن عبدالله القسري، وقال: أيها الناس ضحوا، تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً – تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً – ثم نزل فذبحه، وهذا كان بالعراق، ثم ظهر جهم من ناحية المشرق من ترمذ، ومنها ظهر رأي جهم. . . . . ))( )، ((وإنما اشتهرت مقالتهم من حين محنة الإمام أحمد، وغيره من علماء السنة، فإنهم في إمارة المأمون قووا، وكثروا فإنه قد كان بخراسان مدة، واجتمع بهم ثم كتب بالمحنة من طرسوس سنة ثماني عشرة ومائتين، وفيها مات، وردوا الإمام أحمد إلى الحبس ببغداد سنة عشرين ومائتين، وفيها كانت محنته مع المعتصم، ومناظرته لهم، فلما رد عليهم ما احتجوا به، وذكر أن طلبهم من الناس أن يوافقوهم جهل، وظلم. وأراد المعتصم إطلاقه أشار عليه من أشار بأن المصلحة ضربه لئلا تنكسر حرمة الخلافة، فلما ضربوه قامت الشناعة في العامة، وخافوا، وأطلقوه))( ).
وهذه المسألة ((قد كثر فيها الاضطراب، حتى قال بعضهم: مسألة الكلام حيرت عقول الأنام))( )، وسبب هذا الضلال، والحيرة، والاضطراب القياس الفاسد في العقليات، والتأويل الفاسد في السمعيات، ((فتشعبت بهم الطرق، وصاروا مختلفين في الكتاب مخالفين للكتاب، وقد قال – تعالى –: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ [البقرة: 176]))( )، و((هذا منتهى كل من عارض نصوص الكتاب))( ).
و ((الناس قد تنازعوا في كلام الله نزاعاً كثيراً، والطوائف الكبار نحو ست فرق))( ) وأبرز هذه الأقوال ما يلي:
أولاً: ((أنه متكلم حقيقة لكن كلامه مخلوق خلقه في غيره))، وهو قول المعتزلة، وغيرهم))( ). ((وهذا قول الجهمية والمعتزلة، وهذا القول مخالف للكتاب، والسنة، وإجماع السلف، وهو مناقض لأقوال الأنبياء، ونصوصهم))( ).
ثانياً: ((أنه يتكلم بغير مشيئته، وقدرته بكلام قائم بذاته أزلاً، وأبداً))( )، ((وأول من اشتهر عنه أنه قال هذا القول في الإسلام عبد الله بن سعيد بن كلاب))( ). والقائلون بهذا القول ((لهم قولان: منهم من قال: القديم معنى واحد، أو خمسة معان، وذلك المعنى يكون أمراً، ونهياً وخبراً، وهذه صفات له، لا أقسام له، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآناً، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة))( )، و ((هذا قول ابن كلاب، ومن وافقه كالأشعري، وغيره))( ).
  
منه بدأ، وإليه يعود
هكذا عبر غير واحد من السلف ((قال الإمام أحمد بن حنبل، وغيره: منه بدأ، أي هو المتكلم به، لم يبتد من غيره كما قالت الجهمية القائلون بأن القرآن مخلوق، قالوا: خلقه في غيره، فهو مبتدأ من ذلك المحل المخلوق))( )، وهذا معنى قول السلف: القرآن كلام الله منه بدأ ومنه خرج))( )، و((ليس معنى قول السلف، والأئمة: إنه منه خرج. ومنه بدأ، أنه فارق ذاته. وحل بغيره، فإن كلام المخلوق إذا تكلم به لا يفارق ذاته، ويحل بغيره))( ). و((لكن مقصود السلف الرد على هؤلاء الجهمية، فإنهم زعموا أن القرآن خلقه الله في غيره، فيكون قد ابتدأ، وخرج من ذلك المحل الذي خلق فيه لا من الله، كما يقولون: كلامه لموسى خرج من الشجرة، فبين السلف، والأئمة أن القرآن من الله بدأ، وخرج))( )، ((لم يبتدئ من غيره من الموجودات، كما قال – تعالى –: ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ [النمل: 6]، وقال: ﴿وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي﴾ [السجدة: 13]، وقال: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [هود: 1]))( ).
((وأما إليه يعود، فإنه يسرى به في آخر الزمان من المصاحف، والصدور، فلا يبقى في الصدور منه كلمة، ولا في المصاحف منه حرف))( ).
  
بل إذا قرأه الناس، أو كتبوه في المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله – تعالى – حقيقة، فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً،
وبيان هذا ((أن أهل السنة يقولون: الكلام كلام من قاله مبتدئاً لا كلام من قاله مبلغاً مؤدياً، فالرجل إذا بلغ قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)( )، كان قد بلغ كلام النبي صلى الله عليه وسلم بحركاته، وأصواته، وكذا إذا أنشد شعر شاعر كامرئ القيس أو غيره، فإذا قال:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل         . . . . . . . . . . . . . . . . . .
كان هذا الشعر شعر امرئ القيس، وإن كان هذا قاله بحركاته، وأصواته. وهذا أمر مستقر في فطر الناس كلهم يعلمون أن الكلام كلام من تكلم به مبتدئاً، آمراً بأمره، ومخبراً بخبره، ومؤلفاً حروفه، ومعانيه، وغيره إذا بلغه عنه علم الناس أن هذا كلام للمبلغ عنه لا للمبلغ، وهم يفرقون بين أن يقوله المتكلم به، والمبلغ عنه، وبين سماعه من الأول، وسماعه من الثاني. ولهذا كان من المستقر عند المسلمين أن القرآن الذي يسمعونه هو كلام الله كما قال – تعالى –: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ﴾ [التوبة: 6] مع علمهم بأن القارئ يقرؤه بصوته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (زينوا القرآن بأصواتكم)( )، فالكلام كلام البارئ، والصوت هو صوت القارئ))( )، وقد ((بين الإمام أحمد أن القائل إذا قال لما سمعه من المبلغين المؤدين: هذا كلام الله، فالإشارة إلى حقيقته التي تكلم الله بها، وإن كنا إنما سمعناها ببلاغ المبلغ، وحركته، وصوته. فإذا أشار إلى شيء من صفات المخلوق لفظه، أو صوته، أو فعله، وقال: هذا غير مخلوق فقد ضل وأخطأ.
فالواجب أن يقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، فالقرآن في المصاحف كما أن سائر الكلام في المصحف، ولا يقال: إن شيئاً من المداد، والورق غير مخلوق، بل كل ورق، ومداد في العالم فهو مخلوق، ويقال أيضاً: القرآن الذي في المصحف كلام الله غير مخلوق، والقرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الله غير مخلوق))( ).
  
وأن الله تكلم به حقيقة، وأن هذا القرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره، ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله، أو عبارة عنه،
في هذا الرد على كل من الكلابية، والأشعرية حيث جعلوا تسمية القرآن ((كلاماً لله مجازاً، لا حقيقة))( ). و((قالوا: إن الحروف تسمى كلاماً مجازاً، أو بطريق الاشتراك بينها وبين المعاني؛لأنها وإن سميت كلاماً بطريق الاشتراك فالكلام عندهم، وعند الجماعة لابد أن يقوم بالمتكلم، فيصح على حد قولهم أن تكون الحروف، والأصوات كلاماً للعباد حقيقة لقيامها بهم، ولا يصح أن تكون كلاماً لله حقيقة؛ لأنها لا تقوم به عندهم بحال))( ).
وهنا قولان ضالان في مسألة القرآن الكريم:
الأول: قول ابن كلاب حيث ((قال: الحروف حكاية عن كلام الله، وليست من كلام الله؛ لأن الكلام لابد أن يقوم بالمتكلم، والله يمتنع أن يقوم به حروف، وأصوات فوافق الجهمية، والمعتزلة في هذا النفي))( ).
الثاني: قول الأشعري حيث قال: إن القرآن ((عبارة عن كلام الله))( )، و ((دلالة عليه))( ).
((وكان مقصود هؤلاء تحقيق أن كلام الله غير مخلوق، فوقعوا في إنكار أن يكون هذا القرآن كلام الله، ولم يهتدوا إلى أنه، وإن كان كلام الله، فهو كلام الله مبلغاً عنه، ليس هو كلامه مسموعاً منه، ولا يلزم إذا كانت أفعال العباد، وأصواتهم مخلوقة ليست هي كلام الله أن يكون الكلام الذي يقرؤونه بأفعالهم، وأصواتهم كلامهم، ويكون مخلوقاً ليس هو كلام الله))( ).
ومما تجدر الإشارة إليه ((أن أصل القول بالعبارة أن أبا محمد عبدالله بن سعيد بن كلاب هو أول من قال في الإسلام: إن معنى القرآن كلام الله، وحروفه ليست كلام الله، فأخذ بنصف قول المعتزلة، ونصف قول أهل السنة والجماعة. . . ))( ). ((وكان الناس قد تكلموا فيمن بلغ كلامه غيره هل يقال له: حكاية عنه أم لا؟ وأكثر المعتزلة قالوا: هو حكاية عنه، فقال ابن كلاب: القرآن العربي حكاية عن كلام الله، ليس بكلام الله، فجاء بعده أبو الحسن الأشعري، فسلك مسلكه في إثبات أكثر الصفات، وفي مسألة القرآن أيضاً، واستدرك عليه قوله: إن هذا حكاية، وقال: الحكاية إنما تكون مثل المحكي، فهذا يناسب قول المعتزلة، وإنما يناسب قولنا أن نقول: هو عبارة عن كلام الله؛ لأن الكلام ليس من جنس العبارة، فأنكر أهل السنة والجماعة عليهم عدة أمور))( ).
و ((كلا القولين خطأ. فإن القرآن الذي نقرؤه فيه حروف مؤلفة، وفيه معان، فنحن نتكلم بالحروف بألسنتنا، ونعقل المعاني بقلوبنا، ونسبة المعاني القائمة بقلوبنا إلى المعنى القائم بذات الله كنسبة الحروف التي ننطق بها إلى الحروف المخلوقة عندكم.
فإن قلتم: إن هذا حكاية عن كلام الله لم يصح؛ لأن كلام الله معنى مجرد عندكم، وهذا فيه حروف ومعان.
وإن قلتم: إنه عبارة لم يصح؛ لأن العبارة هي اللفظ الذي يعبر به عن المعنى، وهنا حروف ومعان يعبر بها عن المعنى القديم عندكم.
وإن قلتم: هذه الحروف وحدها عبارة عن المعنى، بقيت المعاني القائمة بقلوبنا، وبقيت الحروف التي عبر بها أولاً عن المعنى القائم بالذات التي هذه الحروف المنظومة نظيرها عندكم لم تدخلوها في كلام الله))( ).
  
وهو كلام الله حروفه، ومعانيه ليس كلام الله الحروف دون المعاني ولا المعاني دون الحروف.
وهذا هو ((الصواب الذي عليه سلف الأمة كالإمام أحمد، والبخاري صاحب الصحيح في كتاب خلق أفعال العباد، وغيره، وسائر الأمة قبلهم، وبعدهم أتباع النصوص الثابتة، وإجماع سلف الأمة، وهو أن القرآن جميعه كلام الله حروفه، ومعانيه ليس شيء من ذلك كلاماً لغيره، ولكن أنزله على رسوله، وليس القرآن اسماً لمجرد المعاني، ولا لمجرد الحروف بل لمجموعهما، وكذلك سائر الكلام ليس هو الحروف فقط، ولا المعاني فقط، كما أن الإنسان المتكلم الناطق ليس هو مجرد الروح، ولا مجرد الجسد بل مجموعهما))( ).
((والله – تعالى – قد سمى نفس مجموع اللفظ، والمعنى قرآناً، وكتاباً، وكلاماً، فقال – تعالى –: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وقرآن مُبِينِ﴾ [الحجر: 1]، وقال: ﴿طسم  تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ [الشعراء: 1- 2]، وقال: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ﴾ [الأحقاف: 29] إلى قوله – تعالى-: ﴿قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا﴾ فبين أن الذي سمعوه هو القرآن، وهو الكتاب، وقال: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ﴾ [البروج: 21] الآية. . . ))( )، وقد أخبر – سبحانه – عن تكليمه موسى في آيات عديدة، وقد ((وكد تكليمه لموسى بالمصدر))( )، وفي ذلك ((دليل على تكليم سمعه موسى، والمعنى المجرد لا يسمع بالضرورة، ومن قال إنه يسمع فهو مكابر))( ).
((ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن الجميع كلام الله، وقال – تعالى – : ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ﴾ [النحل: 101] إلى قوله: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ [النحل: 103] كان بعض المشركين يقولون: إن محمداً إنما يتعلم القرآن من عبد لبني الحضرمي، فقال الله – تعالى –: لسان الذي يضيفون إليه القرآن لسان أعجمي، وهذا لسان عربي مبين، وهذا يبين أن محمداً بلغ القرآن لفظه، ومعناه لم ينزل عليه معاني مجردة، إذ لو كان كذلك لأمكن أن يقال: تلقى من هذا الأعجمي معاني صاغها بلسانه، فلما ذكر قوله: ﴿لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾ [النحل 103] بعد قوله: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ﴾ [النحل: 102] دل ذلك على أن روح القدس نزل بهذا اللسان العربي المبين))( ).
وقد خالف أهل السنة في هذا عبدالله بن كلاب؛ حيث قال: ((ليس كلام الله إلا مجرد المعنى، وإن الحروف ليست من كلام الله، وتابعه على ذلك أبوالحسن الأشعري))( )، على أن ابن كلاب: ((هو أول من قال في الإسلام: إن معنى القرآن كلام الله، وحروفه ليست كلام الله))( ) كما تقدم.
وعلم من كلامه أن الأقوال في هذه المسألة ((ثلاثة أقوال))( ) تقدم اثنان، وأما الثالث فهو أن الكلام على الإطلاق من غير إضافة إلى نفس، أو قلب، أو نحو ذلك اسم لمجرد الحروف، وهو قول لطائفة ((من أهل الكلام، والفقه، والعربية))( ).
  

فصل
وقد دخل أيضاً فيما ذكرناه من الإيمان به، وبكتبه، وبملائكته، وبرسله الإيمان بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة عياناً بأبصارهم كما يرون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، وكما يرون القمر ليلة القدر لا يضامون في رؤيته.
وبيان هذا ((أنه قد ثبت بالسنة المتواترة، وباتفاق سلف الأمة، وأئمتها من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم من أئمة أهل الإسلام أن الله – سبحانه وتعالى – يرى في الدار الآخرة بالأبصار عياناً، وقد دل على ذلك القرآن في مواضع كما ذلك مذكور مواضعه، والأحاديث الصحيحة في ذلك كثيرة متواترة في الصحاح، والسنن، والمسانيد))( )، ((وكذلك الآثار بها متواترة عن الصحابة والتابعين بإحسان))( ).
وهذا يبين خطأ الأشاعرة( ) حيث قالوا: ((إن الله يرى من غير معاينة، ومواجهة))( ). وهو((قول انفردوا به دون سائر طوائف الأمة، وجمهور العقلاء، على أن فساد هذا معلوم بالضرورة.
فالأخبار المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم ترد عليهم كقوله في الأحاديث الصحيحة: (إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس، والقمر لا تضارون في رؤيته)( ). . . . . . . . . فشبه الرؤية بالرؤية، ولم يشبه المرئي بالمرئي، فإن الكاف حرف تشبيه دخل على الرؤية، وفي لفظ للبخاري: (يرونه عياناً)( )، ومعلوم أنا نرى الشمس، والقمر عياناً مواجهة، فيجب أن نراه كذلك.
وأما رؤية ما لا نعاين، ولا نواجه فهذه غير متصورة في العقل فضلاً عن أن تكون كرؤية الشمس والقمر، ولهذا صار حذاقهم إلى إنكار الرؤية، وقالوا: قولنا هو قول المعتزلة في الباطن، فإنهم فسروا الرؤية بزيادة انكشاف ونحو ذلك))( ).
وعلى كل حال: ((فمن سمع النصوص علم بالاضطرار أن الرسول إنما أخبر برؤية المعاينة، وأيضاً فإن أدلة المعقول الصريحة تجوز هذه الرؤية))( ).
وأما تشبيه رؤية المؤمنين ربهم برؤيتهم للشمس أو القمر صحواً ليس دونهما سحاب فلأنه ((ليس في الموجودات المرئية في الدنيا أعظم من هذين، ولا يمكن أن يراهما الإنسان أكمل من الرؤية التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يبين أن المؤمنين يرون ربهم أكمل ما يعرف من الرؤية))( ).
و ((قد اتفق أئمة المسلمين على أن أحداً من المؤمنين لا يرى الله بعينه في الدنيا، ولم يتنازعوا إلا في النبي صلى الله عليه وسلم خاصة مع أن جماهير الأئمة على أنه لم يره بعينه في الدنيا، وعلى هذا دلت الآثار الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة، وأئمة المسلمين. ولم يثبت عن ابن عباس، ولا عن الإمام أحمد وأمثالهما أنهم قالوا: إن محمداً رأى ربه بعينه، بل الثابت عنهم إما إطلاق الرؤية، وإما تقييدها بالفؤاد، وليس في شيء من أحاديث المعراج الثابتة أنه رآه بعينه، وقوله: (أتاني البارحة ربي في أحسن صورة) الحديث الذي رواه الترمذي وغيره( )، إنما كان بالمدينة هكذا جاء مفسراً، وكذلك حديث أم الطفيل، وحديث ابن عباس وغيرهما مما فيه رؤية ربه إنما كان بالمدينة كما جاء مفسراً في الأحاديث، والمعراج كان بمكة كما قال – تعالى-: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى﴾ [الإسراء: 1]))( ).
وبهذا يتبين خطأ ((قول من يزعم أنه يرى في الدنيا))( )، وهؤلاء الذين((يزعم أحدهم أنه يراه – أي الله تعالى – بعيني رأسه في الدنيا هم ضلال))( ). فقد((ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت)( )، ومن قال من الناس: إن الأولياء أو غيرهم يرى الله بعينه في الدنيا فهو مبتدع ضال مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة))( ). ومما يدل على بطلان هذا القول أن ((موسى بن عمران عليه السلام قد سأل الرؤية، فذكر الله – سبحانه – قوله: ﴿لَن تَرَانِي﴾ [الأعراف: 143]، وما أصاب موسى من الصعق))( ).
  
يرونه – سبحانه-، وهم في عرصات القيامة، ثم يرونه بعد دخول الجنة كما يشاء الله – سبحانه، وتعالى-.
((رؤية الله بالأبصار هي للمؤمنين في الجنة، وهي أيضاً للناس في عرصات القيامة كما تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب، وكما ترون القمر ليلة البدر صحواً ليس دونه سحاب)( )، وقال صلى الله عليه وسلم: (جنات الفردوس أربع: جنتان من ذهب آنيتهما، وحليتهما، وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما، وحليتهما، وما فيهما، وما بين القوم، وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)( )، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا، ويثقل موازيننا، ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار، فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة)( ). وهذه الأحاديث، وغيرها في الصحاح، وقد تلقاها السلف، والأئمة بالقبول، واتفق عليها أهل السنة والجماعة))( ).
((وفي حديث أبي سعيد( ) وأبي هريرة( ) أنه يتجلى لهم في القيامة مرة للمؤمنين والمنافقين بعد ما تجلى لهم أول مرة ويسجد المؤمنون دون المنافقين))( )، ((وهذان الحديثان من أصح الأحاديث))( ).
ومن المعلوم أن رؤية المؤمنين لله – تعالى – في العرصات ليست نظير ما يكون لهم إذا دخلوا الجنة، ((فإن الرؤية أنواع متباينة تبايناً عظيماً لا يكاد ينضبط طرفاها))( ). ((ورؤيته – سبحانه – هي أعلى نعيم أهل الجنة، وغاية مطلوب الذين عبدوا الله مخلصين له الدين، وإن كانوا في الرؤية على درجات على حسب قربهم من الله، ومعرفتهم به))( ).
ومما وقع فيه الخلاف بين أهل العلم هل يرى الكفار الله – تعالى – يوم القيامة في العرصات؟
وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال:
((أحدها: أن الكفار لا يرون ربهم بحال، لا المظهر للكفر، ولا المسر له، وهذا قول أكثر العلماء المتأخرين، وعليه يدل عموم كلام المتقدمين، وعليه جمهور أصحاب الإمام أحمد، وغيرهم.
الثاني: أنه يراه من أظهر التوحيد من مؤمني هذه الأمة، ومنافقيها، وغبرات من أهل الكتاب. وذلك في عرصة القيامة ثم يحتجب عن المنافقين، فلا يرونه بعد ذلك، وهذا قول أبي بكر بن خزيمة من أئمة أهل السنة، وقد ذكر القاضي أبو يعلى نحوه في حديث إتيانه – سبحانه وتعالى – لهم في الموقف الحديث المشهور( ).
الثالث: أن الكفار يرونه رؤية تعريف وتعذيب، كاللص إذا رأى السلطان، ثم يحتجب عنهم؛ ليعظم عذابهم، ويشتد عقابهم، وهذا قول أبي الحسن بن سالم، وأصحابه، وقول غيرهم. وهم في الأصول منتسبون إلى الإمام أحمد ابن حنبل، وأبي سهل بن عبدالله التستري))( ).
وعلى كل حال فليست ((هذه المسألة فيما علمت مما يوجب المهاجرة، والمقاطعة، فإن الذين تكلموا فيها قبلنا عامتهم أهل سنة، واتباع))( )، لكن ((ليس لأحد أن يطلق القول بأن الكفار يرون ربهم من غير تقييد لوجهين:
أحدهما: أن الرؤية المطلقة قد صار يفهم منها الكرامة، والثواب، ففي إطلاق ذلك إيهام وإيحاش، وليس لأحد أن يطلق لفظاً يوهم خلاف الحق إلا أن يكون مأثوراً عن السلف، وهذا اللفظ ليس مأثوراً.
الثاني: أن الحكم إذا كان عاماً ففي تخصيص بعضه باللفظ خروج عن القول الجميل، فإنه يمنع من التخصيص. فإن الله خالق كل شيء، ومريد لكل حادث، ومع هذا يمنع الإنسان من أن يخص ما يستقذر من المخلوقات، وما يستقبحه الشرع من الحوادث، بأن يقول على الانفراد: يا خالق الكلاب، ويا مريداً للزنى، ونحو ذلك بخلاف ما لو قال: يا خالق كل شيء، ويا من كل شيء يجري بمشيئته))( ).
  
فصل
ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت،
الإيمان باليوم الآخر أصل من أصول الإيمان. وهو من ((الأصول الثلاثة التي اتفقت عليها الملل، كما قال – تعالى-: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 62]))( ).
((والإيمان بالله، واليوم الآخر يتضمن الإيمان بالمبدأ، والمعاد.
وهو الإيمان بالخلق والبعث كما جمع بينهما في قوله – تعالى-: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 8] وقال – تعالى –: ﴿مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ [لقمان: 28]، وقال – تعالى –: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ [الروم: 27]))( )، ويتضمن أيضاً على وجه الإجمال الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت.
ولم يخالف في الإقرار بهذا الأصل إلا الفلاسفة الباطنية فإنهم ((لا يقرون بمعاد الأبدان))( )، ((ومنهم من ينكر معاد الأنفس كما ينكر معاد الأبدان، وهو قول طوائف منهم، وكثير منهم يقول بالتناسخ، وليس شيء من ذلك إيماناً باليوم الآخر))( ).
  
فيؤمنون بفتنة القبر،
فتنة القبر ((هي الامتحان، والاختبار للميت حين يسأله الملكان))( )
كما سيأتي تفصيله. ((وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الفتنة من حديث البراء بن عازب، وأنس بن مالك، وأبي هريرة وغيرهم رضي الله عنهم.
وهي عامة للمكلفين إلا النبيين فقد اختلف فيهم))( ).
أما من ليس مكلفاً كالصغير والمجنون فقد اختلف فيهم ((على قولين للعلماء:
أحدهما: أنه يمتحن، وهو قول أكثر أهل السنة ذكره أبو الحسن بن عبدوس عنهم، وذكره أبو حكيم النهرواني، وغيرهما.
والثاني: أنه لا يمتحن في قبره كما ذكره القاضي أبو يعلى، وابن عقيل، وغيرهما.
قالوا: لأن المحنة إنما تكون لمن يكلف في الدنيا.
ومن قال بالأول يستدل بما في الموطأ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم صلى على صغير لم يعمل خطيئة قط، فقال: (اللهم قه عذاب القبر، وفتنة القبر)( )، وهذا يدل على أنه يفتن))( )، ((وهو مطابق لقول من يقول: إنهم يكلفون يوم القيامة كما هو قول أكثر أهل العلم، وأهل السنة من أهل الحديث، والكلام، وهو الذي ذكره أبو الحسن الأشعري، واختاره، وهو مقتضى نصوص الإمام أحمد))( ).
  
وبعذاب القبر ونعيمه.
وبيان هذا ((أن مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب))( ).
فالله – تبارك وتعالى – قد ((ذكر عذاب القيامة، والبرزخ معاً في غير موضع، ذكره في قصة آل فرعون فقال: ﴿وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ  النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر: 45- 46]، وقال في قصة نوح: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا﴾ [نوح: 25] مع إخبار نوح لهم بالقيامة في قوله: ﴿وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا  ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا﴾))( ) [نوح: 17 – 18]، و((قال – تعالى – في الأنفال: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ  ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [الأنفال 50 – 51]، وهذا ذوق له بعد الموت))( ).
((وقد ثبت في الصحيحين من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى المشركين يوم بدر في القليب ناداهم: (يا فلان، يا فلان هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً)( )، وهذا دليل على وجودهم، وسماعهم، وأنهم وجدوا ما وعدوه بعد الموت من العذاب))( ).
وأحاديث عذاب القبر كثيرة متواترة( )، وسيأتي ذكر شيء منها.
والعذاب والنعيم الذي في القبر يكون ((على النفس، والبدن جميعاً، باتفاق أهل السنة والجماعة، تنعم النفس، وتعذب منفردة عن البدن، وتعذب متصلة بالبدن، والبدن متصل بها، فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين كما يكون للروح منفردة عن البدن.
وهل يكون العذاب، والنعيم للبدن بدون الروح؟ هذا فيه قولان مشهوران لأهل الحديث، والسنة، والكلام))( ).
((ونحن نذكر ما يبين ما ذكرناه، فأما أحاديث عذاب القبر، ومسألة منكر ونكير: فكثيرة متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل ما في الصحيحين: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله) ثم دعا بجريدة رطبة فشقها نصفين، ثم غرز في كل قبر واحدة. فقالوا: يا رسول الله لم فعلت هذا؟ قال: (لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا)( ).
وفي صحيح مسلم عن زيد بن ثابت قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة – ونحن معه – إذ جالت به، فكادت تلقيه، فإذا أقبر ستة، أو خمسة، أو أربعة. فقال: (من يعرف هذه القبور؟) فقال رجل: أنا. قال: (فمتى هؤلاء؟) قال: ماتوا في الإشراك. فقال: (إن هذه الأمة تبتلى في قبورها؛ فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه)، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: (تعوذوا بالله من عذاب القبر). قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر. قال: (تعوذوا بالله من عذاب النار). قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار. قال: (تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن). قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها، وما بطن. قال: (تعوذوا بالله من فتنة الدجال). قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال( ).
وفي صحيح مسلم وسائر السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليقل: أعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال)( ).
وفي صحيح مسلم وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات)( ).
وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي أيوب الأنصاري قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وجبت الشمس، فقال: (يهود يعذبون في قبورهم)( ).
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت علي عجوز من عجائز يهود المدينة، فقالت: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم، قالت: فكذبتها، ولم أنعم أن أصدقها، قالت: فخرجت فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله عجوز من عجائز أهل المدينة دخلت علي فزعمت أن أهل القبور يعذبون في قبورهم. فقال: (صدقت. إنهم يعذبون عذاباً يسمعه البهائم كلها)، فما رأيته بعد في صلاة إلا يتعوذ من عذاب القبر( ).
وفي صحيح أبي حاتم البستي عن أم مبشر رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في حائط وهو يقول: (تعوذي بالله من عذاب القبر)، فقلت: يا رسول الله للقبر عذاب؟ فقال: (إنهم ليعذبون في قبورهم عذاباً تسمعه البهائم)( ).
وأحاديث المسألة كثيرة أيضاً، كما في الصحيحين، والسنن عن البراء بن عازب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم إذا سئل في قبره شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؛ فذلك قول الله – تعالى-: ﴿يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾ [إبراهيم: 27]، وفي لفظ: (نزلت في عذاب القبر يقال له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد، وذلك قول الله – تعالى-: ﴿يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء﴾ [إبراهيم: 27])( ).
وهذا الحديث قد رواه أهل السنن والمسانيد مطولاً، كما في سنن أبي داود وغيره عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر، ولما يلحد، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم، وجلسنا حوله، كأنما على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به الأرض، فرفع رأسه فقال: (استعيذوا بالله من عذاب القبر) مرتين، أو ثلاثاً. وذكر صفة قبض الروح، وعروجها إلى السماء، ثم عودها إليه.
إلى أن قال: (وإنه ليسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين حين يقال له: ويا هذا من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟). وفي لفظ: (فيأتيه ملكان فيجلسانه، ويقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان: ما هذا الرجل الذي أرسل فيكم؟ قال: فيقول: هو رسول الله. فيقولان: وما يدريك؟ فيقول: قرأت كتاب الله، وآمنت به، وصدقت به، فذلك قول الله: ﴿يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء﴾ [إبراهيم: 27]، قال: (فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي، فافرشوا له في الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة) قال: (فيأتيه من روحها، وطيبها) قال: (ويفسح له مد بصره) قال: (وإن الكافر)، فذكر موته. وقال: (وتعاد روحه إلى جسده، فيأتيه ملكان، فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري؛ فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي، فافرشوا له من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار) قال: (ويأتيه من حرها، وسمومها)، قال: (ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه)، قال: (ثم يقيض له أعمى، أبكم معه مرزبة من حديد لو ضرب بها جبل لصار تراباً)، قال: (فيضربه بها ضربة يسمعها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلين فيصير تراباً. ثم تعاد فيه الروح)( ).
فقد صرح الحديث بإعادة الروح إلى الجسد، وباختلاف أضلاعه، وهذا بين في أن العذاب على الروح والبدن مجتمعين.
وقد روي مثل حديث البراء في قبض الروح، والمسألة، والنعيم، والعذاب، رواه أبو هريرة، وحديثه في المسند وغيره، ورواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الميت إذا وضع في قبره يسمع خفق نعالهم إذا ولوا عنه مدبرين، فإن كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه، وكان الصيام عن يمينه، وكانت الصدقة عن شماله، وكان فعل الخير من الصدقة، والصلة والمعروف والإحسان عند رجليه، فيأتيه الملكان من قبل رأسه، فتقول الصلاة: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى عن يمينه، فيقول الصيام: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى عن يساره، فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى من قبل رجليه فيقول فعل الخيرات من الصدقة، والصلة، والمعروف، والإحسان: ما قبلي مدخل فيقال له: اجلس، فيجلس قد مثلت له الشمس، وقد أصغت للغروب. فيقول: دعوني حتى أصلي. فيقولون: إنك ستصلي. أخبرنا عما نسألك عنه، أرأيتك هذا الرجل الذي كان فيكم ما تقولون فيه؟ وماذا تشهد به عليه؟ فيقول: محمد، نشهد أنه رسول الله، جاء بالحق من عند الله. فيقال له: على ذلك حييت، وعلى ذلك تبعث إن شاء الله. ثم يفتح له باب إلى الجنة. فيقال: هذا مقعدك، وما أعد الله لك فيها؛ فيزداد غبطة، وسروراً؛ ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً، وينور له فيه، ويعاد الجسد لما بدئ منه، وتجعل روحه نسم طير يعلق في شجر الجنة) قال: (فذلك قوله – تعالى-: ﴿يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء﴾ [إبراهيم: 27]).
وذكر في الكافر ضد ذلك أنه قال: (يضيق عليه قبره إلى أن تختلف فيه أضلاعه، فتلك المعيشة الضنك، التي قال الله – تعالى –: ﴿لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه: 124])( )، هذا الحديث أخصر.
وحديث البراء المتقدم أطول ما في السنن، فإنهم اختصروه لذكر ما فيه من عذاب القبر، وهو في المسند، وغيره بطوله. وهو حديث حسن ثابت يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة، وانقطاع من الدنيا، نزلت إليه ملائكة بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، فيجلسون منه مد البصر؛ ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه. فيقول: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة، ورضوان. قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذونها، فيجعلونها في ذلك الكفن، وذلك الحنوط، فيخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض. قال: فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه في الدنيا، فينتهون به إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح له. قال: فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهوا بها إلى السماء السابعة. فيقول: اكتبوا عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى. قال: فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه وذكر المسألة كما تقدم، قال: ويأتيه رجل حسن الوجه، طيب الريح، فيقول له: أبشر بالذي يسرك فهذا يومك الذي قد كنت توعد، فيقول له: من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح. فيقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة، رب أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي، ومالي. قال: وإن العبد الكافر إذا كان في إقبال من الآخرة، وانقطاع من الدنيا، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط الله، وغضبه، فتفرق في أعضائه كلها، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول؛ فتقطع معها العروق والعصب. قال: فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذونها، فيجعلونها في تلك المسوح قال: فيخرج منها كأنتن ما يكون من جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فلان؛ بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا؛ حتى ينتهوا إلى السماء الدنيا، فيستفتحون لها فلا يفتح لها، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ﴾ [الأعراف: 40]، ثم يقول الله – تعالى –: اكتبوا كتابه في سجين – في الأرض السفلى – قال: فتطرح روحه طرحاً، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ [الحج: 31]، قال: فتعاد روحه في جسده؛ فيأتيه ملكان فيجلسانه؛ فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه؛ هاه؛ لا أدري)، وساق الحديث كما تقدم إلى أن قال: (و يأتيه رجل قبيح الوجه منتن الريح؛ فيقول: أبشر بالذي يسوؤك؛ هذا عملك الذي قد كنت توعد؛ فيقول: من أنت فوجهك الوجه الذي لا يأتي بالخير؟ قال: أنا عملك السوء. فيقول: رب لا تقم الساعة ثلاث مرات)( ).
ففي هذا الحديث أنواع من العلم:
منها: أن الروح تبقى بعد مفارقة البدن خلافاً لضلال المتكلمين، وأنها تصعد وتنزل خلافاً لضلال الفلاسفة؛ وأنها تعاد إلى البدن، وأن الميت يسأل، فينعم أو يعذب، كما سأل عنه أهل السؤال، وفيه أن عمله الصالح، أو السيئ يأتيه في صورة حسنة، أو قبيحة.
وفي الصحيحين عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه: إنه ليسمع خفق نعالهم، أتاه ملكان فيقررانه. فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه محمد عبد الله ورسوله، قال: فيقول: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيراهما كليهما) قال قتادة: وذكر لنا أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعاً، ويملأ عليه خضراً إلى يوم يبعثون. ثم نرجع إلى حديث أنس (ويأتيان الكافر والمنافق، فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري كنت أقول كما يقول الناس. فيقول: لا دريت، ولا تليت، ثم يضرب بمطارق من حديد بين أذنيه، فيصيح صيحة فيسمعها من عليها غير الثقلين)( ).
وروى الترمذي، وأبو حاتم في صحيحه – وأكثر اللفظ له – عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قبر أحدكم الإنسان: أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لهما منكر، والآخر نكير. فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد؟ فهو قائل ما كان يقول: فإن كان مؤمناً، قال: هو عبد الله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. فيقولان: إنا كنا لنعلم أنك تقول ذلك.
ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً، وينور له فيه. ويقال له: نم. فيقول: أرجع إلى أهلي فأخبرهم. فيقولان له: نم كنومة العروس: الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك. وإن كان منافقاً قال: لا أدري، كنت أسمع الناس يقولون شيئاً فقلته. فيقولان: إنا كنا نعلم أنك تقول ذلك، ثم يقال للأرض: التئمي عليه، فتلتئم عليه حتى تختلف فيها أضلاعه، فلا يزال معذباً حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك)( )، وهذا الحديث فيه اختلاف أضلاعه وغير ذلك مما يبين أن البدن نفسه يعذب.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا احتضر الميت أتته الملائكة بحريرة بيضاء. فيقولون: اخرجي كأطيب ريح المسك، حتى إنه ليناوله بعضهم بعضاً، حتى يأتوا به باب السماء. فيقولون: ما أطيب هذه الريح متى جاءتكم من الأرض؟ فيأتون به أرواح المؤمنين، فلهم أشد فرحاً به من أحدكم بغائبه يقدم عليه، يسألونه: ماذا فعل فلان؟فيقولون: دعوه، فإنه في غم الدنيا، فإذا قال: إنه أتاكم، قالوا: ذهب إلى أمه الهاوية. وإن الكافر إذا احتضر أتته ملائكة العذاب بمسح. فيقولون: اخرجي مسخوطاً عليك إلى عذاب الله، فتخرج كأنتن جيفة، حتى يأتوا به أرواح الكفار))رواه النسائي والبزار( )، ورواه مسلم مختصراً عن أبي هريرة رضي الله عنه، وعند الكافر، ونتن رائحة روحه، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ريطة كانت عليه على أنفه هكذا( ). والريطة: ثوب رقيق لين، مثل الملاءة.
وأخرجه أبو حاتم في صحيحه، وقال: (إن المؤمن إذا حضره الموت حضرت ملائكة الرحمة، فإذا قبضت نفسه جعلت في حريرة بيضاء، فتنطلق بها إلى باب السماء، فيقولون: ما وجدنا ريحاً أطيب من هذه الرائحة، فيقال: دعوه يستريح، فإنه كان في غم الدنيا. فيقال: ما فعل فلان، ما فعلت فلانة؟ وأما الكافر إذا قبضت روحه ذهب بها إلى الأرض، تقول خزنة الأرض: ما وجدنا ريحاً أنتن من هذه، فيبلغ بها في الأرض السفلى)( ) ففي هذه الأحاديث، ونحوها اجتماع الروح، والبدن في نعيم القبر، وعذابه. وأما انفراد الروح وحدها فقد تقدم بعض ذلك.
وعن كعب بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه إلى جسده يوم يبعثه) رواه النسائي ورواه مالك والشافعي كلاهما( ). وقوله: (يعلق) بالضم أي يأكل، وقد نقل هذا في غير هذا الحديث.
فقد أخبرت هذه النصوص أن الروح تنعم مع البدن الذي في القبر – إذا شاء الله-، وإنما تنعم في الجنة وحدها، وكلاهما حق.
وقد روى ابن أبي الدنيا في كتاب ذكر الموت عن مالك بن أنس قال: (بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت)، وهذا يوافق ما روي: (أن الروح قد تكون على أفنية القبور) كما قال مجاهد: إن الأرواح تدوم على القبور سبعة أيام يوم يدفن الميت لا تفارق ذلك، وقد تعاد الروح إلى البدن في غير وقت المسألة، كما في الحديث الذي صححه ابن عبد البر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل يمر بقبر الرجل الذي كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام)( ).
وفي سنن أبي داود وغيره عن أوس بن أوس الثقفي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن خير أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة، وليلة الجمعة؛ فإن صلاتكم معروضة علي). قالوا: يا رسول الله
كيف تعرض صلاتنا عليك، وقد أرمت؟ فقال: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)( ).
وهذا الباب فيه من الأحاديث، والآثار ما يضيق هذا الوقت عن استقصائه مما يبين أن الأبدان التي في القبور تنعم، وتعذب – إذا شاء الله ذلك – كما يشاء، وأن الأرواح باقية بعد مفارقة البدن، ومنعمة، ومعذبة))( ).
  
فأما الفتنة فإن الناس يفتنون في قبورهم، فيقال للرجل: ((من ربك، وما دينك، ومن نبيك؟ فـ ﴿يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾، فيقول المؤمن: الله ربي، والإسلام ديني، ومحمد نبيي. وأما المرتاب فيقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته، فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها لصعق)).
في هذا بيان للفتنة التي تكون في القبر، و((ما وصف النبي صلى الله عليه وسلم من حال الميت في قبره، وسؤال منكر، ونكير له، والأحاديث في ذلك كثيرة))( )، وقد تقدم ذكر بعضها قريباً.
والذي أفادته الأحاديث الواردة أن هذه الفتنة عامة للمكلفين، وتقدم الإشارة إلى الخلاف في النبيين، ومن ليس مكلفاً( ).
وأفادت أيضاً أنه: ((إذا قبضت الروح عرج بها إلى السماء في أدنى زمن، ثم تعاد إلى البدن، فتسأل وهي في البدن))( ).
وقد اختلف الناس فيما أفادته هذه الأحاديث من إقعاد الميت، وسؤاله، وما يكون في هذه الفتنة هل هو على الروح فقط أم على الروح، والبدن؟
والقول الفصل في هذا أن روح الميت في قبره ((تقعد، وتجلس، وتسأل، وتنعم، وتعذب، وتصيح، وذلك متصل ببدنه مع كونه مضطجعاً في قبره، وقد يقوى الأمر حتى يظهر ذلك في بدنه، وقد يرى خارجاً من قبره والعذاب عليه، وملائكة العذاب موكلة به، فيتحرك بدنه، ويمشي، ويخرج من قبره، وقد سمع غير واحد أصوات المعذبين في قبورهم، وقد شوهد من يخرج من قبره وهو معذب، ومن يقعد بدنه أيضاً إذا قوي الأمر لكن هذا ليس لازماً في حق كل ميت))( ). فالمقصود ((أن ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من إقعاد الميت مطلقاً، هو متناول لقعودهم ببواطنهم وإن كان ظاهر البدن مضطجعاً))( ). وقد تقدم ذكر أدلة هذا فيما سبق من عذاب القبر ونعيمه.
  
ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم، وإما عذاب إلى أن تقوم القيامة الكبرى،
وفي هذا بيان أن الناس بعد سؤالهم، واختبارهم ينقسمون إلى قسمين في قبورهم: إما منعم، وإما معذب، وهذا من حيث العموم، ((ولكن لا يجب أن يكون دائماً على البدن في كل وقت، بل يجوز أن يكون في حال دون حال))( ). وهو في الجملة نوعان: نوع دائم ((ويدل على دوامه قوله – تعالى –: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾ [غافر: 46] ))( )، ويدل عليه أيضاً ما في((حديث ابن عباس في قصة الجريدتين لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا( )، فجعل التخفيف مقيداً برطوبتهما فقط))( ).
((والنوع الثاني إلى مدة ثم ينقطع، وهو عذاب بعض العصاة الذين خفت جرائمهم فيعذب بحسب جرمه، ثم يخفف عنه كما يعذب في النار مدة، ثم يزول عنه العذاب))( ).
  
فتعاد الأرواح إلى الأجساد، وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه، وعلى لسان رسوله، وأجمع عليها المسلمون،
وعود الأرواح إلى الأجساد إنما يكون بعد نفخة القيام، ((والقرآن قد أخبر بثلاث نفخات: نفخة الفزع ذكرها في سورة النمل في قوله: ﴿وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾ [النمل: 87]. ونفخة الصعق والقيام، وذكرهما في قوله: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ﴾ [الزمر: 68]))( ).
وقد أخبر – جل شأنه – ((بإحياء الموتى، وقيامهم من قبورهم في غير موضع، وقرر – سبحانه – معاد الأبدان بأنواع من التقرير))( )، فثبوت المعاد معلوم ((بالاضطرار من دين الإسلام))( ).
  
فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلاً، وتدنو منهم الشمس، ويلجمهم العرق، وتنصب الموازين فتوزن فيها أعمال العباد ﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ  وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾ [المؤمنون: 102- 103]، وتنشر الدواوين، وهي صحائف الأعمال، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره، كما قال – سبحانه وتعالى-: ﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُوراً  اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء: 13- 14].
كل هذا قد جاءت به الأخبار الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر يقول: ((إنكم ملاقو ربكم حفاة عراة غرلاً))( )، وفي صحيح مسلم عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد حتى تكون قدر ميل أو ميلين، قال: فتصهرهم الشمس، فيكونون في العرق كقدر أعمالهم، منهم من يأخذه إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً))( ).
وأما الموازين فهي جمع ميزان، و((الميزان هو ما يوزن به الأعمال، وهو غير العدل كما دل على ذلك الكتاب، والسنة، مثل قوله –تعالى-: {فمن ثقلت موازينه  [الأعراف: 8]، ﴿ومن خفت موازينه﴾ [الأعراف: 9]، وقوله: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [الأنبياء: 47].
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم)( )، وقال عن ساقي عبدالله بن مسعود: (لهما في الميزان أثقل من أحد)( )، وفي الترمذي، وغيره حديث البطاقة، وصححه الترمذي والحاكم وغيرهما، في الرجل الذي يؤتى به، فينشر له تسعة وتسعون سجلاً كل سجل منها مد البصر، فيوضع في كفة، ويؤتى له ببطاقة فيها شهادة أن لا إله إلا الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فطاشت تلك السجلات وثقلت البطاقة)( )، وهذا، وأمثاله مما يبين أن الأعمال توزن بموازين تبين بها رجحان الحسنات على السيئات وبالعكس، فهو ما به تبين العدل، والمقصود بالوزن العدل: كموازين الدنيا. وأما كيفية تلك الموازين فهو بمنزلة كيفية سائر ما أخبرنا به من الغيب))( ).
وقد حرف بعض المعتزلة الميزان عما دلت عليه النصوص( ). 
  
ويحاسب الله الخلائق، ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه. كما وصف ذلك في الكتاب، والسنة. وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته، وسيئاته، فإنه لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم، فتحصى، فيوقفون عليها ويقررون بها، ويجزون بها.
وبيان هذا أن ((الله – سبحانه – يحاسب الخلق في ساعة واحدة لا يشغله حساب هذا عن حساب هذا))( )، وأدلة هذا كثيرة في الكتاب، والسنة.
وهذا ((الحساب يراد به الموازنة بين الحسنات والسيئات، وهذا يتضمن المناقشة، ويراد به عرض الأعمال على العامل وتعريفه بها))( ).
وقد ((تنازع أهل السنة في الكفار هل يحاسبون أم لا؟))( ) و((فصل الخطاب إثبات الحساب، بمعنى عد الأعمال، وإحصائها، وعرضها عليهم لا بمعنى إثبات حسنات نافعة لهم في ثواب يوم القيامة تقابل سيئاتهم))( ). وفائدة حسابهم زيادة على ما تقدم بيان تفاوتهم في ((العقاب، فعقاب من كثرت سيئاته أعظم من عقاب من قلت سيئاته، ومن كان له حسنات خفف عنه العذاب كما أن أبا طالب أخف عذاباً من أبي لهب، وقال – تعالى –: ﴿الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ﴾ [النحل: 88]، وقال – تعالى –: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْر﴾ [التوبة: 37]، والنار دركات، فإذا كان بعض الكفار عذابه أشد عذاباً من بعض، لكثرة سيئاته، وقلة حسناته كان الحساب لبيان مراتب العذاب، لا لأجل دخول الجنة))( ).
  
وفي عرصة القيامة الحوض المورود للنبي صلى الله عليه وسلم ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، آنيته عدد نجوم السماء، طوله شهر، وعرضه شهر، من يشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً.
ويدل على ثبوت الحوض لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم قول الله – تعالى-: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ [الكوثر: 1] ((وهو الخير الكثير الذي آتاه الله في الدنيا، والآخرة، فمما أعطاه في الدنيا الهدى، والنصر، والتأييد، وقرة العين والنفس، وشرح الصدر، ونعم قلبه بذكره وحبه؛ بحيث لا يشبه نعيمه نعيم في الدنيا ألبتة، وأعطاه في الآخرة الوسيلة، والمقام المحمود، وجعله أول من يفتح له، ولأمته باب الجنة، وأعطاه في الآخرة لواء الحمد، والحوض العظيم في موقف القيامة إلى غير ذلك))( ). وقد جاء فيه من الأحاديث ما بلغ حد التواتر.
وكل هذه الأوصاف للحوض قد صحت عن النبي المختار صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حوضي مسيرة شهر ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه عدد نجوم السماء، من شرب منه فلا يظمأ أبداً) ( )، وفي صحيح مسلم من حديث ثوبان، وأبي ذر في وصف الحوض قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأحلى من العسل) ( )، وفي رواية أبي ذر: (عرضه مثل طوله) ( ).
  
والصراط منصوب على متن جهنم، وهو الجسر الذي بين الجنة والنار، يمر الناس عليه على قدر أعمالهم، فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم من يمر كركاب الإبل، ومنهم من يعدو عدواً، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً، ومنهم من يخطف خطفاً ويلقى في جهنم. فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم. فمن مر على الصراط دخل الجنة.
في هذا ذكر المرور على الصراط، وهو ((الورود المذكور في قوله – تعالى-: ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا﴾ [مريم: 71]، فقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه عن جابر بأنه المرور على الصراط( )،  والصراط هو الجسر، فلا بد من المرور عليه لكل من يدخل الجنة، من كان صغيراً في الدنيا ومن لم يكن))( )، ((وهذا عام لجميع الخلق)) ( ).
((وقد ثبت في الصحيح أنهم إذا عبروا على الصراط: منهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل( )))( ).
((وهذا المرور لا يطلق عليه اسم الدخول الذي يجزى به العصاة، وينفى عن المتقين))( ).
  
فإذا عبروا عليه وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا، ونقوا أذن لهم في دخول الجنة.
وبيان هذا أنه ثبت في ((الصحيح أنه إذا عبر أهل الجنة الصراط، وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا، ونقوا أذن لهم في دخول الجنة( )، فلا يدخلون الجنة إلا بعد التهذيب والتنقية كما قال – تعالى-: ﴿طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾ [الزمر: 73]))( ). وهذا من الأسباب التي تندفع بها العقوبة عن المؤمنين في الآخرة( ).
  
وأول من يستفتح باب الجنة محمد، وأول من يدخل الجنة من الأمم أمته.
وبيان ذلك أنه جاء في الصحيح من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك))( ). وهذا من فضائله صلى الله عليه وسلم، ومما شرفه الله به وخصه( ).
ومما خصه الله به، وأكرمه( ) ((الحديث الذي جاء في المسند عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها، وأكرمها على الله – عز وجل-)( )))( )، ((وهو حديث جيد))( ).
وله صلى الله عليه وسلم في القيامة ثلاث شفاعات:
بيان هذا أن ((أحاديث الشفاعة كثيرة متواترة منها في الصحيحين أحاديث متعددة، وفي السنن والمسانيد مما يكثر عده))( ).
وهي دالة على أن ((له صلى الله عليه وسلم شفاعات يختص بها لا يشركه فيها أحد، وشفاعات يشركه فيها غيره من الأنبياء والصالحين، لكن ما له فيها أفضل مما لغيره، فإنه صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق، وأكرمهم على ربه – عز وجل–))( ).
وقد ((أجمع المسلمون على أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع للخلق يوم القيامة بعد أن يسأله الناس، وبعد أن يأذن الله له في الشفاعة، ثم إن أهل السنة والجماعة متفقون على ما اتفق عليه الصحابة – رضوان الله عليهم أجمعين-، واستفاضت به السنن أنه صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الكبائر من أمته، ويشفع أيضاً لعموم الخلق))( ).
  
أما الشفاعة الأولى: فيشفع في أهل الموقف حتى يقضى بينهم بعد أن تتراجع الأنبياء: آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى بن مريم عن الشفاعة حتى تنتهي إليه.
وهذه الشفاعة ثابتة بإجماع المسلمين كما تقدم، ((لكن لا يشفع أحد حتى يأذن الله، ويحد له حداً، كما في الحديث الصحيح حديث الشفاعة: أنهم يأتون آدم، ثم نوحاً، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، فيقول لهم عيسى: اذهبوا إلى محمد، فإنه عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر، قال: (فيأتوني فأذهب، فإذا رأيت ربي خررت له ساجداً، فأحمد لربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن، فيقول: أي محمد ارفع رأسك، وقل تسمع، واشفع تشفع، فأقول: أي ربي أمتي، فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة، ثم أنطلق فأسجد، فيحد لي حداً، ذكر هذا ثلاث مرات....)( )))( ).
وهذا هو المقام المحمود الذي اختص الله به محمداً صلى الله عليه وسلم( )، فإن تأخر الأنبياء آدم، ومن بعده ((عن الشفاعة لم يكن لنقص درجاتهم عما كانوا عليه، بل لما علموه من عظمة المقام المحمود الذي يستدعي مغفرة الله للعبد، وكمال عبودية العبد لله، ما اختص الله به من غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولهذا قال المسيح: (اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)( ) فإنه إذا غفر له ما تأخر لم يخف أن يلام إذا ذهب إلى ربه ليشفع))( ).
  
وأما الشفاعة الثانية: فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة، وهاتان الشفاعتان خاصتان له.
وقد ثبت هذا بما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة، وفيه يجيء أهل الجنة آدم، ومن بعده كحديث الشفاعة الكبرى يطلبون منهم أن يستفتحوا لهم، ثم يأتون محمداً صلى الله عليه وسلم، فيقوم، فيؤذن له، ويدل له أيضاً ما في صحيح مسلم من حديث أنس، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أول شفيع في الجنة))( ).
ومن الشفاعات الخاصة به صلى الله عليه وسلم شفاعته في عمه أبي طالب ((بسبب نصرته، ومعونته فإنه تنفعه شفاعته في تخفيف العذاب عنه لا في إسقاط العذاب بالكلية كما في صحيح مسلم عن العباس بن عبدالمطلب أنه قال: قلت: يا رسول الله، فهل نفعت أبا طالب بشيء، فإنه كان يحوطك، ويغضب لك؟ قال: نعم، هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار....)( )))( )، لكن لما كان أبو طالب، وغيره يحبونه صلى الله عليه وسلم ((ولم يقروا بالتوحيد الذي جاء به لم يمكن أن يخرجوا من النار بشفاعته، ولا بغيرها))( ).
  
وأما الشفاعة الثالثة: فيشفع فيمن استحق النار، وهذه الشفاعة له، ولسائر النبيين، والصديقين، وغيرهم، فيشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها.
هذه الشفاعة ثابتة بالإجماع فإن ((أهل السنة والجماعة متفقون على ما اتفق عليه الصحابة – رضوان الله عليهم أجمعين-، واستفاضت به السنن من أنه صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الكبائر من أمته))( )، ((لكن لا ينتفع بشفاعته إلا أهل التوحيد المؤمنون دون أهل الشرك))( ).
فأهل السنة والجماعة ((أثبتوا ما أثبته الله في كتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونفوا ما نفاه الله في كتابه، وسنة رسوله، فالشفاعة التي أثبتوها هي التي جاءت بها الأحاديث))( )، و((هذه الأحاديث كثيرة مستفيضة متواترة عند أهل العلم بالحديث))( ).
((أما الخوارج، والمعتزلة فإنهم أنكروا شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر من أمته، وهؤلاء مبتدعة ضلال مخالفون للسنة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولإجماع خير القرون))( ). فإنهم قالوا: ((من يدخل النار لا يخرج منها لا بشفاعة، ولا بغيرها))( )، و((زعموا أن الشفاعة إنما هي للمؤمنين خاصة في رفع بعض الدرجات، وبعضهم أنكر الشفاعة مطلقاً))( ). ((وهذا مردود بما تواتر عنه من السنن في ذلك))( ).
فتلخص لنا ما تقدم خمس شفاعات لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل الإيمان، ((فيطلب منه الخلق للشفاعة في أن يقضي الله بينهم، وفي أن يدخلوا الجنة، ويشفع في أهل الكبائر من أمته، ويشفع في بعض من يستحق النار أن لا يدخلها، ويشفع في بعض من دخلها أن يخرج منها))( )، والسادسة شفاعته ((لأهل الطاعة المستحقين للثواب))( ) في رفع درجاتهم، وقد تقدم بيان ما يختص به، وما يشركه فيه غيره.
  
ويخرج الله من النار أقواماً بغير شفاعة، بل بفضله، ورحمته. ويبقى في الجنة فضل عمن دخلها من أهل الدنيا، فينشئ الله لها أقواماً، فيدخلهم الجنة.
وبيان هذا أنه ((لا يبقى في النار أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان، بل كلهم يخرجون من النار، ويدخلون الجنة، ويبقى في الجنة فضل، فينشئ الله لها خلقاً آخر يدخلهم الجنة كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم))( )، وفيه (((فيقول الله – عز وجل –: شفعت الملائكة، وشفعت النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج قوماً لم يعملوا خيراً قط قد عادوا حمماً فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة، يقال له: نهر الحياة. . . )( )))( ).
  
وأصناف ما تضمنته الدار الآخرة من الحساب والثواب والعقاب، والجنة، والنار، وتفاصيل ذلك مذكورة في الكتب المنزلة من السماء، والآثار من العلم المأثورة عن الأنبياء، وفي العلم الموروث عن محمد صلى الله عليه وسلم من ذلك ما يشفي، ويكفي، فمن ابتغاه وجده.
ففي كتاب الله، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من ذكر ذلك ما لم يأت في الشرائع قبله ((فإن القرآن فيه ذكر المعاد، وإقامة الحجج عليه، وتفصيله، ووصف الجنة، والنار ما لم يذكر مثله في التوراة))( ) مع كونه من أعظم ما أنزل على المرسلين. ((ولهذا يقرن – سبحانه – بين التوراة، والقرآن كثيراً))( ).
بل ((في القرآن، والأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم من الإخبار بما سيكون في الدنيا، وفي الآخرة أضعاف أضعاف ما يوجد عن الأنبياء قبله))( ).
  
وتؤمن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة بالقدر خيره وشره.
وبيان هذا أن ((الإيمان بالقدر من أصول الإيمان كما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل قال: (الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبالبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيره وشره)( )، وقد تبرأ ابن عمر، وغير من الصحابة من المكذبين بالقدر))( )، ويدل عليه أيضاً قوله – تعالى –: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49] فهو ((– سبحانه – يعلم قبل أن يخلق الأشياء كل ما سيكون، وهو يخلقه بمشيئته فهو يعلمه، ويريده))( ).
((والآيات، والنصوص المثبتة للقدر كثيرة جداً))( ) سيأتي شيء منها – إن شاء الله-.
والقدر من حيث اللغة ((يراد به التقدير))( ). ((وهو علم الله، وكتابه، وما طابق ذلك من مشيئته، وخلقه))( )، ويمكن أن يقال: قدر الله: ((هو حكمه الكوني))( )، ولذلك ((قال الإمام أحمد: القدر قدرة الله، واستحسن ابن عقيل هذا الكلام جداً، وقال: هذا يدل على دقة علم أحمد، وتبحره في معرفة أصول الدين، وهو كما قال أبو الوفاء، فإن إنكار القدر إنكار لقدرة الرب على خلق أعمال العباد، وكتابتها، وتقديرها))( ).
والذي عليه أهل السنة والجماعة من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين، وعلمائهم أنه ((ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن)) وأن ((الله خالق كل شيء، وربه، ومليكه، فكل ما سوى الله مخلوق له، حادث بمشيئته، وقدرته، ولا يكون في ملكه ما لا يشاؤه، ويخلقه، فلا يقدر أحد أن يمنع الله عما أراد أن يخلقه، ويكونه، فإنه الواحد القهار ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [فاطر: 2]))( ). ((ومن الإيمان بالقدر أن يعلم العبد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه))( ).
ولا يلزم من الإيمان بالقدر خيره وشره أن يكون في فعله شر محض، ((ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعاء الاستفتاح: (والخير بيديك، والشر ليس إليك)( )، فإنه لا يخلق شراً محضاً، بل كل ما يخلقه ففيه حكمة هو باعتبارها خير، ولكن قد يكون فيه شر لبعض الناس، وهو شر جزئي إضافي، فأما شر كلي، أو شر مطلق فالرب منزه عنه، وهذا هو الشر الذي ليس إليه، وأما الشر الجزئي الإضافي: فهو خير باعتبار حكمته))( ).
ولهذا فإن الشر ((المخلوق لا يضاف إلى الله مجرداً عن الخير قط، وإنما يذكر على أحد وجوه ثلاثة:
إما مع إضافته إلى المخلوق، كقوله: ﴿مِن شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ [الفلق: 2].
وإما مع حذف الفاعل كقول الجن: ﴿وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً﴾ [الجن: 10]، ومنه في الفاتحة: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 7]: فذكر الإنعام مضافاً إليه، وذكر الغضب محذوفاً فاعله، وذكر الضلال مضافاً إلى العبد، وكذلك قوله: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: 80].
وإما أن يدخل في العموم كقوله: ﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 102]))( ).
 ((والإيمان بالقدر يوجب أن يكون العبد صباراً شكوراً. صبوراً على البلاء، شكوراً على الرخاء، إذا أصابته نعمة علم أنها من عند الله فشكره سواء كانت النعمة حسنة فعلها، أو كانت خيراً حصل بسبب سعيها، فإن الله هو الذي يسر عمل الحسنات، وهو الذي تفضل بالثواب عليها، فله الحمد في ذلك كله. وإذا أصابته مصيبة صبر عليها، وإن كانت تلك المصيبة قد جرت على يد غيره، فالله هو الذي سلط ذلك الشخص، وهو الذي خلق أفعاله))( ).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق